الزعم أن الوحي المحمدي كان نتيجة تأثره - صلى الله عليه وسلم - بالحنفاء(*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المشككين أن القرآن لم يكن وحيا إلهيا، بل كان فقط نتيجة تأثره - صلى الله عليه وسلم - بالحنفاء الذين تأثروا هم الآخرون باليهودية والنصرانية، ورفضوا ما كانت عليه قريش من عبادة الأوثان؛ ويستدلون على ذلك بوجود ألفاظ في القرآن والسنة من شعر أمية بن أبي الصلت، ومعلوم أن أمية كان من شعراء الحنفاء المتأثرين باليهودية والنصرانية. هادفين من وراء ذلك إلى الطعن في مصدر الوحي المحمدي.
وجوه إبطال الشبهة:
1) لم يتأثر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحنفاء ولا غيرهم، ولو تأثر بهم لذكر المشركون ذلك في جملة اعتراضاتهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به، أو لذكره أمية بن أبي الصلت الذي كان يطمع في النبوة وينتظرها، وينقم على النبي - صلى الله عليه وسلم - اختصاصه بها، ثم ألم يكن من الأولى أن يدعي هؤلاء الحنفاء النبوة ما داموا هم الأساتذة وهو - صلى الله عليه وسلم - التلميذ؟!
2) اختلاف القرآن الكريم والحديث الشريف عن الكتب السابقة - التوراة والإنجيل - التي يزعمون أن الحنفاء تأثروا بها - يدل على عدم تأثر النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الكتب، فهل يعقل أن يتأثر بها ثم يخالفها؟!!
3) ثبوت أمية النبي - صلى الله عليه وسلم - من جهة، ووضوح إعجاز القرآن الكريم ـ أسلوبا ونظما ـ من جهة أخرى؛ ينفيان كون القرآن الكريم من تأليف النبي - صلى الله عليه وسلم - بل وينفيان حتى مجرد تدخله في صياغة أفكاره، وسبك آياته، أو أن يكون نقلا عن أحد أو تعلما منه؛ إذ كيف بأمي أن يأتي بمثل هذا القرآن المعجز وقد عجز عنه أرباب البلاغة والفصاحة أنفسهم؟!
التفصيل:
أولا. حقيقة تأثر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحنفاء:
لم يتأثر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحنفاء ولا غيرهم، ولو تأثر بهم لذكر المشركون ذلك في جملة اعتراضاتهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به، أو لذكر ذلك أمية بن أبي الصلت الذي كان يطمع في النبوة وينتظرها، ويحقد على النبي - صلى الله عليه وسلم - اختصاصه بها.
والحنفاء هم أفراد من العرب ظهروا قبل البعثة النبوية لم يقنعهم ما عليه أقوامهم من عبادة الأصنام وتظالم، وغير ذلك من مظاهر هذا التحلل الروحي والفساد الاجتماعي. وبدلا من أن يرى المستشرقون في ذلك دليلا على أن الجو كان يستدعي ظهور نبي يصلح الأحوال المتردية في الجزيرة العربية وفي العالم أيضا، إذ كانت الأوضاع في الإمبراطوريات العالمية في ذلك الوقت، مثلها في شبه الجزيرة سوءا بل أسوأ - نراهم كعهدهم فيما يتعلق بالإسلام ونبيه يتهمونه - صلى الله عليه وسلم - بالأخذ من هؤلاء الحنفاء[1].
ثم لو حدث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تعلم من أيهم لذكر ذلك واحد كأمية بن أبي الصلت - مثلا - الذي كان يحقد على النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان يطمع في أن تكون النبوة من نصيبه، ثم إن كان محمد - صلى الله عليه وسلم - قد تعلم من الحنفاء، أفلم يكونوا هم أولى بادعاء النبوة ما داموا هم الأساتذة، وهو التلميذ؟ ثم تعالوا لنرى ما حدث بعد أن أعلن محمد - صلى الله عليه وسلم - أنه نبي مرسل من ربه؛ فلقد صدق ورقة بن نوفل بدعوته صلى الله عليه وسلم - كما هو معروف - وأعلن أنه لو امتد به العمر، فسوف يقف معه ضد قومه، عندما أخبره أنهم سيعادونه ويخرجونه من بلده، كما أسلم عبيد الله بن جحش بعد الالتباس الذي كان فيه، ثم ظل مسلما إلى أن هاجر إلى الحبشة، حيث تنصر هناك، ومات قبل أن يعود المهاجرون إلى بلاد العرب، وكان حديد اللسان على سائر المهاجرين بعد تنصره، يسلقهم[2] بتهكمه[3] القارص محتميا بأهل البلاد النصارى.
فلو كان يعرف عن محمد - صلى الله عليه وسلم - شيئا من هذا الذي يتهمه به المستشرقون، والمبشرون وغيرهم لفضحه وفضح زملاءه المهاجرين في بلاد النجاشي، بل لما آمن به منذ البداية، ومما له مغزاه أن زوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت معه في بلاد الحبشة، لم ترتد مثله بل ظلت مستمسكة بدينها، وقد تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موت زوجها، ومما له مغزاه أيضا أن كل إخوة هذا الرجل وأخواته، كانوا من المسلمين الصادقين الأبرار، ومنهم أم المؤمنين زينت بنت جحش، ومن الحنفاء أيضا عثمان بن الحويرث، وكان قد قدم على قيصر فتنصر وحسنت منزلته لديه[4].
وبهذا يتبين قلة الحنفاء، فلم يكونوا كلهم على الجادة، ولكن منهم من تنكبوا[5] الطريق، وعرفوا الحق وحادوا عنه ومن هؤلاء: أمية بن أبي الصلت، الذي كان شاعرا يعبر عن عقيدته الدينية بشعره، وهو القائل:
كل دين يوم القيامة عند
الله إلا دين الحنيفة زور[6]
وكان قد نظر في الكتب وقرأها ولبس المسوح[7] متعبدا، وكان ممن ذكر إبراهيم، وإسماعيل - عليهما السلام - والحنيفية، وحرم الخمر، وشك في الأوثان، وكان محققا، والتمس الدين وطمع في النبوة؛ لأنه قرأ في الكتب أن نبيا يبعث من العرب، فكان يرجو أن يكون هو، فلما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له: هذا الذي كنت تستريث[8]، وتقول فيه، فحسده عدو الله وقال: "إنما كنت أرجو أن أكونه".
وجاء في السيرة النبوية لابن كثير: عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال في قوله تعالى: )واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين (175)( (الأعراف): هو أمية بن أبي الصلت.
وأخبر أمية عن صفات النبي الذي سيبعث من العرب، وهي أوصاف انطبقت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبر بهذه الأوصاف أبا سفيان، وعلى الرغم من ذلك أبى أمية أن يؤمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - حسدا واستكبارا، وسأله أبو سفيان عن سبب ذلك، فقال: ما كنت لأومن برسول من غير ثقيف أبدا.
ولم يقف عند حد عدم إيمانه، بل انضم إلى قافلة الكفار في تأييد الباطل، فقد حزن على قتلى بدر من المشركين ورثاهم في قصيدة شعرية، فهذا الرجل قد عرف الحق وحاد عنه، وعرف أن الله أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، لكنه عز عليه أن يكون هذا الرسول غيره فكفر ولم يفطن لما كان يجب أن يفطن إليه بأن الله أعلم حيث يجعل رسالته[9].
كل هذا يبين أنه صدق ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - فلو تعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - من أمية بن أبي الصلت، لذكر هذا الطامح الطامع في النبوة ذلك أو ذكر غيره من الحنفاء ذلك.
وزاد د. إبراهيم عوض على ذلك قائلا: "ومما يذكر في الحنفاء أيضا أمية بن أبي الصلت، الذي قدم إلى مكة واستمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى آيات من القرآن قائلا لقريش حين سألوه عن رأيه: "إنه على حق"، ولكنه أجل الدخول في الإسلام بحجة أنه يريد النظر في الأمر، إلى أن وقعت غزوة بدر وقتل بعض أقاربه من المشركين فيها؛ فاستشاط غيظا وانقلب يهجو الإسلام، ويبكي قتلى المشركين بعد أن كان قد نوى إعلان إسلامه، فهل هذا موقف يبعث على الثقة بصاحبه؟ أليس يكفي رثاؤه للوثنيين، ومعاداته لدين التوحيد حتى نلقي بكل ما يقال عن تعلم محمد - صلى الله عليه وسلم - من مثله تحت أحذيتنا؟ إنه هو نفسه وقد كان شاعرا وخطيبا، وواعظا مشهورا، لم يقل قط: إن محمدا قد تعلم منه شيئا، فكيف يجرؤ على قوله أحلاس آخر الزمان" [10].
ومما يؤكد حقد أمية بن أبي الصلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما جاء في "السيرة النبوية" للدكتور محمد محمد أبو شهبة قائلا في ذلك: ولما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - حسده - أي: أمية - وقال: إن الحنيفية حق، ولكن الشك يداخلني في محمد. ولما قيل له أفلا تتبعه؟ قال: أستحيي من نساء ثقيف، إني كنت أقول لهن: إني أنا هو، ثم أصير تابعا لغلام من بني عبد مناف!!
ولما أنشدت أخته النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا من شعره، قال: "آمن شعره، وكفر قلبه" [11].
ولو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ من شعر أمية - كما يدعي هؤلاء الزاعمون الطاعنون ونسجه أو شكله قرآنا أو حديثا فعلا - لسارع مشركو مكة للوقوف في وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالوا له: إنك سطوت على شعر شاعرنا، وزعمت أنك رسول يوحى إليك، وهذا لم يثبت قط، فهو دليل على أنه كلام مكذوب وضعه واضع خبيث بعد عصر الرسالة، وعصر الخلفاء، والموازنة الحقة تثبت - من أقصر طريق - سمو النظم القرآني، وجلال الوحي المنزل على ذلك الكلام المتكلف الركيك[12].
يقول د. محمد الدسوقي في كتابه "الفكر الاستشراقي": "ويؤكد بطلان ذلك الرأي، وأنه لا وزن له علميا، ما ذهب إليه د. طه حسين في معرض رده على تلك الشبهة، أي شبهة تأثير شعر أمية في كتاب الله، فقد قال: إن هذا المستشرق - الذي أثار الشبهة - وأمثاله يشكون في صحة السيرة نفسها، ويتجاوز بعضهم الشك إلى الجحود، فلا يرون في السيرة مصدرا تاريخيا صحيحا، وإنما حسب قولهم - طائفة من الأخبار، والأحاديث تحتاج إلى التحقيق والبحث العلمي الدقيق، وهم يقفون هذا الموقف من السيرة النبوية، ويغلون فيه، ولكنهم يقفون من أمية وشعره موقف المطمئن المتيقن، مع أن أخبار أمية ليست أدنى إلى الصدق، ولا أبلغ في الصحة من أخبار السيرة، فما سر هذا الاطمئنان الغريب إلى نحو من الأخبار دون آخر؟! وبهذا يكون المستشرقون أنفسهم لم يبرءوا من هذا التعصب الذي يرمون به الباحثين من أصحاب الديانات.
إن التشكيك في أخبار السيرة النبوية أو إنكارها، وعدم الشك في شعر أمية يتلاءم مع منهج الاستشراق في الطعن في نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ونفي أن يكون القرآن نزل به الروح الأمين على قلب هذا النبي الأمي" [13].
ثانيا. إن القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، يختلفان عن الكتاب المقدس - التوراة والإنجيل - الذي تأثر الحنفاء - كما يزعمون - به:
إن المتأمل في كتاب الله يجد البون الشاسع، والاختلاف الكبير بينه وبين الإنجيل والتوراة، سواء من حيث الأسلوب والنظم، أو من حيث ما تضمن من معان رفيعة في العقيدة والأخلاق والتشريع، يقول د. عبد الكريم الخطيب مبينا الاختلاف الكبير بين القرآن والتوراة من جهة الأسلوب: "اقرأ فصلا أو فصولا من التوراة، ثم اقرأ سورة أو سورا من القرآن، فإنك تجد طعما غير الطعم ومذاقا غير المذاق، فإذا حاولت أن تجمع هذا بذاك أو ذاك بهذا، وأن تزاوج بينهما وجدت أمرا غير مستقيم لك، ولا مطاوع لصنيعك، كمن يؤلف بين أنغام تخرج على غير اتفاق أو ترتيب. على فرض صحة التوراة وأنها والقرآن يخرجان من مشكاة واحدة، فإن أسلوب الأداء مختلف أشد الاختلاف كاختلاف اللغة العامة الدارجة ولغة الشعراء في أعلى طبقاته أو هو أشد".
وهذا الأسلوب الفريد المتميز من أوضح الدلائل على أن القرآن الكريم كتاب الله العظيم، أنزل على المصطفى - صلى الله عليه وسلم - عن طريق أمين الوحي جبريل - عليه السلام - ثم إن القرآن الكريم بما تضمنه من عقيدة واضحة صافية قوامها التوحيد المطلق، والكمال المطلق، مغايرة لعقيدة التوراة والإنجيل - لا يمكن أن يكون نسخة عنهما، فالتوراة تصف الله - عز وجل - بصفات تنافي كماله وجلاله، كالعته والبخل، وعدم العلم والفقر، وغير ذلك.
وكذلك الإنجيل يتضمن عقيدة التثليث: الأب، والابن، والروح القدس، ثلاثة آلهة.
فأين هذا من عقيدة التوحيد الخالص؟! ويخالف القرآن الإنجيل أيضا في قضية صلب المسيح، وعقيدة الفداء، فكيف يكون مستقى منه أو من التوراة؟![14]
وعدم وجود هذه العيوب التوراتية والإنجيلية في القرآن يدل على استقلاله وعدم تأثره بهما كما يدل على أنه ذو مصدر إلهى.
ومن أقوى ما يدل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن متأثرا بالحنيفية المأخوذة من اليهودية، أو النصرانية، وجود الخلاف في كثير من العقائد والأحكام، بل لقد جعل الشارع الحكيم جنس مخالفتهم أمرا مقصودا له، ومن متطلبات الشرع، وهناك كثير من الأحكام جعلت العلة فيها هي مخالفة اليهود أو النصارى، من ذلك[15]:
1. قوله صلى الله عليه وسلم: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون، فخالفوهم» [16].
2. قوله صلى الله عليه وسلم: «خالفوا اليهود، فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم» [17] [18].
بل إن بعض شعائر الإسلام التي وافقت اليهودية أو النصرانية في جانب منها، والتي زعم بعضهم تأثر الرسول فيها بهاتين الديانتين - أوضح النبي - صلى الله عليه وسلم - العلة فيها وأقر بمخالفتهم أيضا فيها وذلك مثل:
1. صوم يوم عاشوراء بناء على ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: "ما هذا"؟ قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى، قال صلى الله عليه وسلم: "فأنا أحق بموسى منكم"، فصامه وأمر بصيامه»[19]. فعلته الفرح بنجاة موسى - عليه السلام - والصيام شكرا على هذه النعمة، وليس لأجل أن يوافقهم في تعظيم هذا اليوم، لذلك فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين نوع مخالفة اليهود في صيام عاشوراء، عندما شرع صيام يوم قبله، أو يوم بعده، فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «حين صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عاشوراء وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا كان العام المقبل - إن شاء الله - صمنا اليوم التاسع"، قال: فلم يأت العام المقبل، حتى توفـي رسول الله صلى الله عليه وسلم»[20].
2. زعمهم أن المؤمنين كانوا لا يصلون في مكة إلا مرتين في اليوم، ثم أدخلت صلاة ثالثة عندما ذهبوا إلى المدينة على غرار اليهودية، فهذا زعم في وهن خيط العنكبوت؛ إذ الصلوات الخمس فرضت بمكة ليلة الإسراء، حين عرج بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى السماء، ولا خلاف بين أهل العلم وأهل السير في ذلك.
وهذا الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة التي وردت في صفة الإسراء والمعراج من أحاديث جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - وفي أحدها قوله صلى الله عليه وسلم: «فلم أزل أرجع بين ربي - سبحانه وتعالى - وبين موسى - عليه السلام - حتى قال: يا محمد، إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة، لكل صلاة عشر، فذلك خمسون صلاة»[21].
3. زعمهم أنه جعل الجمعة، يوم صلاة عامة، على غرار السبت عند اليهود، فهو أيضا قول مخالف للصواب؛ لأن الله سبحانه شرع لعباده المؤمنين الاجتماع لعبادته يوم الجمعة، فقال سبحانه وتعالى: )يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون (9)( (الجمعة).
وقد ثبت أن الله أمر الأمم السابقة بتعظيمه، فضلوا عنه، واختار اليهود السبت، والنصارى الأحد، وفضل الله هذه الأمة بيوم الجمعة لفضيلته، فعن أبي هريرة وحذيفة - رضي الله عنهما - قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة، فجعل الجمعة، والسبت، والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة، نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة، المقضي لهم قبل الخلائق» [22]. ففي الحديث ذم لأهل الكتاب، على تفريطهم في يوم الجمعة، ثم شرع - صلى الله عليه وسلم - صيام يوم السبت، ويوم الأحد مخالفة لهما، كما جاء في حديث أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم يوم السبت ويوم الأحد أكثر مما يصوم من الأيام، ويقول: إنهما عيدا المشركين، فأنا أحب أن أخالفهم»[23].
قال الحافظ ابن حجر: "يوم السبت عيد عند اليهود، والأحد عيد عند النصارى، وأيام العيد لا تصام، فخالفهم بصيامهما" [24].
4. أما كونه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي ويستقبل بيت المقدس، فقد كان يصلي إلى هذه القبلة قبل الهجرة، ولكنه جعل الكعبة بينه وبينها، أي أنه كان يستقبل القبلتين، فلما هاجر إلى المدينة استحال عليه أن يجمع بينهما، فاستقبل بيت المقدس لفترة، ثم نزل الوحي الإلهي بالتحول إلى الكعبة، وقد عرض اليهود عليه أن يعود إلى قبلة بيت المقدس ويتبعوه، وهو ما بين التواءهم وخبثهم، فالصادق في التمسك بدينه لا يعرض مثل هذا العرض، لكنه - صلى الله عليه وسلم - قد رفض ذلك[25].
وبهذا يتبين أن القرآن الكريم والسنة المطهرة جاءا مخالفين لما جاءت به الكتب المقدسة - التوراة والإنجيل - من العادات والمعتقدات اليهودية والنصرانية، وهذا مخالف للأصل فكيف يكون - صلى الله عليه وسلم - آخذا من الفرع وهم "الحنفاء"؟!
"والفروق بين القرآن من جهة، والتوراة والإنجيل من جهة أخرى كثيرة جدا، وإن وجود تشابه بينهما في بعض القضايا كقصص الأنبياء، فإنما يدل على وحدة المصدر وأن كلا منهما أصله من وحي الله إلى أنبيائه، ولا يفيد أبدا أن اللاحق منهما قد استمد من السابق" [26].
ويؤكد ذلك ما جاء في القرآن الكريم وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذلك في التوراة والإنجيل، فقد ذكر فيها اليوم الآخر وصفة الجنة والنار، وظهر ذلك في شعر أمية بن أبي الصلت الذي تأثر بالتوراة والإنجيل؛ حيث كان متبعا لملة الخليل إبراهيم عليه السلام.
وفي ذلك يقول د. محمد الدسوقي: "والحقيقة أن اليوم الآخر ليس فكرة يهودية، وليست الصلاة طقوسا فارسية، وليس تقبيل الحجر الأسود عبادة وثنية، وقانون العقوبات في الإسلام ليس تقدما ضئيلا بالنسبة إلى القوانين الوثنية، فهو مستوى أرفع من القوانين الحديثة التي وضعت في عصر الحضارة والتقدم الفكري" [27].
ثالثا. نظم القرآن المعجز وأمية النبي - صلى الله عليه وسلم - ينفيان أن يكون القرآن من تأليفه - صلى الله عليه وسلم - أو أن يكون له تدخل في صياغته، أو أن يكون مقتبسا إياه عن غيره:
من الثابت تاريخيا أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان أميا لا يقرأ ولا يكتب، والقرآن كتاب على أعلى مستوى من البيان الأدبي، وهو مختلف تماما عما كان يعرفه العرب من شعر ونثر، فالقرآن معجزة لغوية وأدبية جديدة تماما، وليس لها سوابق مشابهة، وكونه يأتي على يد إنسان أمي دليل على أنه ليس من عمله، وإنما هو وحي منزل.
"وكل كتب السيرة تحكي قصة الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - والكل يعلم أن وظيفته قبل البعثة كانت رعي الغنم والتجارة، وأنه لم يتلق أي قسط من التعليم في أية مرحلة من حياته، ولم يكن يعرف القراءة والكتابة، ثم بدأ نزول الوحي عليه وهو في سن الأربعين، وطوال هذه الفترة لم يكن يعرف القراءة والكتابة، وطوال وجوده في مكة أمام أهالي مكة حتى بلغ سن الثالثة والخمسين لم يتعلم القراءة والكتابة، والقرآن الكريم يؤكد ذلك، وفي مكة نزل عليه من الوحي 86 سورة، ثم هاجر للمدينة، وفي المدينة نزل عليه من الوحي 28 سورة، وبذلك أصبح مجمل القرآن 114 سورة، وهو لا يعرف القراءة والكتابة، فكيف لإنسان يجهل القراءة والكتابة، أن يقوم بتأليف 114 سورة تشكل 6236 آية بها إعجاز بلاغي وأدبي وبها فصاحة وبيان حكيم. هل يستطيع إنسان لا يعرف القراءة والكتابة تأليف مثل هذا القرآن وسبكه كما يزعم هؤلاء"؟![28] وقد عجز عن الإتيان بأقصر سورة منه الفصحاء والبلغاء من الناس؟!
إن القرآن الكريم نفسه ينفي أن يكون من صنع البشر وتأليفهم، ويؤكد أنه كلام الله المنزل على رسوله - صلى الله عليه وسلم - لهداية الناس وإصلاح حالهم، وذلك من عدة نواح:
1. من ناحية أسلوبه البليغ المعجز المغاير لأسلوب النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما صدر عنه من الأقوال غير القرآن، فالحديث النبوي يختلف اختلافا كبيرا عن القرآن الكريم من جهة الأسلوب، وكل قارئ يفهم العربية يدرك ما بين الأسلوبين من فرق كبير، فلو كان القرآن صادرا من محمد نتيجة تأثره بالحنفاء المتأثرين باليهود والنصارى لكان كلامهما - القرآن والسنة - وسبكهما واحدا، وكان أسلوب القرآن هو أسلوب الأحاديث نفسه؛ لأنه لا يمكن أن يكون لكاتب واحد مهما بلغ من الذكاء والعبقرية أسلوبان يختلفان هذا الاختلاف الكبير، ولظهر هنا التأثر في كليهما.
2. من ناحية ما تضمنه من إشارات علمية دقيقة ونبوءات غيبية، وأخبار القرون الماضية، والتشريع العظيم، وغير ذلك من العلوم والمعارف التي يزخر بها هذا السفر العظيم، كل ذلك ينفي أن يكون القرآن بشريا، وإلا فمن أين لمحمد الرجل الأمي هذه الحقائق العلمية، التي لم يتوصل إلى معرفتها إلا في العصر الحديث؟!!
3. من ناحية أن القرآن لا يعكس شخصية محمد - صلى الله عليه وسلم - في أفراحه، وأحزانه، فلقد توفي عمه أبو طالب وزوجته خديجة في عام واحد، وحزن عليهما حزنا شديدا حتى سمي هذا العام بـ "عام الحزن"، فهل يوجد في القرآن أية إشارة لكل هذا؟!
4. من ناحية أن القرآن في بعض المواقف كان يخالف رأي الرسول - صلى الله عليه وسلم - بل كان يعاتبه ويلومه على أفعاله، كعتابه في موقفه من الرجل الأعمى عبد الله بن أم مكتوم، حيث قال سبحانه وتعالى: )عبس وتولى (1) أن جاءه الأعمى (2)( (عبس)، وكعتابه له - صلى الله عليه وسلم - في مسألة أسرى بدر حيث قال: )ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم (67) لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم (68)( (الأنفال).
وكذا عتاب الله - عز وجل - للنبي - صلى الله عليه وسلم - في مسألة الإذن للمنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، حيث قال: )عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين (43)( (التوبة)، فلو كان القرآن الكريم نابعا من ذاته لما ظهر فيه مثل ذلك العتاب على تلك التصرفات؛ لأن طبع البشر أن يخفوا أخطاءهم وتقصيرهم ولا يذكروها في مؤلفاتهم، وبهذا يظهر أن القرآن الكريم ليس من صنعه وإنما هو خارج عن ذاته صلى الله عليه وسلم [29].
5. ثم لو كان القرآن من عند محمد - صلى الله عليه وسلم - لما انتظر الوحي عند تعرضه إلى مشكلة تشريعية، فتبقى القضية معلقة حتى يأتي الوحي ليفصل في تلك القضية، ومن الأمثلة على ذلك، حادثة الإفك، وقضية المتخلفين عن الجهاد، والمجادلة خولة الخزرجية، فلقد انتظر الرسول - صلى الله عليه وسلم - الوحي في تلك القضايا الثلاث حتى نزل الله - عز وجل - وحيه، فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القضايا.
وبهذا يتضح أنه لم يكن للنبي - صلى الله عليه وسلم - دخل في القرآن وفي صوغه وسبكه بهذا الأسلوب، وإلا لقضى في تلك القضايا، وغيرها من التي انتظر فيها الوحي حتى قضى بما أنزل الله عليه[30].
6. من ناحية أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - بشر لا يستطيع أن يتحدث عن الربوبية بجلالها، وتوضيحا لهذا المعنى يقول د. محمد سعيد رمضان البوطي: إن من آيات القرآن، آيات ذاتية، أي يتكلم الله - عز وجل - فيها عن ذاته آمرا، أو ناهيا، أو مخبرا، فإذا تأملت هذه الآيات، رأيتها تتسم بجلال الربوبية، وصفات الألوهية، ولم تجد فيها أي معنى من المعاني البشرية، والصفات الإنسانية.
فاقرأ إن شئت قوله تعالى: )إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين (12)( (يس)، وقوله تعالى: )إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري (14) إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى (15)( (طه).
إن آيات مثل تلك الآيات التي ترد في القرآن الكريم لا يمكن أن يكون قائلها من البشر؛ لأنه مهما تبجح أو ترقى هذا البشري، فإنه لا يستطيع أن يقول ما يقول الله - عز وجل - عن ذاته؛ لأنها معلومات تفوق قدرة البشر على المعرفة، ولا يمكن أن يعلمها إلا الله، ولا يقولها إلا هو عز وجل.
وبهذا يتبين أن القرآن منزل من عند الله - عز وجل - وليس من كلام البشر، ولا نتيجة تأثر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحنفاء.
الخلاصة:
· لم يتأثر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحنفاء، ولا غيرهم - كما يزعم الزاعمون - ولو تأثر بهم لذكر ذلك المشركون عندما اعترضوا على نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذبوا ما جاء به، ولكن هذا لم يحدث، وهذا دليل نفي تأثره بتعاليم هؤلاء الحنفاء.
· لقد كان أمية بن أبي الصلت يحقد على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن اصطفاه الله للرسالة، إذ كان يطمع فيها وينتظرها، وقد رفض الدخول في الإسلام وهو يعلم حقيقة هذا الأمر، حسدا وبغضا منه للنبي - صلى الله عليه وسلم - فكيف يقتبس النبي - صلى الله عليه وسلم - دينه من حاقد عليه؟!!
· لقد أنزل الله - سبحانه وتعالى - القرآن على النبي - صلى الله عليه وسلم - وحيا باللفظ والمعنى، وأما السنة فكانت وحيا بالمعنى دون اللفظ، نقلا بالمشاهدة من أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقواله وتقريراته التي رآها أصحابه الكرام - رضي الله عنهم - ونقلوها إلينا نقلا صحيحا دون تغيير أو تحريف.
· إن الاختلاف البين والواضح بين القرآن الكريم والسنة النبوية من جهة وبين التوراة والإنجيل من جهة أخرى: شكلا وموضوعا ونظما وحكما - ليثبت عدم تأثر النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الكتب، والفرق بينهما واضح جلي إذا تصفحنا هذه الكتب وقارنا بينها مقارنة صحيحة منصفة.
· لقد أجمعت المصادر التاريخية على ثبوت أمية النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا بالإضافة إلى إعجاز القرآن الكريم في كافة الوجوه، كل ذلك ينفي بشرية القرآن الكريم، ويثبت كونه إلهي المصدر، وذلك مصداقا لقوله عز وجل: )إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله( (النساء: ١٠٥)، لا بما رأيت؛ فكيف لهذا الأمي أن يأتي بمثل هذا القرآن المعجز، وقد عجز عنه أرباب البلاغة والفصاحة؟!
(*) قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية، خليل عبد الكريم، سينا للنشر، القاهرة، 1993م. اليسار الإسلامي وتطاولاته المفضوحة على الله والرسول والصحابة، د. إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، القاهرة، 1420هـ/ 2000م. الحزب الهاشمي و