ادعاء أن ما كان يعتري النبي - صلى الله عليه وسلم - أثناء تلقيه الوحي محض حالات
مصطنعة من افتعاله صلى الله عليه وسلم )*(
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المغرضين أن الحالات التي كانت تبدو على النبي - صلى الله عليه وسلم - حال تلقيه الوحي من إصابته بالرعدة[1] وسماع غطيط[2] له - هي حالات مفتعلة؛ إذ إن هذه الحالات قد وظفت لإضفاء أكبر قدر من القدسية على العلاقة بين الوحي والرسول - صلى الله عليه وسلم - كما أنها كانت ذات بعد سياسي جعلها المدخل الأعظم في تشكيل دولة الإسلام المعتمدة على القرآن. هادفين من وراء ذلك إلى وصمه - صلى الله عليه وسلم - بالافتعال والتصنع؛ ليوهم صحابته أن وحيا من عند الله يتنزل عليه، وبذلك يتسنى لهم القول ببشرية القرآن.
وجها إبطال الشبهة:
1) إن الوحي المحمدي حدث إلزامي فجائي طارئ لا يمكن إحضاره أو اصطناعه، ولا يمكن دفعه، أو وصفه بالافتعال كما يدعي هؤلاء.
2) ما حدث للنبي - صلى الله عليه وسلم - من أمور أثناء تلقيه الوحي كان نتيجة الشدة التي تعرض لها - صلى الله عليه وسلم - من ثقل الوحي, وذلك بشهادة القرآن الكريم في قوله عز وجل: )إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا (5)( (المزمل).
التفصيل:
أولا. إن الوحي المحمدي هو حدث إلزامي فجائي طارئ لا يمكن إحضاره أو افتعاله، ومن ثم لا يمكن دفعه أو رده، أو وصفه بالاصطناع وغيره:
دعونا نسأل بادئ ذي بدء: أي شيء كان يدعو النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصطنع؟! هل كان - صلى الله عليه وسلم - محتاجا إلى شاهد على صدقه؟! هل كان في كلامه الذي يتلقاه من ربه عن طريق الوحي مخالفة للعقل أو الفطرة السليمة فلجأ إلى الافتعال حتى يصدقه الناس في أمر الوحي؟!
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن في حاجة إلى الاصطناع حتى يؤكد للناس صدقه؛ فقد ثبت صدقه وشهد له الأعداء بذلك, فكان ينعت بين قومه بـ "الصادق الأمين", وهم لم يجربوا عليه كذبا, فقد روى أنه - صلى الله عليه وسلم - نادى بطون قريش وعشائرهم وقال فيهم: «أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي"؟ قالوا: نعم, ما جربنا عليك إلا صدقا»[3].
ولم يكن في كلامه - صلى الله عليه وسلم - شيء يخالف العقل, فكل آيات القرآن تخاطب العقل وتدعو إلى العلم, فالله تعالى حين يحاور الكافرين يفحمهم بالأدلة العقلية التي لا تدع مجالا للشك أو التكذيب.
وهذه الرسالة التي جاء بها محمد - صلى الله عليه وسلم - نزلت بالعلم ودعت إليه, ويكفي أن أول أمر نزل من القرآن هو: )اقرأ باسم ربك الذي خلق (1)( (العلق).
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن في حاجة إلى الاصطناع؛ فرسالته شاهدة على نفسها ولا تحتاج إلى اصطناع أو افتعال لبيان صدقها، وأنت لا تحتاج في إثبات ذلك إلا إلى أن تقرأ آيات القرآن وأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - قراءة عقلية واعية, فستجد كل آية تكاد تنطق أنها من عند الله.
إن ما حدث له - صلى الله عليه وسلم - من نزول الوحي إليه لم يكن بتدخله الشخصي حتى نقول إنها أحداث مصطنعه منه - صلى الله عليه وسلم - قدمها لإضفاء أكبر قدر من القدسية والرهبنة على العلاقة بينه وبين الوحي.
ومن أوضح الأدلة على ذلك ما يعتريه من أعراض جسدية لا سيطرة له عليها أثناء تلقيه الوحي، كاحمرار وجهه، وتتابع أنفاسه، وسماع غطيط منه، وما يتقاطر منه من عرق في اليوم الشديد البرد، وثقل جسمه، وما يسمعه الصحابة عند وجهه من صوت كدوي[4] النحل، كل هذه الأشياء لم تكن بتدخله الشخصي، ولا يستطيع أي إنسان أن يفعلها من نفسه، وليس في مقدور النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدفع الوحي.
ومما يدل على ذلك أيضا، ما انتابه - صلى الله عليه وسلم - من أحوال نفسية تمثلت في خوفه من ملك الوحي - جبريل عليه السلام - في مبدأ أمره، كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: «لقد خشيت على نفسي"، وقوله: "زملوني زملوني"، حتى ذهب عنه الروع»[5]. وفي رواية قال: «فإذا الذي جاءني بحراء جالسا على كرسي بين السماء والأرض، فجئثت[6] منه رعبا» [7].
وهذه الأعراض والشدائد لم تكن تعتريه - صلى الله عليه وسلم - إلا في أوقات وجيزة، ولحظات متقطعة، وذلك عند نزول الوحي عليه.
والدليل على أنه - صلى الله عليه وسلم - لا قدرة له على إحضار الوحي وجلبه، فتور الوحي، وانقطاعه عنه مدة من الزمن حتى شق ذلك عليه وأحزنه، وأقض مضجعه، ثم جاءه جبريل بعد ذلك بقوله تعالى: )والضحى (1) والليل إذا سجى (2) ما ودعك ربك وما قلى (3)( (الضحى).
ومن ذلك ما روي من أن جبريل - عليه السلام - أبطأ في النزول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم نزل فقال: )وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا (64)( (مريم).
ومن ذلك أيضا فترة الوحي في قصة الإفك[8]، فلو كان بيده - صلى الله عليه وسلم - كما يزعم المغرضون أن يفتعل الوحي أو يتمثله لإضفاء شيء من القدسية، لنزلت التبرئة منذ اللحظة الأولى لتدل على قوته - صلى الله عليه وسلم - وقدسيته وقدسية بيته، ولكن هذا كله لم يحدث ليدلل على أن أمر الوحي من عند الله - عز وجل - وحده، وأن الأحداث التي كانت تعتريه هي من أثر الوحي، ولا دخل له - صلى الله عليه وسلم - فيها.
كما أن تلقي الوحي ليس أمرا كسبيا يناله المرء بسعيه وكسبه، ولا يخضع لجهد فكري، أو ترق روحي وأخلاقي، ولا ينال بالقيم الدنيوية، ولا الاعتبارات المادية، فليس بابا مفتوحا يلج من خلاله من سمت نفسه، أو عظم إشراقه، بل هو اصطفاء إلهي يختص به الله من يشاء من عباده، قال تعالى: )الله أعلم حيث يجعل رسالته( (الأنعام: 124)، وقال سبحانه: )والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم (105)( (البقرة)، قد حكى الله - عز وجل - عن المشركين أنهم قالوا: )وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم (31)( (الزخرف)، فأجابهم رب العزة بقوله: )أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون (32)( (الزخرف).
وقد أوحى الله - سبحانه وتعالى - للنبي - صلى الله عليه وسلم - كما أوحى للرسل قبله، واصطفاه لذلك، فأية غرابة وأي عجب في ذلك[9]؟!
وهكذا ترى أن ما زعموه من اصطناع النبي لما كان يعتريه أثناء الوحي إنما هو فرية تبطل أمام هذا العرض وذاك الإيضاح.
ثانيا. ما حدث للنبي - صلى الله عليه وسلم - من أمور أثناء تلقيه الوحي كان نتيجة الشدة التي تعرض لها - صلى الله عليه وسلم - من ثقل الوحي: )إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا (5)( (المزمل):
إن ما كان يعتري النبي - صلى الله عليه وسلم - أثناء تلقيه الوحي سببه الشدة التي تعرض لها من ثقل الوحي، وليس ذلك من الرهبنة أو الافتعال في شيء، فلقد قام جبريل - عليه السلام - بضغط النبي - صلى الله عليه وسلم - مرارا حتى أجهده وأتعبه، وبقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجد من الوحي شدة وتعبا وثقلا، كما قال سبحانه وتعالى: )إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا (5)( (المزمل), لكي تعلم الأمة أن ظاهرة الوحي معجزة خارقة للسنن والقوانين الطبيعية؛ إذ تلقى النبي - صلى الله عليه وسلم - كلام الله "القرآن" بواسطة الملك جبريل - عليه السلام - ومن ثم فلا صلة لظاهرة الوحي بالإلهام أو التأمل الباطني، أو الاستشعار الداخلي، بل إن الوحي يتم من خارج ذات النبي - صلى الله عليه وسلم - وتنحصر وظيفته بحفظ الموحى به وتبليغه، وأما بيانه وتفسيره فيتم بأسلوب النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يظهر في أحاديثه وأقواله صلى الله عليه وسلم.
إن حقيقة الوحي هي الأساس الذي تترتب عليه جميع حقائق الدين بعقائده وتشريعاته وأخلاقه، ولذلك اهتم المغرضون بالطعن والتشكيك في حقيقة الوحي، وحاولوا أن يأولوا ظاهرة الوحي ويحرفوها عن حقيقتها، وعما جاءنا في صحاح السنة الشريفة، وحدثنا به المؤرخون الثقات، والحقيقة تقول: إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - وهو في غار حراء فوجئ بجبريل - صلى الله عليه وسلم - أمامه يراه بعينه، وهو يقول له: اقرأ، حتى يتبين أن ظاهرة الوحي ليست أمرا ذاتيا داخليا، مرده إلى حديث النفس المجرد، وإنما هو استقبال وتلق لحقيقة خارجية لا علاقة لها بالنفس وداخل الذات. وضم الملك إياه، ثم إرساله ثلاث مرات قائلا في كل مرة: اقرأ، يعد تأكيدا لهذا التلقي الخارجي ومبالغة في نفي ما قد يتصور من أن الأمر لا يعدو أن يكون خيالا داخليا فقط.
ولقد أصيب النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرعب والخوف مما سمع ورأى، وأسرع إلى بيته يرجف فؤاده، وهذا يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن عالما بالرسالة التي سيكلف بثقلها وتبليغها للناس، وقد قال تعالى تأكيدا لهذا المعنى: )وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم (52) صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور (53)( (الشورى).
وقال تعالى: )وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم (15) قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون (16)( (يونس)[10].
فمما يجب أن يعلم: أن الوحي بالنسبة للأنبياء جميعا واحد لا يختلف في شيء مطلقا، فهو واحد في حقيقته، واحد في مصدره، واحد في هدفه ومقصده، ومصداق ذلك قوله سبحانه وتعالى: )إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داوود زبورا (163) ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما (164)( [11].
وعلى هذا، فلا يستطيع منصف التشكيك في الوحي المحمدي أو الزعم بافتعال ما كان يصيبه - صلى الله عليه وسلم - من أمور أثناء تلقيه الوحي، ثم أي افتعال في مظاهر كان يراها الصحابة عيانا على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ينزل عليه الوحي، وكلها مظاهر لا تدل على الافتعال من قبله صلى الله عليه وسلم؟ وكيف يتصنع العرق وصلصلة الجرس وصوتا كدوي النحل حول وجهه صلى الله عليه وسلم؟!
الخلاصة:
· إن تلقي الوحي ليس أمرا كسبيا يناله المرء بسعيه وكسبه، ولا يخضع لجهد فكري، أو ترق روحي وأخلاقي، ولا ينال بالقيم الدنيوية، ولا الاعتبارات المادية، فليس بابا مفتوحا يلج من خلاله من سمت نفسه، أو عظم إشراقه، بل هو اصطفاء إلهي يختص به الله من يشاء من عباده. قال سبحانه وتعالى: )الله أعلم حيث يجعل رسالته( (الأنعام: 124).
· إن ما كان يعتري النبي - صلى الله عليه وسلم - من أعراض جسدية لا سيطرة له عليها، كاحمرار وجهه، وتتابع أنفاسه، وسماع غطيط منه، وما يتقاطر منه من عرق في اليوم الشديد البرد، وثقل جسمه - صلى الله عليه وسلم - وما يسمعه الصحابة عند وجهه من صوت كدوي النحل - كل هذه الأشياء لم تكن بتدخله - صلى الله عليه وسلم - الشخصي، ولا يستطيع أي إنسان أن يفعلها من نفسه، وليست هي بالأسطورة أيضا.
· إن ما حدث للنبي - صلى الله عليه وسلم - من الأمور السابقة كان نتيجة الشدة التي تعرض لها من ثقل الوحي، وليس في ذلك شيء من الرهبنة أو الاصطناع، فلقد قام جبريل - عليه السلام - بضغط النبي - صلى الله عليه وسلم - مرارا حتى أجهده وأتعبه، وبقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلقى من الوحي شدة وتعبا وثقلا، كما قال سبحانه وتعالى: )إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا (5)( (المزمل).
· لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حاجة إلى الاصطناع لتأييد رسالته؛ لأن رسالته كانت واضحة لكل منصف عاقل، وكل آية تكاد تنطق أنها من عند الله، وما كان النبي يحتاج إلى الاصطناع لبيان صدقه؛ فقد شهد له الأعداء قبل غيرهم بأنه صادق أمين قبل البعثة وبعدها.
(*)