إنكار عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - من كيد الشيطان له(*)
مضمون الشبهة:
ينكر بعض المشككين عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - من كيد الشيطان له، ويستدلون على ذلك بتأثر قلبه - صلى الله عليه وسلم - بوسوسة الشيطان؛ إذ يقر - صلى الله عليه وسلم - بذلك فيقول: «إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله كل يوم مائة مرة»، وبأنه - صلى الله عليه وسلم - نام عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس، وبأنه - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، من غير عذر.
وجوه إبطال الشبهة:
1) إذا كان الله - عزوجل - قد حفظ المخلصين من عباده من كيد إبليس وجنوده، فما بالنا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو إمام الصالحين، وسيد المرسلين، ومعلم البشرية الإخلاص والتقوى؟!
2) عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - من كيد الشيطان ثابتة بالشواهد والأدلة، فكما حفظه الله من كل قوى الشر الظاهرة، حفظه من كل قوى الشر الخفية من الجن والشياطين وعصمه من كل كيد.
3) ليس المقصود بالغين في الحديث: الوسوسة والريب - كما يتوهمون - بل هو الغفلة عن مداومة الذكر ومطالعة الحق، وذلك من قبيل السكينة التي تغشى قلبه صلى الله عليه وسلم.
4) كان نومه - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الصبح، إعلانا من الله - عزوجل - لإنسانيته، وليكون للمسلمين أسوة حسنة في تدارك ما فات.
5) كان جمعه - صلى الله عليه وسلم - بين صلاتين من غير عذر، تخفيفا عن أمته وبعدا بها عن الوقوع في الحرج.
التفصيل:
أولا. إذا كان الله - عزوجل - قد عصم عباده المخلصين من كيد إبليس، فكيف بإمام الصالحين وسيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم؟!
لقد أجمع العلماء على أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، شأنه شأن سائر الأنبياء جميعا معصوم من الشيطان - أي: من ضرره الظاهري والباطني - سواء فيما يتعلق بظاهر جسده من أنواع الأذى كالجنون، والإغماء، أو فيما له صلة بخاطره بالوساوس في الصدور، أو فيما له صلة بعبادته وأداء رسالته، ومن المعروف أنه متى اتصل القلب بالله، واتجه إليه بالعبادة، وارتبط بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، فأشرقت وأنارت؛ فلا سلطان حينئذ للشيطان على ذلك القلب الموصول بالله، وهذا الروح المشرق بنور الإيمان: )وكفى بربك وكيلا (65)( (الإسراء) يعصم وينصر، ويبطل كيد الشيطان، وإن انطلق الشيطان ينفذ وعيده، ولكنه لا يجرؤ على عباد الرحمن، فما له عليهم من سلطان[1].
فلقد حفظ الله - عزوجل - عباده المخلصين من كيد إبليس وجنوده، فلا سبيل له عليهم، كما قال عزوجل: )إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا (65)( (الإسراء)، وقد اعترف إبليس بعجزه عن الكيد لهم، فحكى عنه رب العزة قوله: )قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين (82) إلا عبادك منهم المخلصين (83)( (ص)، ولا شك أن أنبياء الله - عزوجل - ورسله وعلى رأسهم خاتمهم محمد - صلى الله عليه وسلم - على قمة عباد الله المخلصين، الذين عصمهم رب العزة من كيد إبليس وجنوده.
والمراد بعصمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الشيطان، يوضحه القاضي عياض في قوله: "اعلم أن الأمة مجمعة على عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشيطان وكفايته منه، لا في جسمه بأنواع الأذى - كالجنون والإغماء - ولا على خاطره بالوساوس".
هذا وقد دل على المفهوم السابق الكثير من آيات القرآن الكريم؛ فقد ورد في القرآن الكريم تعرض الشيطان لبعض الأنبياء في أجسامهم ببعض الأذى، وعلى خاطرهم بالوسوسة، مع عصمة الله - عزوجل - لهم بعدم تمكن الشيطان من إغوائهم، أو إلحاق ضرر بهم يضر بالدين، فقد قال عزوجل: )واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب (41)( (ص)، وقال عزوجل: )فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه( (البقرة: 36)، وقال عزوجل: )قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين (15)( (القصص)، وقال عزوجل: )وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم (200)( (الأعراف)، وليس في هذه الآيات الكريمات ونحوها ما يتعارض مع قوله عزوجل: )إن عبادي ليس لك عليهم سلطان( (الحجر: 42)[2].
فإن كان أنبياء الله جميعا معصومين من كيد إبليس وجنوده فما بالنا بسيدهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم.
ثانيا. عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - من كيد الشيطان ثابتة بالأدلة والشواهد:
إن عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - من كيد الشيطان ثابتة بالأدلة والشواهد القطعية، ومن هذه الأدلة وتلك الشواهد ما ورد إما على لسانه صلى الله عليه وسلم، أو على لسان أصحابه، أو التي يحكيها القرآن الكريم، ومن ذلك:
· ما روى أبو هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إن عفريتا من الجن تفلت[3] علي البارحة، ليقطع علي صلاتي، فأمكنني الله منه، فأخذته وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد، حتى تنظروا إليه كلكم، حتى ذكرت دعوة أخي سليمان: )رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي( (ص: ٣٥) قال: فرددته خاسئا[4] » [5].
· وعن أبي الدرداء أنه قال: «قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي، فسمعناه يقول: "أعوذ بالله منك، ثلاث مرات، ثم قال: ألعنك بلعنة الله ثلاثا، وبسط يده كأنه يتناول شيئا، فلما فرغ من الصلاة، قلنا: يا رسول الله قد سمعناك تقول في الصلاة شيئا، لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك، فقال: إن عدو الله إبليس جاء بشهاب[6] من نار ليجعله في وجهي، فقلت: أعوذ بالله منك ثلاث مرات، ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامة، فلم يستأخر ثلاث مرات، ثم أردت أخذه، والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقا يلعب به ولدان أهل المدينة» [7].
· وعن جابر بن سمرة، قال: «صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل يهوي قدامه، فلما صلى سألوه، فقال: "ذاك الشيطان كان يلقي علي شرر النار ليثنيني عن الصلاة، فتناولته، ولو أخذته ما انفلت مني حتى يناط[8] إلى سارية من سواري المسجد، ينظر إليه ولدان أهل المدينة» [9] [10].
· ومن ذلك أيضا ما ذكر من أحاديث أن الصحابة حينما أخبرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أن كل إنسان له قرين[11] من الشياطين - سألوه صلى الله عليه وسلم: وأنت يا رسول الله؟ فقال: نعم، ولكن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير» [12].
وهكذا، فإن هذا الحديث الأخير يبين وجها من نعم الله على رسوله، فشيطانه أسلم، ولا يأمره إلا بخير، وهو - صلى الله عليه وسلم - أقوى من الشياطين حسا ومعنى، فلا يستطيعون الوسوسة له، ولا إلحاق الضرر به، إنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحفظه الله من كل قوى الشر الخفية من الجن والشياطين، ويحفظه الله - سبحانه وتعالى - من كل قوى الشر الظاهرة، وهذه أمور اختصه الله - سبحانه وتعالى - بها[13].
ثالثا. الغين هو: الغفلة عن مداومة الذكر ومطالعة الحق، لا الوسوسة والريب:
لقد سبق أن تحدثنا عن عصمة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وسائر الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - من الشيطان، أي: من ضرره الظاهر والباطن، سواء ما يتعلق بظاهر جسده من أنواع الأذى كالجنون والإغماء، أو ما له صلة بخاطره كالوساوس في الصدور.
أما قوله صلى الله عليه وسلم: «إنه ليغان على قلبي، فأستغفر الله كل يوم مائة مرة» [14]. فليس معناه أبدا تعرض قلبه - صلى الله عليه وسلم - لوساوس الشيطان، أو وقوع ريب في قلبه صلى الله عليه وسلم؛ لأن الغين ليس وسوسة أو ريبا وقع في قلبه صلى الله عليه وسلم؛ بل أصل الغين في هذا ما يتغشى القلب ويغطيه، وقيل: الغين، شيء يغشى القلب، ولا يغطيه كل التغطية كالغيم الرقيق الذي يعرض في الهواء فلا يمنع ضوء الشمس.
والمراد بهذا الغين إشارة إلى فترات نفسه وسهوها عن مداومة الذكر ومشاهدة الحق بما كان - صلى الله عليه وسلم - يدفع إليه من مقاساة البشر وسياسة الأمة، ومعاناة الأهل، ومقاومة الولي والعدو، ومصلحة النفس، وما كلف به من أعباء أداء الرسالة، وحمل الأمانة، وهو في كل هذا في طاعة ربه، وعبادة خالقه، ولكن لما كان - صلى الله عليه وسلم - أرفع الخلق عند الله مكانة وأعلاهم درجة وأتمهم به معرفة، وكانت حاله - عند خلوص قلبه، وخلو همه وتفرده بربه، وإقباله بكليته ومقامه - هناك أرفع حاليه، رأى - صلى الله عليه وسلم - حال فترته عنها وشغله بسواها غضا من علو حاله، وخفضا من رفيع مقامه، فاستغفر الله من ذلك.
ولقد ذكر العلماء عدة أقوال في المراد بالحديث، منها:
· أن المراد الفترات والغفلات عن الذكر الذي كان شأنه - صلى الله عليه وسلم - الدوام عليه، فإذا غفل عنه عد ذلك ذنبا، واستغفر منه.
· أن الغين السكينة التي تغشى قلبه، لقوله تعالى: )ثم أنزل الله سكينته على رسوله( (التوبة: ٢٦) ويكون استغفاره إظهارا للعبودية والافتقار.
· أن الغين حالة خشية وإعظام، والاستغفار شكرها، ومن ثم قيل: خوف الأنبياء والملائكة خوف إجلال وإعظام، وإن كانوا آمنين من عذاب الله تعالى[15]، والاستغفار في حق الأنبياء، لا يكون من ذنب، وإنما شكر لرب العزة، فقد خاطبه رب العزة بقوله: )ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر( (الفتح: 2)، ومع ذلك كان يقوم لربه متهجدا حتى تتورم قدماه، ويسأل عن ذلك فيقول: «أفلا أكون عبدا شكورا» [16]؟
رابعا. كان نومه - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الصبح لحكمة تشريعية، تخفيفا عن أمته في إدراك ما فاتهم:
كانت الحكمة الإلهية من نومه - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الصبح هي مقتضى كونه أسوة وقدوة لمن بعده في تدارك ما فات، هذا على الرغم من أن الأنبياء جميعا، وعلى رأسهم النبي - صلى الله عليه وسلم - تنام أعينهم، ولا تنام قلوبهم.
والأعذار تكون على الناس أجمعين، والنبي - صلى الله عليه وسلم - من أصل البشرية، فيجري عليه ما يجري على الإنسان، ويرهقه ما يرهق الإنسان.
تروي كتب السيرة أنه - صلى الله عليه وسلم - كان في خيبر، وقد نام حتى أشرقت الشمس، وكان على رأسه حارس ينبهه إذا نام، ويوقظه إذا استغرق الناس، فضرب الله - سبحانه وتعالى - على آذانه أيضا فنام ولم يستيقظ حتى أشرقت الشمس؛ فاستغرق - صلى الله عليه وسلم - في النوم بعينه، وإن كان قلبه يقظا لم ينم، وذلك ليعلن الله - سبحانه وتعالى - إنسانيته، وليكون عمله أسوة للناس في تدارك ما فاته؛ لأن المؤمنين يتخذونه أسوة حسنة، ولأنه صلى الله عليه وسلم، قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» [17]. فهو يبين لهم الصلاة في حال الأداء، وحال القضاء معا.
فعن أبي هريرة «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قفل من غزوة خيبر سار ليله حتى إذا أدركه الكرى[18] عرس[19] وقال لبلال: "اكلأ[20] لنا الليل"، فصلى بلال ما قدر له ونام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فلما تقارب الفجر استند بلال إلى راحلته مواجه الفجر، فغلبت بلالا عيناه وهو مستند إلى راحلته، فلم يستيقظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا بلال ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولهم استيقاظا، ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أي بلال"، فقال بلال: أخذ بنفسي الذى أخذ - بأبي أنت وأمي يا رسول الله - بنفسك، قال: "اقتادوا". فاقتادوا رواحلهم شيئا ثم توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر بلالا فأقام الصلاة، فصلى بهم الصبح، فلما قضى الصلاة قال: من نسى الصلاة فليصلها إذا ذكرها، فإن الله قال )وأقم الصلاة لذكري (14)( (طه)» [21].
وهذا الحكم يستفاد منه وجوب قضاء الصلاة إذا فاتت المرء بنوم أو نسيان، مما لا قبل له بدفعه، كما قال صلى الله عليه وسلم:«من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها» [22] [23].
نخلص من هذا إلى أن نومه - صلى الله عليه وسلم - الذي هو نوم العين لا نوم القلب، لم يكن ناتجا عن كيد الشيطان له - كما يزعمون - ولكن الله - سبحانه وتعالى - قد ضرب على آذانه بالنوم لإقرار حكم شرعي، وقاعدة شرعية، وهي قضاء الصلاة الفائتة بنوم أو نسيان بما لا سبيل إلى دفعه.
خامسا. لقد جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين صلاتين؛ ليرفع الحرج عن الأمةويخفف عنها:
معلوم أن الأصل في إقامة الصلاة أن تكون على وقتها، لقول الله عزوجل: )إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا (103)( (النساء)، فلكل صلاة وقتها الذي لا تصح ولا تقبل إلا بدخوله، وتقديم الصلاة أو تأخيرها عن وقتها المشروع دون عذر ظلم للنفس، وتعد لحدود الله عزوجل [24].
وقد حدد العلماء المواضع التي يجوز فيها الجمع في الصلاة، وهي:
1. الجمع بعرفة والمزدلفة: اتفق العلماء على أن الجمع بين الظهر والعصر جمع تقديم، في وقت الظهر بعرفة، وبين المغرب والعشاء جمع تأخير، في وقت العشاء بمزدلفة سنة؛ لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2. الجمع في السفر: الجمع بين الصلاتين في السفر في وقت إحداهما جائز في قول أكثر أهل العلم، فعن معاذ «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس، أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر فيصليها جميعا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم سار، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب»[25].
خلاصة آراء المذاهب في ذلك: أن الشافعية تجوز للمقيم الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء جمع تقديم فقط، بشرط وجود المطر، عند الإحرام بالأولى والفراغ منها، وافتتاح الثانية.
وعند مالك: أنه يجوز جمع التقديم في المسجد بين المغرب والعشاء، لمطر واقع أو متوقع، وللطين مع الظلمة، إذا كان الطين كثيرا يمنع أواسط الناس من لبس النعل، وكره الجمع بين الظهر والعصر للمطر.
وعند الحنابلة: يجوز الجمع بين المغرب والعشاء فقط تقديما وتأخيرا؛ بسبب الثلج والجليد والوحل والبرد الشديد والمطر الذي يبل الثياب، وهذه الرخصة تختص بمن يصلي جماعة بمسجد - يقصد من بعيد - يتأذى بالمطر في طريقه، فأما من هو بالمسجد، أو يصلي في بيته جماعة، أو يمشي إلى المسجد مستترا بشيء، أو كان المسجد في باب داره، فإنه لا يجوز له الجمع.
3. الجمع بسبب المرض، أو العذر: ذهب بعض العلماء إلى جواز الجمع، تقديما وتأخيرا بعذر المرض؛ لأن المشقة فيه أشد من المطر.
قال النووي: وهو قوي في الدليل، وفي "المغني": والمرض المبيح للجمع، هو ما يلحقه به، بتأدية كل صلاة في وقتها، مشقة وضعف.
وتوسع بعض العلماء، فأجازوا الجمع تقديما وتأخيرا لأصحاب الأعذار وللخائف، وأجازوه للمرضع، التي يشق عليها غسل الثوب في وقت كل صلاة، وللمستحاضة، ولمن به سلس بول، وللعاجز عن الطهارة، ولمن خاف على نفسه أو ماله أو عرضه، ولمن خاف ضررا يلحقه في معيشته بترك الجمع.
قال ابن تيمية: وأوسع المذاهب في الجمع مذهب أحمد؛ فإنه جوز الجمع إذا كان شغل، كما روى النسائي ذلك مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إلى أن قال: يجوز الجمع أيضا للطباخ والخباز ونحوهما ممن يخشى فساد ماله.
4. الجمع للحاجة: قال النووي في "شرح مسلم": ذهب جماعة من الأئمة، إلى جواز الجمع في الحضر للحاجة، لمن لا يتخذه عادة، وهو قول ابن سيرين وأشهب من أصحاب مالك، وحكاه الخطابي عن القفال والشاشي الكبير من أصحاب الشافعي وعن أبي إسحاق المروزي وعن جماعة من أصحاب الحديث، واختاره ابن المنذر.
ويؤيده ظاهر قول ابن عباس: "أراد ألا يحرج أمته، فلم يعلله بمرض، ولا غيره".
وحديث ابن عباس الذي قال فيه: «جمع رسول الله بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة، في غير خوف ولا مطر، قيل لابن عباس: ماذا أراد بذلك؟ قال: أراد ألا يحرج أمته»[26].
وروي عن ابن عباس أيضا: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بالمدينة سبعا وثمانيا الظهر والعصر والمغرب والعشاء» [27]. وعن عبد الله بن شقيق قال: «خطبنا ابن عباس يوما بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم، وجعل الناس يقولون: الصلاة الصلاة، قال: فجاءه رجل من بني تميم لم يفتر ولا ينثني[28]: الصلاة الصلاة، فقال ابن عباس: أتعلمني بالسنة، لا أم لك! ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، قال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء، فأتيت أبا هريرة فسألته؟ فصدق مقالته»[29] [30].
ومما سبق يتضح لنا أن النبي محمدا - صلى الله عليه وسلم - لا سبيل للشيطان عليه، وأنه هو المشرع في حدود ما يوحى إليه من رب العزة عزوجل، ونحن نتبعه ونقتدي به في كل ما يقره ويشرعه، وبذلك فإنه - صلى الله عليه وسلم - بسهوه عن الصلاة كان يشرع لأمته كيفية قضاء الصلاة، وأنه - صلى الله عليه وسلم - بجمعه في الصلاة في غير سفر ولا خوف، لم يفعل ما يخالف الشرع، وإنما فعل ذلك لئلا يشق على أمته، فقصد إلى التخفيف عنهم.
الخلاصة:
· حفظ الله - عزوجل - عباده المخلصين وعصمهم من كيد إبليس وجنوده؛ ولقد كان محمد - صلى الله عليه وسلم - إمام المخلصين الصالحين وأول المعصومين من كيد إبليس.
· عصمته - صلى الله عليه وسلم - من كيد الشيطان ثابتة بالكثير من الشواهد والأدلة التي لا ينكرها أحد، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أقوى من الشيطان حسا ومعنى، فلقد تعرض الشيطان أكثر من مرة للنبي - صلى الله عليه وسلم - لينال منه ولكن الله مكنه منه، حتى إن قرينه من الجن قد أسلم فلم يكن يأمره إلا بخير.
· ليس المقصود بالغين في حديث: «إنه ليغان على قلبي» تعرضه - صلى الله عليه وسلم - لوسوسة الشيطان، أو وقوع الريب في قلبه، ولكن معناه ومقصوده أنه ربما يسهو عن مداومة ذكر ربه ومطالعة الحق، وليس هذا تقصيرا منه، وإنما من قبيل السكينة التي تغشى قلبه صلى الله عليه وسلم، وأما استغفاره فهو شكر لله عزوجل.
· النبي - صلى الله عليه وسلم - هو القدوة والأسوة الحسنة لنا جميعا، وقد أراد الله - عزوجل - أن ينام النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة من الصلوات لتقرير قاعدة شرعية وحكم شرعي، وهو "قضاء الصلاة الفائتة"، ولم يكن نومه هذا بسبب تأثره بكيد الشيطان له.
· لا يجوز الجمع بين صلاتين لغير عذر شرعي؛ لأن لكل صلاة وقتها، والعذر قد يكون خوفا أو سفرا أو مطرا أو مرضا... إلخ، أما جمعه - صلى الله عليه وسلم - بين صلاتين من غير عذر، فإنما كان بغرض التخفيف عن الأمة، ولئلا يشق عليهم.
(*) رد شبهات