ادعاء أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يتصف بصفات الأنبياء؛ لأنه ليس
من نسل إسحاق ويعقوب عليهما السلام)*)
مضمون الشبهة:
ينكر بعض المغرضين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، مستندين في ذلك إلى ما زعموه باطلا من أنه - صلى الله عليه وسلم - لم تتوفر فيه صفات الأنبياء الذين ورد ذكرهم في التوراة والإنجيل، كما أنه - صلى الله عليه وسلم - ليس من نسل إسحاق ويعقوب - عليهما السلام -، وهذا شرط من شروط النبوة لديهم. ويرمون من وراء ذلك إلى نفي ما اتسم به النبي - صلى الله عليه وسلم - من صفات حسنة - كسائر الأنبياء قبله - وجعل النبوة حكرا على إسحاق - عليه السلام - وبنيه؛ بغية تجريده - صلى الله عليه وسلم - منها.
وجها إبطال الشبهة:
1) جميع الخصائص والسمات التي حددها الكتاب المقدس للأنبياء - مع إيماننا بأن التحريف قد أصابه - تنطبق تماما على محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد أعطاه الله - عز وجل - الخصائص الحسنة كلها التي أعطاها للأنبياء قبله، بل زاد عنها بمواصفات خاصة تتناسب مع كونه - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين.
2) النبوة ليست حكرا على إسحاق - عليه السلام - وبنيه، بل هي فضل إلهي، وهبة ربانية يهبها الله لمن يشاء، وقد نصت التوراة على ذلك قبل القرآن.
التفصيل:
أولا. كل ما ورد في الكتاب المقدس من صفات للأنبياء تنطبق تماما على محمد صلى الله عليه وسلم:
في البداية لا بد أن نشير إلى أن القاعدة العامة التي يقوم عليها اختيار الأنبياء هي قاعدة اصطفاء الله لهم، يقول سبحانه وتعالى: )إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين (33)( (آل عمران)، ويقول تعالى: )الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير (75)( (الحج)، وهذا الاصطفاء يمكننا أن نطلق عليه الإطار العام للنبوة، ويمكننا أن نفسر هذا الاصطفاء الإلهي بالاختيار؛ إذ يجب أن تتوفر خصائص معينة في شخص النبي، ولا بد لكل نبي أن يقدم لمجتمعه أدلة على نبوته حتى يتبعوه، ومن ثم فإن النبوة تتوافق مع مجموعة أدلة ملموسة ومنطقية، تؤكد كلها أن الذي يمتلكها هو نبي حتما.
ونحن إذا تتبعنا خصائص الأنبياء والرسل وسماتهم، الذين جاء ذكرهم في الكتاب المقدس بشقيه: "العهد القديم" و "العهد الجديد"ـ مع إيماننا التام بأن أيدي التحريف قد نالتهما - نجد أن هذه الخصائص والسمات كلها التي توفرت للأنبياء من قبل، متوفرة في محمد صلى الله عليه وسلم، وهي دليل عقلي صريح على نبوته - صلى الله عليه وسلم - وأنه لم يكن منفصلا عن غيره من الأنبياء الذين ذكروا في التوراة والإنجيل.
ويمكننا أن نؤكد هذا بذكر بعض المواصفات والخصائص التي توفرت في جميع الأنبياء والرسل، وتوفرت أيضا بشكل جلي في محمد - صلى الله عليه وسلم - بل زاد عنها بمواصفات خاصة تتناسب مع كونه خاتم النبيين وسيد المرسلين، ويمكننا تقسيم هذه المواصفات إلى:
1. المواصفات العامة للأنبياء قبل نبوتهم:
· ذكورة الأنبياء وبشريتهم:
أجمعت الكتب السماوية الثلاثة على أن النبوة محصورة في ذكور البشر فقط، ولم تكن النبوة قط لأنثى من إناثهم، كذلك لم تكن النبوة قط في خنثى، وهي حالة الجنس الشاذة عند البشر، ولقد أجمعت الكتب السماوية الثلاثة أيضا على أن الأنبياء لم يكن أحد منهم ملاكا، ولا جنيا، ولا شيطانا.
وكذلك تتفق التوراة مع الأناجيل على أن الأنبياء دائما رجال، ومن هنا يتبين لنا مقدار الدقة والمصداقية التي يتمتع بها القرآن الكريم عندما يخبرنا الله تعالى عن ذلك في قوله سبحانه وتعالى: )وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم( (الأنبياء: 7).
· سلامة عقول الأنبياء:
تجمع الكتب السماوية الثلاثة على اكتمال عقول الأنبياء، فلم يعرف عن نبي من الأنبياء إلا الذكاء، ولم يعرف عنهم بلادة الذهن، ولا البلاهة، ولا الغباوة، ولا حتى شرود الذهن. وقد كان محمد - صلى الله عليه وسلم - أكمل الناس عقلا وأكثرهم حكمة، ولهذا نجد أن أول من آمن به كان من أقاربه ومعارفه، ولو علموا أنه مصاب في عقله لما اتبعوه.
· سلامة حواس الأنبياء:
لم يعرف عن نبي من الأنبياء أنه كان فاقدا لحاسة من الحواس الخمس، ولم يكن أحد منهم أطرش، أو ضعيف السمع، وليس هناك أحد منهم أعمى أو أعور، كما لم يكن واحد منهم فاقدا لحاسة الشم أو اللمس أو التذوق، ومن غير المعقول تماما أن يكون أحد من الأنبياء أخرس، أو لديه عيب من عيوب اللفظ: فأفأة، أو تأتأة، وإلا لكان عاجزا عن أداء رسالته المكلف بها.
وقد كان محمد - صلى الله عليه وسلم - مكتمل الحواس صحيحا، إلى الحد الذي يمكنه من توصيل دعوة ربه؛ ولذلك لم يستطع واحد من أعدائه أن ينسب إليه أي عيب في حواسه صلى الله عليه وسلم.
· ملاحة وجوه الأنبياء:
لقد كان الأنبياء جميعهم على قدر كبير من ملاحة الوجه، فقد شهدت التوراة ليوسف - عليه السلام - بالملاحة والحسن، كذلك فإنه ورد عن داود - عليه السلام - أنه كان وسيم المنظر، ووصف التلمود([1]) موسى بأن طلعته بهية، وأنه بلغ ذروة الجمال.
أما محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد شهد له الجميع بملاحة الوجه، ونكتفي بشهادة أبو طفيل يصف وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان أبيض مليحا مقصدا» ([2]). أي: ليس بالجسيم ولا الضئيل، ولا عجب فإن ملاحة الوجه من الأمور التي تستميل القلوب إلى سماع أقوال أصحابها.
· اكتمال الشكل العام للأنبياء:
لم يعرف عن الأنبياء جميعهم أن أحدا منهم كان طويلا للحد المكروه في قومه، ولا قصيرا للحد غير المرغوب فيه في قومه.
كذلك لم يكن أحد من الأنبياء قزما، أو طويل الذراعين إلى الحد الزائد، أو قصيرها إلى الحد الناقص، وكذلك الأرجل.
وكذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا مربوعا، أي يتناسق جسمه مع وزنه، وما هذا إلا للشرف الذي أعده الله له.
· سمو أخلاق الأنبياء قبل النبوة:
ربما اختلفت المجتمعات البشرية في تعريف الأخلاق، ومع ذلك فليس هناك خلاف بين جميع المجتمعات الإنسانية على مظاهر هذه الأخلاق، فمن مظاهر الأخلاق: الصدق والإخلاص ونصرة المظلوم وإغاثة الملهوف وإكرام الضيف والشجاعة والعفة وبر الوالدين وتأدية الأمانة، ونحن مهما بحثنا في الأخلاق فلا نجد عند نبي من الأنبياء خرقا لهذه القواعد الأخلاقية، ابتداء من آدم - عليه السلام - وانتهاء بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقد كان محمد - صلى الله عليه وسلم - مشهودا له بمكارم الأخلاق قبل بعثته حتى من أعدائه، فقد شهدوا له بالصدق والأمانة، ويؤكد النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح على أنه «إنما بعث ليتمم مكارم الأخلاق»([3]).
· سلامة وطهارة نسب الأنبياء:
لم يستطع أحد من أعداء نبي من الأنبياء أن يطعن في طهارة نسبه أو عراقته؛ لأن الأنبياء يبعثون من أوسط قومهم نسبا، وقد كانت قريش تعرف نسب محمد - صلى الله عليه وسلم - وتعرف أنه انحدر من الأصلاب الطاهرة جيلا بعد جيل، فلم يكن هناك شيء يشين نسبه الشريف، لا من جهة الأب، ولا من جهة الأم، وإذا كان الفرد السوي من البشر لا يقبل أن يوصف بأنه "ابن زنا"؛ فكيف يمكن أن يقبل الأنبياء ذلك؟ وكيف يوافق أحد على أن الأنبياء يمكن أن يكونوا أبناء زنا وهم أفضل البشر؟!
· عدم ميل الأنبياء إلى الشرك قبل نبوتهم:
على الرغم من أن الأنبياء قبل نبوتهم كان لا يأتيهم الوحي، إلا أن واحدا منهم لم يعرف عنه أنه عبد أحدا غير الله، ولا سجد لأحد غير الله، ولا أعجب أبدا بوثن أو صنم، كذلك فإن محمدا - صلى الله عليه وسلم - ترك جميع ممارسات عشيرته الوثنية، ومال إلى الانعزال والتأمل، وعبادة الله حسبما رآه هو أقرب إلى المعقول، ولا شك أن هذا الابتعاد ليس وليد مصادفة، بل هو دليل اختيار من الله لأنبيائه، حتى إذا جاءت النبوة لأحدهم خرست أفواه قومه.
· جهل الأنبياء بالمعارف البارزة في عصورهم قبل نبوتهم:
لقد أجمعت الكتب السماوية الثلاثة على أن الأنبياء جميعهم لم يكونوا مشهورين في علم من العلوم، ولا فن من الفنون التي كانت بارزة في عصورهم قبل نبوتهم، وقد كانت بعض المعارف والفنون مثارا لإعجاب العرب قبل عصر نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - مثل: الشعر والخطابة، وعلى الرغم من هذا لم يعرف عن محمد - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول شعرا، أو يخطب في منتديات مكة، وكذلك فإن العرب كانت تهتم بأنسابها، ولم يكن محمد - صلى الله عليه وسلم - من النسابين قبل نبوته، ومن ثم فإن جميع الأنبياء قبل ظهور نبوتهم كانوا أناسا عاديين في مجتمعاتهم، يأخذون من المعارف ما تيسر لهم دون قصد منهم.
· حفظ الله لأنبيائه من الهلاك قبل ظهور نبوتهم:
لا يمكن بحال من الأحوال أن نقبل أن نبيا أراد الله إكرامه بالنبوة، هلك بشكل من الأشكال قبل أن تظهر نبوته - ولا حتى بعدها - ولا شك أن ظهور نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - دليل جلي على حفظ الله له من الهلاك، كما نجى موسى - وهو طفل صغير - من القتل على يد فرعون.
· كسب الأنبياء لمعيشتهم من تعب أيديهم قبل النبوة:
إن المتأمل في الوضع المادي والمهني للأنبياء، يجد أنهم لم يكونوا من طبقة فقيرة لدرجة الاستجداء([4])، كما أنهم لم يكونوا أغنياء لدرجة نستطيع معها أن نصنفهم في عداد الأثرياء، فلقد كانوا قبل نبوتهم يكسبون معيشتهم بالدرجة التي تكفل لهم عدم الحاجة إلى طلب المعونة من الناس.
فمن الثابت أن يعقوب - عليه السلام - قد عمل راعيا للأغنام - كما ورد في سفر التكوين، كذلك عمل يوسف - عليه السلام - في رعي الأغنام، قبل نبوته، وكذلك موسى وداود وعيسى - عليهم السلام - رعوا الأغنام، وكذلك محمد - صلى الله عليه وسلم - عمل راعيا لمدة طويلة، حتى تجاوز الثلاثين من عمره، ومن ثم فإن ارتزاق الأنبياء من خلال ممارستهم لأعمال يدوية لا يمكن إلا أن يكون عملا مقصودا أراد الله به أن يعطينا دليلا على نبوة الأنبياء.
· مقدرة عقول الأنبياء على استقبال خبر نبوتهم:
ربما يظن أن استقبال النبوة أمر عادي يستطيع أي إنسان احتماله، نقصد بذلك: تلك اللحظة التي يعلم بها الله تعالى اختياره لهذا النبي أو ذاك، والحقيقة غير ذلك تماما؛ إذ إن استقبال التكليف بالنبوة أمر لا يحتمله عقل أي كائن من البشر، مهما بلغت مقدرته على تمالك نفسه وجسمه وعقله.
إن المتأمل في قصة استقبال محمد - صلى الله عليه وسلم - للوحي أول مرة، يجدها تتشابه إلى حد كبير مع قصة استقبال موسى - عليه السلام - للوحي أول مرة، فقد ذكرت التوراة مدى الخوف والرعب اللذين تعرض لهما موسى - عليه السلام - عندما كلمه الله عند طور سيناء، وكذلك روت كتب السيرة الخوف والفزع اللذين تعرض لهما محمد - صلى الله عليه وسلم - عندما نزل عليه جبريل - عليه السلام - أول مرة في غار حراء.
وما يتعرض له الأنبياء عند تلقيهم الوحي أول مرة لا يستطيع أحد من البشر العاديين أن يحتمله، ولولا أن الله - عز وجل - قد جعل في هؤلاء الأنبياء قدرات تؤهلهم لتحمل هذه المواقف؛ لذهبت هذه المواقف بعقولهم.
2. المواصفات العامة للأنبياء بعد نبوتهم:
ما أن تأتي أي نبي النبوة حتى تظهر عليه - وبشكل ملحوظ - مواصفات وخصائص إضافية عن تلك التي كان يتمتع بها قبل النبوة نتحدث عنها باختصار فيما يأتي، ولننظر هل تنطبق هذه المواصفات على محمد - صلى الله عليه وسلم - أو لا؟
· الدعوة إلى عبادة الله الواحد الأحد:
إن جوهر دعوة الأنبياء كافة دون استثناء هو الدعوة إلى عبادة الله الواحد، إله الأنبياء والبشر كافة، فقد أرسل الله - سبحانه وتعالى - موسى - عليه السلام - نبيا إلى فرعون، وإلى بني إسرائيل الذين تأثروا بوثنية الفراعنة، على الرغم من أنهم موحدون في الأصل، وقد جاءت الوصايا العشر في توراة موسى داعية إلى التوحيد ونبذ الشرك، فلقد جاء فيها: "لا يكن لك آلهة أخرى أمامي. لا تصنع لك تمثالا منحوتا، ولا صورة ما مما في السماء من فوق، وما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض. لا تسجد لهن ولا تعبدهن، لأني أنا الرب إلهك إله غيور". (الخروج20: 3 - 5).
وكذلك تشير الأناجيل إلى أن المسيح - عليه السلام - كان يدعو إلى التوحيد الخالص لله، فقد ورد على لسانه: "تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك". (متى22: 37)، وقال أيضا: "الرب إلهنا هو رب واحد، وتحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل فكرك، ومن كل قدرتك". (مرقس12: 29، 30).
ومن ثم كانت دعوة المسيح للتوحيد الخالص، وكذلك فإن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان جوهر دعوته الدعوة إلى عبادة الله عز وجل، وهذه الدعوة لم تكن خاصة بقومه فحسب، بل للبشر كافة مهما كانت عقائدهم، فالكل مدعو إلى توحيد الله، وقد ظل النبي - صلى الله عليه وسلم - مخلصا لتلك الدعوة منذ بعثته حتى توفاه الله عز وجل.
· الالتزام بالدعوة والخوف من غضب الله:
إن المتأمل في حال الأنبياء جميعا يجدهم ملتزمين بكل كلمة تصدر عنهم، ويطبقونها حرفيا، لدرجة أن الناس العاديين يعجزون عن تقليدهم عمليا، وكذلك كانت حياة محمد - صلى الله عليه وسلم - تطبيقا عمليا لما يدعو له، فلم يأخذ عليه أحد أعدائه أنه أمر بشيء ولم ينفذه، أو نهى عن شيء وأتى بمثله؛ لأن أي دعوة تنهار إذا لم يلتزم بها صاحبها نفسه.
· عدم استهداف منافع مادية أو معنوية من النبوة:
لم يعرف عن نبي من الأنبياء الإقبال على منافع الدنيا المادية والمعنوية، على الرغم من أن الدنيا تساقطت تحت أقدامهم عارضة عليهم كل شيء.
ولذلك نجد النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أعرض عن الدنيا بعد أن دانت له، فقد كان زاهدا في متاعها الزائل، يرضى بأن يجوع يوما فيصبر، ويشبع يوما فيشكر، فمن يفعل مثل هذا غير الأنبياء؟!
· سمو أخلاق الأنبياء:
قد يتمتع بعض الأشخاص العاديين بسمو الأخلاق، ومع ذلك فإن أخلاق هؤلاء لا يمكن أن ترتقي فتصل إلى أخلاق الأنبياء، فقد كان موسى حليما، كما اتصف عيسى بالتسامح، وكذلك كان يحيى رحيما، أما محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد كان شجاعا جوادا سخيا بساما متسامحا، وقد شهد له أصحابه بذلك، كما قال أنس بن مالك: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خلقا» ([5]).
· البركة وهي حدوث المعجزات دون دعاء ولا طلب:
إن الله - عز وجل - يمنح أنبياءه معجزاته إكراما لنبوتهم، وقد أشار العهد القديم إلى أن إبراهيم - عليه السلام - قد جعلت بركته في نسله سواء من جهة إسماعيل، أم من جهة إسحاق: "وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه، ها أنا أباركه، وأثمره، وأكثره كثيرا جدا". (التكوين 17: 20).
وكذلك عرف عن اليهود أنهم يتباركون بتابوت العهد الذي صنعه موسى بيديه، أما محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد كان معروفا عنه بركة يديه؛ فكان لا يلامس شيئا إلا ويصبح مباركا، سواء كان إناء أم وعاء، وما ذلك إلا لأن البركة ملازمة للنبوة، وهذا ما أكدته قصص الأنبياء وأخبارهم.
· القدرة على ما لا يقدر عليه غيرهم من البشر:
من المعروف أن البشر لا يستطيعون الامتناع عن الطعام والماء أكثر من ثلاثة أيام دون أن تتأذى أجسادهم؛ لكن الأنبياء تجدهم يستطيعون الصوم لفترات طويلة دون أن تتأذى أجسامهم، أو قدراتهم، أو حركتهم.
فقد عرف عن أنبياء كثيرين في العهد القديم أنهم صاموا لفترات طويلة، كما ورد عن موسى - عليه السلام - أنه صام أربعين يوما وليلة دون أن يشرب أو يأكل، وكذلك صام محمد - صلى الله عليه وسلم - صوما طويلا، ونهى أصحابه أن يقلدوه في الصوم، وعلل ذلك بأنه نبي يطعمه الله ويسقيه، بينما هم إذا واصلوا الصوم مثله هلكوا ([6]).
· الاحتفاظ بسلامة الأعضاء وحيويتها والثبات حتى النهاية:
لقد سبق أن ذكرنا أن الأنبياء كلهم عرف عنهم سلامة الحواس والأعضاء والعقول، والكمال البنيوي لأجسامهم، لكن اللافت للنظر أيضا هو استمرار هذه الخصائص مع الأنبياء حتى نهايتهم؛ إذ ينمو منهم الواحد حتى يبلغ الشباب، ثم يستمر في الحيوية والشباب حتى نهاية حياته!!
وقد ورد في التوراة عن إبراهيم أنه مات بشيبة صالحة، أما موسى فقد مات وعنده مئة وعشرون سنة، ولم يكل بصره، ولم تذهب نضرته.
أما حال محمد - صلى الله عليه وسلم - قبل وفاته كحال الأنبياء كافة، فلم يعتره الكسل، أو الوهن، أو انحناء الظهر، أو الفند([7])، وقد فاضت روحه عن عمر يناهز الثالثة والستين، ولم ير في شعر وجهه ورأسه سوى عدة شعرات بيضاء.
· العصمة من القتل بعد النبوة:
على الرغم من أن هناك أنبياء استطاع البشر أن يقتلوهم؛ فإن هؤلاء المقتولين قد انتهت رسالتهم سواء قتلوهم أم لم يقتلوهم، لكن لم يستطع أحد من البشر منفردا أو مجتمعا أن يقتل نبيا قبل أداء رسالته، فنجد أن الأنبياء أصحاب الشرائع الثلاثة الرئيسة قد عصمهم الله من البشر، فلقد حاول بنو إسرائيل أن يقتلوا موسى وأخاه هارون - عليهما السلام - عندما أرادا أن يدخلا ببني إسرائيل الأرض المقدسة؛ وذلك حين هم بنو إسرائيل برجم موسى وهارون - عليهما السلام - بالحجارة عندما غطت الغمامة خيمة الاجتماع، الأمر الذي أرعب جموع بني إسرائيل، فتراجعوا عن نيتهم.
كذلك هم الفريسيون بقتل المسيح - عليه السلام - عندما شفي يابس اليد في السبت، ثم أحبط الله عملهم: "وإذا إنسان يده يابسة، فسألوه قائلين: هل يحل الإبراء في السبوت؟ لكي يشتكوا عليه. فقال لهم: أي إنسان منكم يكون له خروف واحد، فإن سقط هذا في السبت في حفرة، أفما يمسكه ويقيمه؟ فالإنسان كم هو أفضل من الخروف! إذا يحل فعل الخير في السبوت! ثم قال للإنسان: مد يدك. فمدها. فعادت صحيحة كالأخرى. فلما خرج الفريسيون تشاوروا عليه لكي يهلكوه، فعلم يسوع وانصرف من هناك. وتبعته جموع كثيرة فشفاهم جميعا. وأوصاهم أن لا يظهروه". (متى12: 10 - 16).
أما محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد تنوعت محاولات قتله تنوعا يصعب معه حصر، والسبب في ذلك يعود إلى كثرة أعدائه من جهة وعنادهم من جهة أخرى، وعلى الرغم من أن جميع محاولات القتل التي تعرض لها محمد - صلى الله عليه وسلم - كانت مبتكرة، بل شيطانية، فإنها جميعا تشترك بصفة واحدة في النهاية، وهي الإخفاق!!
ويعود السر في هذا الإخفاق إلى عصمة الله - سبحانه وتعالى - له - صلى الله عليه وسلم - لأنه وعده بذلك في قوله سبحانه وتعالى: )والله يعصمك من الناس( (المائدة: 67).
وهذا من دلائل نبوته - صلى الله عليه وسلم - لأن النبوة متلازمة مع عصمة الله لأنبيائه، بحيث لا يموت النبي قبل أن يؤدي كامل المهمة التي وكله الله بها([8]).
إن ما تحدثنا عنه آنفا هي سمات وخصائص عامة لجميع الأنبياء الذين يؤمن بهم اليهود والنصارى، وقد تحدثنا عن هذه السمات من خلال الكتاب المقدس، وما رسمه للأنبياء من صورة وإطار يجمع بينهم، وقد لاحظنا مدى تطابق هذه الصفات على نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، وقد رأينا كذلك مدى توفر كل هذه السمات والخصائص في النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد أعطاه الله كل الصفات والخصائص الحسنة التي أعطيت للأنبياء الذين سبقوه في ظهور النبوة، وهذا يبطل أي زعم يقول بأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان خارج الإطار الذي رسمه الكتاب المقدس للأنبياء من قبله، وكيف ذلك؟ وكل ما أثبتناه من خلال الكتاب المقدس نفسه، ينطبق على محمد - صلى الله عليه وسلم - الخصائص والصفات والسمات شهد التاريخ على توافرها جميعا للنبي صلى الله عليه وسلم، والتاريخ خير شاهد.
ثانيا. النبوة ليست حكرا على إسحاق - عليه السلام - وبنيه:
النبوة فضل إلهي وهبة ربانية، يهبها الله لمن يشاء من عباده، ويختص بها من يريد من خلقه، وهي لا تدرك بالجد والتعب، ولا تنال بكثرة الطاعة والعبادة، وإنما هي بمحض الفضل الإلهي )والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم (105)( (البقرة: ١٠٥).
فهي - إذا - اصطفاء واختيار، ولا تكون إلا لمن اختاره الله - سبحانه وتعالى - لها، ممن هم أهل لحملها، والنبوة لا تكون بالوراثة ولا تكون بطريق الغلبة والاستعلاء، إنما هي اختيار، يختار الله - سبحانه وتعالى - لها أفضل خلقه وصفوة عباده، يختارهم لحمل الرسالة، ويصطفيهم من بين سائر البشر لهذا العمل الجليل، كما وضح البارئ - عز وجل - ذلك في كتابه العزيز فقال سبحانه وتعالى: )الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير (75)( (الحج)، وقال عز وجل: )إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين (33)( (آل عمران) ([9]).
إذن فالله - سبحانه وتعالى - وحده هو الذي يجعل النبوة في قوم ويرفعها من آخرين، ولا يستطيع أحد من الخلق أن يصادر الله هذا الحق، فيزعم أن النبوة مقصورة على قبيل دون قبيل، أو على جنس دون جنس، فمن هذا الذي يستطيع أن يمنع رحمة الله أن تصل إلى عباده؟
وإذا كانت الديانات السماوية جميعها تقر بأن الله سيحاسب الناس جميعا ويجازيهم على الإحسان والإساءة، فهذا دليل على ضرورة أن يبعث الله أنبياءه لكل البشر، فلا يجعل النبوة حكرا على قوم دون قوم.
وإذا كان الله - سبحانه وتعالى - قد شاء أن يجعل النبوة - في إحدى حلقاتها - في بني إسحاق - عليه السلام - وذلك لا شك كرامة لهم، وتفضيل لهم على غيرهم من الأمم المعاصرة لهم، فهذا لا يعني بحال من الأحوال استمرار النبوة فيهم، واستمرار تفضيلهم على الأمم مع تبدل أحوالهم، وكفرهم بنعمة الله، وقتلهم بعض الأنبياء بغير حق.
وخلاصة هذه الحقائق أن الله - عز وجل - هو الذي يصطفي من عباده من يشاء، ولا يستطيع أحد - من بني إسرائيل أو من غيرهم - أن يزعم أن الله قد أوقف النبوة عليهم دون غيرهم، فهذا تدخل في مشيئة الله - عز وجل - لا يقبله مؤمن بقدرة الله - سبحانه وتعالى - وبكمال صفاته أيا كان دينه، وخصوصا إذا علمنا أن هذا الزعم لا يعتمد على أي دليل لا من العقل ولا من النصوص الدينية، بل ما ورد في هذه النصوص يثبت وجود أنبياء من غير بني إسرائيل، حيث نفت التوراة قصر النبوة على بني إسرائيل، فقد ورد فيها خمسة رسل من غير بني إسرائيل وهم: ملكي صادق، ويثرون، وبلعام، وأيوب، ويونس.
وكذلك ورد في العهد القديم الكثير من الأدلة على أن نبيا من نسل إسماعيل سيظهر في بلاد العرب، ففي سفر إشعياء جاءت هذه النبوة: "وحي من جهة بلاد العرب: في الوعر في بلاد العرب تبيتين، يا قوافل الددانيين. هاتوا ماء لملاقاة العطشان، يا سكان أرض تيماء. وافوا الهارب بخبزه. فإنهم من أمام السيوف قد هربوا. من أمام السيف المسلول، ومن أمام القوس المشدودة، ومن أمام شدة الحرب. فإنه هكذا قال لي السيد: في مدة سنة كسنة الأجير يفنى كل مجد قيدار، وبقية عدد قسي أبطال بني قيدار تقل، لأن الرب إله إسرائيل قد تكلم". (إشعياء 21: 13 - 17).
وتيماء هي المدينة المنورة، وبنو قيدار هم أبناء إسماعيل، وكذلك الددانيين، والمدينة المنورة تحوي الآبار والزرع والنخيل، كذلك فإن سكان تيماء، وهم الددانيون، يتوجب عليهم استقبال ذلك الهارب وأصحابه القيداريين، الذين هم من قريش, الذين سينتهي مجدهم المشهود له في التوراة.
فلقد هاجر محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة المنورة وأتباعه ليقيموا بأمان في المدينة، وبعد سنة من الهجرة جرت معركة بدر التي قتل فيها صناديد - قيدار - قريش.
"على أن السيد المسيح قد فند شبهة علماء اليهود، القائلة بأن النبوة في إسحاق إلى الأبد بقوله: لماذا تقولون: إنها في إسحاق إلى الأبد؟ وأجابوا: لأنه بكر إبراهيم. فقال المسيح: إذا كانت البكورية هي التي تدل على أن النبوة في النسل إلى الأبد؛ فإن إسماعيل هو البكر وليس إسحاق".
وعلى كل فسواء ورد في الكتاب المقدس ذكر لنبوة إسماعيل ووجود نبوة في نسله أم لا؛ فإن النبوة ثابتة لإسماعيل - عليه السلام - ولمحمد - صلى الله عليه وسلم - كما ينص القرآن الكريم، وبالأدلة العقلية التي سبق أن أوردناها. فالله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته، ولا يحق لأحد أن يصادر حق الله في هذا؛ فإن كانت حكمة الله العلية قد حددت لكل إنسان رزقه، فلم يشأ الله أن يترك أمر الرزق لأهل الأرض، بل قسم ووزع وحدد لكل نصيبه، فكيف يترك أمر النبوة إلى أهواء الناس؟ فالذي وهب الرزق ولم يستثن أحدا من خلقه هو الذي وهب النبوة، ولم يقسرها على قبيل دون آخر([10]).
الخلاصة:
· إن المتأمل في صفات الأنبياء وخصائصهم التي وردت في الكتاب المقدس يجدها تنطبق تماما على محمد - صلى الله عليه وسلم - مثل: الذكورة والبشرية، وسلامة عقله، وسلامة حواسه وملامح وجهه، واكتمال شكله العام، وسمو أخلاقه، وسلامة نسبه وطهارته، وعدم ميله إلى الشرك قبل نبوته، وجهله بالمعارف البارزة في عصره قبل نبوته، وحفظ الله له من الهلاك قبل ظهور نبوته، وكسبه لمعيشته من تعب يديه، ومقدرة عقله على استقبال خبر النبوة.
· كذلك توفر للنبي - صلى الله عليه وسلم - كل سمات الأنبياء بعد ظهور النبوة عليه، مثل: دعوته الخالصة لعبادة الله وحده، والتزامه بالدعوة والخوف من غضب الله، وعدم استهدافه للمنافع الدنيوية، ومنح الله البركة له، والقدرة على ما لا يقدر عليه غيره من البشر، واحتفاظه بسلامة أعضائه وحيويتها وشبابه حتى موته، وعصمة الله له من القتل؛ بل زاد عن ذلك ببعض الخصائص التي لم تتوفر لأي نبي قبله، ولا عجب فهو سيد خلق الله وخاتم النبيين.
· النبوة ليست حكرا على إسحاق - عليه السلام - وبنيه، وإنما هي ثابتة أيضا لإسماعيل وبنيه، أقر بذلك القرآن الكريم والتوراة الصحيحة، وعليه فلا يجوز لأحد أن يقصر النبوة على قوم دون قوم تبعا لهواه؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - وحده هو الذي يجعل النبوة في قوم، ويرفعها عن آخرين، قال سبحانه وتعالى: )الله أعلم حيث يجعل رسالته( (الأنعام: ١٢٤).
(*) قصة الحضارة، ول ديورانت، مكتبة الأسرة، القاهرة، 2001م.