التشكيك في نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - بزعم أن خديجة - رضي الله عنها - لم تعترف بها(*)
مضمون الشبهة:
يشكك بعض المغالطين في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. مستدلين على ذلك بما يزعمونه من أن زوجته خديجة - رضي الله عنها - لم تعترف بنبوته تلك وهي أقرب الناس له، وأولاهم بتصديقه، ويبرهنون على ذلك بما يدعونه من أن مشاركتها إياه في حياته الدعوية نابع من خوفها عليه وعلمها بحقيقة دعوته الزائفة، ثم إنها كانت تخاطبه بقولها: "يا أبا القاسم، يا محمد"، وما نادته بالنبوة ولا بالرسالة، فما سمعت تقول: يا نبي الله ولا يا رسول الله! ويرمون من وراء ذلك إلى التشكيك في نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - بنفي إيمان زوجته السيدة خديجة - رضي الله عنها - بها.
وجوه إبطال الشبهة:
1) كانت السيدة خديجة - رضي الله عنها - تدرك عظمته صلى الله عليه وسلم، وتعلم مدى صدقه وأمانته قبل بعثته؛ ولذلك تزوجت به، ثم إنها لما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - ناصرته وآمنت به حين خذله الناس، ولا غضاضة في أن تناديه بكنيته أو باسمه؛ لأنه زوجها، وليس ذلك دليلا على عدم إيمانها بنبوته؛ فقد تنادي زوجة الدكتور أو المهندس - مثلا - زوجها باسمه ولا يشكك ذلك في كونه دكتورا أو مهندسا، ولله ولرسوله المثل الأعلى.
2) لقد كانت السيدة خديجة - رضي الله عنها - أول من آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إذ آمنت به بعد أول لقاء له مع جبريل - عليه السلام - في غار حراء.
3) إن في مساندة السيدة خديجة - رضي الله عنها - النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعوته بكل ما أوتيت من قوة ومال، ووقوفها بجانبه حتى توفاها الله - عز وجل - من جهة، وفي وفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لها طول حياته من جهة ثانية؛ ما يشهد على إيمانها بنبوته في مقابل ما زعمه هؤلاء.
التفصيل:
أولا. لقد كانت السيدة خديجة - رضي الله عنها - تدرك عظمته - صلى الله عليه وسلم - وتعلم مدى صدقه وأمانته؛ ولذلك تزوجت به - صلى الله عليه وسلم - وناصرته وآمنت به لـما نزل عليه جبريل - عليه السلام - بالوحي:
لقد كانت السيدة خديجة - رضي الله عنها - كغيرها من سكان جزيرة العرب، تسمع بنبي قادم، وأن مشرق نوره سيكون في فاران، وهي أم القرى التي تسكنها خديجة مع غيرها من سكان مكة.
ولقد زاد الأمل في صدر خديجة - رضي الله عنها - حين رأت سيدنا محمدا - صلى الله عليه وسلم - قد جبل على صفات أقل ما يقال في إحداها أنها من المعجزات في باب الأخلاق، وإلا فمن من البشر غير الأنبياء يستطيع أن يقضي عمره كله دون أن يجرب عليه أحد من الناس كذبا قط؟!
ولقد رغبت السيدة خديجة - رضي الله عنها - إلى ابن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكون في تجارتها ومعه ميسرة - خادما لا رقيبا - فلما عادا اختلت بخادمها ميسرة تسأله عن أحوال محمد - صلى الله عليه وسلم - في أسفاره، فلما أخبرها بما كان من أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرحلة وكلمها عن صفاته وطابقتها على ما انتشر من صفات النبي المنتظر على ألسنة الناس، ازداد تعلقها بهذا الشرف؛ شرف القرب منه.
وحين ارتبطت بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في الخامسة والعشرين من عمره، بدت كأن التاريخ قد سجل عنها أنها قد استراحت لمصيرها في الآخرة، كما اطمأنت على تاريخها في الدنيا، فحاولت أن تنهي علاقتها التجارية لتكون امرأة عظيمة خلف رجل هو أعظم العظماء.
ولما ضاق النبي - صلى الله عليه وسلم - بغياب الحقيقة في مجتمع مكة، وخلص إلى الجبل متأملا في كل عام شهرا يخلو فيه إلى نفسه، لم تحل خديجة بينه وبين ما يريد، بل كانت تجهزه إلى رحلته، فيبقى ما شاء الله له أن يبقى، ثم يعود إليها فتجهزه إلى مثلها، وهي راضية مغتبطة.
فلما جاءه الوحي، عاد - صلى الله عليه وسلم - إليها ببدايات سورة العلق، وكانت هي أول من استوعب فؤاده الذي يرجف به، فلما أخبرها أنه يخشى على نفسه، قدمت إليه البراهين على أحقيته بحفظ الله ورعايته ونصره, وتلك البراهين ما هي إلا صفاته، وصفات الأنبياء من قبله، ولـم لا ينصره الله ويؤيده؟ أو ليس هو الذي يصل الرحم، ويقري الضيف، ويحمل الكل، وينصف المظلوم، ويعين على نوائب الدهر؟ ومن كان كذلك فلا يضيعه ربه.
من هذا التسلسل نعلم أن السيدة خديجة - رضي الله عنها - آمنت بنبوة النبي الذي علمت أنه يظهر في ذلك الزمان، وأنها قد ضيقت دائرة إيمانها، حتى لتكاد تجزم بأن النبوة لن تخطئ ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
ويبقى أن تأتي النبوة بالفعل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتسلم له قيادها، هي وجميع بناتها، فإذا خرج إلى الصلاة خرجت خلفه هي وفاطمة وعلي بن أبي طالب، ومن شاءت من بنات النبي صلى الله عليه وسلم.
ولما حوصر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه في الشعب تحملت معه الآلام في هذا الحصار الشديد، وحين مرضت طلبت إلى ربها ألا توارى في التراب حتى ترى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه، وقد زال عنهم الحصار، وقد قبل الله دعوتها.
أما أنها كانت تناديه بـ "أبي القاسم" على ما يقول المدعون، فليس ذلك بدعا في خطاب زوجة لزوجها,وليس في هذا انتقاص من قدر النبي - صلى الله عليه وسلم - أو تشكيك في نبوته.
فالسيدة خديجة أم المؤمنين - رضي الله عنها -، قد تزوجت النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الرسالة بخمسة عشر عاما، وأنجبت له القاسم في أوائل سن الزواج، فظلت هذه المدة كلها لا تناديه باسمه العلم، وإنما كانت تناديه بكنيته، فهل عند هؤلاء مصدر يستخرج منه أن خديجة لم تكن بعد البعثة تنادي النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بـ "يا أبا القاسم"، ثم إنه لا بأس عليها إن فعلت، فما زلنا نقول: إن نبينا هو أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، وإن نبينا هو أبو الزهراء صلى الله عليه وسلم، ثم إنها كانت تناديه قبل البعثة بـ "يا ابن عم"، و "يا أبا القاسم"، وبعد البعثة بـ "يا رسول الله"، فعندما مات ابنهما عبد الله - رضي الله عنه - ولم يكن قد فطم قالت: "يا رسول الله، لو بقي حتى أفطمه؟ قال: فإن فطامه في الجنة" [1].
ثم إنها إن قالت له - صلى الله عليه وسلم - يا أبا القاسم، أليست زوجته؟!! تناديه بكنيته، وتكنيه باسم ولده وولدها، ألا يكون هذا من حقها؟!! إن هذا الذي يزعمون إن صح فإنه يكون دليلا على مدى الحب والانسجام والتواصل بين هذين الزوجين، لا كما يتوهم هؤلاء من أنها لم تؤمن برسالته صلى الله عليه وسلم.
ثانيا. حديث بدء الوحي دليل قاطع على أنها - رضي الله عنها - آمنت به من أول وهلة:
إن المتأمل في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - يجد أن أول من آمن به وصدق دعوته - صلى الله عليه وسلم - من النساء هي السيدة خديجة - رضي الله عنها ـ؛ إذ آمنت به بعد أول لقاء للنبي - صلى الله عليه وسلم - مع جبريل عليه السلام.
فقد روي عن السيدة عائشة - رضي الله عنها - قولها: «أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق، وهو في غار حراء.
فجاءه الملك فقال له: "اقرأ"، فقال: "ما أنا بقارئ، قال: "فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: )اقرأ باسم ربك الذي خلق (1) خلق الإنسان من علق (2) اقرأ وربك الأكرم (3)( (العلق)» [2].
"وبإلهام المرأة الصالحة الذكية القلب، الطاهرة النفس، أحست السيدة خديجة - رضي الله عنها - بما يعاني زوجها من مشقة، فأشفقت عليه على غير عادة، وقد ألفت منه الغيبة في شهر رمضان، وكانت هي التي تزوده بزاد المادة، والله - سبحانه وتعالى - يزوده بزاد التقوى، انزعجت هذه المرة، فأخذت تسأل عنه، وهي تعلم أنه في غار حراء؛ لأنها أحست أنه في جهاد روحي، جهاد من ينزع من الأرض ليتصل بالسماء، وبينما هي قلقة مضطربة لغيبته على غير عادة، إذ هو مقبل قد تغير لونه، يرجف فؤاده، فزال قلقها، وإن كانت قد استغربت حاله، وقالت: يا أبا القاسم، أين كنت؟ فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك، حتى بلغوا مكة، ورجعوا لي، وقد حدثها بما رأى، وما شاهد في عيانه، وفؤاده يرجف وهو يقول: "زملوني"، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، وهو يقول: "لقد خشيت على نفسي".
وعندئذ جاء دور الزوجة الصالحة الرقيقة في القول، فقالت بمنطق الفطرة ما معناه أن من أحسن لا يجازى إلا إحسانا: "كلا، والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتقري الضيف، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الدهر"، رأت في زوجها الأمين الطاهر كل هذا، وبإحساس الفطرة، رأت أنه لا يمكن أن يكون ثمر الطيب إلا طيبا، ويقول ابن إسحاق، إنها قالت بعد أن علمت الخبر، وقالت ما قالت: أبشر يا ابن عم، واثبت فوالذي نفس خديجة بيده، إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة" [3].
فها هي - رضي الله عنها - تتطلع لنبوته - صلى الله عليه وسلم - وفي هذا أكبر رد على مفتري هذه الشبهة، أفتتطلع لنبوته وتتمناها وتنتظرها له، ثم بعد ذلك تكفر بنبوته؟!! إنه لشيء عجاب، ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - حينما اتجه إلى تكوين الخلية الأولى للإسلام اتجه إلى الذين يعاشرونه ابتداء، وكان في مقدمتهم: أم المؤمنين خديجة: السكن، والمواسية والحانية، والرقيقة، وأم أولاده، والرفيقة الرءوم[4].
فهل بعد هذا يحق لأحد أن يزعم أنها - رضي الله عنها - لم تكن تؤمن بنبوته؟ هذا ما لايمكن أن يقوله عاقل منصف!!
ثالثا. مساندة السيدة خديجة - رضي الله عنها - للنبي - صلى الله عليه وسلم - وللدعوة الإسلامية:
تحدث د. علي محمد الصلابي عن موقف السيدة خديجة - رضي الله عنها - من نزول الوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "كان موقف خديجة - رضي الله عنها - يدل على قوة قلبها، حيث لم تفزع من سماع هذا الخبر، واستقبلت الأمر بهدوء وسكينة، ولا أدل على ذلك من ذهابها فور سماعها الخبر إلى ورقة بن نوفل، لتعرض الأمر عليه.
لقد كان موقف خديجة - رضي الله عنها - من خبر الوحي يدل على سعة إدراكها، حيث قارنت بين ما سمعت, وواقع النبي - صلى الله عليه وسلم - فأدركت أن من جبل على مكارم الأخلاق لا يخزيه الله أبدا، فقد وصفته بأنه يصل الرحم، وكون الإنسان يصل أقاربه دليل على استعداده النفسي لبذل الخير والإحسان إلى الناس، فإن أقارب الإنسان هم المرآة الأولى لكشف أخلاقه، فإن نجح في احتواء أقاربه وكسبهم، بما له عليهم من معروف كان طبيعيا أن ينجح في كسب غيرهم من الناس.
كانت أم المؤمنين السيدة خديجة - رضي الله عنها - قد سارعت إلى إيمانها الفطري، وإلى معرفتها بسنن الله - عز وجل - في خلقه، وإلى يقينها بما يملك محمد - صلى الله عليه وسلم - من رصيد الأخلاق، وفضائل الشمائل، التي ليس لأحد من البشر رصيد منها مثله في حياته الطبيعية التي يعيش بها مع الناس، وإلى ما ألهمت بسوابق العناية الربانية التي شهدت آياتها، من حفاوة الله تعالى بمحمد - صلى الله عليه وسلم - في مواقف لم تكن من مواقف النبوة والرسالة، ولا من إرهاصاتها المعجزة وأعاجيبها الخارقة، ولكنها كانت من مواقف الفضائل الإنسانية السارية في حياة ذوي المكارم من أصحاب المروءات في خاصة البشر.
كانت موقنة بأن زوجها فيه من خصال الجبلة الكمالية، ومحاسن الأخلاق الرصينة، وفضائل الشيم المرضية، وأشرف الشمائل العلية، وأكمل النحائز[5] الإنسانية، ما يضمن له الفوز, ويحقق له النجاح والفلاح, فقد استدلت بكلماتها العميقة على الكمال المحمدي.
فقد استنبطت خديجة - رضي الله عنها - من اتصاف محمد - صلى الله عليه وسلم - بتلك الصفات أنه لن يتعرض في حياته للخزي قط؛ لأن الله تعالى فطره على مكارم الأخلاق، وضربت المثل بما ذكرته من أصولها الجامعة لكمالاتها.
ولم تكتف خديجة - رضي الله عنها - بمكارم أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - دليلا على نبوته, بل ذهبت إلى ابن عمها العالم الجليل ورقة بن نوفل - رحمه الله - الذي كان ينتظر ظهور نبي آخر الزمان, لما عرفه من علماء أهل الكتاب عن دنو زمانه, واقتراب مبعثه، وكان لحديث ورقة أثر طيب في تثبيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقوية قلبه, وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الذي خاطبه هو صاحب السر الأعظم الذي يكون سفيرا بين الله - عز وجل - وأنبيائه - عليهم الصلاة والسلام -.
ولقد آمن ورقة بن نوفل برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وشهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة، فقد جاء في رواية عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تسبوا ورقة؛ فإني رأيت له جنة أو جنتين» [6].
لقد قامت خديجة - رضي الله عنها - بدور مهم في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - لما لها من شخصية في مجتمع قومها، ولما جبلت عليه من الكفاءة في المجالات النفسية التي تقوم على الأخلاق العالية؛ من الرحمة والحلم والحكمة والحزم, وغير ذلك من مكارم الأخلاق؛ والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد وفقه الله تعالى إلى هذه الزوجة المثالية؛ لأنه قدوة للعالمين وخاصة للدعاة إلى الله، فقيام خديجة بذلك الدور الكبير إعلام من الله تعالى لجميع حملة الدعوة الإسلامية بما يشرع لهم أن يسلكوه في هذا المجال من التأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يتحقق لهم بلوغ المقاصد العالية التي يسعون لتحقيقها.
إن السيدة خديجة - رضي الله عنها - مثال حسن, وقدوة رفيعة لزوجات الدعاة، فالداعية إلى الله ليس كباقي الرجال الذين هم بعيدون عن أعباء الدعوة" [7].
وعلى هذا يبطل قولهم بأنها - رضي الله عنها - لم تؤمن به، بل لقد كانت أول من آمن به صلى الله عليه وسلم، بل إن الدعوة في مراحلها الأولى لم تتم إلا في بيتها؛ ولذلك كان وفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - للسيدة خديجة - رضي الله عنها - في حياتها وبعد مماتها، فقد بشرها - صلى الله عليه وسلم - ببيت في الجنة في حياتها، وأبلغها سلام الله - عز وجل - وسلام جبريل - عليه السلام - فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أتى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا رسول الله، هذه خديجة قد أتتك معها إناء فيه إدام - أو طعام أو شراب - فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها - عز وجل - ومني, وبشرها ببيت في الجنة من قصب[8] لا صخب[9] فيه ولا نصب» [10] [11]. ولا يكون هذا البيت إلا لمؤمنة شديدة الإيمان.
وتذكر عائشة - رضي الله عنها - وفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لخديجة بعد وفاتها بقولها: «ما غرت على أحد من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ما غرت على خديجة, وما رأيتها، ولكن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة؟ فيقول: "إنها كانت وكانت، وكان لي منها الولد»[12].
وأظهر - صلى الله عليه وسلم - البشاشة والسرور والحفاوة لأخت خديجة لما استأذنت عليه؛ لأنها ذكرته بخديجة، فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعرف استئذان خديجة فارتاع[13] لذلك، فقال: "اللهم، هالة بنت خويلد"، فغرت، فقلت: وما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين[14] هلكت في الدهر فأبدلك الله خيرا منها»،[15] وفي رواية عنها قالت: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر خديجة أثنى عليها فأحسن الثناء، فغرت يوما فقلت: ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدق قد أبدلك الله - عز وجل - بها خيرا منها، قال: ما أبدلني الله - عز وجل - خيرا منها؛ قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس» [16]، وأظهر - صلى الله عليه وسلم - الحفاوة بامرأة كانت تأتيهم زمن خديجة، وبين أن حفظ العهد من الإيمان[17].
فإن كانت - رضي الله عنها - لم تؤمن به أيكون لها كل هذا الوفاء؟!!
وبهذا يتضح لنا أن السيدة خديجة - رضي الله عنها - كانت أول من آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كما أخبرت بذلك كتب السيرة، وأنها ساندته بمالها ونفسها وكل ما تملك في سبيل نشر دين الله الحق.
الخلاصة:
· كانت السيدة خديجة - رضي الله عنها - تدرك عظمته - صلى الله عليه وسلم - ولذلك تزوجت به وناصرته، وآمنت به صلى الله عليه وسلم، ولما جاءه - صلى الله عليه وسلم - الوحي وعاد إليها بفواتح سورة العلق، كانت أول من استوعب فؤاده الذي يرجف به، فلما أخبرها أنه يخشى على نفسه، قدمت إليه البراهين على أن الله ناصره لا محالة، وهذه البراهين ما هي إلا صفاته، وصفات الأنبياء من قبله، ولم لا ينصره ربه؟! أو ليس هو الذي يصل الرحم، ويقري الضيف، ويحمل الكل، وينصف المظلوم، ويعين على نوائب الدهر؟! ومن كان كذلك فلا يضيعه ربه، وإذا كان هذا حالها، فكيف لا تؤمن به؟!
· حديث بدء الوحي دليل قاطع على أنها - رضي الله عنها - آمنت به من أول وهلة، حيث قالت بعد أن علمت الخبر: «أبشر يا ابن عم واثبت، فوالذي نفس خديجة بيده، إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة». فكيف بعد كل هذا لا تؤمن به صلى الله عليه وسلم؟!!
· ثم إن موقف السيدة خديجة - رضي الله عنها - من الدعوة الإسلامية، كان موقف المؤمنة، بل المجاهدة في سبيل هذه الدعوة، ولقد قامت خديجة - رضي الله عنها - بدور مهم في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - لما لها من شخصية في مجتمع قومها، ولذلك فقد جاءها السلام من الله - عز وجل - وبشرت ببيت في الجنة، وكان وفاؤه - صلى الله عليه وسلم - لها كبيرا حتى بعد موتها بسنوات، فكيف يكون كل هذا لامرأة لم تؤمن به؟!
(*) فترة التكوين في حياة الصادق الأمين، خليل عبد الكريم، ميريت للنشر والمعلومات، القاهرة، 2001م. لكن محمدا لا بواكي له، د. إبراهيم عوض، دار الفكر العربي، القاهرة، ط2، 2001م.