إنكار أمية النبي صلى الله عليه وسلم )*(
مضمون الشبهة:
ينكر بعض المغالطين ما كان من أميته صلى الله عليه وسلم، مدعين أنه كان يقرأ ويكتب، ولكنه دعا نفسه النبي الأمي؛ بغرض استمالة قلوب قومه للإيمان بدعوته، وللتأكيد على أنه لم يتلق القرآن من غيره، ويستدلون على ذلك بما يزعمونه من أنه - صلى الله عليه وسلم - وقع بنفسه بعض الوثائق التاريخية مثل صلح الحديبية, وأنه - صلى الله عليه وسلم - حين أدركته الوفاة طلب صحيفة ليكتب عليها اسم من يخلفه، وبما توهموه من تناقض في قوله عز وجل: )هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين (2)( (الجمعة)، ويتساءلون: كيف يطلب الله منه أن يتلو ويقرأ عليهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وهو أمي؟! بل كيف يطلب منه أن يقرأ في قوله سبحانه وتعالى: )اقرأ باسم ربك الذي خلق (1)( (العلق). إن كان حقا لا يعرف القراءة؟! ويقولون: إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان تاجرا ناجحا؛ ولا بد أن يكون تعلم شيئا من العلوم والفنون التي كانت منتشرة في مكة وما حولها أثناء أسفاره. هادفين من وراء ذلك إلى إنكار حقيقة الأمية التي لازمت وصفه - صلى الله عليه وسلم - بالنبوة؛ بغية التشكيك في النبوة ذاتها.
وجوه إبطال الشبهة:
1) لقد أثبت القرآن الكريم في غير ما موضع أمية النبي صلى الله عليه وسلم، قال سبحانه وتعالى: )وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون (48)( (العنكبوت: ٤٨).
2) كان عدد من تعلموا القراءة والكتابة في مكة قليلا؛ لاعتمادهم على الحفظ في الصدور، ولقد حصرتهم بعض المصادر وذكرت أسماءهم وهم سبعة عشر رجلا ليس بينهم النبي صلى الله عليه وسلم، بل اشتهر - صلى الله عليه وسلم - بأميته ولم يثبت عنه أنه غاب عن مكة غيبة تمكنه من التعليم حتى في رحلاته التجارية.
3) تؤكد الروايات الصحيحة أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - هو الذي كتب صلح الحديبية بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمرو بن سهيل، وليس النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يزعمون.
4) الحديث الذي جاء في الصحيحين من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما أدركته الوفاة طلب صحيفة ليكتب عليها اسم من يخلفه، لم يشر - من قريب ولا من بعيد - إلى ما ذهب إليه الطاعنون من كتابة النبي - صلى الله عليه وسلم - اسم من يخلفه بنفسه.
التفصيل:
أولا. القرآن الكريم أثبت في غير موضع أمية النبي صلى الله عليه وسلم:
حفل القرآن الكريم بآيات كثيرة تدل على أمية النبي صلى الله عليه وسلم، قال سبحانه وتعالى: )وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون (48)( (العنكبوت)، وقال سبحانه وتعالى: )وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا (5)( [1] (الفرقان)، وقوله سبحانه وتعالى: )الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون (157) ( (الأعراف)، وقال سبحانه وتعالى: )هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين (2)( (الجمعة).
فهذه الآيات قاطعة الدلالة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أميا، بيد أن بعض المشككين فهم بعض هذه الآيات فهما خاطئا، فأخذ يجعلها دليلا على تعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - القراءة والكتابة. ومن هذه الآيات قوله سبحانه وتعالى: )هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة(, إذ يتساءل هؤلاء: كيف يتلو النبي - صلى الله عليه وسلم - ويزكي ويعلم وهو أمي؟!
وحول المعنى المراد لكلمة "الأميين" يقول الإمام ابن عاشور: والأميون: الذين لا يقرءون الكتابة ولا يكتبون، وهو جمع أمي نسبة إلى الأمة، يعنون بها أمة العرب؛ لأنهم لا يكتبون إلا نادرا، فغلب هذا التشبيه في الإطلاق عند العرب، حتى صارت الكلمة تطلق على من لا يكتب ولو من غيرهم، قال - سبحانه وتعالى - في ذكر بني إسرائيل: )ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون (78)( (البقرة).
وأوثر التعبير به هنا مشاكلة على اليهود؛ لأنهم كانوا يقصدون به الغض من العرب ومن النبي - صلى الله عليه وسلم - جهلا منهم، فيقولون: هو رسول الأميين وليس رسولا إلينا، وقد قال ابن صياد للنبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال له: «أتشهد أني رسول الله؟ فنظر إليه ابن صياد فقال: أشهد أنك رسول الأميين»[2]، وكان ابن صياد متدينا باليهودية؛ لأن أهله كانوا حلفاء لليهود.
وكان اليهود ينتقصون العرب بأنهم أميون قال سبحانه وتعالى: )قالوا ليس علينا في الأميين سبيل( (آل عمران: 75)، فتحدى الله اليهود بأن بعث رسولا إلى الأميين، وبأن الرسول أمي، وأعلمهم أن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء كما في آخر الآية، وأن فضل الله ليس خاصا باليهود ولا بغيرهم، وقد قال - سبحانه وتعالى - من قبل لموسى: )ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين (5)( (القصص).
ووصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه منهم - أي من الأميين - شامل لمماثلته لهم في الأمية وفي القومية، وفي وصف الرسول الأمي بأنه يتلو على الأميين آيات الله، ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة التي علمها الرسل السابقون أممهم، في كل هذه الأوصاف تحد بمعجزة الأمية في هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، أي هو مع كونه أميا، قد أتى أمته بجميع الفوائد التي أتى بها الرسل غير الأميين أممهم ولم ينقص عنهم شيئا، فتمحضت الأمية للكون معجزة حصل من صاحبها أفضل مما حصل من الرسل الكاتبين مثل موسىعليه السلام [3].
أما بالنسبة لرواية بدء الوحي التي استدلوا بها على إنكار أمية النبي صلى الله عليه وسلم، فإنها لا تدل على ما ذهبوا إليه من تعلم النبي صلى الله عليه وسلم، بل إنها من الأدلة القوية على أميته؛ إذ جعلوا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للملك - الذي كان يطلب منه القراءة - "ما أقرأ" استفهاما عن المقروء، لا نفيا للقراءة، مستدلين بما توهموه من عبارة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على عدم أميته، وإلا فما وجه استفهامه عن المقروء؟!
ومن الواضح أن المنهج الذي اعتمدوه في بحث هذه المسألة منهج قاصر تماما؛ لأنهم لم يعطوا أي قيمة لروايات الشيخين التي تنص صراحة على الأمية؛ فقد ورد في الصحيحين: «ما أنا بقارئ» [4] عوض "ما أقرأ" التي جاءت في السيرة، وأكبر من هذا الخطأ أنهم لم يعطوا لأنفسهم فرصة القراءة التامة لرواية إمام السيرة - ابن هشام - التي تنص صراحة على الأمية، إذ ورد فيها مباشرة بعد العبارة التي اقتطعوها قوله صلى الله عليه وسلم: ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي" [5].
وهذا دليل على أن قوله: "ما أقرأ"؟ هو استفهام فعلا - كما هو واضح - ولكن في الوقت نفسه يعتبر دليلا على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يقرأ؛ ذلك لأنه قد أوضح بنفسه أن طلبه من الملك تعيين ما يطلب منه قراءته لم يكن إلا لخوفه من أن يعود إلى ضمه، كما حدث في كل مرة نفى فيها معرفته للقراءة قبل ذلك[6].
لا وجه - إذن - لتفسير آية الجمعة، أو آية العلق تفسيرا خاطئا يوهم بتعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - القراءة والكتابة، أو إنكار التفسير الحقيقي والقول بغيره للنيل من حقائق ثابتة في حق النبي صلى الله عليه وسلم، ونفى ما وصف به وما اقترن بنبوته.
على أن هناك بعض الغربيين قد اعترف بأمية النبي صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك ما كتبه المسيو سيديو في كتابه "تاريخ العرب": "ولما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير متعلم مثل أبناء وطنه كان لا يعرف القراءة".
وقال الفيلسوف الإنجليزي توماس كارليل في كتابه "الأبطال": "ثم لا ننسى شيئا آخر وهو أنه لم يتلق دروسا على أستاذ أبدا، وكانت صناعة الخط حديثة العهد إذ ذاك في بلاد العرب، ويظهر لي أن الحقيقة هي أن محمدا لم يكن يعرف الخط والقراءة، وكل ما تعلم هو عيشة الصحراء وأحوالها".
وجاء في كتاب "الإسلام" تأليف الكونت هنري دي كاستري: "إن محمدا ما كان ليقرأ أو ليكتب، بل كان - كما وصف نفسه مرارا - نبيا أميا، وهو وصف لم يعارضه فيه أحد من معاصريه، ولا شك أنه يستحيل على رجل في الشرق أن يتلقى العلم بحيث لا يعلمه الناس؛ لأن حياة الشرقيين كلها ظاهرة للعيان، على أن القراءة والكتابة كانت معدومة في ذلك الحين من تلك الأقطار" [7].
وإننا نجد في الكتاب المقدس ما يؤكد أميته صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في سفر إشعياء: "أو يدفع الكتاب لمن لا يعرف الكتابة، ويقال له: اقرأ هذا، فيقول: لا أعرف الكتابة". (إشعياء 29: 12). وعلينا أن نلفت الانتباه إلى أن هذا النص في صورته العربية التي نقلناها، محرف، والسبب أن أصحاب الترجمة العربية التي بين أيدينا يعلمون معنى هذا النص.
إن الذي يعنينا هو استعمال كلمة "القراءة" في هذه التراجم محل كلمة "الكتابة". فكيف يقول: "وقال له: اقرأ هذا، فيقول: لا أعرف الكتابة"؟! إن سياق الكلام يدل على التحريف المقصود؛ لأن سياق الكلام الصحيح في العبارة متمشيا معها "لا أعرف القراءة" [8].
وعندما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتابه مع عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي، ثم قرأه عليه قال النجاشي: أشهد بالله أنه النبي الأمي الذي ينتظره أهل الكتاب، وأن بشارة موسى براكب الحمار كبشارة عيسى براكب الجمل[9]. وهكذا بشرت الكتب السماوية السابقة بصفة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه نبي أمي يبعث في قوم أميين، رغم محاولة اليهود والنصارى تحريف ما جاء في كتبهم خاصا بهذا الشأن.
ثانيا. عدم معرفة النبي - صلى الله عليه وسلم - للقراءة والكتابة أمر ثابت، يدل عليه أنه ليس ممن اشتهروا بالقراءة والكتابة في الجاهلية:
لقد كان من شأن العرب أنهم أميون لا يعرفون القراءة والكتابة اللهم إلا النزر اليسير منهم، وقد حصرت بعض المصادر من يعرفون القراءة والكتابة في مكة في سبعة عشر رجلا، وذكرت أسماءهم، ولم يكن منهم الرسول صلى الله عليه وسلم، مما يدل بوضوح على عدم معرفته القراءة والكتابة تلك الأمية التي اشتهر بها - صلى الله عليه وسلم - بين قومه، فلو رآه أحد وهو يكتب أو يقرأ لذاع ذلك عنه، وانتشر خبره في أرجاء الجزيرة العربية.
وهناك أيضا من الغربيين من تبنى هذه النظرة الإسلامية المتمكنة في تأكيد أميته - صلى الله عليه وسلم - مثل: أماري، وكازيميرسكي، ومونتيه، إضافة إلى ول ديورانت، الذي قال: "ولكن يبدو أن أحدا لم يعن بتعليمه القراءة والكتابة"، ولم تكن لهذه الميزة قيمة عند العرب في ذلك الوقت، ولهذا لم يكن في قبيلة قريش كلها إلا سبعة عشر رجلا يعرفون القراءة، ولم يعرف عن محمد أنه كتب شيئا بنفسه، وكان بعد الرسالة يستخدم كاتبا خاصا[10].
من هنا يتأكد بطلان الزعم القائل: بأن العلوم والفنون كانت شائعة في مكة قبل البعثة, وإذا سلمنا جدلا أن مكة كانت تعج وتمج بالفنون والعلوم، فليس معنى ذلك أن النبيـ صلى الله عليه وسلم - تعلم القراءة والكتابة؛ إذ لا يلزم من شيوع الكتابة ببلد أن يكون أهله جميعا متعلمين, والملاحظ أننا إذا توقفنا عند هذا الحد، فإننا نجد أن ما قرره هؤلاء لا يؤدي إلى أكثر من احتمال تعلمه صلى الله عليه وسلم، ولكننا إذا تعمقنا في البحث فإننا نجد هذا الاحتمال يسقط من تلقاء نفسه؛ إذ لا يوجد أي دليل علمي يسنده، بل إن كل الأدلة تؤدي إلى بطلانه.
ومن الواضح أن منهج هؤلاء المشككين منهج معوج، إذ استندوا إلى استنتاج للأزرقي في تأكيد شيوع الكتابة بمكة، إذ ذكر "أن بلدا مثل مكة كانت تكثر فيه التجارة، ولذلك ما كان يخلو من كثيرين يكتبون ويقرءون، فالتجارة تحتاج إلى الحساب، والحساب يحتاج إلى تدوين"، وتركوا الكثير من الأخبار الموثوقة التي تعرض لأمر التعلم بمكة في زمن البعثة.
ورغم أن أبا الوليد أحمد بن محمد الأزرقي - ت 219هـ - يعتبر مؤرخا موثقا لأخبار مكة المكرمة إلا أن استنتاجه يبقى مجرد استنتاج لا يعتمد على مادة علمية، إضافة إلى أنه يخالف ما اشتهر بين العلماء من أن مكة لم تكن تضم في ذلك الزمان أكثر من سبعة عشر رجلا يقرءون ويكتبون، وهو عدد ينافي وصف "كثيرين" الذي ورد عنده.
والحقيقة أن التعلم في أرض الحجاز، في ذلك الزمان، لم يكن بالأمر الشائع ولا بالقضية المهمة التي يقصد الناس إلى تحصيلها، إذ كانوا يعتمدون - كما هو معلوم - على الحفظ في الصدور، وحتى التجارة فما كانت تحتاج بالضرورة إلى تدوين؛ لأنها لم تكن بهذه السعة التي شهدتها التجارة الحديثة، إضافة إلى أن معاملات كل تاجر لم تكن تتعدى أمواله وأموال بعض المضاربين.
ولم تذكر لنا المصادر رواية عن معاملة تجارية تمت بواسطة التدوين، وفي ظل هذه الظروف لم يكن من الضروري أن يتعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - القراءة والكتابة لتسيير شئونه التجارية، أضف إلى هذا وذاك أن المتعلمين من أهل مكة والمدينة كانوا معروفين مشهورين بين الناس باختصاصهم بهذا الفن؛ فقد ذكرت المصادر أسماء السبعة عشر مكيا العارفين بالقراءة، كما أوردت أسماء المدنيين، إضافة إلى عدد من النساء المتعلمات، وفي إمكانية حصرهم مهما بلغ عددهم دليل قوي على قلة المتعلمين في الحجاز آنذاك.
هذا ولم يثبت أن سيدنا محمدا - صلى الله عليه وسلم - خرج من مكة وغاب عنها غيبة طويلة تمكنه من التعلم في تلك الرحلات التجارية، وكل ما ورد في كتب السيرة أنه - صلى الله عليه وسلم - خرج مرتين إلى الشام، مرة مع عمه أبي طالب، ومرة مع ميسرة غلام السيدة خديجة بنت خويلد,فأين تعلم محمد - صلى الله عليه وسلم - الكتابة؟ وهل كان محمد - صلى الله عليه وسلم - في خفاء من قومه أثناء تعلمه القراءة والكتابة، أم كان معهم أثناء تلك الرحلات التجارية؟! ألم يعلم أحد من قومه ممن كان يرتحل معه للتجارة بهذا الأمر - ولو مصادفة - أثناء تلك الرحلات المتكررة كما يزعمون؟!
إن التجارة لا ترتبط بالقراءة والكتابة، فكم من أمي برع في فنون التجارة!! بالإضافة إلى أن العرب لم يكونوا يديرون تجارتهم بكتابة العقود، وتوثيقها، وإنما كانت تجارة الرحلات تجارة مقايضة وتبادل البضائع، وبيع بالثمن العاجل.
وإذا تذكرنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان صادقا أمينا ذاعت هاتان الصفتان وعرف بهما؛ تساءلنا: لماذا لم تذع أيضا صفة العلم بالقراءة والكتابة؟ ولماذا لم يقل إنه - صلى الله عليه وسلم - كان صادقا أمينا قارئا كاتبا؟!
ومعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يشاهد يوما وهو يحمل أداة لتدوين القرآن مع أنه كان أحب الأشياء إلى قلبه، بل كان ينتظر حضور أحد أصحابه من أجل أن يملي عليه ما أراد كتابته. وأكثر دلالة مما ذكرنا أن الوحي كان يتنزل عليه بالليل، وفي السفر، وقد كان من البديهي تماما أن يسجل القرآن بيده في هذه الحالات لو كان عارفا بالكتابة، ولكنه لم يشاهد وهو يدون آية في صحيفة، ولو مرة واحدة.
وشبيه بهذا في الدلالة على أمية النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخاذه كتبة لتدوين مراسلاته إلى الدول، والإمارات المحيطة بأرض العرب، إضافة إلى تسجيل عهوده ومواثيقه ورسائله إلى أمرائه، ولم يحدث مرة أن تولى بنفسه تدوين شيء من هذه الأمور، ومن المعلوم أنه لو حدث شيء من هذا القبيل لعم العلم به بين الناس، فلما سكتت الروايات عن ذلك كان دليلا قويا على عدم حدوثه[11].
ثالثا. تؤكد الروايات الصحيحة أن الذي كتب صلح الحديبية بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمرو بن سهيل هو سيدنا علي رضي الله عنه:
لقد ساندت الكثير من الروايات الصحيحة إثبات صفة عدم معرفة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقراءة، ومن ذلك ما أورده البخاري في صلح الحديبية، قال: فجاء سهيل بن عمرو فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتابا، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - الكاتب، فقال النبي: "اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم"، قال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب: باسمك اللهم، كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله، لا نكتبها إلا: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اكتب: باسمك اللهم"، ثم قال: "هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله"، فقال سهيل: والله، لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والله، إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب: محمد بن عبد الله".[12] وقد ورد في سيرة ابن إسحاق مثل ذلك، وتعين فيها - وفي روايات أخرى - الكاتب فجعلته علي بن أبي طالب[13].
ومثله أيضا ما جاء أن قريشا صالحوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهم سهيل بن عمرو. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي: "اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم". قال سهيل: أما باسم الله، فما ندري: بسم الله الرحمن الرحيم، ولكن اكتب ما نعرف: باسمك اللهم، فقال: "اكتب: من محمد رسول الله"، قالوا: لو علمنا أنك رسول الله لاتبعناك. ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اكتب: من محمد بن عبد الله"، فاشترطوا على النبي صلى الله عليه وسلم: أن من جاء منكم لم نرده عليكم، وما جاء منا رددتموه علينا. فقالوا: يا رسول الله، أنكتب هذا؟ قال: "نعم، إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاء منهم، سيجعل الله له فرجا ومخرجا" [14].
وجاء في "تاريخ الطبري" عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: ثم دعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "اكتب: باسم الله الرحمن الرحيم"، فقال عمرو بن سهيل: لا أعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللهم، فقال رسول الله: "اكتب: باسمك اللهم"، فكتبتها، ثم قال: "اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو"، فقال سهيل بن عمرو: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو"، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين[15].
على أن هذه الروايات جميعها دالة دلالة قاطعة على أن كاتب الصلح هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويبدو أن هؤلاء المشككين لم يحكموا ما اشتهر بين الناس، ودلت عليه الروايات الصريحة السابقة من أمر أمية النبي - صلى الله عليه وسلم - في فهم الأخبار التي اعتمدوا عليها، والتي قد توحي ألفاظها بتعلمه - صلى الله عليه وسلم - مع أن البحث العلمي الحقيقي يوجب أن نحتكم إلى قطعي الدلالة في فهم الظني، ومن الروايات الكثيرة والتي فيها أن عليا - رضي الله عنه - هو الذي تولى كتابة صحيفة عهد الحديبية من بدايتها إلى نهايتها، نجد بعض الروايات التي تفيد بأنه هو الذي دل النبي - صلى الله عليه وسلم - على موضع الكلمة المراد محوها؛ ليمحوها النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفسه.
وننبه هنا على أن الكثير من الأحاديث تروى بالمعنى؛ ولذلك يجب ألا يتوقف الباحث عند ألفاظ مثل هذه الأحاديث، بل عليه أن يضع نصوصها في إطار علم الراوي بأمر ما، وأيضا علم المروي له بهذا الأمر بالذات، وقد كان جميع رواة هذه الأخبار يعلمون أميته، ويعلمون أن عليا - رضي الله عنه - هو الذي تولى كتابة الصحيفة كما دلت على ذلك غيرها من رواياتهم.
أما المتلقون لهذه الروايات فقد كانوا يعلمون ما كان يعلمه الرواة من أمر جهله بالقراءة، ولهذا فقد وضعوا الروايات في إطارها الطبيعي، وفهموا من نص بعض الروايات التي تقول: "فمحاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكتب" أمرا واحدا، وهو أن هذه رواية بالمعنى، وأنها تحتوي على إحالة إلى الروايات الأخرى من أن عليا هو الذي دل النبي - صلى الله عليه وسلم - على الكلمة المراد حذفها، وقد تولى النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفسه هذه المهمة التي رفض كاتبه القيام بها، ثم أعاد له الكتاب ليتم تدوين العهد.
من الواضح - إذن - أن الروايات التي ذكرناها كلها روايات محمولة بعضها على بعض، وتفسر بعضها بعضا، وأوضح دليل على أميته - صلى الله عليه وسلم - قوله لعلي: "أرني مكانها" [16]. فلو كان قارئا كاتبا؛ لما قال ذلك، ولعرف مكان عبارة "محمد رسول الله".
كما أن رواية البخاري التي جاء فيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب: "محمد رسول الله" ليس فيها ما يثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم القراءة والكتابة؛ "فقد ورد في كثير من الأحاديث إطلاق لفظ "كتب" بمعنى: أمر بالكتابة, منها حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى كسرى, وإلى قيصر" [17], وحديث عبد الله بن عكيم: "كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جهينة: ألا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" [18]، ونحو ذلك كثير، وهذا مثل قوله في حديث أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتخذ خاتما من فضة ونقشه "محمد رسول الله" [19]، ولا شك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ينقشه بيده, وإنما أمر الصائغ بنقشه" [20].
حتى ولو افترضنا جدلا أنه - صلى الله عليه وسلم - قد كتب اسمه بيده في ذلك اليوم, فهذا لا يخرجه من كونه أميا, فإن كثيرا ممن لا يحسن الكتابة يعرف صور بعض الكلمات, ويحسن وضعها بيده, وخصوصا الأسماء ولا يخرج بذلك عن كونه أميا، خاصة إذا علمنا أن عبارة "محمد رسول الله" كانت منقوشة على خاتمه صلى الله عليه وسلم [21].
رابعا. الحديث الذي جاء في الصحيحين لا يشير - لا من قريب ولا من بعيد - إلى ما ذهب إليه الطاعنون من كتابة النبي - صلى الله عليه وسلم - اسم من يخلفه:
أما ما روي عن ابن عباس من قوله: لما حضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي البيت رجال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هلموا أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده"، فلما تنازعوا عنده وكثر اللغط[22] قال لهم صلى الله عليه وسلم: "قوموا" [23]، إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكتب طوال حياته وحتى عند مماته، ولم يرد أي نص يؤكد ذلك، فليس معنى "أكتب" التي جاءت في الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - سيكتب بخط يده، وإنما هي من قبيل قولنا اليوم: بنى رئيس الجمهورية السد، بنى الملك خوفو الهرم الأكبر، شق وزير المواصلات طريقا، والمعنى في اللغة واضح، أي: أمر رئيس الجمهورية ببناء السد، وأمر الملك خوفو ببناء الهرم الأكبر، وأمر وزير المواصلات بشق الطريق، وهكذا.
وهذا يفسر حديثا آخر في صحيح البخاري عن سهيل بن عمرو: "كاتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكاتبه" [24]، فالمفهوم منه أنه أمر بمكاتبته!! ويرجح هذا ما روي عن ابن عباس في قوله سبحانه وتعالى: )وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون (48) ( (العنكبوت) أنه قال: لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ ولا يكتب، كان أميا[25], وكذلك ورد عن أئمة التفسير أن الضمير في قوله (من قبله) عائد على الكتاب، وهو القرآن المنزل عليه صلى الله عليه وسلم، أي: ما كنت يا محمد تقرأ قبله ولا تختلف إلى أهل الكتاب، بل أنزلناه إليك في غاية الإعجاز والتضمن للغيوب وغير ذلك، فلو كنت ممن يقرأ كتابا ويخط حروفا؛ لارتاب المبطلون، أي: من أهل الكتاب، وكان لهم في ارتيابهم متعلق، وقالوا: الذي نجده في كتبنا أمي لا يكتب ولا يقرأ وليس به[26].
كما أن المتأمل في حديث كتابة النبي - صلى الله عليه وسلم - عند موته يجد أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يشرـ لا من قريب ولا من بعيد - إلى ذكر من يكون خليفته, فقد تركها - صلى الله عليه وسلم - شورى بين المسلمين، يدل على ذلك قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حينما طعن وقال له الناس: استخلف فقال: "إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني (يقصد أبا بكر الصديق)، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني (يقصد النبي صلى الله عليه وسلم)" [27].
الخلاصة:
· أثبت القرآن الكريم أمية النبي - صلى الله عليه وسلم - في أكثر من آية من آياته، ومنها على سبيل المثال قوله سبحانه وتعالى: )وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون (48) ( (العنكبوت)، وغيرها من الآيات الكثيرة الدالة على أميته صلى الله عليه وسلم، وجاء أيضا في الكتاب المقدس - بعهديه - ما يثبت هذه الصفة للنبي - صلى الله عليه وسلم - رغم تحريفهم إياه.
· بالنظر إلى الحالة البدوية الصحراوية التي نشأ فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - نجد قلة عدد من تعلموا القراءة والكتابة،بل لقد ذكرت بعض المصادر أسماءهم، وعددهم سبعة عشر رجلا، وليس النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد هؤلاء.
· أكدت الروايات الصحيحة أن الذي كتب صلح الحديبية هو سيدنا علي - رضي الله عنه - وليس النبي صلى الله عليه وسلم، حيث أشارت إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: اكتب، وكررها أكثر من مرة، كذلك أشارت إلى عدم رغبة سيدنا علي في محو كلمة رسول الله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أرنيها، ثم محاها - صلى الله عليه وسلم - بيده بعدما أشار إليها سيدنا علي رضي الله عنه.
· لو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ ويكتب لما خفي على أحد من أعدائه هذا الأمر، ولكانوا أعلنوه، واتهموه بأنه مؤلف القرآن الكريم، إذ وصفوه بأوصاف كثيرة؛ ليبعدوا الناس عن دينه، وكانوا يتربصون به حتى يجدوا دليلا يستندون إليه في طعنهم في القرآن الكريم.
· إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتفرد برحلة تجارية طويلة، حتى يظن أنه تعلم القراءة والكتابة فيها، وإنما لم يخرج للتجارة سوى مرتين: مرة مع عمه أبي طالب ومرة مع ميسرة غلام السيدة خديجة بنت خويلد.
· إن الكتابة التي نسبت إلي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي ورد عنه في مرض الموت هي من قبيل الأمر بالكتابة وليست من قبيل مباشرة الكتابة,ومثال ذلك قولهم: بنى الرئيس السد، أي: أمر ببنائه.
(*) مناقشات وردود، محمد فريد وجدي، الدار