ادعاء أن النبي - صلى الله عليه كان يتملص من مطالب المشركين واليهود؛ لأنه لم يؤيد بالمعجزات(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المشككين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتملص من مطالب المشركين واليهود؛ لأنه كان يفتقد تأييد الله له بالمعجزات، فلم يكن كغيره ممن سبقوه من الأنبياء والرسل، ويستدلون على ذلك بما زعموه من أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يستجب لمطالبهم حين طلبوا منه أن يأتيهم بمعجزات حسية؛ ويمثلون لذلك بما كان من أمره - صلى الله عليه وسلم - مع عبد الله بن أمية المخزومي، الذي قال له: لا أومن لك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما، ثم ترقى فيه، وأنا أنظر حتى تأتيها، وتأتي معك بنسخة منشورة. وبما كان من أمر اليهودي الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يامحمد، إن كنت رسول الله كما تقول، فقل لربك يكلمنا؛ حتى نسمع كلامه. فلم يرد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بقوله ما بعثت إليكم بهذا.
وجوه إبطال الشبهة:
1) لقد شاء الله تعالى ألا يعلق الإيمان بنبيه - صلى الله عليه وسلم - على المعجزات المادية الخارقة للعادة؛ لأنها محدودة المحل والأثر، ولأن رسالة الإسلام جاءت لتقضي على ما يعجز العقل وتصحبه إلى غاية رشده ونضوجه.
2) إن عالمية الرسالة الإسلامية ودوامها هو ما جعلها تستقل عن التقيد بمعجزة حسية مؤقتة، لا عالمية لها ولا دوام.
3) على الرغم من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعول على المعجزات الحسية المادية في إثبات نبوته - إلا أنه كان مؤيدا بهذه المعجزات، كغيره من الأنبياء والمرسلين، ولا نبالغ إذا قلنا: إن نبيا من الأنبياء لم يتوفر له من المعجزات ما توفر لمحمد صلى الله عليه وسلم.
4) لم يجر الله - عزوجل - على يد نبيه - صلى الله عليه وسلم - ما طلبه منه هؤلاء المعاندون، وهو - عزوجل - قادر على كل شيء؛ لأنهم لم يسألوا مسترشدين جادين، ولكنهم سألوا متعنتين مستهزئين. ولو أعطى هؤلاء ما سألوا من الآيات الحسية، ثم لم يؤمنوا لأهلكهم الله - عزوجل - كما أهلك عادا وثمود وقوم فرعون، ولكن الله - عزوجل - رفع عن هذه الأمة عذاب الاستئصال بفضل نبيها محمد - صلى الله عله وسلم - الذي بعثه رحمة للعالمين.
التفصيل:
أولا. إن الظرف الزمني الذي بعث فيه النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وراء تراجع المعجزة الحسية عن صدارة دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم:
معلوم أن بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءت في ملابسات زمنية خاصة جعلت موقعها موقعا وسطا بين فكر طفولي آفل، وفاتحة رشد عقلي وشعوري نام في الإدراك البشري العام، وكانت هذه الحقيقة التي فرضتها ملابسات الزمن وراء حدوث الآيات الحسية له - صلى الله عليه وسلم - من غير أن تكون حجته الأولى، ولا عماد من آمن به.
بل كانت عادة الإسلام فيمن طلب خوارق الطبيعة أنه يلفت حسه، و عقله، وشعوره إلى الطبيعة الماثلة بين عينيه هكذا بلا خوارق، وإن فيها - على طريقة القرآن - لآيات لأولى العقول القويمة والقلوب اليقظى.
ولذلك حينما جاءت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعرضوا عليه أن يترك الدعوة الإسلامية ويعطوه الملك والشرف والمال، ورفض النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك؛ قالوا: فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك، فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلادا، ولا أقل مالا، ولا أشد عيشا منا، فسل ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليجر فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا ومنهم قصي بن كلاب، فإنه كان شيخا صدوقا، فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل؟ فإن فعلت ما سألناك وصدقوك صدقناك، وعرفنا منزلتك عند الله، وأنه بعثك رسولا كما تقول، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: "ما بهذا بعثت، إنما جئتكم من عند الله بما بعثني به، فقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله تعالى، حتى يحكم الله بيني وبينكم".
قالوا: فإذا لم تفعل هذا لنا فخذ لنفسك، سل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول، ويراجعنا عنك، وسله فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بهذا عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق، وتلتمس المعاش كما نلتمسه؛ حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم. فقال لهم: ما أنا بفاعل، وما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا، فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم.
قالوا: فليسقط ربك السماء علينا - كما زعمت - فإنا لا نؤمن لك إلا أن تفعل. فقال: "ذلك إلى الله إن شاء فعل بكم". وقال قائلهم: "لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا"، فقام عنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقام معه عبد الله بن أمية بن المغيرة فقال: "يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله، ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله فلم تفعل، فوالله لا أؤمن لك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم ترقى منه، وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي معك بنسخة منشورة، ومعك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول". وانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهله حزينا أسفا.
وقد ذكر الله في القرآن بعض ما طلبه المشركون من النبي - صلى الله عليه وسلم - من معجزات قال الله سبحانه وتعالى: )وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا (90) أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا (91) أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا (92) أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا (93)( (الإسراء)، والله يعلم أن هؤلاء المكذبين لن يؤمنوا ولو جاءتهم المعجزات قال الله سبحانه وتعالى: )ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون (111)( (الأنعام). بل سيقولون: سحرنا محمد[1].
ولا شك أن اليهودي حينما طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكلمه الله ما كان يريد الهداية والرشاد، وإنما يريد العناد والاستكبار، ولا عجب أن يصدر منه مثل ذلك، فقد صدر من أسلافه ما هو أكبر من هذا فقالوا لموسى: )أرنا الله جهرة( (النساء: ١٥٣)، وهذا هو ديدن اليهود كلما جاءهم نبي من الأنبياء.
وكيف يتجرأ مثل هذا على أن يطلب من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يكلمه الله؟ فالأنبياء أنفسهم لم يكلمهم الله جميعا إلا بواسطة، قال سبحانه وتعالى: )وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم (51)( (الشورى)[2].
أكان يريد أن يقول له الله إنه أرسل محمدا رسولا ليبلغهم بمنهج السماء؟ وكأن كل المعجزات التي أيد الله بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - لم تكن كافية لإقناعه[3].
لقد كان أحرى بهذا اليهودي، وغيره أن يؤمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك "لمعرفتهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من جهة؛ ولأنهم مأمورون باتباعه في كتبهم المقدسة، وموروثات نبيهم موسى عليه السلام، ولأنهم كانوا ينتظرون على شوق مجيئه حتى يتبعوه، فينجبر به كسرهم، ويكتسبوا به عزتهم وشرفهم، وينتصروا به على عدوهم - كما يتصورون - من جهات أخرى.
غير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين عرض عليهم أن يؤمنوا به وبنبوته، ثم يتبعوه على ما جاء به من ربه، رفضوا ذلك على غير قناعة، بل رفضوا على أساس الحسد الذي قد ملأ قلوبهم، وزاد عن حشوا إهابهم" [4].
ولعل النبي خطر له أو تمنى لو يقدم لهم آية عسى أن يؤمنوا فقال له الله سبحانه وتعالى: )لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين (3) إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين (4) وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين (5) فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون (6) أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم (7) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (8)( (الشعراء)، وقال أيضا: )إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب (190) ( (آل عمران) [5].
ولقد شاء الله - سبحانه وتعالى - ألا يعلق الإيمان بنبيه على خارقة مادية على الوجه الذي أرادته العرب؛ "فإن الخوارق الحسية قد تدهش القلب البشري في طفولته، قبل أن يتهيأ لإدراك الآيات الكونية القائمة الدائمة والتأثر بإيقاعها الثابت الهادئ، وكل الخوارق التي ظهرت على أيدي الرسل - صلوات الله عليهم - قبل أن تبلغ البشرية الرشد والنضوج يوجد في الكون ما هو أكبر منها وأضخم، وإن كان لا يستثير الحس البدائي كما تستثيره تلك الخوارق" [6]!
ورسالة الإسلام دائمة تصحب العقل البشري إلى غاية رشده ونضوجه؛ فلذلك لم تعول كثيرا على الخوارق المادية المحدودة المحل والأثر.
إن معجزة محمد - صلى الله عليه وسلم - هي القرآن الباقي إلى يوم الدين، والذي يخاطب العقل بالدليل العلمي، ويقول له: إن سنن الله وقوانينه في الكون والحياة هي أعظم من المعجزات والخوارق، وإن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم ينتصر على قومه بالخوارق، لكنه مشى حسب سنن الله في الدعوة، وانتصر بالسنن.
ولقد تحدث الفيلسوف محمد إقبال عن هذه الناحية فقال: "إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - ورسالته يقف بين العالم القديم والعالم الحديث، وكأنه مرحلة انتقالية - من حيث الانتقال التدريجي من فكر: الخرافة، والتقليد، والمعجزات إلى العقل الاستدلالي السنني". والقرآن حين نزل كان فوق مستوى معاصريه في المنهج العلمي السنني الذي نص عليه وطالب به قراءه. وهذا ما يجعلنا نفهم حدوث بعض المعجزات المادية في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - لكنها لم تكن هي الحجة البالغة التي آمن بسببها الناس. والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعلن بكل تواضع عندما يطلبون منه المعجزات أنه مجرد إنسان أرسله الله لتبليغ دعوته )سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا(93)( (الإسراء).
وقد يسأل سائل: إذا كان الأمر هكذا من أن الإسلام جاء ليقضي على ما يعجز العقل، فلماذا حدث لمحمد - صلى الله عليه وسلم - بعض من هذه المعجزات؟
وإننا نقول له: إن حدوث بعض المعجزات الثانوية على طريق الدعوة جاء مسايرة للمرحلة الراهنة مثل انشقاق القمر، وأحيانا تأتي تكريما للنبي - صلى الله عليه وسلم - وإيناسا له مثل الإسراء والمعراج، وأحيانا تلبية لدعاء وتفريجا لهم، مثل نبع الماء من بين أصابعه - صلى الله عليه وسلم - عندما كانوا بحاجة ماسة إلى الماء.
لكن الخط الأساسي في منهج القرآن وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - هو المنهج العلمي ومراعاة سنن الله، وإن من يقوم بالأسباب تأتيه نتائج كالمعجزات، أليست معجزة أن تخرج شجرة سامقة ذات ثمار رائعة من بذرة هينة وضعت في التراب؟!
إن من يجعل حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - كتلة من المعجزات فقط يسيء إلى رسالته ويحرمنا الاقتداء به، فكيف نبني مجتمعا ربانيا كما بنى؛ إن كان قد بناه بالمعجزات؟! )سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا (93)( (الإسراء).
إن الله جعل محمدا - صلى الله عليه وسلم - بشرا يفكر ويحس، ويفرح ويحزن كما يحصل للبشر، وينتصر وينهزم كما يحدث لسائر البشر؛ كي يتعلم منه الناس، ولكي يكون منهجه ميسرا للبشر، فإن سنن الله لا تنصر الأنبياء وحدهم وإنما تنصر كل من تأسى بهم[7].
ثانيا. الرسالة الخالدة لا تتقيد بمعجزة مؤقتة:
لم يكن القصد من المعجزات الحسية التي أجراها الله على يد النبي - صلى الله عليه وسلم - إثبات رسالته؛ ذلك أن رسالته كانت تتجه إلى العالمية، وهي لا تحتاج إلى معجزات حسية تقيدها زمانا ومكانا، وحسبك من رسالة تقوم حجتها على العقل، وأخرى لا تقوم إلا على غرائب وأعاجيب.
لهذا لم يعول - صلى الله عليه وسلم - في إثبات رسالته على المعجزات الحسية؛ لأنه يلزم أن يكررها أمام كل معاند، والمعجزة على العموم، برهان صدق من جاء بها، بصرف النظر عن نوعها: عصا في يد موسى عليه السلام، أو ناقة يتحدى بها صالح - عليه السلام - قومه، أو ميت تعود إليه الحياة، أو صاحب علة مستعصية، يذهب الرسول عنه علته.
ومن يكفر بمعجزة إحياء الموتى على يد المسيح عليه السلام، لن يؤمن لو جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - بالآلاف منها؛ فلا ضرورة إذن للمعجزات، ولا فائدة من تكرارها، وقد جاء الأنبياء السابقون بالآيات الحسية، فما كان أيسر على المكذبين من أن ينعتوها بالسحر، ولم ينقطع تعنتهم بكثرة ما عرض عليهم منها.
وإصرار اليهود - إلى اليوم - على رفض معجزات المسيح لهو البرهان الدامغ على عدم جدوى المعجزات الحسية، فهذا هو ديدن المكذبين، كلما جاءهم رسول بمعجزة سألوه أخرى، وها هي حكمة الله تتجلى في رفع الآيات الحسية، ورفع عذاب الاستئصال المترتب عليها.
لقد سأل أهل مكة رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن ينحي الجبال عنهم فيزدرعوا، فقيل له: إن شئت أن تستأني[8] بهم، وإن شئت أن تؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا أهلكوا كما أهلكت من قبلهم، قال: لا، بل أستأني بهم، فأنزل الله - عزوجل - هذه الآية: )وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا (59)( (الإسراء)[9].
فهل هناك ما هو أعجب من ناقة ثمود؟ ومع ذلك فقد عقروها، وأصروا على عنادهم، واستكبروا استكبارا، وإذ يقدم القرآن الكريم موقف الضالين من قوم ثمود، فإنه يكشف بما مضى عما هو صائر، فليست الخوارق مما يغني النبي في دعوة المكابر المفتون، إنه ليزعمها ضربا من السحر، أو السكر ولو فتح له الأنبياء بابا من السماء، قال سبحانه وتعالى: )ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون (14) لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون (15)( (الحجر).
ومع ذلك جاءت الخوارق طائعة لمحمد - صلى الله عليه وسلم - فصدقها الناس، وأبى هو - صلى الله عليه وسلم - لهم أن يصدقوها أو يفهموها على غير حقيقتها، فقد مات ابنه إبراهيم وكسفت الشمس ساعة دفنه، وتصايح المسلمون حول القبر: إنها لآية من آيات الله أن تنكسف الشمس لموت ابن محمد صلى الله عليه وسلم؛ فلو كان - صلوات الله عليه - ممن يتصيدون الخوارق، أو ينكرونها - لأنهم لا يستطيعون أن يدعوها - لما كلفته هذه الخارقة إلا أن يسكت عنها فلا يدعيها ولا ينكرها، ولكنه لم ينس في ساعة حزنه أمانة الهداية للمؤمنين بدينه، وبادرهم لساعتها مذكرا لهم بآيات الله تعالى.
فقد روي عن المغيرة بن شعبة أنه قال: «كسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم مات إبراهيم، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد، ولا لحياته، فإذا رأيتم فصلوا وادعوا الله» [10].
ولو أنه كانت تؤثر فيه مطالبة قومه الخاصة بإثبات نبوته لسكت عنها، وإذا لحسبوها له معجزة لم يتحقق مثلها لإله النصارى ساعة صلبه كما يزعمون.
ولو كان - صلى الله عليه وسلم - من الذين لا يقرون بالمعجزات ما قدم معجزة غير تلك التي أنكرها، ولكنه اكتفى بالقرآن الكريم دليلا على أنه مرسل من قبل الله تعالى، ليس صانعا للمعجزات، فهو لا يملك تحديد نوع ما يجريه الله على يديه من خوارق، ولا التحكم فيه إذا جرى، لا يقدر أن يوقف معجزة تحركت أو يحرك أحداث معجزة توقفت، فالفعل المعجز دائما بيد القدرة الإلهية توجهه كيفما تشاء، حجة على المكابرين والمستنكفين، فأمام هؤلاء تمضي - وإلى أبد الدهر - بارجة الإعجاز القرآني، لا يملك أحد أن يوقفها أو يبطل حركتها، ونحن الآن كما كان المعاصرون لنزول القرآن الكريم، تتجلى أمام أعيننا ألوان من الإعجاز في تطابق الآيات القرآنية مع الحقائق العلمية.
فرسالة الإسلام ممتدة زمانا ومكانا؛ ولهذا وجب أن تكون الآية المؤيدة لها كذلك، فكانت دون سائر المعجزات كلاما يتلى أبد الدهر، ولم تكن الحكمة أن يأتي بمعجزات حسية تنتهي بعصره، وتكون قابلة للتشكيك بعد عصره، فكانت معجزة تحمي ما سبقها من معجزات وقتية، ومن ينكر إعجاز القرآن فلينكر ما تضمنه من معجزات لموسى وعيسى، والتي لا يمكن إثباتها من طريق آخر[11].
على أن الإعراض عن المجيء بخارقة مادية يشبه أن يكون سنة لله مع بعض أنبيائه؛ بيانا منه - تعالى - لكون الآيات من عنده يحدثها حين يشاء، ومن عجب أن من يسوق هذا الزعم قد يقر بما في الكتب المقدسة لغير المسلمين، وفيها هذا الإعراض ذاته، ومن ذلك ما جاء في الإنجيل عن المسيح: "وخرج الفريسيون وابتدأوا يحاورونه طالبين منه آية من السماء، لكي يجربوه. فتنهد بروحه وقال: لماذا يطلب هذا الجيل آية؟ الحق أقول لكم: لن يعطى هذا الجيل آية"! (مرقس8: 11، 12).
ثالثا. ثبوت المعجزات المادية الحسية للنبي صلى الله عليه وسلم:
لقد أيد الله نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - بمعجزات كثيرة، ومعجزته الكبرى القرآن الكريم الذي جاء مناسبا لقومه وعصره، ومناسبا للبشر كافة إلى يوم القيامة، بينما كانت معجزات الأنبياء السابقين، مناسبة لمطالب أقوامهم وزمانهم فحسب.
والأنبياء يختلفون كثرة وقلة في ظهور هذه المعجزات، وخوارق العادات بحسب أحوالهم، وطبيعة أزمانهم، وأحوال أممهم وشعوبهم، فبعضهم لا نعلم له إلا معجزة واحدة كصالح وهود، وبعضهم كان له أكثر من معجزة كعيسى وموسى، ولكن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان أكثر الأنبياء معجزات وأظهرهم آيات، وأوضحهم خوارق للعادات، اشتملت معجزاته على المعقول والمحسوس، والعلوي والسفلي، والناطق والصامت، والمتحرك والساكن، فمنها معجزات ذهبت بذهاب زمانها، ومنها معجزات ظلت على وجه الدهر ساطعة بنورها وبرهانها؛ ذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء، ورسالته هي خاتمة الرسالات، وهي الباقية على وجه الأرض، حتى تبدل الأرض غير الأرض والسماوات[12].
وقد كانت معجزة كل نبي مناسبة للعصر الذي كان يعيش فيه ذلك النبي، ومن جنس ما اشتهر به القوم الذين بعث فيهم وما برعوا فيه حتى يكون خرقها للعادة الجارية أوضح لإقامة الحجة عليهم.
ونحن إذا أردنا حصر معجزات محمد - صلى الله عليه وسلم - وجدنا ذلك عملا في غاية الصعوبة؛ نظرا لأن معجزاته - صلى الله عليه وسلم - تكاد لا تعد ولا تحصى لكثرتها وتنوعها. والحق إن الحديث عن المعجزات الحسية لمحمد - صلى الله عليه وسلم - طويل فإذا أردنا اختصاره لم نوف بحقيقة معجزاته صلى الله عليه وسلم، وإذا أسهبنا فيه احتجنا إلى كتاب مستقل يتحدث عن معجزاته - صلى الله عليه وسلم - الحسية[13]؛ لذلك سنحاول الاختصار في عرض بعض النماذج من هذه الآيات النبوية التي اتخذت مظهرا حسيا، وقد ثبت الله بها قلوب أصحاب نبيه، وزادهم بها إيمانا ويقينا، دون أن يرجع إليها أصل الإيمان أو يعلق عليها، منها:
1. انشقاق القمر:
فقد طلب أهل مكة من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يريهم معجزة، فكان أن انشق القمر الذي في السماء، وكان في مرحلة البدر، فقد جاء عن ابن مسعود وابن عباس وأنسرضي الله عنهم: «انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرقتين، فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشهدوا» [14]. وفي رواية: «أن أهل مكة سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يريهم آية، فأراهم القمر حتى رأوا حراء بينهما»[15].
2. نبع الماء من بين أصابعه الشريفة:
وقد تكرر هذا الموقف أكثر من مرة، ومن روايات البخاري في هذا المجال رواية جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: «عطش الناس يوم الحديبية، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين يديه ركوة[16]، فتوضأ منها ثم أقبل الناس نحوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لكم؟ قالوا: يا رسول الله، ليس عندنا ماء نتوضأ به ولا نشرب إلا ما في ركوتك، قال: فوضع النبي - صلى الله عليه وسلم - يده في الركوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون، قال: فشربنا وتوضأنا، فقلت لجابر: كم كنتم يومئذ؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة»[17].
3. حنين الجذع:
عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال:«كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب إلى جذع، فلما اتخذ المنبر تحول إليه، فحن الجذع، فأتاه فمسح يده عليه» [18]. وفي رواية: «فصاحت النخلة صياح الصبي" [19]. وفي رواية: "فسمعنا لذلك الجذع صوتا كصوت العشار[20]» [21]. ويقال: كان الحسن إذا حدث بهذا الحديث يقول: يا معشر المسلمين الخشبة تحن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شوقا إلى لقائه فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه.
4. الدعاء المستجاب:
كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - مستجاب الدعوة، وتحققت هذه الدعوات كلها، ومن ذلك ما جاء عن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: «أصاب أهل المدينة قحط على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينما هو يخطب يوم الجمعة، إذ قام رجل فقال: يا رسول الله، هلكت الكراع[22]، هلكت الشاء، فادع الله يسقينا، فمد يده ودعا، قال أنس: وإن السماء كمثل الزجاجة[23]، فهاجرت ريح أنشأت سحابا، ثم اجتمع ثم أرسلت السماء عزاليها[24]، فخرجنا نخوض الماء حتى أتينا منازلنا، فلم نزل نمطر إلى الجمعة الأخرى، فقام إليه ذلك الرجل أو غيره فقال: يا رسول الله، تهدمت البيوت، فادع الله يحبسه، فتبسم ثم قال: "حوالينا ولا علينا"، فنظرت إلى السحاب يتصدع[25] حول المدينة، كأنه إكليل»[26] [27].
5. تكليم الشاة المسمومة له:
وقد ذكرعن الشاة المسمومة: "أهدتها إليه زينب بنت الحارث اليهودية امرأة سلام بن مشكم، وكانت سألت: أي عضو من الشاة أحب إليه؟ فقيل: الذراع، فأكثرت فيها من السم. فلما تناول الذراع لاك منها مضغة، ولم يسغها، وأكل منها معه بشر بن البراء فأساغ لقمة ومات منها".
وفي مغازي عروة: فتناول الذراع فانتهش منها، وتناول بشر عظما آخر، فانتهش منه، فلما أرغم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرغم بشر ما في فيه، فقال رسول الله: "ارفعوا أيديكم، فإن كتف الشاة تخبرني أني قد بغيت فيها".
وقد روي عن أنس بن مالك أن هذه المرأة جيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألها عن ذلك، «فقالت: أردت لأقتلك. قال: قالوا: ألا نقتلها، قال صلى الله عليه وسلم: "لا". قال: فما زلت أعرفها في لهوات[28] رسول الله صلى الله عليه وسلم» [29].
وهكذا فقد أخبر عظم شاة مذبوحة، ومسلوخة، ومقطعة، رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا يأكل من لحمها المسموم، وهو الأمر الذي لم يحدث لنبي قبله.
ما سبق عرضه من معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - المادية والخارقة للعادة هو غيض من فيض، وقليل من كثير، ولكنه كاف للتأكيد على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مؤيدا بالمعجزات كغيره من الأنبياء والرسل، بل كان - صلى الله عليه وسلم - كما سبق أن قلنا أكثر الأنبياء معجزات، وأوضحهم آيات، وقد شملت معجزاته الحسية أهم معجزات الأنبياء الحسية، وكانت أعظم منها، كما يلاحظ فيما يلي:
1. من أهم معجزات إبراهيم عليه السلام: أنه كان يكلم الله، كذلك كان موسى - عليه السلام - الذي كلمه الله من خلال العليقة - الشجرة -، أو من خلال الغمامة، وقد كلم الله إبراهيم وموسى - عليهما السلام - وهما على الأرض، كذلك فإن محمدا - صلى الله عليه وسلم - قد كلمه الله وحيا على الأرض، ثم استدعي إلى الحضرة الإلهية لتلقي أوامر الله تعالى في رحلة المعراج.
2. من معجزات موسى عليه السلام: أنه كان كليم الله، أما محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد كلم الله على الأرض وفي السماء، وتفجر لموسى - عليه السلام - الماء من الصخر، بينما نبع الماء من بين أصابع محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أظلت الغمامة موسى وقومه عندما عبروا الصحراء، بينما محمد - صلى الله عليه وسلم - أظلته الغمامة وحده دون القافلة، أثناء رحلته إلى الشام وهو غلام.
3. من معجزات سليمان عليه السلام: أنه كان يفهم كلام الحيوان، وكلام الجان، أما محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد كلم الشجر، وكلمه الحجر، وكلم الجان فآمنت به، وفهم كلام الحيوان؛ إذ فهم كلام البعير الذي اشتكى صاحبه.
4. من معجزات عيسى - عليه السلام - (حسب الأناجيل): أطعم المسيح عيسى - عليه السلام - 4000: 5000 شخص من قليل من الطعام، ولعدة مرات، كذلك أطعم محمد - صلى الله عليه وسلم - الكثير من طعام قليل، ولعدة مرات في حوادث كثيرة، حيث أطعم جيش تبوك البالغ عدده عشرة آلاف رجل من قليل، فأكلوا، وفاض منه مئونة للطريق، كما أطعم من قليل من التمر ثلاثة آلاف مقاتل، وكما شفيت المرأة النازفة عندما لمست ثوب المسيح - عليه السلام - اتخذ أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من جبته التي كان يلبسها علاجا لشفاء مرضاهم من جميع الأمراض، وكما هدأ المسيح - عليه السلام - بكلمة أمر عوامل الطبيعة الهائجة من عاصفة وهياج بحر، هدأ محمد - صلى الله عليه وسلم - الزلزال عندما ضرب جبل أحد الذي كان يقف عليه هو وبعض أصحابه[30].
وهكذا يتبين لنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - على الرغم من أنه لم يعول على المعجزات الحسية في إثبات نبوته - إلا أنه كان مؤيدا بهذه المعجزات كغيره من الأنبياء والمرسلين، بل لا نبالغ إذا قلنا إن نبيا من الأنبياء لم يتوفر له من المعجزات مثلما توفر لمحمد صلى الله عليه وسلم.
رابعا. الحكمة في عدم إجابة مطالب هؤلاء المعاندين:
قال سبحانه وتعالى: )وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا (59)( (الإسراء).
يقول الشيخ الشعراوي: "والمقصود بالآيات التي منعها الله عنهم ما طلبوه من معجزات أخرى جاءت في قوله سبحانه وتعالى: )وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا (90) أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا (91) أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا (92) أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه( (الإسراء:90 - 93).
والمتأمل في كل هذه الاقتراحات من كفار مكة يجدها بعيدة كل البعد عن مجال المعجزة التي يراد بها في المقام الأول تثبيت الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبيان صدق رسالته وتبليغه عن الله، وهذه لا تكون إلا في أمر نبغ فيه قومه ولهم به إلمام، وهم أمة كلام وفصاحة وبلاغة، وهل لهم إلمام بتفجير الينابيع من الأرض، وهل إسقاط السماء عليهم كسفا يقوم دليلا على صدق الرسول؟ أم أنه الجدل العقيم والاستكبار عن قبول الحق.
جلس كفار مكة إذن يقترحون الآيات ويطلبون المعجزات، والحق - سبحانه وتعالى - ينزل من المعجزات ما يشاء، وليس لأحد أن يقترح على الله أو يجبره على شيء قال سبحانه وتعالى: )قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به( (يونس: ١٦).
فالحق - سبحانه وتعالى - قادر أن ينزل عليهم ما اقترحوه من الآيات فهو - سبحانه وتعالى - لا يعجزه شيء، ولا يتعاظمه شيء، ولكن للبشر قبل ذلك سابقة مع المعجزات.
والحق - سبحانه وتعالى - يقول: )وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها( (الإسراء: ٥٩) لقد طلب قوم ثمود معجزة بعينها فأجابهم الله وأنزلها لهم، فما كان منهم إلا أن استكبروا عن الإيمان، وكفروا بالآية التي طلبوها، بل وأكثر من ذلك ظلموا بها، أي: جاروا على الناقة، وتجرأوا عليها فعقروها.
وهذه السابقة على ثمود هي التي منعتنا عن إجابة أهل مكة فيما اقترحوه من الآيات، وليس عجزا منا عن الإتيان بها" [31].
ويوضح لنا د. محمد أبو شهبة تلك الحكمة من عدم إجابة مطالب المشركين، يقول: والله - سبحانه وتعالى - لم يجبهم إلى ما سألوا - وهو القادر على كل شيء - لأنهم لم يسألوا مسترشدين وجادين، وإنما سألوا متعنتين ومستهزئين وقد علم الحق - سبحانه وتعالى - أنهم لو عاينوا، وشاهدوا ما طلبوا لما آمنوا، وللجوا في طغيانهم يعمهون، ولظلوا في غيهم وضلالهم يترددون؛ ولهذا اقتضت الحكمة الإلهية والرحمة الربانية، ألا يجابوا إلى ما سألوا؛ لأن سنته - سبحانه وتعالى - أنه إذا طلب قوم آيات فأجيبوا، ثم لم يؤمنوا عذبهم عذاب الاستئصال، كما فعل بعاد وثمود وقوم فرعون.
فلو أعطيت قريش ما سألوا من الآيات الحسية التي اقترحوها، ثم لم يؤمنوا لأهلكوا، ولكن الله - سبحانه وتعالى - رفع عن هذه الأمة عذاب الاستئصال بفضل نبيها محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد بعثه الله رحمة، ولم يبعثه نقمة.
وليس أدل على هذه الرحمة المحمدية مما جاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا ونؤمن بك، قال: "وتفعلون"؟ قالوا: نعم، قال: فدعا فأتاه جبريل فقال: "إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبا، فمن كفر بعد ذلك أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين، وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة"، قال: "بل التوبة والرحمة» [32].
بيد أن كفار قريش لم يدركوا هذه الرحمة الواسعة، ولم يستغلوها أحسن الاستغلال، وإنما أرادوا تعجيزا أكثر للنبي صلى الله عليه وسلم، وليس أدل على أن القوم كانوا متعنتين ساخرين، ومعوقين لا جادين من أن عندهم القرآن وهو آية الآيات وبينة البينات، ولذلك لما سألوا ما اقترحوه من هذه الآيات وغيرها رد عليهم - سبحانه وتعالى - بقوله: )وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين (50) أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون (51) قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السماوات والأرض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون (52)( (العنكبوت)[33]. وبهذا فلا حجة لمن يزعم أن النبي - ـ صلى الله عليه وسلم - كان يتملص من مطالب قومه، أو أنه لم يؤيد بالمعجزات.
الخلاصة:
· جاءت الرسالة الإسلامية والفكر البشري عامة بسبيل أن يبلغ رشده الأخير، وأن يتحول عن طوره القديم إلى طراز ذهني وشعوري لا تعود تلائمه الخوارق التي كانت تدهش الإنسان القديم وتلفت حسه. فضلا عن أن الدعوة الخالدة جدير بها أن تثبت أحقيتها في كل جيل، ولا يكون ذلك إلا بهدى دائم لا ينقطع ضوؤه وعطاؤه؛ فلذلك رجعت الآية المادية عن صدارة أعلام النبوة - مع وجودها - ليكون في هذه الصدارة القرآن الكريم، معجزة محمد - صلى الله عليه وسلم - العظيمة الخالدة.
· إن المعجزة المادية محدودة بقيود كثيرة في الزمان، والمحل، وفيمن رآها، وقد أظهرها الله - تعالى - على أيدي أنبياء بعثهم في أقوام بعينها، ولفترة من الزمان بعينها، فكأن المحدودية والتوقيت صفتان للآيات والرسالات معا، فلما شاء - سبحانه وتعالى - أن يختم رسله ورسالاته بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - بآية تصلح لهذا الختام، وتصلح كذلك لجميع ما ستشهده البشرية في أطوار النمو والرقي؛ فعالمية الدعوة إذن وهيمنتها على ما تقدمها وراء التخلي النسبي عن الإعجاز الحسي بوصفه داعية من دواعي التصديق.
· لا يفيد ما تقدم أن حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - مضت خلوا من مظاهر التأييد السماوي، فلقد رأى صحابته من أعلام نبوته ودلائلها ما صار من بعد مادة مصنفات برأسها، وقد ثبتت له - صلى الله عليه وسلم - بطرق هي أثبت مما يرسل إرسالا عن غيره من الأنبياء، فهذه الشاة تحدثه بعد شوائها، والجذع يحن إليه، والماء ينبع بين يديه، والقمر ينشق وتراه فلقتين عيون المسافرين خارج مكة، لكن هذه كلها مظاهر تأييد لم تأت استجابة لطلب معاند يعلق عليها أن يؤمن أولا يؤمن.
· لقد أيد الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالمعجزات كما أيد غيره من الرسل، بل أوتي محمد - صلى الله عليه وسلم - من المعجزات ما لم يؤت نبي قبله، فما أعطى الله نبيا من الأنبياء معجزة، إلا وأعطى محمدا - صلى الله عليه وسلم - مثلها أو أعظم منها، فكما كلم الله موسى على الأرض: كلم محمدا - صلى الله عليه وسلم - في السماء في رحلة المعراج، وكما هدأ عيسى عوامل الطبيعة الهائجة، هدأ محمد - صلى الله عليه وسلم - الزلزال الذي ضرب جبل أحد. وعليه فلا مجال للقول بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يؤيد بالمعجزات كما أيد غيره من الأنبياء والرسل.
· على الرغم من أن الله - عزوجل - قادر على أن يجري على يد نبيه - صلى الله عليه وسلم - ما طلبه هؤلاء المعاندون - إلا أنه - عزوجل - لم يشأ أن يجيبهم إلى ما سألوا؛ وذلك أنهم لم يسألوا جادين مسترشدين، ولكنهم سألوا متعنتين مستهزئين. ولو أعطي هؤلاء ما سألوه من الآيات الحسية ثم لم يؤمنوا لأهلكهم الله عزوجل، كما أهلك قبلهم عادا وثمود وقوم فرعون، ولكنه - عزوجل - رفع عن هذه الأمة عذاب الاستئصال بفضل نبيها محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي بعثه رحمة للعالمين.
(*) هل القرآن معصوم؟ موقع إسلاميات.