الزعم أن أول ما نزل من القرآن على النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مناما، وكذلك رؤيته - صلى الله عليه وسلم - لجبريل - عليه السلام - في الغار(*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المشككين أن ما كان من رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لجبريل - عليه السلام - في الغار إنما كان رؤيا منامية، مستدلين على ذلك برواية لابن إسحاق تزعم أن أول ما نزل من القرآن كان مناما. ويرمون من وراء ذلك إلى التشكيك في أن الله - عز وجل - أوحى إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - والذهاب إلى أن ما كان يراه إنما هو طيف يخايله فيظنه وحيا ويحسب نفسه نبيا، وإنما هي رؤى اتفقت له بطول خلوته وانعزاله في غار حراء.
وجها إبطال الشبهة:
1) الوحي أنواع مختلفة، منه ما يكون مناما، ومنه ما يكون إلهاما يلقيه الله في قلب نبيه، ومنه ما يكون تكليما من الله لنبيه بكلام يسمعه ويدرك معناه، ومنه ما يكون بواسطة أمين الوحي جبريل - عليه السلام - وهذا أغلب أنواع الوحي لرسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - قال سبحانه وتعالى: )وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم (51)( (الشورى).
2) إن تصوير الوحي بالحلم في النوم يخالف ما أجمع عليه المسلمون من أن رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمين الوحي جبريل - عليه السلام - في الغار كانت يقظة لا مناما، أما رواية ابن إسحاق التي استدلوا بها، فتحمل - إن صحت - على أن ما حدث في المنام كان قبل ذلك توطئة لما حدث في اليقظة.
التفصيل:
أولا. صور الوحي المختلفة:
للوحي أنواع مختلفة: فمنه ما يكون مناما، وذلك بأن يرى النبي - صلى الله عليه وسلم - رؤيا في منامه، فتتحقق بعد في اليقظة كما رآها في نومه تماما، ومما يشهد لهذا ما روي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء..» إلى أن قالت: «حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ.. إلى آخر الحديث» [1] [2].
إن رؤيا الأنبياء حق، ولذلك فإن خليل الرحمن إبراهيم - عليه السلام - بادر إلى ذبح ولده عندما رأى في المنام أنه يذبحه، وعد هذه الرؤيا أمرا إلهيا، قال تعالى في إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام: )فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين (102) فلما أسلما وتله للجبين (103) وناديناه أن يا إبراهيم (104) قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين (105)( (الصافات)[3].
فالرؤيا الصالحة كانت تمهيدا للوحي وتقدمة للنبوة، تجعل الرسول في تهيئة نفسية لما ينتظره من الكرامة.
وهذه الرؤيا من الصدق والوضوح بحيث تتحقق في اليقظة، كما رآها في النوم، أو بحيث تعبر وتكون إعلام خير وبشائر هدى.
وقد بدأت هذه المرحلة قبيل لقاء غار حراء بستة أشهر، واستمرت بقية عمره الشريف، ولا نعرف نماذج من الرؤى قبل النبوة، ولكن جاء القرآن وجاءت السنة الصحيحة بنماذج من الرؤى التي وقعت بعد النبوة، منها على سبيل المثال:
قال سبحانه وتعالى: )إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور (43)( (الأنفال).
ففي غزوة بدر الكبرى واجه المسلمون المشركين في أول واقعة حربية حاسمة، وكان المشركون أضعاف عدد المسلمين، وقد وقعت رؤيا الرسول - صلى الله عليه وسلم - خلال المعركة، شاهد فيها المشركين قلة قليلة، فأخبر أصحابه يومئذ قائلا: «هذه مصارع القوم العشية».[4] وتلك بشرى إلهية حتى يشتد العزم وتقوى الإرادة ويزداد الإقدام[5].
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن، فشربت منه حتى إني لأرى الري يخرج من أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر. قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: العلم»[6].
فهنا عبر الرسول رؤياه، وفسر اللبن بالعلم في كثرة الانتفاع بهما، ويظهر من ذلك فضل عمر، فهو الفاروق الذي كان إسلامه فتحا، وهجرته نصرا، وخلافته رحمة[7].
هذه بعض الرؤى التي كان يراها النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم تتحقق مثل فلق الصبح، وليس معنى ذلك أن الوحي كان رؤى منامية، ولكنه كان وحيا إلهيا ينزل به جبريل - عليه السلام - على النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان الصحابة يحسون ذلك، ويرون علامات التغير على وجهه صلى الله عليه وسلم.
ومن الوحي ما يكون إلهاما يلقيه الله في قلب نبيه، فيجد من نفسه علما ضروريا بأن هذا من عند الله تعالى، وهذا هو المقصود بالنفث[8] في الروع[9] الوارد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الروح الأمين نفث في روعي أنه ليس من نفس تموت حتى تستوفي[10] رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب» [11].
ومنه ما يكون تكليما من الله لنبيه بكلام يسمعه ويدرك معناه، مع يقينه بأنه كلام الله وليس كلام أحد سواه، كما كلم الله موسى - عليه السلام - لما ذهب لميقات ربه الذي ضرب له أجلا أربعين ليلة، وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: )ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني( (الأعراف: ١٤٣)، ويقول في آية أخرى: وكلم الله موسى تكليما (164)( (النساء).
ومنه ما يكون بواسطة أمين الوحي جبريل - عليه السلام - وهذا أغلب أنواع الوحي لرسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ولغيره من الرسل، والقرآن كله من هذا القبيل[12].
ثانيا. رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمين الوحي جبريل - عليه السلام - في الغار كانت يقظة لا مناما:
إن المقرر لدى المؤرخين للسيرة الطاهرة أن الوحي ابتدأ بخطاب روح القدس - جبريل عليه السلام - للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الغار، يقول د. محمد محمد أبو شهبة: "جاء في الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك، فقال: "اقرأ"، قال: "ما أنا بقارئ"، قال: "فأخذني فغطني، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: )اقرأ باسم ربك الذي خلق (1) خلق الإنسان من علق (2) اقرأ وربك الأكرم (3) الذي علم بالقلم (4) علم الإنسان ما لم يعلم (5)( (العلق)"، فرجع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها - فقال: "زملوني، زملوني"، حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة - وأخبرها الخبر -: "لقد خشيت على نفسي"، فقالت: خديجة: "كلا والله ما يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق»[13].
ولكن هناك رواية في سيرة ابن إسحاق تنص على أن أول خطاب بين جبريل - عليه السلام - والنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - كان برؤيا صادقة في المنام؛ ففي رواية ابن إسحاق عن عبيد بن عمير مرسلا: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «جاءني جبريل وأنا نائم بنمط[14] من ديباج[15] فيه كتاب فقال: اقرأ...» إلخ، فظاهر هذا أنه كان مناما [16] [17].
وهذه الرواية تخالف الصحيح الذي رواه البخاري من نزول جبريل بالسورة جهرا وعلانية، وزاد ذلك وثوقا ما رواه البخاري في نزول آية المدثر عن جابر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه، فقلت: زملوني زملوني، فأنزل الله تعالى: )يا أيها المدثر (1) قم فأنذر (2) وربك فكبر (3) وثيابك فطهر (4) والرجز فاهجر (5)( (المدثر)، فحمي الوحي[18] وتتابع»[19] [20].
والمعول عليه ما في الصحيحين، وأن ذلك كان في اليقظة لا في المنام، وإن ثبت ما ذكره ابن إسحاق فيكون ما حدث في المنام كان قبل ذلك توطئة لما حدث في اليقظة[21].
وهكذا ننتهي إلى حقيقة ثابتة متفقة مع مجموع النقول، وتتلاقى مع العقول، وهي أن الالتقاء بالروح القدس ابتدأ في المنام، ثم ألف محمد - صلى الله عليه وسلم - الرؤيا المنامية الصادقة، ويظهر أنها في وضوحها وجلائها تشبه رؤية اليقظة؛ إذ كانت تجيء مثل فلق الصبح كما أخبرت أم المؤمنين عائشة، حتى إذا كان الأنس بروح القدس، وامتلاء النفس بالروحانية كانت المشاهدة في اليقظة؛ لأن ذلك مقام خطير عظيم، لا تقوى عليه النفوس إلا بعد أن تصقل صقلا روحيا[22].
ونحن لم نعرف أن شيئا من القرآن نزل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - مناما أو إلهاما، أو تكليما من الله بغير واسطة، وكل ما عرفناه من ذلك هو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان - أحيانا - يرى في منامه رؤيا فينزل بعدها قرآن يصدقها، كما ورد أنه - صلى الله عليه وسلم - أغفى إغفاءة رأى فيها نهر الكوثر الذي أعده الله له في الجنة، ولما استيقظ نزل عليه قوله سبحانه وتعالى: )إنا أعطيناك الكوثر (1)( (الكوثر) إلى آخر السورة.
ومما يشهد لنزول القرآن كله بواسطة جبريل، قوله تعالى في صفة القرآن الكريم: )وإنه لتنزيل رب العالمين (192) نزل به الروح الأمين (193) على قلبك لتكون من المنذرين (194) بلسان عربي مبين (195)( (الشعراء)، وقوله مخاطبا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم: )قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين (102)( (النحل)[23].
أما عن كيفية مجيء الوحي، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس[24]، وهو أشده علي، فيفصم[25] عني وقد وعيت ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا، فيكلمني فأعي ما يقول» [26] [27].
فالوحي كان يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل صلصلة الجرس، وهذه الحالة هي أشد حالات الوحي، وقد جاء في الأحاديث الشريفة ما يشير إلى هذه الشدة، ويصف ما يعتري النبي - صلى الله عليه وسلم - عندها، ففي حديث عائشة: «ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد[28] عرقا» [29].
كما أن الملك كان يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة رجل، وقدرة الملك على التشكل بالصورة البشرية محل اتفاق أهل الأديان جميعا، فلقد نزل الملائكة على إبراهيم الخليل - عليه السلام - ضيفا مكرمين، وقدم لهم عجلا حنيذا، ولم يعرف أنهم ملائكة إلا حين أفصحوا له عن حقيقة أمرهم، وأتى الملائكة لوطا - عليه السلام - في صورة شباب، قال سبحانه وتعالى: )ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب (77)( (هود)، وبعث الله إلى مريم البتول جبريل - عليه السلام - في صورة بشر سوي يبشرها باصطفائها واصطفاء وليدها[30].
كما أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - رأى الملك في صورته الحقيقية، فبعد لقاء الغار الأول بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وجبريل - عليه السلام - انقطع الوحي فترة من الزمن، ثم انجلى الموقف، وتراءى للرسول - صلى الله عليه وسلم - جبريل - عليه السلام - في صورته الملائكية، ونزل عليه صدر سورة المدثر.
جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت فقلت: زملوني زملوني، فأنزل الله تعالى: )يا أيها المدثر (1) قم فأنذر (2) وربك فكبر (3) وثيابك فطهر (4) والرجز فاهجر (5)( (المدثر). فحمي الوحي وتتابع" [31].
فهل يبقى لأحد بعد كل هذه الحقائق مرية في أن رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لجبريل في الغار يقظة لا مناما؟
الخلاصة:
· للوحي طرق مختلفة ووسائل متنوعة، منها: الرؤيا المنامية، والتعليم المباشر من الملائكة في صورتها البشرية، والتعليم بصوت من الملائكة في طبيعتها النورانية، وتعليم الملائكة في خفاء، والكلام من وراء حجاب، فالرؤيا المنامية إحدى هذه الصور المختلفة، وهذا ما حدث مع الخليل إبراهيم - عليه السلام - في رؤياه ذبح إسماعيل عليه السلام.
· رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمين الوحي جبريل عليه السلام - في الغار - كانت يقظة لا مناما، فالملك كان يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل صلصلة الجرس، وأحيانا يأتيه في صورته الملائكية، وأحيانا أخرى كان يأتيه في صورة رجل، وتشكل الملائكة بالصورة البشرية محل اتفاق الأديان جميعا.
· رواية ابن إسحاق التي استدل بها هؤلاء على أن الرؤية كانت مناما تحمل على أن هذا كان - في المنام - تهيئة لما سيحدث في اليقظة، ومن الثابت أن رؤيا الأنبياء حق.
(*)