إنكار إلهية القرآن لتعارضه مع الكتاب المقدس(*)
مضمون الشبهة:
يحاكم بعض المنكرين الطاعنين حقائق القرآن الكريم بمقررات الكتب المقدسة لغير المسلمين، وينتهي بهم ذلك إلى الطعن في إلهية القرآن لما يجدونه من تعارض بينه وبين الأناجيل المتداولة حول شخصية المسيح - عليه السلام - وأصل ذلك عندهم أن وحي لله - سبحانه وتعالى - لا يختلف في الأصول الاعتقادية الكبيرة، حتى إذا أتى القرآن بما تقرر الأناجيل خلافه فقد دل بنفسه على أنه ليس وحيا سماويا، ويكون ذلك بمجرده طعنا فيه.
وجها إبطال الشبهة:
1) لم تزل في الأناجيل - على ما نالها من تبديل واضطراب - شذرات ترشد إلى حقيقة المسيح كما يقررها القرآن الكريم.
2) القول بتحريف الكتاب المقدس قول علمي له شواهده المعتبرة، وليس بفرية اختلقها المسلمون.
التفصيل:
أولا. فكرة القرآن عن المسيح تؤيدها نصوص من الإنجيل:
لقد ورد في الأناجيل أقوال كثيرة على لسان المسيح - عليه السلام - تؤكد أنه كان يدعو إلى عبادة الله الواحد الأحد، منها: "إن أول كل الوصايا هي: اسمع يا إسرائيل. الرب إلهنا رب واحد. وتحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل فكرك، ومن كل قدرتك. هذه هي الوصية الأولى". (مرقس 12: 29، 30), وأقر المسيح - عليه السلام - أيضا بأنه رسول من عند الله، فقال: "أجابهم يسوع وقال: تعليمي ليس لي، بل للذي أرسلني. إن شاء أحد أن يعمل مشيئته يعرف التعليم، هل هو من الله، أم أتكلم أنا من نفسي". (يوحنا 7: 16، 17), فإذا كان المسيح - عليه السلام - يعترف بأن الله واحد، وهو الذي أرسله، فكيف نقبل أن يكون إلها أرسل نفسه؟!
ثم إن اعتراف المسيح بأنه نبي وشهادة بعض أتباعه له بالنبوة ينفي عنه صفة الألوهية:
ورد في الإنجيل اعتراف صريح من المسيح بأنه نبي مرسل يقول عليه السلام: "بل ينبغي أن أسير اليوم وغدا وما يليه، لأنه لا يمكن أن يهلك نبي خارج عن أورشليم". (لوقا 33: 13)، وقد اعترف بعض أتباعه أنه نبي، كما جاء في إنجيل لوقا: "يسوع الناصري، الذي كان إنسانا نبيا مقتدرا في الفعل والقول أمام الله وجميع الشعب". (لوقا 24: 19)[1].
وهكذا يتبين لنا أن المسيح في بعض نصوص الأناجيل المتداولة في عصرنا الحديث ما هو إلا عبد الله ورسوله، أرسله الله ليرشد بني إسرائيل إلى الطريق المستقيم بعدما ضلوا عنه.
أما صورة المسيح في القرآن فلم تبعد عن تلك الحقيقة في كل المواضع التي ذكر فيها، ومنها قوله - سبحانه وتعالى - في سورة الزخرف: )ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون (57) وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون (58) إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل (59)( (الزخرف)، أي: ليس المسيح كما يدعي النصارى إلها أو ابن إله، وما هو إلا عبد الله ورسوله.
إن القرآن العظيم قد وصف كيفية خلق عيسى، وولادته من أم دون أب؛ تقريرا للمعجزة الدالة على قدرة الله - سبحانه وتعالى - وتنوع الخليقة؛ فقد خلق آدم من غير ذكر (أب) ولا أنثى (أم)، وخلق حواء من ذكر (آدم) دون أنثى، وخلق سائر البشر من ذكر وأنثى، وخلق عيسى من أنثى دون ذكر.
فتمت الآية الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه، فلا إله غيره ولا رب سواه، وليجعله كذلك رحمة من الله نبيا من الأنبياء يدعو إلى عبادة الله - سبحانه وتعالى - وتوحيده، كما قال سبحانه وتعالى: )إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين (45) ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين (46)( (آل عمران).
والمعنى أنه - عليه السلام - يدعو إلى عبادة ربه في مهده وكهولته. أي أن عيسى ابن مريم ما هو إلا عبد أنعم الله عليه بالنبوة، فكان من الأنبياء المقربين الصالحين؛ لذلك نجد في الآيات قول بني إسرائيل لمريم: )كيف نكلم من كان في المهد صبيا (29)( (مريم) )قال إني عبد الله( (مريم: 30)؛ أي أن أول كلام نطق به عيسى ابن مريم أن نزه جناب ربه تعالى، وبرأه عن الولد، وأثبت لنفسه العبودية لله تعالى الذي لا إله إلا هو.
بل إن قول القرآن على لسانه عليه السلام: )والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا (33)( (مريم) إثبات منه لعبوديته لله - عز وجل - وأنه مخلوق من خلق الله؛ يولد ويموت ويبعث حيا كسائر الخلائق، ولكن له السلامة في هذه الأحوال التي هي أشق ما يكون على العباد صلوات الله وسلامه عليه: )ذلك عيسى ابن مريم( (مريم: 34)، يقول الله - عز وجل - لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: ذلك الذي قصصناه عليك من خبر عيسى عليه السلام: )قول الحق الذي فيه يمترون (34)( (مريم)؛ أي: الذي يختلف فيه المبطلون والمحقون ممن آمن به وكفر به.
ولما ذكر الله - سبحانه وتعالى - أنه خلق عيسى عبدا نبيا نزه نفسه المقدسة فقال عز وجل: )ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه( (مريم: 35)؛ أي: تعالى الله عما يقول هؤلاء الجاهلون الظالمون المعتدون علوا كبيرا )إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (35)( (مريم)؛ أي: إذا أراد شيئا فإنما يأمر به فيصير كما يشاء. )وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم (36)( (مريم)؛ أي: ومما أمر به عيسى قومه - وهو في مهده - أن أخبرهم إذ ذاك أن الله ربه وربهم، وأمرهم بعبادته.
وفي سورة المائدة بين الله أن عيسى ما هو إلا عبد الله ورسوله يصنع المعجزات بإذن الله؛ إذ إن الله وحده هو القادر على كل شيء، فقال سبحانه وتعالى: )إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين (110)( (المائدة)[2].
ومن جملة ما سلف يتبين لنا أن الطبيعة البشرية لعيسى - عليه السلام - قد أقرت بها أناجيلهم، ثم جاء القرآن الكريم وأكدها على نحو ما رأينا، ولا تعارض بينهما، فإن المصدر واحد وهو الله - عز وجل - الذي أنزل كل الكتب المقدسة، وهنا نتساءل: هل في اتساق القرآن واتفاقه مع ما سبقه - مما لم تنله يد البشر بالتحريف - يشككون؟! أو في وحدة أقوال الله منزل هذه وتلك يطعنون؟!!
ثانيا. الشواهد على وقوع التبديل في الكتب المقدسة:
يحسن بنا بادئ ذي بدء أن نشير إلى أننا لا نختلف مع مثيري هذه الشبهة في أن ثمة اختلافا وتعارضا واضحين بين القرآن الكريم وبين الكتاب المقدس - التوراة والإنجيل الذي بين أيدينا الآن - في كثير من أمور العقيدة والشريعة، إلا أننا نختلف معهم فيما رتبوه على هذا الاختلاف وذلك التعارض من أن القرآن وهو آخر وحي السماء إلى الأرض ليس إلهي المصدر، لاختلافه مع ما سبقه من كتب سماوية؛ وذلك في كثير من آيات القرآن لأن يد التحريف قد نالت من الكتب السماوية التي سبقته، وهاك الأدلة على ذلك التحريف:
· من دلائل تحريف التوراة:
1. الكذب على الله وأنبيائه: يؤمن اليهود بالله الواحد الحي القدير الجبار القادر على كل شيء، ومع ذلك فإنهم نسبوا إليه ما يتنافى مع إيمانهم هذا؛ إذ نسبوا إليه التعب عندما خلق السماوات والأرض، وزعموا أنه استراح في اليوم السابع. وعلى الرغم من أنهم يؤمنون بأن الله يعلم كل شيء فقد نسبوا إليه الجهل بتصرفات آدم، فكتبوا أن الله لم يعلم لماذا أخطأ آدم. وعلى الرغم من أنهم يؤمنون بأن الله قدير نسبوا إليه الندم على خلق الإنسان. ليس ذلك فحسب، بل جعلوا الله ينسى، ويغضب بلا سبب، بل تمادوا إلى درجة أن جعلوا الله آمرا بسرقة النساء المصريات قبل خروجهم من مصر!!!
وكل ذلك يتنافى مع صفات الله وأفعاله التي حددتها التوراة نفسها لله تعالى. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن التوراة قد شنت أبشع حملة على الأنبياء، فلا يكاد يخلو نبي من أنبيائهم من وصمة عار ألحقها به كتبة التوراة؛ فقد نسبوا إليهم الزنا تارة، وزنا المحارم تارة أخرى، والسرقة تارة، وعبادة الأوثان تارة أخرى، حتى إن موسى وهارون - عليهما السلام - لم ينجوا من تلفيق أمثال تلك التهم، ونسبة أبشع الأقوال والأفعال إليهما.
2. الأسفار المفقودة: تشير أسفار التوراة إلى أن هناك أسفارا مهمة مفقودة، لكن المدافعين عن التوراة يعللون فقدانها بأنها أسفار غير قانونية استبعدت عند كتابة التوراة. لكن الحقائق تشير إلى أن الأسفار المفقودة كان معترفا بها من قبل أنبياء بني إسرائيل أمثال يشوع، حين تلا المقاطع المفقودة من سفر ياشر عندما كلم الرب بعد انتصاره على الأموريين.
كذلك منسي الذي كان ملتزما بتعاليم موسى، وكثير الصلاة، ومستجاب الدعاء، لدرجة أن بني إسرائيل دونوا له سفرا خاصا به تضمن صلاته، وأدعيته، ومراثيه في سفر "أخبار الراثين" الذي فقد تماما.
هناك أيضا سفر "ملوك إسرائيل" الذي فقد جزئيا، ثم كليا، والذي كان يتضمن وصفا لتوبة منسي، وكيفية تطهيره للهيكل من الأوثان، وتقديم الذبائح لها، وكيفية صلاته، وعبادته، وأفعاله، وخطبه. وكذلك سفر "حروب الرب" الذي تضمن معجزات موسى - عليه السلام - على شكل أناشيد لم يبق منها إلا بعض المقاطع، علما بأن موسى - عليه السلام - قد كتب هذا الكتاب بأمر الرب. ويبدو أن هذه الأسفار قد أبيدت كليا عن قصد، أو ما تبقى منها عندما بدءوا بكتابة التوراة بهدف إضاعة كافة الأدلة التي تبين تلاعب الكتبة بالتوراة.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى إذا سلمنا أن هذه الأسفار قد فقدت فعلا دون قصد؛ فإن ذلك يعني أن جزءا غير قليل من أقوال موسى - عليه السلام - قد فقد، وهذا يشكل نقصا خطيرا في دين أتباع موسى - عليه السلام - وتلك مشكلة أخرى تضاف إلى مشاكل التوراة!!!
3. ورود قصص ليس لها معنى: ومن الصعب على عاقل أن يقتنع أن كتابا من المفترض أن يكون مقدسا يحوي قصصا ليس لها معنى، والحقيقة أن هناك الكثير من القصص لا تحوي أي معنى، مثل ما ورد في التوراة: "وحدث في الطريق في المنزل أن الرب التقاه وطلب أن يقتله، فأخذت صفورة صوانة وقطعت غرلة ابنها ومست رجليه، فقالت: إنك عريس دم لي، فانفك عنه. حينئذ قالت: عريس دم من أجل الختان". (الخروج 4: 24 - 26). وقصة كهذه القصة ليست جديرة أن تذكر في كتاب من المفترض أن يكون وحيا، أو كتبه ملهم بوحي من روح القدس!!
4. تناقض بعض النصوص مع العلوم والمعارف: إن كلاما يصدر عن الله لا بد أن يكون كلاما علميا صحيحا؛ لأن قائله لا بد وأن يكون عالما كل شيء؛ وبناء على هذه القاعدة قام د. موريس بوكاي بدراسة الكتب السماوية الثلاثة، فتوصل إلى النتيجة التالية حول التوراة: "بنفس الموضوعية قمت بنفس الفحص على العهد القديم والأناجيل؛ أما بالنسبة للعهد القديم فلم تكن هناك حاجة للذهاب إلى أبعد من الكتاب الأول. أي: سفر التكوين. فقد وجدت مقولات لا يمكن التوفيق بينها وبين أكثر معطيات العلم رسوخا في عصرنا" [3].
وأخيرا فإن كتابا يحوي كل هذه الثغرات والمآخذ لا يمكن أن يكون كتابا موحى به من الله؛ لأن الله لا يخطئ حسب إيمان جميع المؤمنين به عز وجل.
الأناجيل وإنجيل المسيح - عليه السلام - الحقيقي:
يعترف المسيحيون بأن إنجيل المسيح - عليه السلام - الحقيقي مفقود، لكنهم يؤمنون بأن الذين كتبوا الأناجيل بشر قديسون ملهمون من الروح القدس، كما يقول د. القس عبد المسيح أسطفانوس: "فالمسيحيون لا يؤمنون بأن الكتاب المقدس كتاب نزل من السماء بكل كلماته وحروفه، ولكنهم يؤمنون بالوحي؛ فقد دون أناس الله القديسون كلمات الكتاب المقدس، كل بأسلوبه المتميز ومفرداته الخاصة. إلا أنهم جميعا كانوا مسوقين من الروح القدس؛ أي: محمولين أو مدفوعين بعمل الروح القدس فيهم تماما، كما تدفع الرياح السفن".
إن مقولة كمقولة د. أسطفانوس جيدة، لكن ينقصها تقديم البراهين التي تثبت أن كتبة الأناجيل قد كتبوها بوحي من الروح القدس فعلا. وهذا أمر صعب للغاية؛ لأن مضامين الأناجيل لا تدل على أن كتابها قد ألهمتهم روح القدس عندما كتبوا الأناجيل، بل على العكس من ذلك فإن غالبية نصوص الأناجيل تثبت أن كتبة الأناجيل لم يكونوا ملهمين من الروح القدس، كما أن الكتبة لم يكونوا يوما تلاميذ للمسيح، بل لم يشاهدوا المسيح - عليه السلام - أصلا، وإن دراسة لشخصية كل كاتب وحياته من كتبة الأناجيل الأربعة - والذين يروق للكنيسة دعوتهم خدام الكلمة - تظهر تلك الدراسة أنهم ما عاشوا مع المسيح ولا عاصروه ولا شاهدوا ما جرى معه من أحداث.
وبالطبع فإن إنكارنا لتدخل روح القدس في كتابة الأناجيل الحالية لا يعني رفض كافة نصوص الأناجيل، بل إننا نعني أن هناك نصوصا صحيحة قد وردت في الأناجيل، وهذا يعني أن هناك شيئا من الحقيقة في الأناجيل على الرغم من أن الأناجيل لا تحوي كل الحقيقة أو ليس كل ما فيها حقيقة.
ونظرا لأننا نفترض هذا الاعتراض على صحة الأناجيل، فإنه يتوجب علينا إثبات عدم صحة الأناجيل، أو تقديم الأدلة على أن الأناجيل الحالية محرفة عن الإنجيل الحقيقي للمسيح - عليه السلام - وهذا ما نفصله فيما يأتي من الأدلة:
1. اندثار نصوص الإنجيل الأصلية: فمن المعروف والثابت عند الجميع أن المسيح - عليه السلام - كان يتحدث اللغة الآرامية - التي كان يتكلمها أبناء منطقته - ومن الطبيعي أن يكون ما يقوله من الكلام المقدس منطوقا بها، وبالتالي فإن تلاميذه لا بد أن يكتبوا تعاليمه بها على الأقل لتثبت حرفية الكلام الذي كان يقوله المسيح عليه السلام.
فخلاصة القول إذن أن الحدود الدنيا لقبول قداسة كتاب تقتضي أن يكون هذا الكتاب مكتوبا بلغة الوحي التي أنزل بها على الأقل للمحافظة على حرفية الوحي، في حين أن ثلاثة أناجيل كتبت باليونانية وواحد باللاتينية، نقول إن هذا من شأنه أن يقلل من شأن الأناجيل الأربعة لكونها فقدت جزءا من دقتها.
2. كتاب الأناجيل لم يكونوا تلاميذ للمسيح: فالأناجيل الأربعة التي تعتمدها الكنيسة على أنها موثقة كتبها تلاميذ المسيح ليست بقدر الثقة التي منحوها إياها؛ ذلك أن دراسة لشخصية كل كاتب وحياته تظهر أن الكتبة الأربعة ليسوا - من ملازمة المسيح عليه السلام - كما تصفهم الكنيسة.
هذا فضلا عن أن الحواريين: متى، ومرقس، ولوقا، ويوحنا - ليس لهم علاقة بالأناجيل المنسوبة إليهم ولم تكن يوما من تأليفهم، بل هناك من ألفها ونسبها إليهم.
3. تناقض الأناجيل الأربعة: وإذا تجاوزنا تضارب نصوص الأناجيل تضاربا واضحا، لدرجة أن القارئ لا يحتاج إلى مزيد جهد ليكتشف هذا التناقض، إذا تجاوزنا التناقض الجزئي لنقف على تناقض الأناجيل الأربعة في الأمور الأساسية التي يقوم عليها الإيمان المسيحي، نجد أن الأناجيل الأربعة تعطي روايات متضاربة تصل إلى مرحلة التعارض التام في بعض الأحيان في مسائل لا ينبغي أن تكون محل ذلك التعارض مثل:
الولادة العذراوية للمسيح: حيث يهمل كل من إنجيل مرقس وإنجيل يوحنا ذكر الولادة العذراوية الإعجازية للمسيح، لكن متى يكتفي بالإشارة إلى أن مريم حملت بالمسيح من الروح القدس فقط (1، 18)، أما لوقا فذكر بعض التفصيلات عن ولادة المسيح العذراوية (1: 26ـ 38).
وما كان المسيحيون ليختلفوا لو أن الأناجيل الأربعة ذكرت تفاصيل الولادة الإعجازية للمسيح، وإن عدم ذكر هذه الولادة الإعجازية هو ما يدعو إلى الشك والريبة في صحة الأناجيل الأربعة، أو على الأقل عدم دقتها وموضوعيتها.
ومثل هذا التضارب والتناقض الفج نجده في بعض أصولهم الإيمانية الأخرى مثل صلب المسيح وقيامته وصعوده السماء، مما يبرهن بوضوح على أن آباء الكنيسة قد بنوا آراءهم دون أصول إنجيلية ثابتة؛ وذلك أن كتبة الأناجيل أنفسهم لم يكونوا تلاميذ أو شهودا للمسيح، كما أنهم لم يكونوا ملهمين من الروح القدس عندما كتبوا أناجيلهم؛ لسبب بسيط وهو أنه من غير المعقول أن يملي الروح القدس إملاءات متناقضة على أربعة كان من المفترض أن مصدر إلهامهم واحد.
4. التلاعبات اللفظية: ومعلوم أنه لا تستطيع لغة استيعاب لغة أخرى عند تحويل نص من لغة معينة إلى لغة أخرى، وهذا متفق عليه، أما أن تستخدم كلمة استخداما خاطئا مقصودا لإعطاء كلمة في لغة معينة معنى لا يقترب من الأصل أبدا عند تحويلها إلى اللغة الأخرى - فهذا غير المتفق عليه، وقد وقعوا فيه حين راحت الترجمات تميع المعاني إلى درجة عكس المقصود منها والتضليل أحيانا، مثلما حدث في كلمات: (الآب - إنجيل - باراكليتوس) وغيرها.
على أن التلاعب اللفظي في الترجمة يظهر فيه أنه كان مقصودا، ولم يكن خطأ وقع فيه المترجمون عفوا، وهو ما ألحق بالأناجيل مصيبة كبرى، بل وبالمسيح نفسه.
5. ضياع أصول الأناجيل تماما: ومن غير المعقول أن نقبل بقداسة هذه الكتب بعدما ثبت أن مؤلفيها بشر، تصرفوا فيها كل حسب وجهة نظره التي أراد أن يقنع بها قراءه، مع ملاحظة أن الأصول الأساسية لهذه الأناجيل غير موجودة حاليا.
5. اختلاف الطبعات المتلاحقة للأناجيل: تختلف طبعات الأناجيل وفقا للمذهب المسيحي، إذ إن لكل مذهب مسيحي طبعة خاصة، وبالرغم من ذلك فإن الطبعة الواحدة للمذهب نفسه تختلف عن التي تليها. إن هذا الاختلاف يدل على أن المسيحية أعطت لنفسها الحق في تعديل كل نص لا يتوافق مع توجهاتها الإيمانية؛ الأمر الذي يضعف الثقة بالأناجيل إلى درجة كبيرة[4].
والآن بعد أن وقفنا على حقيقة ما في التوارة والإنجيل - على حد سواء - من تحريف أدت إليه أسباب معينة في مناخ معين لا يهمنا نحن استكناه مكنونه، ولا استبطان مجهوله، كل ما يعنينا - في هذا الصدد - جملة من الأدلة المنطقية التي لا يكاد ينكرها منصف تعضد ما هو واقع فيهما - على الحقيقة - من تحريف.
وإن ثبوت تلك الأدلة وحجيتها من جهة، وإقرار بعض منصفيهم بمؤدى تلك الأدلة من جهة ثانية، لمن شأنه أن يعضد موقف المسلمين وينزههم عن اتهام الكتاب المقدس بما ليس فيه، وينزه القرآن - أيضا وبشكل ضمني - فليس أهله بحاجة للطعن في غيره إثباتا لعصمته؛ فالعصمة قائمة فيه بذاته.
وإذ ثبت في ذهننا أن التحريف الواقع في الكتاب المقدس حقيقة، وأيقنا أن المسلمين ليسوا بحاجة لتنزيه القرآن بذمهم غيره من الكتب، فلا يعنينا في نهاية المطاف على لسان من ظهر الحق: أعلى لسان المسلمين أم على لسان غيرهم؟ ما دام حقا واقعا بالفعل.
الخلاصة:
· إن الصورة التي رسمها القرآن للسيد المسيح لا تختلف كثيرا عن صورته التي تستمد من عدة نصوص في الإنجيل؛ إذ المسيح - عليه السلام - في القرآن عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وهو في الأناجيل - فيما لم يحرف - نبي كما جاء على لسانه، وكما شهد بذلك أمامه معاصروه، وهو يصلي لله ويسجد، ويأكل ويشرب كما هي حال سائر المرسلين، ومن عجب أن الذين يغلون فيه فيجعلونه إلها هم من ينفردون باعتقاد محاكمته وصلبه!!
· إن ما يؤمن به المسلمون من تحريف الكتاب المقدس ليس افتراء منهم؛ بل هو الحقيقة المؤكدة التي يعترف بها كثير من علماء اللاهوت.
· إن في التوراة من الكذب على الله وأنبيائه، ومن أسفار مفقودة، وقصص لا معنى لها، وتناقض صريح مع العلوم والمعارف وغير ذلك - ما يثبت أن كتابا به كل تلك المثالب لا يمكن أن يكون وحيا على الإطلاق.
· لا يبعد الإنجيل عن التوراة في مظنة التحريف بما فيه من اندثار نصوص أصلية، وتناقض بعضه مع بعض، وتلاعبات لفظية، وضياع أصوله تماما، واختلاف طبعاته، وفي هذا كله ما يبرهن على الحقيقة ذاتها وهي إلهية مصدر القرآن الكريم وعصمته من الخطأ والتحريف.
(*)