ادعاء أنه - صلى الله عليه وسلم - كان مجرد مصلح اجتماعي ولم يكن نبيا مرسلا(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المغالطين أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان مصلحا اجتماعيا فقط, مبرهنين على ذلك بقوله عز وجل: )إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت( (هود: ٨٨) متوهمين أنها على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، وأن هذه هي حقيقة دعوته - صلى الله عليه وسلم - بنص كلامه وبدلالة الآية, وأنه ما وصل إلى ما وصل إليه - من كونه أعظم المصلحين في العالم - إلا بالدستور الإصلاحي الذي خرج على قومه به. ويهدفون من ذلك إلى تجريده - صلى الله عليه وسلم - من نبوته، وقصر ما بعث به على كونه دستورا إصلاحيا اجتماعيا؛ بغية صرف الناس عن الإيمان بنبوته - صلى الله عليه وسلم - وتشكيكهم في حقيقتها.
وجها إبطال الشبهة:
1) إن الإصلاح العام لكل ما في الكون من معتقدات وعبادات ومعاملات هو مهمة الأنبياء جميعا، ومنهم محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين، والآية التي استدلوا بها تتحدث عن موقف سيدنا شعيب مع قومه، لا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, على أن إثبات الإصلاح لا ينفي النبوة, فإنه من غايات إرسال الأنبياء عامة.
2) لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - مصلحا اجتماعيا فحسب؛ بل كان رسولا بعثه الله لهداية البشر، ولو كان مجرد مصلح لقبل ما عرض عليه قومه من الملك والزعامة واتخذهما وسيلة تمهد له الطريق إلى الإصلاح الذي ينشده.
التفصيل:
أولا. الإصلاح هو مهمة الأنبياء جميعا:
لقد بعث الله الأنبياء جميعا ليصلحوا ما أفسده الناس من الشرك والضلال وعبادة غير الله سبحانه وتعالى، فكل نبي عندما يبعث في قومه فإنما يبعثه الله عندما يرى أن الأرض قد فسدت وساء حالها، وأن الناس تركوا عبادة الله وعبدوا غيره، فيبعث النبي ليذكرهم بعبادة الله سبحانه وتعالى، ويدلهم على الطريق المستقيم الذي حدده الله لعباده في الأرض، قال سبحانه وتعالى: )وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (56)( (الذاريات).
وإذا تتبعنا أخبار الأنبياء والرسل مع أقوامهم نجد أنهم إنما أرسلوا لهداية الناس وتوجيههم إلى الطريق المستقيم، يقول سبحانه في حق قوم نوح: )ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون (29)( (هود)، فقد وصف الله - عز وجل - قوم نوح - عليه السلام - بالجهل؛ لأنهم لم يفهموا المهمة التي جاء من أجلها سيدنا نوح - عليه السلام - من الدعوة إلى الله والإصلاح في الأرض، ولكنه وجد منهم الجهل والغباء.
وإذا ما تتبعنا قصة سيدنا هود - عليه السلام - نجد أن الله أرسله لعبادة الله وحده، ومنع قومه من الإجرام في الأرض، قال سبحانه وتعالى: )وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون (50)( (هود)، ثم قال في نهاية الآية التالية: )ولا تتولوا مجرمين (52)( (هود).
فقد وصفهم الله - سبحانه وتعالى - بالافتراء تارة، وبالإجرام تارة أخرى، وأنه إنما أرسل إليهم ليصلح حالهم ويردهم إلى عبادة الله سبحانه وتعالى؛ لذلك أخبر الله عن قوم سيدنا صالح أنه أمرهم أن يعبدوا الله - سبحانه وتعالى - ولا يشركوا به شيئا، فقال سبحانه وتعالى: )وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب (61)( (هود).
فقد أمرهم سيدنا صالح بأن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا، وأن يستغفروا من الذنوب والمعاصي، ويتوبوا إلى الله - سبحانه وتعالى - فإنه قريب مجيب، فهو إنما جاء لإصلاح أمته من الشرك، والفساد، وأمرهم بالاستغفار من هذه الذنوب والمعاصي، ثم جاء أمر الإصلاح إلى سيدنا شعيب في تلك الآية الكريمة، قال سبحانه وتعالى: )إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت( (هود: 88).
وفي هذه الآية نجد عزم سيدنا شعيب على إصلاح ما أفسده قومه في الأرض من الشرك ونقصان الميزان، إلا أنهم لم يستجيبوا لما أمرهم به، وقد أمرهم بمثل ما أمر الرسل قبله أقوامهم من التوبة والاستغفار مما اقترفوه من ذنوب، ولكنهم قوم يجهلون.
وهكذا كانت رسالة كل الأنبياء واحدة، وهي إصلاح الكون من الشرك والفساد، والمعاصي، وإثبات العبودية لله سبحانه وتعالى، وقد جاء نبينا - صلى الله عليه وسلم - لإصلاح قومه من الأمراض التي تفشت فيهم، وتركهم عبادة الله وحده، وعبادتهم للأصنام، وفعلهم الفواحش والكبائر، يقول سبحانه وتعالى: )قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين (9)( (الأحقاف)، فالأنبياء والرسل إنما بعثوا للهداية والإصلاح ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
ومن ثم فإن مهمة الإصلاح لا تتنافى بحال من الأحوال مع النبوة؛ لأن الأنبياء جميعا كانوا يسعون للإصلاح، فكل نبي مصلح، ولكن ليس كل مصلح نبيا, فالإصلاح هدف من أعظم أهداف الرسالات والنبوات, ولكنه ليس الغاية، فالغاية هي تعبيد الناس لربهم وطلب مرضاته، وإقامة المجتمع الفاضل هي الوسيلة الموصلة لهذه الغاية, ولا يصح في رسالة النبي أن تصبح الوسيلة غاية.
ثانيا. محمد - صلى الله عليه وسلم - رسول من الله وليس مصلحا اجتماعيا فحسب:
في البداية نود أن نوضح بأننا لا نعترض بحال من الأحوال على وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمصلح الاجتماعي، فلا شك أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - هو أعظم المصلحين الذين شهدتهم البشرية، إذ استطاع أن يخرج الناس من ظلمات الشرك والوثنية إلى نور الإيمان والوحدانية، وأن يعبر بهم من الجهل والتخلف والفوضى إلى العلم والتمدن والحضارة، ولكن الذي نعترض عليه ولا نقبله بحال من الأحوال، هو القول بأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان مصلحا اجتماعيا فحسب لا نبيا مرسلا، وذلك لأن دور المصلح الاجتماعي يقتصر على إصلاح مجتمعه الذي يعيش فيه فحسب، وفي الزمان الذي يعيش فيه، بينما كان دور النبي - صلى الله عليه وسلم ـهو إصلاح المجتمعات جميعا، في كل زمان ومكان، وعلى جميع المستويات العقائدية، والتشريعية، والاجتماعية، والاقتصادية... إلخ.
هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فإن المصلح الاجتماعي يعتمد في دعوته على تنظيم علاقة الفرد بنفسه، وعلاقته بالمجتمع، بينما اعتمد النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعوته على تنظيم علاقة الفرد بخالقه، وهي التي ينتج عنها إصلاح علاقته بنفسه والمجتمع، ومن ناحية ثالثة فإن المصلح الاجتماعي يهدف إلى إصلاح أوضاع طبقة معينة من المجتمع تكون أوضاعها متدهورة إلى حد ما، ويعتمد على أهل هذه الطبقة في ثورته ولإصلاح المجتمع وتعديل أوضاعه.
والمتأمل في وضع الجزيرة العربية وقت البعثة المحمدية، يستنتج أنه لا يمكن أن تحدث ثورة، أو تنجح دعوة لتغيير المجتمع؛ وذلك لأن الحالة الاجتماعية في قريش لم تكن تحتاج للإصلاح الاجتماعي فقط، ولكن إصلاح شامل في عامة المجالات، ووضع قريش الداخلي الذي يحتاج إلى تغيير في نوعين من أصناف المجتمع هما: العبيد، والنساء.
· وإذا تأملنا وضع العبيد في الجزيرة العربية، استنتجنا أنه لا يمكن أن تحدث أي تغييرات في وضعهم الاجتماعي نظرا للأسباب الآتية:
1. جميع العبيد كانوا يملكون فرصة للتحرر عن طريق السعي إلى إرضاء أسيادهم، ناهيك عن أن كثيرا منهم يرتبطون باتفاق مع أسيادهم على الحرية، ومحاولة العصيان أو التمرد أو الثورة سوف تلغي هذا الاتفاق المبرم على الحرية مع أسيادهم.
2. إن سفر العبيد مع أسيادهم التجار يجعلهم يشاهدون ويعاينون أشكالا من المعاملة السيئة للأسياد من غير العرب لعبيدهم، وهذا يعطي العبيد نوعا من الرضا عن أسيادهم ذوي المعاملة المقبولة بالنسبة إليهم.
3. إن عقوبة العبد الآبق[1] هي القتل، وهو عقاب يمنع التفكير في محاولة الهرب في نظر العبيد.
4. إن العبد المحرر يطمح في موالاة القبيلة والعائلة التي حررته برضا منها، ودون إكراه نظرا لحاجته إلى مصاهرتهم، وتنشئة أبنائه بينهم، والانصهار في تلك القبيلة.
مما سبق يتبين أن العبيد في الجزيرة لم تتفاعل ظروفهم، ولم يدفعوا إلى الإحساس بالاضطهاد والظلم الذي يدفعهم إلى الثورة والعصيان، ولو أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - دعا إلى الثورة أو إلى التحرير من رقهم على رغم أنوف ساداتهم لرفض العبيد دعوة محمد صلى الله عليه وسلم.
· أما وضع المرأة في الجزيرة العربية فقد كان وضع الافتخار والاعتزاز، إذ إن العربي يفتخر بنسبه الشريف إلى أمه، كما يفتخر بنسبه الشريف إلى أبيه، وإن سبي امرأة حرة قد يؤدي إلى إشعال الحرب بين القبائل المتحالفة، ناهيك عن أن أبناء المرأة المسبية يلحقهم العار إلى الأبد.
هذا وقد منح العرب نساءهم حق اختيار الزوج، فلا يحق لعربي إكراه بناته أو شقيقاته على الزواج بمن لا يرغبن به، كما أنه ظهر من النساء من مارسن التجارة أمثال خديجة - رضي الله عنها - وقد منح العرب للمرأة حق التملك، وحق الاحتفاظ بنسبها وحق التعلم، وحق اقتناء الجواري، وحق التفريق إذا أرادت ترك زوجها لأسباب مقبولة، كما أعطى العرب المرأة حق تكرار الزواج للمطلقة، وحق إبداء الرأي في أمور القبيلة العامة.
وعلى الجملة فقد كانت النساء العربيات يتمتعن بوضع اجتماعي مقبول، إن لم يكن ممتازا مقارنة بوضع النساء عند بقية الشعوب، فعلى سبيل المثال عقد الفرنسيون اجتماعا ليقرروا إذا كانت المرأة إنسانا أم لا؟ وبعد نقاش قرر المجتمعون أن المرأة إنسان، ولكنها مخلوقة لخدمة الرجل، وكان ذلك في الفترة نفسها التي نتحدث عنها عن وضع المرأة عند العرب.
ولو كانت استهدفت دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - تحرير النساء أو إطلاقهن لرفضت النساء دعوته واتباعه[2].
فكيف يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - مجرد مصلح اجتماعي؟! وما الثورات التي قام بها لإصلاح هذا المجتمع؟! وما الداعي إلى القيام بمثل هذه الثورات؟ إنما كان يدعو إلى عبادة الله وحده، وترك الشرك والظلم والباطل، ثم تلا ذلك في مرحلة أخرى بعض التشريعات التي أبقت على بعض عادات قريش، وبعضها الآخر قامت الشريعة بتغييره وتبديله للأفضل.
ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد آمن به كل فئات المجتمع، فإذا جاز لنا تقسيم المؤمنين برسالة التوحيد، فإننا لا نجد من المؤمنين طبقة واحدة فقط استجابت لدعوة التوحيد دون غيرها من الطبقات، فلقد كان من أوائل المسلمين:
1. من طبقة التجار: أبو بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وسعد بن أبي وقاص... فماذا يستفيد التجار من الإسلام؟
2. من طبقة السادة: عمر بن الخطاب، وحمزة بن عبد المطلب، وسعيد بن زيد العدوي، والأرقم بن أبي الأرقم.. فماذا يستفيد السادة من الإسلام؟
3. من طبقة الموالي: صهيب الرومي، وعمار بن ياسر، وزيد بن حارثة، فماذا أراد الموالي من الإسلام؟
4. طبقة نساء الموالي: سمية والدة عمار بن ياسر، استشهدت تحت التعذيب رافضة الارتداد عن الإسلام، فلماذا دخلت في الإسلام؟
5. من طبقة أشراف النساء: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت الخطاب، وأم الفضل لبابة بنت الحارث الهلالية، وأم سلمة، فلماذا دخل هؤلاء النسوة في الإسلام؟
6. طبقة جواري النساء: أم عبيس، وزنيرة، والنهدية وبنتها،... فلماذا تدخل الجواري في الإسلام؟
7. طبقة العبيد: عامر بن فهيرة، وبلال بن رباح، وخباب بن الأرت، فلماذا دخل العبيد في الإسلام؟
8. طبقة رعاة الأغنام: عبد الله بن مسعود, وأبو ذر الغفاري، وأخوه أنيس الغفاري، فلماذا أسلم هؤلاء الرعاة؟
لقد آمنت كل هذه الفئات بدعوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنها تدعو إلى التوحيد فحسب، فلقد كان نتيجة إسلام التجار أن قاطعت قريش شراء بضائعهم، وكان نتيجة إسلام السادة تسفيه عقولهم، وكان نتيجة إسلام المولـى صهيب الرومي سلب ماله الذي ورثه إياه سيده، بينما كانت عقوبة ياسر العنسي وزوجته سمية التعذيب حتى الموت، وعقوبة أشراف النساء عزوف قريش عن مصاهرتهن، وعقوبة الجواري والعبيد التعذيب، وكانت قريش تهدف من وراء هذه العقوبات أن يرتد هؤلاء المؤمنون عن التوحيد إلى الشرك، لكن كل هؤلاء رفضوا الارتداد إلى الشرك، وثبتوا على التوحيد.
وهكذا يتضح أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يكن مصلحا اجتماعيا، ولا غايته تحرير العبيد، ولا إنصاف المرأة، ولا إزالة الطبقات، ولا توزيع الثروة, بل كان داعيا إلى الله وإلى توحيده فقط. لكن غرسة التوحيد ما لبثت أن أثمرت تحريرا للعبيد، وإكراما للمرأة، وإتماما لمكارم الأخلاق، وبناء لدولة العدل والحق والخير[3].
ثم لو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسعى من وراء دعوته إلى الإصلاح الاجتماعي, ولم تكن دعوته هذه عن عقيدة ورسالة كلف أن يبلغها للناس كافة, لو كان الأمر مجرد إصلاح اجتماعي فقط, لكان الأمر أيسر ما يكون وأهون ما يكون؛ فقد عرضوا عليه الملك والجاه والسلطان في مقابل أن يترك دينه أو حتى يقلع عن سب آلهتهم وتسفيه أحلامهم, ولكنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له غرض آخر غير أداء رسالته وتبليغها إلى الناس كافة, وهي عبادة الله وحده وترك عبادة ما دونه - سبحانه وتعالى - وإقامة المجتمع المسلم على منهاج الله وحده، ولن تكون الثانية إلا بعد تحقيق الأولى, فقد روى أصحاب السير أن قريشا اتبعت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - سياسة المفاوضات بعدما فشلت سياسة التعذيب والاضطهاد له ولأصحابه، وذلك ضمن خطتهم للقضاء على دعوة الإسلام أو إثناء النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المضي في سبيل دعوته.
ومن ذلك أن عتبة بن ربيعة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وجلس إليه وكان مما قال له: إنك قد أتيت قومك بأمر عظيم, فرقت به جماعتهم, وسفهت به أحلامهم, وعبت به آلهتهم ودينهم, وكفرت به من مضى من آبائهم, فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها, ولعلك تقبل منها بعضها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل يا أبا الوليد أسمع", قال: يا ابن أخي، إن كنت تريد بما جئت من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا, وإن كنت تريد شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا[4]... إلخ. فلو كان هدف النبي - صلى الله عليه وسلم - الإصلاح الاجتماعي الذي ينشده من خلال الملك والجاه والمال والسلطان الذي سوف يتمتع به, فلماذا يتأخر عن تحقيقه وقد تيسرت كل سبل تحقيقه من المال والسلطان؟
ثم إن أشراف قريش عادوا فكرروا المحاولة التي قام بها عتبة بن ربيعة، فذهبوا إليه مجتمعين وعرضوا عليه الزعامة والملك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بي ما تقولون. ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم, ولكن الله بعثني إليكم رسولا, وأنزل علي كتابا, وأمرني أن أكون بشيرا ونذيرا, فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم, فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة, وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم" [5].
ومن هذا يتضح لنا حقيقة الدعوة التي قام بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتفصلها عن كل ما قد يلتبس بها من الأهداف، والأغراض التي قد يضمرها في أنفسهم عادة أرباب الدعوات الجديدة، والمنادون بالثورة والإصلاح، فهل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يضمر من وراء دعوته الوصول إلى ملك؟ أو كان يضمر الوصول إلى مستوى رفيع من الزعامة أو الغنى؟
هذه الاحتمالات وسائل قد يتذرع بها محترفو الغزو الفكري وأعداء هذا الدين؛ ولكن يا لأسرار الحياة العظيمة التي هيأها رب العالمين لرسوله! لقد ملأ الله - عز وجل - حياة رسوله بالمواقف والمشاهد التي تقطع دابر كل احتمال, وتقطع السبيل إلى كل وسواس, وتدع أرباب الغزو الفكري حيارى في الطريقة التي ينبغي أن يسلكوها في حربهم الفكرية.
كان من جليل حكمة الله تعالى أن يقوم مشركو قريش بسلسلة من المفاوضات مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن صوروا في أنفسهم كل هذه الاحتمالات وهم أدرى الناس بطبيعة دعوته والغاية البعيدة من رسالته, وبأنه لن ينزل عند شيء من عروضهم, ولكن هكذا أرادت الحكمة الإلهية حتى ينطلق التاريخ بتكذيب كل من سيأتي من محترفي التشكيك والغزو الفكري مع الزمن.
لقد سخر الله من قبلهم عتبة بن ربيعة وأمثاله, محترفي هذه الدوافع والآمال ووضعها بين يدي محمد - صلى الله عليه وسلم - لتكون قريبة سائغة, فلماذا لم يلن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم, ولم يتحول إلى هذه الغنيمة التي سيقت إليه ما دام أنها الدافع له من وراء رسالته ودعوته[6]؟!
الخلاصة:
· إن مهمة الأنبياء جميعا هي إصلاح ما أفسده الناس من الشرك والضلال، فكل نبي عندما يبعث في قومه، فإنما يبعثه الله عندما يرى أن الأرض فسدت وساء حالها، فلا عجب أن يبعث الله - عز وجل - محمدا - صلى الله عليه وسلم - لإصلاح قومه من الأمراض التي تفشت فيهم، ويخرجهم من الظلمات إلى النور ومن الشرك والوثنية إلى الإيمان والتوحيد، وعليه فلا يوجد أي تعارض بين النبوة والإصلاح؛ لأن كل نبي يكون مصلحا.
· لا يمكن أن نقبل بحال القول بأن دور محمد - صلى الله عليه وسلم - كان مقتصرا على الإصلاح الاجتماعي فحسب؛ وذلك لأن المصلح الاجتماعي يهدف إلى إصلاح مجتمع معين في فترة معينة، ويعتمد في دعوته على تنظيم علاقة الفرد بنفسه وعلاقته بالمجتمع فحسب، لكن دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - كانت دعوة لإصلاح أحوال الناس جميعا في كل زمان ومكان، وقامت في الأساس على تنظيم علاقة الفرد بربه، ولم تعتمد على طبقة معينة من المجتمع بل احتوت كل الطبقات دون تمييز أو تفريق.
(*) الفكر الاستشراقي: تاريخه وتقويمه، د. محمد الدسوقي، دار الوفاء، مصر، ط1، 1415هـ/ 1995م. السيرة النبوية وأوهام المستشرقين، عبد المتعال الجبري، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1408هـ/ 1998م.