الزعم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان ضعيف الحجة لا يقوي على النقاش، متهورا يتصرف بلا حكمة(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المغالطين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يملك القدرة على المناقشة والمحاجة، وأنه كان متهورا تنقصه الحكمة؛ ويستدلون على ذلك بأنه لم تكن لديه طريقة منظمة أو أفكار مرتبة في المجادلة، بل كان يقع كثيرا في التكرار المعيب، والابتعاد عن الموضوع الذي هو بصدده؛ عجزا منه عن صوغ الحجة المناسبة، وبأن أصحابه كثيرا ما كانوا يشكون في أقواله، كما في حديثه عن معجزة الإسراء، أو يحارون في تعليل تصرفاته المتهورة - في زعمهم - كما في مسلكه في صلح الحديبية وهم بذلك يطعنون في عصمته - صلى الله عليه وسلم - وحكمته ورجاحة عقله.
وجوه إبطال الشبهة:
1) كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أفصح العرب وأقواهم حجة وأقدرهم على الإقناع، وقد شهد له العرب بذلك، ولا عجب؛ فقد كان - صلى الله عليه وسلم - من قريش، ونشأ في بادية بني سعد، وقد أوتي جوامع الكلم.
2) كان الصحابة ذوي إيمان راسخ، فما حدث أن شك واحد منهم في حديث الإسراء ولا في غيره من كلامه صلى الله عليه وسلم، ولم يكن نبيهم شخصا مندفعا غريب الأطوار - كما يزعمون - حتى تحيرهم تصرفاته وقراراته أو يحتاج إلى من يرشد تصرفاته.
3) كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - مثالا رائعا لرجل الدولة الحكيم والسياسي البارع والقائد الناجح المتبصر بدقائق الأمور القادر على معالجة المشكلات بالحكمة ورجاحة العقل، وإن موقفه في صلح الحديبية ليؤكد ذلك كله.
التفصيل:
أولا. كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أفصح العرب، وأقواهم حجة، وأقدرهم على الإقناع:
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أفصح العرب، وهذا ما كانت تعرفه العرب له صلى الله عليه وسلم، ويعرفه هو لنفسه؛ ولهذا كان صلى الله عليه وسلم، يقول: «أعطيت فواتح الكلم وخواتمه»[1].
فصاحته وبلاغته صلى الله عليه وسلم:
يصف القاضي عياض فصاحة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: "وأما فصاحة اللسان، وبلاغة القول فقد كان - صلى الله عليه وسلم - من ذلك بالمحل الأفضل، والموضع الذي لا يجهل، سلامة طبع، وبراعة منزع، وإيجاز مقطع، ونصاعة لفظ، وجزالة قول، وصحة معان، وقلة تكلف، أوتي جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم، وعلم ألسنة العرب، فكان يخاطب كل أمة منها بلسانها، ويحاورها بلغتها، ويباريها في منزع بلاغتها، حتى كان كثير من أصحابه يسألونه في غير موطن عن شرح كلامه وتفسير قوله".
ولو كان فيهم - أي العرب - أفصح منه لعارضوه به، فقد كان مولده في بني هاشم، وأخواله في بني زهرة، ورضاعه في سعد بن بكر، ومنشؤه في قريش، ومتزوجه في بني أسد، ومهاجرته إلى بني عمرو: وهم الأوس والخزرج، لم يخرج عن هؤلاء في النشأة واللغة، ولقد كان في قريش وبني سعد وحدهم ما يقوم بالعرب جملة.
فكان - صلى الله عليه وسلم - يعلم كل ذلك على حقه - أي لغات العرب على اختلاف مواطنهم واشتراك اللغات وانفرادها بينهم - كأنما تكاشفه أوضاع اللغة بأسرارها، وتبادره بحقائقها، فيخاطب كل قوم بلحنهم وعلى مذهبهم، ثم لا يكون إلا أفصحهم خطابا، وأسدهم لفظا، وأبينهم عبارة، ولم يعرف ذلك لغيره من العرب.
وتصف أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - بيان الرسول صلى الله عليه وسلم، فتقول: «ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسرد[2] كسردكم هذا، ولكن كان يتكلم بكلام بين فصل، يحفظه من جلس إليه» [3].
وتصف أم معبد كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأم معبد هذه التي كان قد قابلها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هجرته من مكة إلى المدينة -، فتقول: «حلو المنطق، فصل، لا نزر ولا هذر[4]، كأن منطقه خرزات نظمن، وكان جهير الصوت حسن النغمة صلى الله عليه وسلم» [5].
وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يحب الكلام الكثير، فقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون[6] والمتشدقون[7] والمتفيهقون» [8] [9].
ويذكر الجاحظ كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول: هو الكلام الذي قل عدد حروفه وكثرت معانيه، وجل عن الصنعة ونزه عن التكلف، وكان كما قال الله - عزوجل - على لسانه: )وما أنا من المتكلفين (86)( (ص).
لقد عاب التشديق، وجانب أصحاب التقعيب[10]، واستعمل المبسوط في موضع البسط، والمقصور في موضع القصر، وهجر الغريب الوحشي، ورغب عن الهجين السوقي، فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة، ولم يتكلم إلا بكلام قد حف بالعصمة، وشيد بالتأييد، ويسر بالتوفيق، وهو الكلام الذي ألقى الله عليه المحبة، وغشاه بالقبول، وجمع بين المهابة والحلاوة، وبين حسن الإفهام، وقلة عدد الكلام، مع استغنائه عن إعادته، وقلة حاجة السامع إلى معاودته، لم تسقط له كلمة، ولا زلت له قدم، ولا بارت له حجة، ولم يقم له خصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبذ[11] الخطب الطوال بالكلام القصير، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتج إلا بالصدق، ولا يطلب الفلج [12] إلا بالحق، ولا يستعين بالخلابة[13]، ولا يستعمل المواربة[14]، ولا يهمز[15] ولا يلمز[16]، ولا يبطئ ولا يعجل، ولا يسهب[17] ولا يحصر، ثم لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعا، ولا أقصد لفظا، ولا أعدل وزنا، ولا أجمل مذهبا، ولا أكرم مطلبا، ولا أحسن موقعا، ولا أسهل مخرجا، ولا أفصح من معناه، ولا أبين في فحواه من كلامه صلى الله عليه وسلم.
وتقترن صفة البلاغة بصفة الفصاحة في كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما يذكر الماوردي فيقول: "إن كلامه جامع لشروط البلاغة ومعرب عن منهج الفصاحة، ولو مزج بغيره لتميز بأسلوبه، ولظهر فيه آثار التنافر فلم يلتبس حقه من باطله، ولبان صدقه من كذبه، هذا ولم يكن متعاطيا للبلاغة، ولا مخالطا لأهلها، من خطباء أو شعراء أو فصحاء، وإنما هو من غرائز فطرته، وبداية جبلته[18]، وما ذاك إلا لغاية تراد، وحادثة تشاد".
وأما كلامه المعتاد وفصاحته المعلومة، وجوامع كلمه وحكمه المأثورة، فقد ألف الناس فيها الدواوين، وجمعت في ألفاظها ومعانيها الكتب، ومنها ما لا يوازى فصاحة ولا يبارى بلاغة، كقوله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم» [19]، و«المرء مع من أحب»[20]، و«الناس معادن»[21]، و«المستشار مؤتمن»" [22]، و«رحم الله عبدا قال خيرا فغنم، أو سكت فسلم» [23]. وقوله: «أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين» [24]. و«إن أحبكم إلي وأقربكم مني مجالس يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا الموطأون أكنافا[25]، الذين يألفون ويؤلفون» [26]. وقوله: «اتق الله حيث كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» [27] [28].
فلقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - أفصح خلق الله تعالى لسانا، وأوضحهم بيانا، أوتي جوامع الكلم وبدائع الحكم، وقوارع الزجر، وقواطع الأمر، والقضايا المحكمة، والوصايا المبرمة، والمواعظ البالغة، والحجج الدامغة، والبراهين القاطعة، وقد تحدث عن نفسه في هذا الميدان فقال: «أعطيت فواتح الكلم وخواتمه»[29].
لقد أوتي من الأسلوب السهل المعجز ما لم يؤت معلم ولا متعلم ممن دانت لهم العربية، وملكوا زمامها، فله جوامع الكلم وبدائع الحكم في لفظ ناصع وقول جزل، ومعان صحاح خالدة في عبارات مضيئة مشرقة لا تكلف فيها، ومن ثم فلم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - عاجزا عن المناقشة والمحاورة كما يزعمون.
براعته في المحاورة:
لقد كان - صلى الله عليه وسلم - يقابل الحجة بالحجة، والدليل بالدليل حتى يقنع صاحبه بدعواه، ولو أردنا أن نستشهد بالأدلة من سيرته العطرة لطال بنا المقال، ولكننا نكتفي بموقف واحد من سيرته يبين لنا قدرته - صلى الله عليه وسلم - على مجاراة الخصم ومقابلة حجته بالحجة، وذلك ما حدث بينه - صلى الله عليه وسلم - وبين عتبة بن ربيعة عندما ذهب إليه عتبة ليقنعه بترك الدعوة، فقال: «يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من الشرف في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني، أعرض عليك أمورا تنظر فيها، لعلك تقبل منها بعضها".
قال صلى الله عليه وسلم: "قل يا أبا الوليد أسمع"، قال أبو الوليد: يا ابن أخي، إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه.
فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم: "أقد فرغت يا أبا الوليد"؟ قال: نعم، فقال له صلى الله عليه وسلم: "فاسمع مني"، وتلا من سورة فصلت، وكان عتبة ينصت إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى وصل إلى قوله عزوجل: )ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون (37)( (فصلت)، فسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم قال لعتبة: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك» [30].
وما سبق يدل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لديه القدرة على المحاجة بدليل أن عتبة أتى ليقنعه - صلى الله عليه وسلم - بترك الدعوة؛ ولكنه حول الموقف لصالحه صلى الله عليه وسلم، وشهد عتبة له بالصدق ونفى عنه أن يكون ساحرا أو شاعرا أو كاهنا، عندما ذهب إلى أصحابه، وسألوه: ما وراءك يا أبا الوليد؟
قال: ورائي أني قد سمعت قولا، والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل، وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به.
فقالوا له: سحرك والله[31].
فهذا أكبر دليل على قدرة النبي - صلى الله عليه وسلم - على المحاجة، ومجاراة الخصم، وعلى حكمته - صلى الله عليه وسلم - في المناقشة، مما يبطل افتراءات هؤلاء المغالطين.
ثانيا. كان الصحابة ذوي إيمان راسخ، فلم يشك أحد منهم في شيء من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، أو يطعن في مسلك من تصرفاته ورأيه:
لقد كان إيمان أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - برسالته أرسخ من الجبال الراسيات، وما كان يختلج بصدورهم أي شيء من الشك، أو الريب في صدقه - صلى الله عليه وسلم - علما منهم بأنه ما كان ينطق عن الهوى، وإنما هو الوحي يوحى إليه من عند الله، وآية ذلك أنهم كانوا يضعون أنفسهم، وأموالهم، وأولادهم، وكل ما يملكون من قوة فداء له - صلى الله عليه وسلم - وتأييدا لدينه.
ونظرة عامة على ما قام به الصحابة من غزوات معه - صلى الله عليه وسلم - تبين ذلك أوضح بيان، فلو كان الصحابة تنطوي قلوبهم على شك أو ريب فيما يقوله - صلى الله عليه وسلم - لما استماتوا في نصرته، ولأعقب ذلك حتما تفككهم وانفصام عرى اجتماعهم، مع أن الذي ثبتهم وأوجب لهم خلافة الله في الأرض؛ أنهم كانوا من الترابط والتماسك بحيث لا تفصم وحدتهم أشد الخطوب تأثيرا في النفوس.
فقد مروا سنين على ضروب من المحن كان يكفي بعضها لحل أية جماعة تتعرض لها، حتى مدح الله إخلاصهم هذا، فقال عزوجل: )الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل (173)( (آل عمران)، فلو كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يشكون في أقواله لما صدرت منهم هذه العزمات التي دكت الجبال الشم، وغيروا بها خريطة العالم في سنوات معدودة[32]، بل إننا لا نبالغ إذا قلنا إن البشرية لم تشهد رجلا مطاعا مثلما كان محمد - صلى الله عليه وسلم - مطاعا في أصحابه، ولا قوما صدقوا نبيهم مثلما صدق أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - نبيهم.
حادثة الإسراء:
أما حادثة الإسراء التي يزعم هؤلاء أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قد شككوا وارتابوا في حديثه عنها، فإنها لم تزدهم إلا إيمانا على إيمانهم، وتصديقا على تصديقهم، وهذه سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أيدينا لم يرد بها أي شك أو ريب على لسان أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن من ورد على ألسنتهم الشك والتكذيب هم المشركون أعداء النبي صلى الله عليه وسلم.
وماذا ينتظر من قوم قد أنكروا فضل خالقهم عليهم، ألا ينكرون ويكذبون محمدا - صلى الله عليه وسلم - فيما يقول؟! فما بالنا والحديث عن أمر يفوق تصوراتهم؟! فمعجزة الإسراء تفوق تخيلات البشر وتصوراتهم، لذا أعرض عن النبي - صلى الله عليه وسلم - المشركون ومعهم ضعيفو الإيمان من المسلمين الذين كانوا على حرف.
لقد كانت حادثة الإسراء والمعراج قبل هجرته - صلى الله عليه وسلم - بسنة، فلما رجع الرسول - صلى الله عليه وسلم - من رحلته المباركة أخبر قومه بذلك، فقام في مجلس حضره المطعم بن عدي، وعمرو بن هشام، والوليد بن المغيرة، فقال صلى الله عليه وسلم: "إني صليت الليلة العشاء في هذا المسجد، وصليت به الغداة، وأتيت فيما دون ذلك بيت المقدس، فنشر لي رهط من الأنبياء منهم إبراهيم، وموسى، وعيسى، وصليت لهم وكلمتهم".
فقال عمرو بن هشام كالمستهزئ به: صفهم لي، فقال: "أما عيسى، ففوق الربعة[33]، ودون الطول، عريض الصدر، ظاهر الدم، جعد[34]، أشعر[35] تعلوه صهبة[36]، كأنه عروة بن مسعود الثقفي، وأما موسى فضخم آدم[37]، طوال، كأنه من رجال شنوءة، متراكب الأسنان، مقلص الشفة[38]، خارج اللثة، عابس، وأما إبراهيم فوالله إنه لأشبه الناس بي، خلقا وخلقا".
فقالوا: يا محمد صف لنا بيت المقدس، قال: "دخلت ليلا، وخرجت منه ليلا"، فأتاه جبريل بصورته في جناحه، فجعل يقول: "باب منه كذا، في موضع كذا، وباب منه كذا، في موضع كذا".
ثم سألوه عن عيرهم، فقال لهم: "أتيت على عير بني فلان بالروحاء، قد أضلوا ناقة لهم فانطلقوا في طلبها، فانتهيت إلى رحالهم، ليس بها منهم أحد، وإذا قدح ماء فشربت منه، فاسألوهم عن ذلك"، قالوا: هذه والله آية، قال: "ثم انتهيت إلى عير بني فلان، فنفرت مني الإبل، وبرك منها جمل أحمر، عليه جوالق[39]، مخطط ببياض، لا أدري أكسر البعير أم لا؟ فاسألوهم عن ذلك"، قالوا: هذه والله آية، ثم قال: "ثم انتهيت إلى عير بني فلان في التنعيم، يقدمها جمل أورق[40]، وها هي تطلع عليكم من الثنية"، فقال الوليد بن المغيرة: ساحر، فانطلقوا فنظروا، فوجدوا الأمر كما قال، فرموه بالسحر، وقالوا: صدق الوليد بن المغيرة فيما قال.
وذهب بعض الناس إلى أبي بكر، فقالوا: هل لك إلى صاحبك، يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس، قال: أوقال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة، فلذلك سمي أبا بكر الصديق.
لقد جاءت حادثة الإسراء والمعراج على قدر من رب العالمين، فيعرج به من دون الخلائق جميعا، ويكرمه على صبره وجهاده، ويلقي به مباشرة دون رسول ولا حجاب، ويطلعه على عوالم الغيب، دون الخلق كافة، ويجمعه مع إخوانه من الرسل في صعيد واحد فيكون الإمام والقدوة لهم، وهو خاتمهم وآخرهم، فلقد جعل الله - عزوجل - هذا الاختبار والتمحيص ليخلص الصف من الضعاف المترددين، والذين في قلوبهم مرض، ويثبت المؤمنين الأقوياء، والخلص الذين لمسوا عيانا صدق نبيهم - صلى الله عليه وسلم - بعد أن لمسوه تصديقا، وشهدوا مدى كرامته على ربه.
ولقد ضرب الرسول - صلى الله عليه وسلم - أروع الأمثلة في الجهر بالحق أمام أهل الباطل، فقد واجههم - صلى الله عليه وسلم - بأمر تنكره عقولهم، ولا تدركه في أول الأمر تصوراتهم، وتلقى نكيرهم واستهزاءهم بالحلم والصبر عليهم، وكانت حكمة النبي - صلى الله عليه وسلم - في إقامة الحجة عليهم بأن حدثهم عن إسرائه إلى بيت المقدس وأظهر الله له علامات تلزم الكفار بالتصديق.
وهكذا رأينا أن المكذبين لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإسراء هم المشركون المنكرون لنبوته صلى الله عليه وسلم، لا أصحابه - رضوان الله عليهم ـ؛ لأن تصديقهم لنبيهم - صلى الله عليه وسلم - وإيمانهم به كما سبق أن قلنا كان كالجبال الراسيات التي لا تزلزلها المحن.
ثالثا. كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - مثالا رائعا لرجل الدولة الحكيم والسياسي البارع والقائد الناجح المتبصر بدقائق الأمور القادر على معالجة المشكلات بالحكمة ورجاحة العقل:
لقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - مثالا رائعا لرجل الدولة الحكيم والسياسي البارع، والقائد الناجح المتبصر بدقائق الأمور القادر على معالجة الحوادث بالحكمة، وهذا كله دليل على ما كان يتمتع به - صلى الله عليه وسلم - من رجاحة العقل وسداد الرأي.
ومن دلائل صدق نبوته تلك السياسة الواعية الحكيمة التي عرف بها صلى الله عليه وسلم. يقول الإمام الماوردي: "وقد دل على وفور ذلك فيه - رجاحة العقل - صحة رأيه، وصواب تدبيره، وحسن تألفه، وأنه ما استفعل في مكيدة ولا استعجز في شديدة، بل كان يلحظ الأعجاز[41] في المبادئ فيكشف عيوبها ويحل خطوبها، وهذا لا ينتظم إلا بأصدق فهم وأوضح جزم".
والشواهد على حسن سياسته، وحكمته في تدبير الأمور كثيرة ومتعددة، ومن ذلك بناؤه للمسجد منذ الأيام الأولى من وصوله للمدينة المنورة، إذ أحس بثاقب بصره أنه لا بد من إيجاد القاعدة الأساسية للدعوة إلى الله، وأداء العبادة، فشرع في بناء المسجد ليكون مكانا للعبادة، ومركزا للدعوة ومقرا للسلطة التنفيذية، والقيادة العليا، حيث يلتقي القائد فيه مع أتباعه ينصحهم ويشرع لهم ويشاورهم في مهام الأمور، كما يلتقي مع الوفود القادمة إليه، ويدعوهم إلى الإسلام، وكان - أيضا - المدرسة التي يتلقي فيها الناس العلم النافع، وكان - كذلك - منطلقا للجيوش التي تتوجه للغزو والفتوح.
ومن حسن سياسته - صلى الله عليه وسلم - ذلك الدستور العظيم الذي وضعه للمجتمع الجديد في المدينة المنورة؛ لتحقيق الأمن والسلام الداخلي والخارجي، لقد ضم المجتمع الجديد عناصر شتى؛ الأوس والخزرج الذين كانوا يعيشون فيها، منهم من دخل في الإسلام، ومنهم من بقي على عبادة الأوثان، ثم اليهود أصحاب الفتن والقلاقل، ثم المهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم فرارا بدينهم، وكان الأعداء يحيطون بها من كل جانب؛ فرأى - صلى الله عليه وسلم - أنه لا بد من وضع دستور واضح المعالم، يبين لكل فئة من هذا المجتمع ما لها وما عليها؛ لمصلحة الوطن الذي يعيشون فيه، ولحمايته من الأعداء المحيطين به من كل جانب، فلذا أخذ العهود والمواثيق على اليهود؛ لاحترام ما جاء في الدستور الجديد والالتزام به، ضامنا لهم الحرية الدينية وذلك فيما يسمى بـ "وثيقة المدينة".
ومما يدل على حسن سياسته - صلى الله عليه وسلم - المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار؛ حرصا منه على وحدة صف المسلمين، وتلاحمه بعضه مع بعض، وطمسا لدعوى العصبية التي كانت متفشية بين القبائل العربية، لاقتلاعها من نفوس الجماعة المسلمة.
وقد جعل - صلى الله عليه وسلم - للرجل من قريش أخا له من الأوس، وللآخر من الخزرج، ولم يزل يؤاخي بين هؤلاء وهؤلاء، ويوثق الأواصر، حتى لم يبق أحد من المهاجرين إلا وله أخ في الله من الأنصار، ثم غرس في نفوس الجميع معنى الأخوة في الله، التي هي أسمى من كل الروابط، أسمى من رابطة الدم، واللحم، والنسب، والعصبية للبلد، حتى لقد قدم رباط العقيدة على رباط الدم في الميراث في المرحلة الأولى لقيام الدولة الإسلامية، ونسخ ذلك فيما بعد، وهذا من أعظم الأسس التي أقيم عليها صرح الدولة الإسلامية الناشئة.
وهذا العمل الجليل الذي قام به - صلى الله عليه وسلم - يؤكد بعد نظره ورجاحة عقله، وخبرته في أمور السياسة؛ لأن قوة الصف من وحدته، وليس أوثق من رباط الأخوة في الله الذي يؤلف بين النفوس من شتى البقاع والأصقاع، ويصهرها في بوتقة واحدة قوية مرهوبة الجانب.
ونجد أيضا من حسن سياسته موقفه الحازم من مسجد الضرار الذي شيده المنافقون؛ ليكون مركزا لبث الفتن في صفوف المسلمين، فسارع - صلى الله عليه وسلم - إلى اقتلاع الداء من جذوره، فأمر بإحراق المسجد وإزالته من على وجه الأرض، ولم تمنعه رقته ورحمته من اجتثاث هذا المنكر من أصوله، وهذا يدل على حكمته البالغة وتدبيره السديد[42].
حكمته في صلح الحديبية:
أما موقفه - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية فليس فيه أي اندفاع أو تهور كما يزعمون، إذ لو كان مندفعا - كما يزعمون - لتبع بعض آراء أصحابه يوم الحديبية، ولدخل مكة عنوة، ولكنه آثر الصلح، وقد رأى أصحابه فيما بعد أن هذا الصلح كان فاتحة خير على الإسلام.
إن من المجمع عليه من صفاته - صلى الله عليه وسلم - أنه كان حكيما في جميع تصرفاته، فما خير بين أمرين قط إلا اختار أرفقهما، وكان قبل أن يبت في أمر يستشير فيه أصحابه، فلم يعهد عليه طوال مقامه فيهم أنه دفع بهم في مغامرة، ولا مرة واحدة، وقد وصفه الله في رحمته بقومه بما لم يصف به أحدا من خلقه، فقال عزوجل: )لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم (128)( (التوبة).
ونحن إذا تأملنا موقفا من سيرته - صلى الله عليه وسلم - وهو موقفه - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية، لتبين لنا مدى حكمته - صلى الله عليه وسلم - ومدى تقديره للأمور، وحذقه - صلى الله عليه وسلم - في عقد المعاهدات.
"فقد كانت قلوب المؤمنين آنذاك تجيش بمشاعر شتى، وتفور بانفعالات متنوعة، كان فيها الانتظار والتطلع إلى تصديق رؤيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدخول المسجد الحرام، ثم مواجهة موقف قريش وقبول الرسول - صلى الله عليه وسلم - للرجوع عن البيت في هذا العام بعد الإحرام، وبعد إشعار الهدي وتقليده، وكان هذا أمرا شاقا على نفوسهم، ما في ذلك ريب" [43].
لقد كانت الحديبية خطوة للدعاية إلى الإسلام من النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ذهب إلى مكة بجيش عدته نحو خمسمائة وألف أو يزيدون، وما ذهب ليقتلع مكة كما كانوا يريدون أن يذهبوا هم إلى المدينة المنورة، بل ذهب ليقيم شعائر الله تعالى، ولتعظيم البيت، وعلى ألا يسألوه خطة فيها تعظيم البيت إلا سلكها.
فقد كان ذلك الصلح فتحا للإسلام؛ إذ لانت قلوب كانت مستعصية، وتفتحت آذان كأن فيها وقر[44] عن سماع الحق، وكان من قريش أنفسهم من يتجه إلى الإسلام ويتعرف غاياته ومراميه، وأنه الحق والعقل، وملة إبراهيم عليه السلام، والقبائل التي كانت ترى أمارات النبوة، ولكن تنتظر قريشا ورأيها في محمد صلى الله عليه وسلم، أخذت قلوبهم تصغي، وأفئدتهم تتجه نحوه صلى الله عليه وسلم، فأسلم الكثيرون، وتهيأت للإسلام قلوب كثيرين[45]، فهذا كله من فضل ما فعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبعد نظره حين وافق على بنود الصلح التي تبدو في ظاهرها مجحفة بحق المسلمين، لكن الواقع أثبت أنها تنطوي على فوائد عظيمة للمسلمين، وهذا يدل على عدم إضاعة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى حكمته - صلى الله عليه وسلم - في معالجة الأمور، وقد صدق ربه إذ قال عنه: )وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)( (النجم).
لقد كان صلح الحديبية في شهر ذي القعدة سنة ست من الهجرة النبوية، وذو القعدة من أشهر الحج، فاعتزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من أصحابه الحج، وكان معه أربعمائة وألف.
خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وهم لا يريدون حربا، بل يريدون حجا جامعا، ولقد علمت قريش بمجيء الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومعه عدد من أصحابه فاعتقدوا أنهم جاءوا للحرب، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يريد أن يلقى مقاتليهم ولكن يريد أن يحج، ولم تقتنع قريش بأنه - صلى الله عليه وسلم - ما جاء لقتال، إلا بعد أن أرسل الرسول - صلى الله عليه وسلم - رسلا من عنده إلى قريش، وأتته رسل قريش، فاقتنعت قريش أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - ما جاء لقتال.
ثم بعثت قريش بعد ذلك سهيل بن عمرو من بني عامر بن لؤي، وقالوا له: ائت محمدا نصالحه، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا، فوالله لا تتحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبدا.
ولم يمانع النبي - صلى الله عليه وسلم - في قبول ذلك، وإن ضج أصحابه بالرفض، وهم لا يعلمون ما يعلم النبي صلى الله عليه وسلم، وما تقتضيه الرسالة، وتحتمه حكمة الدعوة إلى الإسلام.
وقد اجتمع سهيل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وتم الاتفاق المبدئي على الآتي:
· الرسول - صلى الله عليه وسلم - يرجع من عامه هذا، فلا يدخل مكة، وإذا كان العام المقبل دخلها المسلمون فأقاموا بها ثلاثا، معهم سلاح الراكب، والسيوف في القرب، ولا تتعرض قريش لهم بأي نوع من أنواع التعرض.
· وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين، يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض.
· من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وتعد القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين جزءا من ذلك الفريق، فأي عدوان تتعرض له أي من هذه القبائل يعد عدوانا على ذلك الفريق.
· من أتى محمدا من قريش من غير إذن وليه - أي هاربا منهم - رده عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع محمد - أي هاربا منه - لم يرد عليه.
وبعد أن وافق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتم الاتفاق الشفوي وقف عمر - رضي الله عنه - غضبان أسفا، وقال لأبي بكر: «يا أبا بكر، أليس حقا برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال أبو بكر: بلى، قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال بلى، قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟! فقال أبو بكر: يا عمر، الزم غرزه[46]، فإني أشهد أنه رسول الله، فقال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله».
ثم أتى عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له مثلما قال لسيدنا أبي بكر، فرد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: «أنا عبد الله ورسوله، ولن أخالف أمره، ولن يضيعني»[47]. فعندئذ سكن عمر - رضي الله عنه - وعلم أنه أمر الله تعالى[48].
والنظرة المندفعة العجلى إلى بنود الاتفاق ومشارطاته ترى فيه غبنا عظيما للمسلمين، وتعجب من موافقة النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه، ولكن النظر الهادئ، والتأمل الدقيق يوضح ما استفاده المسلمون من فوائد عظيمة بعد هذا الصلح، يشير إلى بعضها الشيخ المباركفوري في تحليله لبنود الصلح فيقول: "هذه هي هدنة الحديبية، ومن سبر أغوار بنودها مع خلفياتها لا يشك أنها فتح عظيم للمسلمين، فقريش لم تكن تعترف بالمسلمين أي اعتراف، بل كانت تهدف إلى استئصال شأفتهم، وتنتظر أن تشهد يوما ما نهايتهم، وكانت تحاول بأقصى قوتها الحيلولة بين الدعوة الإسلامية وبين الناس، بصفتها ممثلة الزعامة الدينية والصدارة الدنيوية في جزيرة العرب، ومجرد الجنوح إلى الصلح اعتراف بقوة المسلمين، وأن قريشا لا تقدر على مقاومتهم.
ثم البند الثالث يدل لفحواه على أن قريشا نسيت صدارتها الدنيوية وزعامتها الدينية، لا تهمها الآن إلا نفسها، أما سائر الناس وبقية جزيرة العرب فلو دخلت في الإسلام بأجمعها، فلا يهم ذلك قريشا، ولا تتدخل في ذلك بأي نوع من أنواع التدخل، أليس هذا فشلا ذريعا بالنسبة إلى قريش؟ وفتحا مبينا بالنسبة إلى المسلمين؟
إن الحروب الدامية التي جرت بين المسلمين وبين أعدائهم لم تكن أهدافها - بالنسبة إلى المسلمين - مصادرة الأموال وإبادة الأرواح، وإفناء الناس، أو إكراه العدو على اعتناق الإسلام، وإنما كان الهدف الوحيد الذي يهدفه المسلمون من هذه الحروب هو الحرية الكاملة للناس في العقيدة والدين )فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر( (الكهف: ٢٩)، لا يحول بينهم وبين ما يريدون أي قوة من القوات، وقد حصل هذا الهدف بجميع أجزائه ولوازمه، وبطريق ربما لا يحصل بمثله في الحروب مع الفتح المبين، وقد كسب المسلمون لأجل هذه الحرية نجاحا كبيرا في الدعوة، فبينما كان عدد المسلمين لا يزيد على ثلاثة آلاف قبل الهدنة؛ صار عدد الجيش الإسلامي في سنتين عند فتح مكة عشرة آلاف.
أما البند الثاني فهو جزء ثان لهذا الفتح المبين، فالمسلمون لم يكونوا بادئين بالحروب، وإنما بدأتها قريش، يقول الله تعالى: )وهم بدءوكم أول مرة( (التوبة: ١٣).
أما المسلمون فلم يكن المقصود من دورياتهم العسكرية إلا أن تفيق قريش من غطرستها، وصدها عن سبيل الله، وتعمل معهم بالمساواة، كل من الفرقتين يعمل على شاكلته، فالعقد بوضع الحرب عشر سنين حد لهذه الغطرسة والصد، ودليل على فشل من بدأ الحرب وضعفه وانهياره.
أما البند الأول فهو حد لصد قريش عن المسجد الحرام، فهو أيضا فشل لقريش، وليس فيه ما يشفي قريشا سوى أنها نجحت في الصد لذلك العام الواحد فقط.
أعطت قريش هذه الخلال الثلاث للمسلمين، وحصلت بإزائها على خلة واحدة فقط، وهي ما في البند الرابع، ولكن تلك الخلة تافهة جدا، ليس فيها شيء يضر بالمسلمين، فمعلوم أن المسلم ما دام مسلما لا يفر عن الله ورسوله، ولا عن مدينة الإسلام، ولا يفر إلا إذا ارتد عن الإسلام ظاهرا أو باطنا، فإذا ارتد فلا حاجة للمسلمين إليه، وانفصاله من المجتمع الإسلامي خير من بقائه فيه، وهذا الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقوله:«إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله» [49]. وأما من أسلم من أهل مكة فهو وإن لم يبق للجوئه إلى المدينة سبيل - لكن أرض الله واسعة، ألم تكن الحبشة واسعة للمسلمين حينما لم يكن يعرف أهل المدينة عن الإسلام شيئا؟ وهذا الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم، بقوله: «ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا» [50].
والأخذ بمثل هذا الاحتفاظ، وإن كان مظهر الاعتزاز لقريش، لكنه في الحقيقة ينبئ عن شدة انزعاج قريش وهلعهم وخورهم، وعن شدة خوفهم على كيانهم الوثني، وكأنهم كانوا قد أحسوا أن كيانهم اليوم على شفا جرف هار، لا بد له من الأخذ بمثل هذا الاحتفاظ، وما سمح به النبي - صلى الله عليه وسلم - من أنه لا يسترد من فر إلى قريش من المسلمين، فليس هذا إلا دليلا على أنه يعتمد على تثبيت كيانه وقوته كمال الاعتماد، ولا يخاف عليه من مثل هذا الشرط" [51].
ولقد أسلم عقب هذه المصالحة عدد من أبطال قريش الذين وجدوا حينئذ وقتا للتفكير في الإسلام والتأمل في روحه بعيدا عن رحى الحروب، وفي مقدمتهم خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة وغيرهم.
كما فرغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمراسلة الملوك والأمراء، والاهتمام بعالمية الدعوة الإسلامية، فانطلقت رسله تحمل كتبا إلى ملوك الدنيا - آنذاك - تدعوهم إلى الإسلام وتشرح لهم حقيقة رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - ودينه الجديد.
"إن هدنة الحديبية كانت بداية طور جديد في حياة الإسلام والمسلمين، فقد كانت قريش أقوى قوة وأعندها وألدها في عداء الإسلام، وبانسحابها عن ميدان الحرب إلى رحاب الأمن والسلام، انكسر أقوى جناح من أجنحة الأحزاب الثلاثة - قريش وغطفان واليهود - ولما كانت قريش ممثلة للوثنية وزعيمتها في ربوع جزيرة العرب، انخفضت حدة مشاعر الوثنيين، وانهارت نزعاتها العدائية إلى حد كبير؛ ولذلك لا نرى لغطفان استفزازا كبيرا بعد هذه الهدنة، وجل ما جاء منهم إنما جاء من قبل إغراء اليهود.
أما اليهود فقد كانوا جعلوا خيبر بعد جلائهم عن يثرب وكرا للدس والتآمر، وكانت شياطينهم تبيض هناك وتفرخ، وتؤجج نار الفتنة، وتغري الأعراب الضاربة حول المدينة، وتبيت للقضاء على النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين، أو لإلحاق الخسائر الفادحة بهم؛ ولذلك كان أول إقدام حاسم من النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الهدنة هو شن الحرب الفاصلة على هذا الوكر.
كما أن هذه المرحلة التي بدأت بعد الهدنة أعطت للمسلمين فرصة كبيرة، لنشر الدعوة الإسلامية وإبلاغها، وقد تضاعف نشاط المسلمين في هذا المجال، وبرز نشاطهم في هذا الوجه على نشاطهم العسكري" [52].
وكل هذه المكاسب والفوائد التي حققها المسلمون من وراء صلح الحديبية إنما كانت نتاجا لحكمة النبي صلى الله عليه وسلم، ورأيه المسدد، وعزماته الموفقة، التي كانت علما من أعلام نبوته، وآية من آيات صدقه ومعية الله له. إنه النظر النبوي الثاقب، والرؤية المحمدية المستقبلية التي تقرأ الواقع وتتأمل معطياته، وتنطلق منها لتستشف المستقبل، وتؤمن له - بإذن الله وتوفيقه - ما يصلحه.
فأين التهور والاندفاع اللذان يتحدث عنهما هؤلاء المشككون؛ ثم أين تردد المسلمين وحيرتهم من تصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذ، نعم لقد ضاقت صدور بعض الصحابة بشروط قريش؛ من رد من يسلم ويأتي محمدا بغير إذن وليه، ومن حميتهم الجاهلية في رد اسم الرحمن الرحيم، وفي رد صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث محاها رسول الله بنفسه وهو يقول: «اللهم إنك تعلم أني رسولك»[53].
وكانت حمية الصحابة لدينهم وحماستهم للقاء المشركين بالغة، يبدو هذا في بيعتهم الإجماعية (بيعة الرضوان)، ثم انتهى الأمر إلى المصالحة والمهادنة والرجوع، فلم يكن هينا على نفوسهم أن تنتهي الأمور إلى ما انتهت إليه، وقد بدا هذا في تباطئهم في النحر والحلق، حتى قالها الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثلاثا، وهم من هم طاعة لأمر رسول الله وامتثالا، حتى إن عروة بن مسعود الثقفي رسول قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤمئذ، قال لقريش حينما رجع إليها: "يامعشر قريش، إني جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وإني والله لم أر ملكا قط مثل محمد في أصحابه، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا"، وعلى الرغم من هذا لم ينحروا ويحلقوا أو يقصروا إلا حين رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل هذا بنفسه، فهزتهم هذه الحركة العملية ما لم يهزهم القول، وثابوا إلى الطاعة كالذي كان في دهشة المأخوذ.
لا يعدو إذن أن يكون موقف الصحابة موقف المفاجأ بغير ما كانت نفوسهم قد خرجت له، وليس موقف المتردد الحائر - كما يزعمون -، ويؤكد هذا أن الله تعالى قد تفضل عليهم بالسكينة لما كان يعلم من قلوبهم، وأن ما جاش فيها جاش عن الإيمان، والحمية الإيمانية لا لأنفسهم، ولا لجاهلية فيهم[54]، يقول تعالى: )هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما (4)( (الفتح).
ترى لو شك الصحابة في أوامر النبي - صلى الله عليه وسلم - وتصرفاته، هل كان الله - عزوجل - يصفهم بالإيمان ويتفضل عليهم بسكينته ويزيدهم إيمانا مع إيمانهم؟!
الخلاصة:
· كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أفصح العرب، وأقواهم حجة، وأقدرهم على الكلام المنطقي المقنع، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم، يقول:«أعطيت فواتح الكلم وخواتمه»[55].
· وكان - صلى الله عليه وسلم - مقتدرا على المناقشة والمحاورة، يقابل الحجة بالحجة ويقرع الدليل بالدليل، ولهذا فقد قطع حجج المشركين حين فاوضوه على ترك دينه، وبلغ رسالة ربه بأوجز الألفاظ وأوقعها وأجمعها.
· كان الصحابة ذوي إيمان راسخ، فلم يشك أحد منهم في شيء من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، أو يطعن في مسلك من تصرفاته ورأيه؛ فقد وضع الصحابة نفوسهم وأموالهم وأولادهم وكل ما يملكون، فداء له صلى الله عليه وسلم، وتأييدا لدينه، ومغازي النبي - صلى الله عليه وسلم - ومواقف حياته كلها ناطقة بذلك وشاهدة عليه، ولو كان أحد من الصحابة شاكا أو حائرا لما ضحى هذه التضحية أو بذل هذا البذل، ومن ثم فليس صحيحا أن أصحابه - صلى الله عليه وسلم - كانوا يشكون في شيء من حديثه، كحديث الإسراء والمعراج، وإنما شك في ذلك المشركون وبعض المذبذبين من حديثي الإسلام ممن لم يتغلغل الإيمان في قلوبهم.
· إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن شخصا انفعاليا غريب الأطوار، حتى يتحير أصحابه من مسالكه في قراراته وتصرفاته، ولو كان انفعاليا مندفعا لما أبرم صلح الحديبية، ولدخل مكة عنوة، لكنه كان حكيما بعيد النظر، وكانت حكمته هذه فاتحة خير كبير على الإسلام والمسلمين.
· إن ما حدث في صدور بعض الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - من ضيق بشروط قريش المجحفة ظاهرا - لايعدو أن يكون موقف المفاجأ بغير ما كانت نفسه قد خرجت له، ولم يصدر ذلك منهم - رضي الله عنهم - إلاعن حميتهم الإيمانية.
(*) مناقشات وردود، محمد فريد وجدي، الدار المصرية