إنكار نبوته - صلى الله عليه وسلم - لكونه أميا غير صالح لقيادة الأمم(*)
مضمون الشبهة:
ينكر بعض المشككين نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لكونه أميا، ويتساءلون: كيف يصلح بأميته لقيادة العالم؟ وكيف تصلح أمته من بعده لذلك؟، وهم الذين وصفوا جميعا بالأمية والجهالة - على حد زعمهم - في قوله سبحانه وتعالى: )هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم( (الجمعة: ٢)؟! ويؤكدون زعمهم هذا بالتأخر الحضاري الذي يسود العالم الإسلامي، والبون الشاسع بينه وبين الأمم المتقدمة. وهم في جملة ما زعموه يتذرعون بأبعد سبب ويتشبثون بأوهى خيط؛ رامين من وراء ذلك إلى نفي نبوته - صلى الله عليه وسلم - وتجريده منها كلية.
وجوه إبطال الشبهة:
1) ليست الأمية مرادفة للجهل، فليس كل أمي جاهلا، وليس كل جاهل أميا، وإذا كانت الأمية مذمة في حق البشر، فهي مكرمة في حق محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنها من دلائل صدق نبوته، وصدق ما جاء به، ودليل على إلهية رسالته.
2) لقد أطلق الله - عز وجل - على العرب وصف الأميين، وهي كلمة تطلق على من ليس لهم كتاب سماوي، وكان اليهود يطلقونها على غير جنسهم من العرب وغيرهم من الأمم.
3) لقد سادت الحضارة الإسلامية الدنيا كلها عدة قرون، في الوقت الذي كان العالم يموج فيه بالخرافات والجهل، أما تأخر المسلمين في العصر الحديث؛ فراجع إلى تخلفهم عن إدراك حقيقة الإسلام وفهمه الفهم الصحيح.
التفصيل:
أولا. الأمية لا تعني الجهل، فليس كل أمي جاهلا، والأمية ليست منقصة في حق محمد - صلى الله عليه وسلم - بل هي من دلائل صدق نبوته، وصدق ما جاء به:
يجدر بنا قبل حديثنا عن أمية محمد - صلى الله عليه وسلم - أن نقرر حقيقة تغافل عنها الكثير من الناس، وهي أن الأمية لا تعني بحال من الأحوال الجهل، فليس كل أمي جاهلا، وكذلك فليس كل جاهل أميا.
فالأمي هو من لا يقرأ ولا يكتب، والجاهل من لا يعلم ما ينبغي أن يعلم، وليس العلم كله منوطا بقراءة وكتابة، وليس كل ما هو مكتوب مقروء علما يكون الجهل به وصمة تنتقص من قدر من لا يقرأ ولا يكتب، والفيصل في هذا الشأن أن نعرف بالضبط ماذا تساوي القراءة والكتابة، فما من شك في أن البشرية قد اخترعت القراءة والكتابة في وقت متأخر نسبيا في تاريخها المعروف، بعد أن قطعت في مدارج الحضارة والتعلم والخبرة أشواطا عسيرة شاقة، لذلك كان البشر كلهم في هذه المرحلة أميين، فهل كانوا لهذا السبب جهالا كلهم بغير استثناء؟
محال عقلا أن يكونوا كلهم جهالا، بل كانت لهم معرفة، وكان ثمة تفاوت بين آحادهم وعشائرهم فيما تيسر لهم من الخبرات والمعارف، فكان بعضهم أعلم من بعض؛ لأن بعضهم أذكى من بعض، فمنهم العالم والجاهل، ومنهم الحكيم والأحمق.
وكلهم مع ذلك سواسية حتما في صفة الأمية، بسبب مادي لا حيلة فيه، هو أن القراءة والكتابة لم تكن قد اخترعت بعد, فليس هناك إذن أدنى ارتباط بين جهل وأمية، أو بين علم وقراءة وكتابة[1].
فقد يكون العقل النابه لأمي دون قارئ، وقد يكون لأمي دون أمي آخر، وقد يكون لقارئ دون قارئ آخر.
ولكن كثير من الناس لا يفطنون إلى ذلك الفارق بين المصطلحين: الأمية والجهل، ولا يفقهونه - على وضوحه كالشمس -، وعلى أساس سوء الفهم هذا تشدق ذوو المآرب الملتوية، إما عن خبث وإما عن مكر ودهاء، بأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان جاهلا؛ لأنه كان أميا لا يقرأ ولا يكتب[2]. والحق أن مسألة أمية النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تكن محل خلاف، بل ظل وسيظل راسخا في أذهان المجموع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل بعثته وبعدها كان أميا لا يعرف القراءة والكتابة.
لقد وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه أمي؛ لأن العرب لم تكن تعرف القراءة والكتابة، فأرسل الله لهم رسولا من أنفسهم لا يقرأ ولا يكتب، وكانت هذه إحدى معجزاته، حيث كان يتلو عليهم القرآن مباشرة من الوحي الذي يبلغه عن الله - عز وجل - دون تغيير أو تبديل لكلماته, بينما كان الخطيب من العرب يعمد إلى الإضافة أو الحذف في أي خطاب يعيده مرة أخرى، ولقد اقتضت حكمة الله أن يظل كتابه محفوظا، لا دخل لنبيه فيما نزل منه، وقد أخبره عن الذين أرسلهم قبله، وأن تكون الأمية هي ما يتميز به عنهم، وأنزل عليه بمناسبة ذلك قوله سبحانه وتعالى: )وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون (48)( (العنكبوت).
لقد جعل الله - عز وجل - النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقرأ ولا يكتب؛ لينفرد - عز وجل - بتعليمه الفقه، وأحكام الشريعة، ويقصره على معرفة مصالح الدين دون ما تتباهى به العرب من علم قيافة الأثر وأوصاف البشر والخيل والأنساب والأخبار وتكلف قول الشعر، وليكون إذا جاء بالقرآن العظيم، وتكلم بالكلام العجيب كان ذلك أدل على أنه من الله[3].
فجهل النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقراءة والكتابة، ليس مذمة، بل هو ميزة ومصدر عظمة؛ إقامة للحجة ودرءا للشبهة، وحتى لا يكون للمعارض لمحمد - صلى الله عليه وسلم - أدنى ريب في إلهية رسالته.
ولعل من المناسب هنا أن نذكر ما ترويه كتب الأدب من محاورة دارت بين الرشيد وأحد الشعراء، وصفه فيها الرشيد بالأمية، فكان على الفور أن عقد الشاعر وجها للشبه بين أميته وأمية محمد - صلى الله عليه وسلم - فغضب الخليفة لذلك، ومن ثم قال له: لقد زدت جهلا؛ فإن الأمية منك مذمة ومن النبي - صلى الله عليه وسلم - مكرمة[4].
وقد اختار الله للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن تكون يده بعيدة الصلة بالقلم، وعقله بمنأى عن توجيه المعلمين، كي لا يستريب في الوحي عاقل، قال سبحانه وتعالى: )وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون (48)( (العنكبوت), فكان الوحي - على تلك الأمية - خالصا من أي أثر للمعارف السابقة عليه، سائغا - من أي كدرة بشرية - للشاربين.
حتى إن قريشا لما أرادت أن تطعن الوحي في نقائه وسلامته، لم تجد غير غلام نصراني، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجلس إليه ويكلمه، فقالت: والله ما يعلم محمدا كثيرا مما يأتي به إلا جبر النصراني غلام ابن الحضرمي, فقطع الله لسانهم عن ذلك بأن أنزل: )لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين (103)( (النحل)، فلو أنه سبق له - صلى الله عليه وسلم - الجلوس إلى معلم، أو ضبط قبل البعثة متلبسا بكتاب يقرؤه لوجدت مثل هذه الفرية فيهم أمدا طويلا، ولكن القدر السابق عليها جعلها تموت يوم ولادتها, لقد أعجزهم الله بذلك عن أن ينسبوا الفضل فيه إلى معلم معروف معهود فخبطوا خبط عشواء[5] في المجهول، )وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا (5)( (الفرقان)، فمن اكتتبها؟ ومن عليه قرأها؟
ذلك طبع من جادل بالباطل ليدحض به الحق إذا لم يجد دليلا, فإنه يتخبط على غير هدى في الادعاء ذات اليمين وذات الشمال, لعله يصادف من صاحب الحق يأسا أو يجد فيه كلالا، ولقد كانوا في فريتهم الثانية هذه مقرين بأنه أمي، فلو أنه لم يكن أميا لكتب وما اكتتب، ولقرأ بنفسه دون حاجة إلى من يقرأ له، لقد تركهم الحق بسابق تدبيره لنبيه - صلى الله عليه وسلم - صرعى الجدل العقيم، فرد عليهم بأن الذي أملاها على محمد - صلى الله عليه وسلم - هو من قال: )قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما (6)( (الفرقان)[6].
ونخلص من هذا كله إلى أن حكمة الله من جعل رسوله أميا لا يكتب ولا يقرأ تكمن في أنه - عز وجل - أراد ألا يشك أحد في نزاهة ما جاء به صلى الله عليه وسلم, وأن مصدر ما جاء به هو الوحي الإلهي المطلق؛ ومن ثم فليست الأمية مذمة في حقه صلى الله عليه وسلم.
ثانيا. إن الأميين لقب يطلق على من ليس له كتاب سماوي، وكان اليهود يطلقونها على غير جنسهم من العرب وغيرهم:
لقد اختلف المفسرون في تفسير معنى كلمة "الأميين" الواردة في الآية الثانية من سورة الجمعة: )هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين (2)( (الجمعة). فمنهم من ذهب إلى أن الأميين هم العرب الذين لا يعرفون القراءة والكتابة، فالرسول أمي لا يعرف القراءة والكتابة، وأمته أمة أمية لا تعرف القراءة والكتابة أيضا.
ومنهم من ذهب إلى أن معنى الكلمة المقصود في الآية هو ما كان اليهود يطلقونه على غيرهم، ومن ليس من جنسهم.
ومما يرجح الرأي الثاني أننا عندما نراجع آية سورة الجمعة نرى أن القرآن الكريم قد أورد معنى اللفظ الذي نبحث عنه، ذلك في تحديده لوظيفة الرسول الذي بعثه الله - تعالى - في الأميين.
إنه ليس - قطعا - معلما للقراءة والكتابة، بل هو رجل مبعوث ليتلو عليهم آيات الله تعالى، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة, وهذه كلها أصول دينية تجعل من رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم - تعليم قومه الأميين أشياء يفتقدونها, وهي تتمثل عند التحقيق في تعليمهم عقائد جهلوها، وشرائع غائبة عن حياتهم الخاصة والعامة.
وإن المعنى الذي يتبادر إلى الذهن من ذكر الله - عز وجل - لكل ذلك هو جهل المبعوث فيهم، وهم الأميون للعلوم الإلهية، لا لفني القراءة والكتابة أو لغيرهما من أمور الدنيا. إن القراءة المتأملة في باقي الآيات تؤدي إلى أن يقرر المتأمل أنها تتضامن فيما بينها مع آية سورة الجمعة، في تأكيد المعنى نفسه؛ فقد ورد في الدعاء الإبراهيمي الموجود في سورة البقرة أن الوظيفة المرجوة لهذا الرسول هي أن يتلو على المبعوث فيهم آيات الله.
كما حدد - عز وجل - في الآية نفسها أن العمل الذي يقوم به الرسول الكريم فعليا، أي: بعد أن تحققت دعوة إبراهيم - عليه السلام - يتمثل في ما جاء في ذلك الدعاء: )ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم( (البقرة: 129)، كما ورد في سورة آل عمران أن سبب امتنانه تعالى على المؤمنين لا يكمن في تعليمهم أمرا من أمور الدنيا؛ بل لأنه أرسل فيهم رسولا يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة[7]. قال عز وجل: )لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة( (آل عمران: 164).
ولقد ورد في آية سورة الجمعة الإشارة إلى الأقوام الذين بعث الله - عز وجل - فيهم الرسول الخاتم بوصف "الأميين"، وقرر عنهم جهلهم بالكتاب السماوي، نصا في قوله سبحانه وتعالى: )وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين (164)( (آل عمران)، وقوله سبحانه وتعالى: )ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون (151)( (البقرة).
وذلك حين جعل وظيفة الرسول المبعوث فيهم تزكية نفوسهم وتعليمهم الكتاب والحكمة، وقد اتضح بهذا أن استخدام مصطلح "الأميين" فيهم ليس لجهلهم بالقراءة، بل لجهلهم بحقائق الدين وتعاليم السماء[8].
إن مدار فهم أكثر معاني سورة الجمعة نفسها يتأسس على الفقه الجيد لعقيدة التفضيل اليهودية التي ادعوا فيها انقسام أمم الأرض إلى قسمين: اليهود، وهم أبناء الله وأحباؤه، والأميون، وهم بقية شعوب الأرض,قال عز وجل: )وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء( (المائدة: 18), وحكى عن أهل الكتاب قولهم: )ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون (75)( (آل عمران)، ويكفينا أن ننبه على أن قوله سبحانه وتعالى: )ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم (4)( (الجمعة) لا يعدو أن يكون ردا إلهيا على زعم اليهود الاختصاص بفضل الله دون الأميين, وهي إبطال لهذه العقيدة في الوقت نفسه، بدليل إرساله تعالى لبعض الأنبياء، وإرساله النبي الخاتم من غيرهم؛ وذلك لأن هذه العقيدة بالأساس, تضاد إحدى صفات الله تعالى ذاته, أي العدل, إضافة إلى مضادتها لمبدأ الحرية الإلهية.
أما الآية التي وردت بعدها ففيها ما يشبه أن يكون نصا؛ بل هو نص في بيان سبب انتقال النبوة من بني إسرائيل إلى الأميين؛ ويكمن في أن اليهود لم يرعوا حقوق الله تعالى وحقوق العباد حق رعايتها، فكفروا وحرفوا وادعوا ما لم ينزل الله به سلطانا، ولذلك تشبههم بالحمير، فقال سبحانه وتعالى: )مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين (5)( (الجمعة).
وأكد الله - سبحانه وتعالى - في الآية التي وردت بعدها مسألة اعتقاد اليهود اختصاصهم بالتفضيل الإلهي غير المشروط، وأبطله؛ وذلك أنه أساس كفرهم بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - حيث ردوا عليه دعوته استنادا إلى الزعم بقصر الله تعالى النبوة فيهم، فقال تعالى مبطلا زعمهم، ومؤكدا تفضله على "الأميين" الذين لم يكونوا في عرف اليهود إلا جنسا مخلوقا لخدمتهم: )قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين (6)( (الجمعة)[9].
وبهذا يتضح أن كلمة "الأميين" لا تعني الجهلاء الذين لا يعرفون شيئا فحسب, بل كانت تطلق أيضا على من ليس لهم كتاب سماوي, وقد امتن الله على أمة الإسلام أن بعث إليهم نبيا منهم ليعلمهم أمور دينهم.
ثالثا. الحضارة الإسلامية المزدهرة في الماضي وسبب تراجعها الآن:
إن الأمة الإسلامية قد سادت العالم أجمع مدة طويلة من الزمن؛ بل وقد أخذت عنها أوربا معظم مؤلفات علمائها العرب والمسلمين في كافة العلوم الطبية والهندسية، والرياضية، والفلكية، وغيرها من العلوم الأخرى، وقد كانت مبتكراتهم في مجالات الطب والصيدلة والفلك والفن والمعمار... إلخ، خير شاهد على عظمة هذه الحضارة وشموليتها، أما ما أصاب الدول الإسلامية من تخلف وركود في العصر الحديث، فليس الإسلام سببا فيه، إنما هو نتيجة تخلف المسلمين عن إدراك المعاني الحقيقية للإسلام. ويعبر المفكر الجزائري مالك بن نبي عن ذلك بقوله: إن التخلف الذي يعاني منه المسلمون اليوم ليس سببه الإسلام، إنما هو عقوبة مستحقة من الإسلام على المسلمين لتخليهم عنه، لا لتمسكهم به كما يظن بعض الجاهلين.
فليست هناك صلة بين الإسلام وتخلف المسلمين؛ لأن الإسلام لا يزال وسيظل منفتحا على كل تطور حضاري يشتمل على خير الإنسان، وعندما يفتش المسلمون عن الأسباب الحقيقية لتخلفهم فلن يجدوا الإسلام من بين هذه الأسباب.
فلا يجوز الخلط بين الإسلام والواقع المتدني للعالم الإسلامي المعاصر، فالتخلف الذي يعاني منه المسلمون يعد مرحلة في تاريخهم، ولا يعني ذلك بأي حال من الأحوال أنهم سيظلون كذلك إلى نهاية التاريخ، ولا يجوز اتهام الإسلام بأنه وراء هذا التخلف، تماما كما لا يجوز اتهام المسيحية بأنها وراء تخلف دول أمريكا اللاتينية.
فحقائق التاريخ تبين بما لا يدع مجالا للشك أن الإسلام قد استطاع بعد مدة زمنية قصيرة من ظهوره أن يقيم حضارة رائعة كانت من أطول الحضارات عمرا في التاريخ، ولا تزال الشواهد على ذلك ماثلة للعيان فيما خلفه المسلمون من علم غزير في شتى مجالات العلوم والفنون، وخير مثال على ذلك: حضارة المسلمين في الأندلس وما تبقى من معالمها حتى يومنا هذا شاهد على ذلك في أوربا نفسها، وقد قامت أوربا بحركة ترجمة نشطة في القرنين الثاني عشر والثالث عشر لعلوم المسلمين، وكان ذلك هو الأساس الذي بنيت عليه أوربا حضارتها الحديثة[10].
وبناء على ذلك فالمسلمون صالحون في أي وقت لقيادة الأمم وسيادتها، كما كانوا من قبل، وذلك إذا ما تمسكوا بدينهم واتبعوا تعاليمه التي تدعو إلى التفكر والاختراع، والأخذ بأسباب التقدم العلمي الحديث، وليس صحيحا أن سبب تأخر المسلمين في الآونة الأخيرة هو الإسلام، ولكن على العكس من ذلك تماما فإن سبب تأخرهم هو بعدهم عن الإسلام وتعاليمه السامية، فالعيب في المسلمين وليس في الإسلام.
الخلاصة:
· إن أمية النبي - صلى الله عليه وسلم - مصدر فخر له ولكل مسلم، وليست منقصة في حقه - صلى الله عليه وسلم - لأن ذلك دليل على صدق نبوته، وصدق ما جاء به، وأن مصدر القرآن الكريم مصدر إلهي لا دخل للبشر فيه، فهي مكرمة في حقه - صلى الله عليه وسلم - منقصة في حق أمته ولذا جاء - صلى الله عليه وسلم - بدين يقضي على الأمية والجهل ويدعو إلى العلم والمعرفة.
· إن كلمة "الأميين" المذكورة في قوله سبحانه وتعالى: )هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم( (الجمعة: 2) كانت تطلق على من ليس له كتاب إلهي سابق، وهم العرب وغيرهم من الأمم الأخرى، وهذا اللفظ كان يطلقه اليهود على غيرهم من الأمم لاحتقارهم؛ لأنهم ليس لهم صلة بالسماء وأنهم - أي: اليهود - أفضل الأمم.
· لقد سادت الحضارة الإسلامية العالم وذاع صيتها فترة طويلة من الزمن، وقد اعترف بها مشاهير أوربا وعلماؤها، و نصوا على أنها أصل الحضارة الأوربية الحديثة في كل العلوم الحديثة من طب، وهندسة وجبر، واجتماع.. وغيرها.
· إن السبب الذي يقف وراء التأخر الحضاري للمسلمين في العصر الحديث هو تخلفهم عن إدراك المعاني الحقيقية للإسلام، وتقصيرهم في التماس الأسباب التي تكفل لهم التقدم الحضاري ومواكبة غيرهم من الأمم، ولقد أدرك المسلمون الأوائل هذه المعاني، والتمسوا تلك الأسباب، فسادوا العالم كله قرونا عديدة، ولا بد للمسلمين الآن - إن أرادوا أن يعيدوا هذه السيادة - أن يحذوا حذو سلفهم.
(*) اليسار الإسلامي وتطاولاته المفضوحة على الله والرسول والصحابة، د. إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، القاهرة، 1420هـ/ 2000م.