الزعم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان واحدا من عظماء القادة والساسة وليس نبيا مرسلا(*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المغرضين أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لا يعدو أن يكون قائدا ماهرا، وسياسيا من طراز خاص، كغيره من عظماء القادة والساسة، زاعمين أن ما عرف عنه - صلى الله عليه وسلم - من قيادة حكيمة، وسياسة فريدة في إدارة الحروب، وفتح البلاد، إنما يرجع إلى ما كان يتمتع به من استعدادات ومهارات خارقة استطاع من خلالها أن يجمع الناس تحت قيادته، وليس لكونه نبيا يوحي إليه. هادفين من وراء ذلك إلى حصر ما أحدثته نبوته - بموجب الرسالة السماوية التي انطوت عليها - في بوتقة القيادة الحكيمة والمهارة الفردية والقدرات الخاصة.
وجه إبطال الشبهة:
لا شك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أعظم القادة السياسيين الذين عرفتهم البشرية، ولاعجب في ذلك، فقد بلغ - صلى الله عليه وسلم - الذروة في كل شيء، وهذا لا يتنافى بحال من الأحوال مع كونه نبيا مرسلا، بل إن هذا الجانب العظيم من شخصيته، دليل قاطع على نبوته.
التفصيل:
كونه - صلى الله عليه وسلم - قائدا عظيما وسياسيا محنكا لا يتنافى بحال من الأحوال مع كونه نبيا مرسلا:
مما لا شك فيه أن مهارة القيادة وتملك زمام الأمور لا يتنافى مع النبوة والرسالة، بل إن النبوة والرسالة تحتاج إلى أن يكون صاحبهما ممتلكا صفات القائد العظيم، الذي يستطيع أن يصرف أموره بحنكة ومهارة، مستعينا في ذلك بما يوحيه إليه ربه سبحانه وتعالى، مهتديا بما يأتيه من تعاليم السماء، وهذا ما حدث مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أثناء قيامه برسالته ودعوته وقيادته للناس.
ويجدر بنا قبل أن نتكلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قائدا أن نذكر أهم المؤهلات التي يجب توفرها في أي قائد:
· على القائد أن يملك قابلية إعطاء القرارات الصحيحة، وإعطاء القرار بمثابة الأسس للأعمال التي يجب إنجازها، وهناك أوقات مهمة يجب فيها اتخاذ قرار سريع، والقائد يتميز عن الآخرين في مثل هذه الأوقات بقابليته لاتخاذ القرار السريع الذكي والصائب.
· على القائد أن يملك الشجاعة الفطرية التي تجعله ثابتا على مبدئه حين تتفرق عنه جماعته، وعليه ألا يخاف الموت أبدا، فالذي يخاف من كل شيء ويخشى من كل خطوة لا يمكن أن يكون قائدا ينظم ويدير جماعته.
· القائد شخص يدرك مسئولياته إدراكا جيدا، والشعور بالمسئولية هذا جزء لا يتجزأ من كيانه، كما أنه يبقى مستعدا لتحمل التبعات الثقيلة لدعوته حتى النهاية، وإن أصبح وحيدا.
· على القائد أن يكون بعيد النظر يتجاوز زمنه، ويكتشف مسار الحوادث المستقبلية بحدسه وبفكره الثاقب، ويراها مثلما رأى الأحداث الماضية، ويعطي أحكامه وقراراته على هذا الأساس.
· على القائد أن يكون إنسانا مستقرا من الناحية النفسية، لا يتأثر ولا يغير وضعه تحت تأثير أي حادثة.
· القائد شخص يعرف التقييم الجيد للأفراد، ويعرف أكثر من غيره نوعية الأفراد الموجودين تحت قيادته، ويعرف أين يستعمل، ومن يستعمل منهم، وفي تحقيق أي هدف، والشخص الذي لا يعرف توزيع الأعمال حسب القابليات، ولا يسجل نجاحا في هذا الأمر لا يستطيع أن يكون إداريا جيدا فضلا عن أن يكون قائدا.
· القائد هو الشخص الذي يحب رعيته، بحيث يشعر كل فرد منهم أنه أقرب إلى قلبه من الآخرين، وهو الشخص الذي تقابله رعيته أيضا بالحب، فتكون ثقته بالرعية تامة وثقة رعيته به تامة.
ولقد حفل التاريخ الإنساني بكثير من القادة العظام، ولكن لا يوجد أي قائد جمع في نفسه كل هذه الصفات التي عددناها، أما القادة الذين جمعوا بعض هذه الصفات فقلة أيضا، منهم: الإسكندر الأكبر ونابليون وهتلر، ومن المسلمين: محمد الفاتح، والسلطان سليم الأول، وصلاح الدين الأيوبي، وطارق بن زياد، لا شك أن هؤلاء كانوا قادة عظاما.
بيد أننا إذا قمنا بتقييمهم من زاوية الصفات التي سردناها لوجدنا أنه لا يمكن مقارنتهم أبدا بقائد القادة محمد صلى الله عليه وسلم[1].
وهذا ما حدا ببعض الكتاب الغربيين المنصفين - وهو مايكل هارت - أن يجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في المرتبة الأولى من بين الشخصيات التي أثرت في تاريخ البشرية، وذلك في كتابه "الخالدون مائة أعظمهم محمد"، ووضع السيد المسيح - عليه السلام - في المرتبة الثالثة، بينما وضع سيدنا موسى - عليه السلام - في المرتبة الأربعين!!
وفي تحليله لهذا يقول مايكل هارت: يوجد على وجه التقريب من المسيحيين ضعف عدد المسلمين في العالم.. بطبيعة الحال يبدو غريبا أن أعتبر محمدا - صلى الله عليه وسلم - أولى بالتقديم من حيث التأثير في تاريخ العالم على عيسى عليه السلام.
ويوجد سببان رئيسيان لهذا القرار:
الأول: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد وضع دورا أكثر أهمية في تأسيس الدين الإسلامي وتطويره أقوى من عيسى - عليه السلام - في تطويره للديانة المسيحية، و الذي يعتبر مسئولا فقط عن الجوانب الرئيسية الأخلاقية في الديانة المسيحية واختلافها عن أخلاقيات الديانة اليهودية.
الآخر: من الناحية الأخرى كان محمد - صلى الله عليه وسلم - هو المسئول الوحيد في الدين الإسلامي عن كل جوانبه اللاهوتية - العقائدية - والأخلاقية على حد سواء، وقام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالدور الرئيسي في وضع أسس الإسلام وقواعد العبادات والمعاملات في هذا الدين.
وقد عقب جول ماسرمان اليهودي الديانة، والمحلل النفسي، وأستاذ علم النفس بجامعة شيكاغو على منهجية الدراسة في وضع الترتيب لهؤلاء المائة، بأن وضع ثلاثة معايير لتحديد الترتيب العلمي المنهجي لهؤلاء:
o أن يحقق المصلحة للجماعة التي يقودها.
o توفير نظام اجتماعي مضمون وآمن للجماعة.
o أن يكون له القدرة على إمداد أتباعه بالعقائد الصحيحة المتزنة الحقيقية.
ولا شك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو من يجمع تلك المعايير الثلاثة التي جعلت منه الأول على هذه المجموعة[2].
بيد أن صفة القيادة الناجحة التي توفرت في شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا تنفي عنه النبوة، بل تؤكدها، كما أنها تدل دلالة قطعية على أن جميع تصرفاته وأفعاله - صلى الله عليه وسلم - وحي من الله عز وجل، والشواهد على حسن سياسته وحكمته في تدبير الأمور وإدارة الحروب كثيرة ومتعددة.
إن تلك السياسة الواعية الحكيمة التي عرف بها النبي - صلى الله عليه وسلم - رغم نشأته في بيئة بسيطة يتيما فقيرا أميا، لتدل - بما لا يدع مجالا للشك - دلالة قاطعة على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم، فقد كان مثالا رائعا لرجل الدولة الحكيم، والسياسي البارع، والقائد الناجح البصير بدقائق الأمور، القادر على معالجة الحوادث بالحكمة، ألا يدل ذلك كله على أن جميع تصرفاته وأفعاله - صلى الله عليه وسلم - وحي من عند الله سبحانه وتعالى؟
ولقد برز هذا الجانب العظيم من شخصيته - صلى الله عليه وسلم - بصورة واضحة جلية في المدينة المنورة، إذ كانت مقرا للدولة الناشئة، ومن هذه الأمور التي تدل على حسن سياسته صلى الله عليه وسلم:
· بناؤه للمسجد منذ الأيام الأولى من وصوله للمدينة المنورة؛ إذ أحس بثاقب بصره أنه لا بد من وضع القاعدة الأساسية للدعوة إلى الله، وأداء العبادة، فشرع في بناء المسجد ليكون مكانا للعبادة، ومركزا للدعوة، ومقرا للسلطة التنفيذية، والقيادة العليا، حيث يلتقي القائد فيه مع أتباعه، ينصحهم ويشرع لهم ويشاورهم في مهام الأمور، كما يلتقي مع الوفود القادمة إليه ويدعوهم إلى الإسلام، وكان أيضا المدرسة التي يتلقى فيها الناس العلم النافع، وكان كذلك منطلقا للجيوش التي تتوجه للغزو والفتوح.
· المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار؛ حرصا منه على وحدة صف المسلمين، وتلاحمه بعضه مع بعض، وطمسا لدعوى العصبية التي كانت متفشية بين القبائل العربية، واقتلاعها من نفوس الجماعة المسلمة.
وقد جعل - صلى الله عليه وسلم - لرجل من قريش أخا له من الأوس، وللآخر من الخزرج، ولم يزل يؤاخي بين هؤلاء وهؤلاء، ويوثق الأواصر، حتى لم يبق أحد من المهاجرين إلا وله أخ في الله من الأنصار، ثم غرس في نفوس الجميع معنى الأخوة في الله، الذي هو أسمى من كل الروابط؛ أسمى من رابطة الدم، واللحم والنسب، والعصبية للبلد، حتى قدم رباط العقيدة على رباط الدم في الميراث في المرحلة الأولى لقيام الدولة الإسلامية - ونسخ فيما بعد - وهذا من أعظم الأسس التي أقيم عليها صرح الدولة الإسلامية الناشئة.
إن هذا العمل الجليل الذي قام به النبي صلى الله عليه وسلم، يدل على بعد نظره ورجاحة عقله، وخبرته في أمور السياسة؛ لأن قوة الصف من وحدته، وليس أوثق من رباط الأخوة في الله الذي يؤلف بين النفوس من شتى البقاع والأصقاع، ويصهرها في بوتقة واحدة قوية مرهوبة الجانب.
· الدستور العظيم الذي وضعه - صلى الله عليه وسلم - للمجتمع الجديد في المدينة المنورة، لتحقيق الأمن والسلام الداخلي والخارجي، فلقد ضم المجتمع عناصر شتى: الأوس والخزرج الذين كانوا يعيشون فيها، منهم من دخل في الإسلام، ومنهم من بقي على عبادة الأوثان، ثم اليهود أصحاب الفتن والقلاقل، ثم المهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم فرارا بدينهم، وكان الأعداء يحيطون بهم من كل جانب، فرأى - صلى الله عليه وسلم - بثاقب بصره أنه لا بد من وضع دستور واضح المعالم، يبين لكل فئة من هذا المجتمع ما لها وما عليها لمصلحة الوطن، الذي يعيشون فيه، ولحمايته من الأعداء المحيطين به من كل جانب؛ ولذا أخذ العهود والمواثيق على اليهود؛ لاحترام ما جاء في الدستور الجديد والالتزام به، ضامنا لهم الحرية الدينية.
· ومن ذلك أيضا مصالحة أهل مكة، وكتابة معاهدة بينه وبينهم، وذلك عندما توجه هو وأصحابه إلى مكة يريدون أداء العمرة، فحالت قريش بينهم وبين ما يريدون، فكتب الكتاب الذي عرف بـ "صلح الحديبية"، وقد تضمن هذا الصلح شروطا ظاهرها أنها ليست في مصلحة المسلمين، وخاصة ذلك الشرط الذي أملته قريش، الذي يقول: إن من يلجأ إلى محمد خلال مدة الصلح من غير إذن وليه من قريش يرده إليها، وألا ترد قريش من يلجأ إليها من أصحاب محمد، فشق ذلك على المسلمين، وكادوا أن يهلكوا مما دخل عليهم من أمر ذلك الصلح، حتى إن عمر بن الخطاب وثب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائلا: «ألست برسول الله؟ قال: "بلى"، قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: "بلى"، قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: "بلى"، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال: "أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني» [3].
ومرت الأيام وأثبتت أن الخير كان في هذا الصلح، وكشفت عن كياسة[4] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجاحة عقله؛ إذ أسفر هذا الصلح عن فتح مكة بعد مضي سنتين عليه، فكان بركة على الإسلام، حتى ذلك الشرط البغيض الذي شق على المسلمين قبوله، تحول بعد سنة من المعاهدة إلى حربة في صدر قريش، حينئذ لجأت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستغيثة مستصرخة لإلغائه؛ لأن المسلمين الفارين بدينهم من قريش لجئوا إلى الجبال في ساحل البحر وقطعوا الطريق على تجارة قريش، وهكذا تبين للناس حسن سياسته - صلى الله عليه وسلم - وبالغ حكمته في تصريف الأمور[5].
· وكذلك فإن الناظر في سيرته - صلى الله عليه وسلم - في غزواته ومعاملاته لأعدائه، يرى مواقف كثيرة تدل على عظمة قيادته، وكمال معرفته وخبرته بأساليب الحروب، وحسن إدارته للجيوش، مع أنه لم يتعلم الفنون الحربية، ولا الهندسة العسكرية في مدرسة أو كلية، وتتجلى تلك الصور في المعارك الحربية التي خاضها، وفي الخطط الدفاعية التي رسمها، والنظم الحربية التي سنها، لقد انتصر - صلى الله عليه وسلم - على قلة جيشه - في مواقع كثيرة، ودخل مكة مصدر الهجوم ومنبع المؤامرات فاتحا، وقضى على اليهود، وتتبعهم حتى قضى على نفوذهم بعدما غدروا كثيرا بمعاهداته، ولم يكفوا عن المؤامرات والمكايد، ولم تكن سياسته سياسة اعتداء وقهر وظلم، وإنما كانت سياسة دفاع ومقاومة وعدل، وبذلك فقد جمع الله له بين كمال الأخلاق، وحسن السياسة وتصريف الأمور، ووضعها في مواضعها.
· ومن ذلك: موافقته على ما أشار به الحباب بن المنذر، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جاء بدرا نزل عند أقرب ماء هناك، فقال الحباب: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه، أو نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فننزله ثم نغور[6] ماءه من القلب[7]، ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء فنشرب ولا يشربون، فقال صلى الله عليه وسلم: لقد أشرت بالرأي، فنهض - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من الناس، فسار حتى أتى أدنى ماء من القوم فنزل عليه، ثم أمر بالقلب فغورت، وبنى حوضا على القليب الذي نزل عليه، فملئ ماء ثم قذفوا فيه الآنية.
· ومن مواقفه - صلى الله عليه وسلم - الجليلة التي تدل على براعته العسكرية، وقيادته الحربية، رعايته بنفسه تنظيم الصفوف واستعراض الجنود، ففي يوم أحد كان ينظم صفوف أصحابه، ويرتب أجنحتهم، ويضع الحامية اللازمة في مؤخرة المسلمين، ويأمر الرماة ألا يغادروا أماكنهم مهما وجدوا من أمر إخوانهم المقاتلين حتى يتلقوا الأوامر منه صلى الله عليه وسلم، فكان في مقدمة المخططين لفنون القتال وطرائقه، آخذا بالأسباب التي تساعد على خذلان الأعداء، وهزيمتهم بإيقاع الفتنة بينهم، وتشتيت شملهم وكسر ظهرهم والتضييق عليهم[8].
· ومن مواقفه مع اليهود ما يرويه لنا أنس بن مالك - رضي الله عنه - عند فتح خيبر قائلا: «واستقبلنا عمال خيبر غادين قد خرجوا بمساحيهم[9] ومكاتلهم[10]، فلما رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والجيش قالوا: محمد والخميس[11]، فأدبروا هربا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين»[12].
ويقول ابن إسحاق: "وكان رسول الله حين خرج من المدينة إلى خيبر سلك على عصر[13] فبنى له فيها مسجدا، ثم على الصهباء[14]، ثم أقبل رسول الله بجيشه حتى نزل بواد يقال له الرجيع، فنزل بينهم وبين غطفان، ليحول بينهم وبين أن يمدوا أهل خيبر، وكانوا لهم مظاهرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغني أن غطفان لما سمعت بمنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خيبر جمعوا له، ثم خرجوا ليظاهروا يهود عليه، حتى إذا ساروا منقلة[15] سمعوا خلفهم في أموالهم وأهليهم حسا، ظنوا أن القوم قد خالفوا إليهم فرجعوا على أعقابهم، فأقاموا في أهليهم وأموالهم وخلوا بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين خيبر يفتحها حصنا حصنا".
تأمل: عنصري المفاجأة والمداهمة، حيث لم يستطع يهود حصون خيبر أن يجمعوا قوتهم، وتأمل حيلولة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهم وبين المدد، وتأمل الاحتياطات المتخذة لإبقاء غطفان في مواقعها[16].
لقد كان رسولنا العظيم - صلى الله عليه وسلم - شجاعا مقداما لم يتراجع في غزوة قط، وكان الأبطال يتراجعون، ومن المهاجرين والأنصار من يفرون أحيانا، ولكنه - صلى الله عليه وسلم ــ صلى الله عليه وسلم - كان يثبت ثبات الجبال الراسيات لا يتزحزح عن موقفه، ولا يزول عن مكانه، وقد ثبت في مكانه في غزوة أحد التي غلب فيها المسلمون.
ووقف ثابتا في غزوة حنين، وقد فر المسلمون على كثرتهم إذ ذاك، وكيف لصاحب رسالة أن يفر أو أن يتراجع وهو أوثق الناس برسالته وجهاده وربه؟! ومع ذلك فقد كان رحيما في حربه مع أعدائه كما هو رحيم في سلمه بالناس جميعا[17].
أجل هناك شخص واحد استطاع أن يجمع في نفسه صفات القيادة الناجحة، هذا الشخص هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
ومما سبق يتأكد لنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان خير القادة وأقدرهم على تصريف الأمور، وأخبرهم بطبائع الرجال ومواهب أصحابه، بيد أننا مع هذا لا يمكننا عزل الجانب الإنساني في شخصه - صلى الله عليه وسلم - عن الجانب التأييدي من الله - عز وجل - له بالوحي، فهذا مع ذاك أثمر لنا النبي القائد الماهر والسياسي المحنك، ولا نرى أي تعارض بين كونه - صلى الله عليه وسلم - قائدا عظيما وكونه نبيا مرسلا، أليس النبي - صلى الله عليه وسلم - بشرا يوحى إليه؟!
الخلاصة:
· كان النبي - صلى الله عليه وسلم - خير القادة؛ لامتلاكه كل مقومات القيادة الناجحة، من قدرة على اتخاذ القرار الصحيح، وشجاعة وثبات، وإدراك للمسئولية، وبعد النظر، ومعرفته لمواهب أصحابه وقدراتهم... إلخ، ولم تجتمع كل هذه المقومات في شخص مثلما اجتمعت للنبي صلى الله عليه وسلم، حتى إننا لا نبالغ حين نقول: إنه - صلى الله عليه وسلم - كان أعظم القادة السياسيين الذين عرفتهم البشرية، ولكن هذا لا يتنافى بحال من الأحوال مع كونه نبيا مرسلا، بل كل هذا يؤكد نبوته صلى الله عليه وسلم؛ لأن أحدا من البشر لا يستطيع أن يصل إلى ما وصل إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا إذا كان مؤيدا بالوحي الإلهي.
(*) شدو الربابة بأحوال مجتمع الصحابة، خليل عبد الكريم، سينا للنشر، القاهرة، 1997م. اليسار الإسلامي وتطاولاته المفضوحة على الله والرسول والصحابة، د. إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، القاهرة، 1420هـ/ 2000م.