الطعن في عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - لتعرضه للنسيان(*)
مضمون الشبهة:
يطعن بعض المشككين في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كانت تعرض له حالات نسيان - لا سيما حين سحر - ذاهبين إلى أن نسيانه تكرر في شئونه الخاصة، فضلا عن صلاته. وهم يرمون من وراء ذلك إلى القدح في عقل النبي - صلى الله عليه وسلم - ووعيه بما يتنافى مع عصمته.
وجها إبطال الشبهة:
1) ما اتفق له - صلى الله عليه وسلم - من النسيان أيام تعرضه للسحر إنما كان بتأثير الضعف الجسدي الذي لحق به، لا الضعف العقلي، وكان من الأمور العارضة التي لم تستمر إلا عدة أيام.
2) النسيان الطبيعي الذي هو من خصائص النوع الإنساني ليس مطعنا في أحد، سواء أكان نبيا أم غير نبي.
التفصيل:
أولا. ما تعرض له - صلى الله عليه وسلم - من سحر إنما كان تسلطا على البدن دون الروح، ولا أثر له على عقله صلى الله عليه وسلم:
ما كان يحدث له - صلى الله عليه وسلم - من النسيان في الأيام التي سحر فيها - وهي قلائل - إنما كان بتأثير الضعف الذي لحق بقواه الجسمية، وليس العقلية، وكان أمرا عارضا من أمور الدنيا فقط، وليس من أمور الدين، تأكيدا لإنسانيته، مع عصمته من أن تتأثر بها روحه، أو وعيه بأمور الدين والتشريع.
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «سحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهودي من يهود بني زريق، يقال له: لبيد بن الأعصم قالت: حتى كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله، حتى إذا كان ذات يوم - أو ذات ليلة - دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعا، ثم دعا، ثم قال: "يا عائشة! أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه؟ جاءني رجلان، فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال الذي عند رأسي للذي عند رجلي، أو الذي عند رجلي للذي عند رأسي: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب([1])، قال: من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أي شيء؟ قال: في مشط([2]) ومشاطة([3]) وجف طلعة ذكر([4])، قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذي أروان".
قالت: فأتاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أناس من أصحابه، ثم قال: "يا عائشة، والله، لكأن ماءها نقاعة الحناء([5])، ولكأن نخلها رءوس الشياطين"، قالت: فقلت: يا رسول الله! أفلا أحرقته؟ قال: "لا، أما أنا فقد عافاني الله، وكرهت أن أثير على الناس شرا فأمرت بها فدفنت» ([6]).
قال القاضي عياض: "وقد جاءت روايات هذا الحديث مبينة أن السحر إنما تسلط على جسده، وظواهر جوارحه، لا على عقله وقلبه واعتقاده، ويكون معنى قوله في إحدى روايات الحديث:«حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن» ([7])؛ أي: يظهر له من نشاطه ومتقدم عادته القدرة عليهن، فإذا دنا منهن أخذته أخذة السحر فلم يأتهن، ولم يتمكن من ذلك كما يعتري المسحور.
وهذا مثل ما يعتري الرجل السليم قوي البدن، المحطم للأرقام القياسية في رفع الأثقال، يظن تحطيم رقم قياسي أعلى، وعند محاولة الرفع لا يستطيع، ومثل ذلك أيضا الإنسان في حالة النقاهة من المرض، يظن أن به قدرة على الحركة، وعندما يهم بذلك لا تحتمله قدماه.
وكل ما جاء في الروايات من أنه يخيل إليه فعل الشيء ولم يفعله ونحوه، فمحمول على التخيل بالبصر، لا لخلل تطرق إلى العقل، وليس في ذلك ما يدخل لبسا على تبليغه أو شريعته، أو يقدح في صدقه لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا فلا مطعن لأهل الضلالة، ثم إنه لم يثبت، بل ولم يرد أنه - صلى الله عليه وسلم - تكلم بكلمة واحدة في أثناء مدة السحر تدل على اختلال عقله صلى الله عليه وسلم، ولا أنه قال قولا فكان بخلاف ما أخبر به، ومن نفى فعليه بالدليل - ولا دليل - وكل هذا يوضح كيف أخطأ خصوم السنة والسيرة العطرة في تفسير السحر، بزعمهم أنه أثر على عقله - صلى الله عليه وسلم - عصمه الله من ذلك" ([8]).
ثانيا. النسيان الطبيعي من لوازم بشريته - صلى الله عليه وسلم - ولا يقدح في عصمته:
لقد صرح النبي - صلى الله عليه وسلم - بطروء النسيان عليه كعادة البشر وهو منهم، فالنسيان الطبيعي أمر فطري في البشر جميعا، بيد أن نسيانه - صلى الله عليه وسلم - لا ينافي عصمته.
يقول الشيخ محمد بن علوي المالكي تحت عنوان "سهوه - صلى الله عليه وسلم - وأنه لا ينافي كماله صلى الله عليه وسلم ": ومن ذلك حديث السهو: وهو «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة العصر فسلم في ركعتين، فقام ذو اليدين، فقال: يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل ذلك لم يكن»، وفي الرواية الأخري: «ما قصرت الصلاة وما نسيت»، فظاهر هذا الحديث يفيد أنه - صلى الله عليه وسلم - نفى الحالتين، وأنه لم يحصل قصر ولا نسيان، مع أنه قد حصل أحد ذلك، كما قال ذو اليدين: «قد كان بعض ذلك يا رسول الله» ([9]).
وقد أجاب العلماء عن هذا بأجوبة كثيرة، منها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن اعتقاده وضميره، أما إنكار القصر فحق وصدق باطنا وظاهرا، وأما النسيان فأخبر - صلى الله عليه وسلم - عن اعتقاده، وأنه لم ينس في ظنه فكأنه قصد الخبر بهذا عن ظنه، وإن لم ينطق به، وهذا صدق أيضا.
والذي يظهر أن قوله صلى الله عليه وسلم «لم أنس»إنما هو إنكار اللفظ فقط، وأراد - صلى الله عليه وسلم - أن يشير إلى أنه نسي، ولم ينس، وشبيه بهذا إنكاره - صلى الله عليه وسلم - على من يقول: نسيت آية كذا وكذا بقوله في الحديث: «بئسما للرجل أن يقول: نسيت، سورة كيت وكيت أو نسيت آية كيت وكيت بل هو نسي»([10]). فلما قال له السائل: أقصرت الصلاة أم نسيت؟ أنكر قصرها كما كان وأنكر نسيانه هو من قبل نفسه، وبين أنه - صلى الله عليه وسلم - إن كان جرى شيء من ذلك فقد نسي حتى سأل غيره، فتحقق أنه نسي وأجري عليه ذلك ليسن.
فقوله على هذا «لم أنس» «ولم أقصر» «وكل ذلك لم يكن»، صدق وحق، فلم تقصر الصلاة ولم ينس حقيقة، ولكنه نسي.
وهذا لا يعارضه حديث: «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون» ([11])، لأن هذا الحديث فيه إثبات النسيان، والحديث الذي قبله فيه نفي لفظ النسيان وكراهة لقبه، وليس فيه نفي حكم النسيان بالجملة فلا تعارض.
هذا ما يتعلق بقوله صلى الله عليه وسلم: «ما قصرت ولا نسيت»، وبقي بعد ذلك قضية نسبة النسيان إليه - صلى الله عليه وسلم - وحكمه.
والأحاديث الصحيحة المذكور فيها السهو من النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة:
1. حديث ذي اليدين: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم إحدى صلاتي العشي إما الظهر وإما العصر فسلم في ركعتين، ثم أتى جذعا في قبلة المسجد، فاستند إليها مغضبا، وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يتكلما، وخرج سرعان الناس قصرت الصلاة، فقام ذو اليدين فقال: «يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فنظر النبي - صلى الله عليه وسلم - يمينا وشمالا فقال: "ما يقول ذو اليدين"؟ قالوا: صدق لم تصل إلا ركعتين. فصلى ركعتين وسلم، ثم كبر، ثم سجد، ثم كبر فرفع، ثم كبر وسجد، ثم كبر ورفع»([12]).
2. حديث عبد الله بن بجينة رضي الله عنه: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم الظهر، فقام في الركعتين الأوليين، لم يجلس، فقام الناس معه، حتى إذا قضى الصلاة، وانتظر الناس تسليمه، كبر وهو جالس، فسجد سجدتين قبل أن يسلم، ثم سلم» ([13]). وهو دليل على أن ترك التشهد الأول سهوا يجبره سجود السهو، وأن سجود السهو يكون قبل السلام، ويدل أيضا على وجوب متابعة الإمام، ويؤيده حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه مسلم: «إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر كم صلى ثلاثا أم أربعا، فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسا شفعن له صلاته، وإن كان صلى تاما كانتا ترغيما للشيطان» ([14]).
3. حديث ابن مسعود رضي الله عنه: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر خمسا، فلما سلم قيل له: يا رسول الله، أحدث في الصلاة شيء؟ قال: "وما ذاك"؟ قالوا: صليت كذا وكذا، فثنى رجليه واستقبل القبلة، فسجد سجدتين، ثم سلم، ثم أقبل على الناس بوجهه، فقال: إنه لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكم به، ولكني إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني، وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب، فليتم عليه، ثم ليسجد سجدتين» ([15]). وهو دليل على أن متابعة المؤتم للإمام فيما ظنه واجبا لا يفسد صلاته، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرهم بالإعادة.
وهذه الأحاديث مبنية على السهو في الفعل، وحكمة الله فيه ليستن به المسلمون إذا نسوا، إذ البلاغ بالفعل أجلى منه بالقول وأرفع للاحتمال، وشرطه أنه لا يقر على السهو، بل يشعر به ليرتفع الالتباس، وتظهر فائدة الحكمة.
وإن النسيان والسهو في الفعل في حقه - صلى الله عليه وسلم - غير مضاد للعصمة ولا قادح في التصديق.
وهذا بناء على التفريق بين أفعال النبي التشريعية، وبين أقواله التشريعية، فالسهو والنسيان قد يقع في الأفعال والأحكام منه - صلى الله عليه وسلم - وهو جائز عليه، كما ثبت من أحاديث السهو في الصلاة.
أما الأقوال التشريعية فلا يجوز وقوع النسيان والسهو فيها لقيام المعجزة على الصدق في القول، والنسيان يناقض ذلك، أما النسيان في الأفعال فغير ناقض لها ولا قادح في العصمة، بل غلطات الفعل من سمات البشر، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني» ([16]). وحالة النسيان والسهو هنا في حقه - صلى الله عليه وسلم - سبب إفادة علم، وتقرير شرع، وزيادة له في التبليغ، وتمام عليه في النعمة بعيدة عن سمات النقص، وأغراض الطعن.
أما ما ليس طريقه البلاغ، ولا بيان الأحكام من أفعاله صلى الله عليه وسلم، وما يختص به من أمور دينية، وأذكار قلبية، مما لم يفعله ليتبع فيه، فالأكثر من طبقات علماء الأمة على جواز السهو والغلط عليه فيها، وذلك بما كلفه من مقاساة الخلق، وسياسات الأمة، ومعاناة الأهل، وملاحظة الأعداء، ولكن ليس على سبيل التكرار ولا الاتصال، بل على سبيل الندور، وذهبت طائفة إلى منع السهو والنسيان والغفلات، والفترات في حقه - صلى الله عليه وسلم - جملة([17]).
وعلى كل فما وقع للنبي - صلى الله عليه وسلم - من حالات نسيان لا يمكن أن نسميه نسيانا، بل لقد شاء الله له أن ينسى حتى يعلم أمته ما يفعلون إذا تعرض أحدهم للنسيان والسهو في صلاته، فأين ما يقدح في عقله أو في عصمته صلى الله عليه وسلم؟
الخلاصة:
· السحر الذي هو تسلط على الروح والإدراك العقلي لا نثبته للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيما وقع له من لبيد بن الأعصم، بل كان هذا تسلطا على البدن والقوة الجسدية فقط، ومثل ذلك من جنس الأمراض وصنوف الأذى التي تعرض لها - صلى الله عليه وسلم - في سبيل دعوته، وهذا لا تعلق له بالنبوة أو العصمة.
· النسيان الطبيعي من خصائص النوع الإنساني، وليس بمطعن على أحد نبيا كان أو غير نبي؛ إذ هو من خصائص الطبيعة الإنسانية، إلا أن يجاوز ذلك إلى أن يكون خللا نفسيا أو عقليا، فذلك ما ينافي النبوة، أما ما تعرض له النبي - صلى الله عليه وسلم - من سهو ونسيان في صلاته فقد شاء الله ذلك ليشرع للأمة ما تفعله عند النسيان في الصلاة، وهذا لا يقدح في عصمته - صلى الله عليه وسلم - ولا في نبوته.
(*) نقد كتاب "حياة محمد صلى الله عليه وسلم "، عبد الله بن علي النجدي القصيمي، المطبعة الرحمانية، مصر، 1354هـ/ 1935م.
[1]. المطبوب: المسحور.
[2]. المشط: ما يسرح به الرأس واللحية.
[3]. المشاطة: ما يخرج من الشعر عند التسريح.
[4]. جف طلعة ذكر: وعاء طلع النخل، وهو الغشاء الذي يكون عليه.
[5]. نقاعة الحناء: أحمر كلون الماء الذي ينقع فيه الحناء.
[6]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الطب، باب السحر (5430)، ومسلم في صحيحه، كتاب السلام، باب السحر (5832)، واللفظ له.
[7]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الطب، باب هل يستخرج السحر (5432).
[8]. رد شبهات حول عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، د. عماد السيد الشربيني، دار الصحيفة، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص250، 251 بتصرف يسير.
[9]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجماعة والإمامة، باب هل يأخذ الإمام إذا شك بقول الناس (682)، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له (1318)، واللفظ له.
[10]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب استذكار القرآن وتعاهده (4744)، ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الأمر بتعهد القرآن (1879).
[11]. أخرجه البخاري في صحيحه، أبواب القبلة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان (392)، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له (1302).
[12]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجماعة والإمامة، باب هل يأخذ الإمام إذا شك بقول الناس (682)، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له (1316)، واللفظ له.
[13]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب صفة الصلاة، باب من لم ير التشهد الأول واجب (795)، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له (1297)، واللفظ للبخاري.
[14]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له (1300).
[15]. أخرجه البخاري في صحيحه، أبواب القبلة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان (392)، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له (1302).
[16]. أخرجه البخاري في صحيحه، أبواب القبلة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان (392)، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له (1302).
[17]. محمد الإنسان الكامل، محمد بن علوي المالكي، دار الشروق، جدة، ط3، 1404هـ/ 1984م، ص107: 110 بتصرف.
click here
online women cheat husband
go
online how long for viagra to work
go
link how long for viagra to work
read here
website why women cheat on men