اتهام النبي - صلى الله عليه وسلم - بفساد العقل (*)
مضمون الشبهة:
يتهم بعض الحاقدين النبي - صلى الله عليه وسلم - بفساد العقل، زاعمين أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يذكر أشياء لا تمت للواقع بصلة، ويثبت وجود ما لا وجود له حقيقة، ولا يقوم دليل مادي على ثبوته، ويستدلون على ذلك بأنه أقر بوجود الجن، مستشهدين بما ذكره القرآن الكريم في آيات كثيرة من حديث عن الجن ونحو ذلك، هادفين من وراء ذلك إلى إثبات فساد عقله؛ للخلوص في النهاية إلى إنكار عصمته صلى الله عليه وسلم.
وجوه إبطال الشبهة:
1) الرسول - صلى الله عليه وسلم - أرجح البشر عقلا، وأحسنهم منطقا، فقد خصه الله - عزوجل - بخصائص عقلية وفكرية، لم يخص أحدا بها سواه.
2) إن عدم رؤية الشيء ليست دليلا على عدم وجوده، وقبيح بالعاقل أن ينفي الشيء لعدم علمه بوجوده؛ فالكون حافل بالأسرار والخلائق المجهولة لنا، وعدم إدراكنا لها لا ينفي وجودها.
3) عالم الجن مخلوق حقيقة، وثمة دليلان على وجوده: أحدهما نقلي، والآخر حسي مشاهد.
التفصيل:
أولا. الرسول - صلى الله عليه وسلم - أرجح البشر عقلا:
لقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وافر العقل يزيد عقله على عقل غيره، راجح الرأي، ذكي اللب[1]، حاد الفهم، سريع الإدراك، قوي الحواس (وهي أسباب العلم من السمع، والبصر، والذوق، والشم، واللمس في جميع البدن)، معتدل الحركات والسكنات (من قيام وقعود ومشي ورقود، ونحو ذلك)، حسن الشمائل الخلقية والخلقية، حتى صار بين قومه وغيرهم أعقل الناس، وأذكاهم، فضلا عما أفاضه الله عليه من العلم الاعتقادي والعملي وتقرير أحكام الشرع، دون تعلم سبق، ولا ممارسة تقدمت، ولا مطالعة للكتب منه، وإنما من تعليم الله اللدني، بإلقائه السريع في قلبه وعقله ووعيه، فلم يعد أحد يشك في نفاذ بصيرته، ورجحان عقله، وفهمه الأمور لأول وهلة دون تفكر ومهلة، فكأنه يثقب القلب بقوة فهمه، كما يثقب النجم الظلام بقوة ضوئه.
قال وهب بن منبه - وهو تابعي جليل من المشهورين بمعرفة الكتب الماضية -: "قرأت في واحد وسبعين كتابا، فوجدت في جميعها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرجح الناس عقلا، وأفضلهم رأيا، ووجدت أن الله - عزوجل - لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها من العقل في جنب عقله - صلى الله عليه وسلم - إلا كحبة رمل من رمال الدنيا" [2].
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - إذن أوفر الناس وأرجحهم عقلا، ولم لا وقد أرسله ربه برسالة لا تقتصر على قومه، وإنما للعالم أجمع، فكان من كرامة الله - عزوجل - لنبيه أن أعطاه عقلا يتعامل به مع جميع الأجناس، ومختلف الألسنة، ويفهم به كلام من يكلمه سواء من قريش أم غيرها، أم حتى من العجم [3].
ثم كيف يدعي بعض الواهمين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فاسد العقل، وثمة علماء غربيون - ممن وضعوا الحق في نصابه - شهدوا بكماله صلى الله عليه وسلم، وبأنه أعظم قادة التاريخ، يقول عالم الاجتماع الإيطالي د. أوغسطين كرسيتا في كتابه "عبير الشرق": "إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان ولا شك من أعظم قواد التاريخ، ويصدق عليه القول بأنه كان مصلحا قديرا، وبليغا فصيحا، وجريئا مغوارا، ومفكرا عظيما" [4].
ويقول المستشرق الإسباني جان ليك: "أي رجل أدرك من العظمة الإنسانية، مثلما أدرك محمد صلى الله عليه وسلم؟! وأي إنسان بلغ من مراتب الكمال مثل ما بلغ؟! لقد هدم الرسول المعتقدات الباطلة التي تتخذ واسطة بين الخالق والمخلوق" [5].
وبناء على ما سبق فإن اتهام النبي - صلى الله عليه وسلم - بفساد عقله، إنما هو ضرب من التعصب، ولا تضره - صلى الله عليه وسلم - أقوال الجهلاء واتهامات المتعصبين من المستشرقين، ولله در القائل:
ما يضر البحر أضحى زاخرا
أن رمــى فــيه غـــلام بحجر
ثانيا. عدم رؤية الشيء ليس دليلا على عدم وجوده، فالكون حافل بالأسرار والخلائق المجهولة لنا، وعدم إدراكنا لها لا ينفي وجودها:
في البداية نود أن نوضح أن الجن عالم غير عالم الإنسان وعالم الملائكة؛ فبينهم وبين الإنسان قدر مشترك من حيث الاتصاف بصفة العقل والإدراك، ومن حيث القدرة على اختيار طريق الخير والشر، ويختلفون عن الإنسان في أمور أهمها: أنهم مخلوقون من نار في حين خلق الإنسان من طين.
وقد سمي الجن جنا؛ لاجتنانهم، أي: استتارهم عن العيون، قال ابن عقيل: "إنما سمي الجن جنا لاجتنانهم واستتارهم عن العيون، ومنه سمي الجنين جنينا، وسمي المجن مجنا؛ لستره للمقاتل في الحرب"، وقد جاء في محكم التنزيل: )إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم( (الأعراف: 27) [6].
ولعل استتار الجن عن عيون البشر، هو ما دفع الماديين منهم إلى إنكار وجودهم، وغاية ما عند هؤلاء المنكرين أنه لا علم عندهم بوجودهم، وقد نسوا أو تناسوا أن عدم رؤية الشيء ليس دليلا على عدم وجوده، وقبيح بالعاقل أن ينفي الشيء لعدم إدراكه له، وهذا مما نعاه الله على الكفرة في قوله عزوجل: )بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه( (يونس: 39)، وهذه المخترعات الحديثة التي لا يستطيع أحد أن ينكر وجودها، أكان يجوز لإنسان عاش منذ مئات السنين أن ينكر إمكان حصولها لو أخبره صادق بذلك؟ وهل عدم سماعنا للأصوات التي يعج بها الكون في كل مكان دليل على عدم وجودها، حتى إذا اخترعنا الراديو، واستطاع التقاط ما لا نسمعه بآذاننا صدقنا بذلك[7]؟!
فلا شك أن هذا الكون من حولنا حافل بالأسرار، والقوى والخلائق المجهولة لنا كنها وصفة وأثرا، ونحن نعيش في أحضان هذه القوى والأسرار، نعرف منها القليل، ونجهل منها الكثير، وفي كل يوم نكشف بعض هذه الأسرار، وندرك بعض هذه القوى، ونتعرف على بعض هذه الخلائق تارة بذواتها، وتارة بصفاتها، وتارة بمجرد آثارها في الوجود من حولنا.
ونحن ما نزال في أول الطريق، طريق المعرفة لهذا الكون، الذي نعيش نحن وآباؤنا وأجدادنا على ذرة من ذراته الصغيرة، هذا الكوكب الأرضي الذي لا يبلغ أن يكون شيئا يذكر في حجم الكون أو وزنه!
وما عرفناه اليوم - ونحن في أول الطريق - يعد بالقياس إلى معارف البشرية قبل خمسة قرون فقط عجائب أضخم من عجيبة الجن، ولو قال قائل للناس قبل خمسة قرون عن شيء من أسرار الذرة التي نتحدث عنها اليوم، لظنوه مجنونا، أو لظنوه يتحدث عما هو أشد غرابة من الجن قطعا!
ونحن نعرف ونكشف في حدود طاقتنا البشرية المعدة للخلافة في هذه الأرض، وفق مقتضيات هذه الخلافة، وفي دائرة ما سخره الله لنا؛ ليكشف لنا عن أسراره، وليكون لنا ذلولا؛ كيما نقوم بواجب الخلافة في الأرض، ولا تتعدى معرفتنا وكشوفنا في طبيعتها، وفي مداها مهما امتد بنا الأجل - أي بالبشرية - ومهما سخر لنا من قوى الكون، وكشف لنا من أسرار - لا تتعدى تلك الدائرة - ما نحتاج إليه للخلافة في هذه الأرض، وفق حكمة الله وتقديره.
وسنكشف كثيرا، وسنعرف كثيرا، ولسوف تتفتح لنا عجائب من أسرار هذا الكون وطاقاته، مما قد تعد أسرار الذرة بالقياس إليه لعبة أطفال! ولكننا سنظل في حدود الدائرة المرسومة للبشر في المعرفة، وفي حدود قول الله سبحانه وتعالى: )وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (85)( (الإسراء)، قليلا بالقياس إلى ما في هذا الوجود من أسرار وغيوب لا يعلمها إلا خالقه وقيومه، وفي حدود تمثيله لعلمه غير المحدود، ووسائل المعرفة البشرية المحدودة بقوله عزوجل: )ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم (27)( (لقمان).
فليس لنا - والحالة هذه - أن نجزم بوجود شيء أو نفيه، وبتصوره أو عدم تصوره، من عالم الغيب والمجهول، ومن أسرار هذا الوجود وقواه، لمجرد أنه خارج عن مألوفنا العقلي، أو تجاربنا المشهودة، ونحن لم ندرك بعد كل أسرار أجسامنا وأجهزتها وطاقاتها، فضلا عن إدراك أسرار عقولنا وأرواحنا!
وقد تكون هنالك أسرار ليست داخلة في برنامج ما يكشف لنا عنه أصلا، وأسرار ليست داخلة في برنامج ما يكشف لنا عن كنهه، فلا يكشف لنا إلا عن صفته أو أثره، أو مجرد وجوده؛ لأن هذا لا يفيدنا في وظيفة الخلافة في الأرض.
فإذا كشف الله لنا عن القدر المقسوم لنا من هذه الأسرار والقوى، عن طريق كلامه، لا عن طريق تجاربنا ومعارفنا الصادرة من طاقتنا الموهوبة لنا من لدنه - أيضا - فسبيلنا في هذه الحالة أن نتلقى هذه الهبة بالقبول والشكر والتسليم، نتلقاها كما هي، فلا نزيد عليها، ولا ننقص منها؛ لأن المصدر الوحيد الذي نتلقى عنه مثل هذه المعرفة لم يمنحنا إلا هذا القدر بلا زيادة، وليس هنالك مصدر آخر نتلقى عنه مثل هذه الأسرار[8]!
وصدق الله العظيم إذ يقول: )وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (85)( (الإسراء).
إن هناك عوالم أخرى موجودة في هذا العالم على الرغم من أنها لا تقع تحت حسنا المباشر ومن هذه العوالم عالم الجن، وهو مخلوق خلقه الله بكيفية معينة، وخصه بخصائص يختلف بها عن باقي المخلوقات.
"ولا ينبغي أن يقع العاقل في أشد مظاهر الغفلة والجهل، من حيث يزعم أنه لا يؤمن إلا بما يتفق مع العلم، فيمضي يتبجح بأنه لا يعتقد بوجود الجان؛ من أجل أنه لم يرهم ولم يحس بهم.
إن من البداهة بمكان أن مثل هذا الجاهل المتعالم، يستدعي إنكار كثير من الموجودات اليقينية لسبب واحد هو عدم إمكان رؤيتها، والقاعدة العلمية المشهورة تقول: "عدم الوجدان لا يستلزم عدم الوجود"، أي عدم رؤيتك لشيء تفتش عنه لا يستلزم أن يكون بحد ذاته مفقودا أو غير موجود" [9].
ثالثا. عالم الجن مخلوق حقيقة، وثمة دليلان على وجوده؛ أحدهما: نقلي، والآخر: حسي مشاهد:
إن عالم الجن مخلوق من قبل الله - عزوجل - وموجود حقيقة، وعلى المسلم أن يؤمن بوجودهم، وبأنهم كائنات حية كلفها الله - عزوجل - بعبادته كما كلفنا بذلك، ولئن كانت حواسنا ومداركنا لا تشعر بهم؛ فذلك لأن الله - عزوجل - جعل وجودهم غير خاضع للطاقة البصرية التي بثها في أعيننا، ومعلوم أن أعيننا إنما تبصر أنواعا معينة من الموجودات بقدر معين وبشروط معينة[10].
وعالم الجن - بحسب ما يستخلص من ظواهر القرآن ومن صحاح الأخبار النبوية وحسنها - نوع من المجردات، أي: الموجودات اللطيفة غير الكثيفة، الخفية عن حاسة البصر والسمع، فهي موجودات روحانية مخلوقة من عنصر ناري، ولها حياة وإرادة وإدراك خاص بها لا يدرى مداه.
وهذه الموجودات النارية جنس من أجناس الجواهر تحتوي على الجن وعلى الشياطين، فهما نوعان لجنس الموجودات النارية التي لها إدراكات خاصة، وتصرفات محدودة وهي موجودات مغيبة عن الأنظار ملحقة بعالم الغيب لا تراها الأبصار، ولا تدركها أسماع الناس إلا إذا أوصل الله الشعور بحركاتها وإراداتها إلى البشر على وجه المعجزة خرقا للعادة لأمر قضاه الله وأراده[11].
وثمة دليلان يدلان دلالة قاطعة على وجود الجن:
أولهما: الدليل النقلي؛ ويتمثل في الآيات القرآنية الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة، وهذه الآيات وتلك الأحاديث تنصان صراحة على وجود عالم الجن، وعلى كونهم مخلوقات موجودة بالفعل.
والمتأمل في كتاب الله - عزوجل - يقطع بوجود الجن حقيقة، وكيف لا وهو الكتاب الذي )لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد (42)( (فصلت). هذا وقد جاءت نصوص كثيرة في القرآن تقرر وجودهم، كقوله تعالى: )قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن( (الجن: 1)، وقوله تعالى: )وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا (6)( (الجن).
وهذه آثار من أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحيحة التي تقطع بذلك أيضا. وما كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقول هذا من عند نفسه، وقد قال عنه الله عزوجل: )وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)( (النجم).
فقد انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - من الطائف راجعا إلى مكة حين يئس من خبر ثقيف، حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي، فمر به النفر من الجن الذين ذكرهم الله تعالى، وكانوا سبعة نفر من جن نصيبين، فاستمعوا لتلاوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلما فرغ من صلاته، ولوا إلى قومهم منذرين، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا, فقص الله تعالى خبرهم على النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: )وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين (29) قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم (30)( (الأحقاف)[12]. هبط هؤلاء الجن على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ ببطن نخلة، فلما سمعوه قالوا: )أنصتوا(.
هذه الدعوة التي رفضها المشركون بالطائف تنتقل إلى عالم آخر هو عالم الجن، فتلقوا دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومضوا بها إلى قومهم، كما مضى بها أبو ذر الغفاري إلى قومه، والطفيل بن عمرو إلى قومه، وضماد الأزدي إلى قومه، فأصبح في عالم الجن دعاة يبلغون دعوة الله عزوجل: )يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم (31)( (الأحقاف).
وأصبح اسم محمد - صلى الله عليه وسلم - تهفو إليه قلوب الجن، لا قلوب المؤمنين من الإنس فقط، وأصبح من الجن حواريون حملوا راية التوحيد ووطنوا أنفسهم دعاة إلى الله، ونزل في حقهم قرآن يتلى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. قال عزوجل: )قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا (1) يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا (2) وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا (3) وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا (4) وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا (5) وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا (6) وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا (7) وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا (8) وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا (9) وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا (10) وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا (11) وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا (12) وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا (13)( (الجن).
كان هذا الفتح الرباني في مجال الدعوة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببطن نخلة عاجز عن دخول مكة، فهل يستطيع عتاة مكة وثقيف أن يأسروا هؤلاء المؤمنين من الجن، وينزلوا بهم ألوان التعذيب؟! وعندما دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة في جوار المطعم بن عدي كان يتلو على صحابته سورة الجن، فتتجاوب أفئدتهم خشوعا وتأثرا من روعة الفتح العظيم في عالم الدعوة، وارتفاع راياتها، فليسوا هم وحدهم في المعركة، هناك إخوانهم من الجن يخوضون معركة التوحيد مع الشرك.
وبعد عدة أشهر من لقاء الوفد الأول من الجن برسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء الوفد الثاني متشوقا لرؤية الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - والاستماع إلى كلام رب العالمين.
فعن علقمة قال: سألت ابن مسعود فقلت: «هل شهد أحد منكم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن؟ قال: لا، ولكننا كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا: استطير[13] أو اغتيل[14]، قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء، فقلنا: يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك، فبتنا شر ليلة بات بها قوم، فقال: "أتاني داعي الجن فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن"، قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد فقال: "لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما، وكل بعرة علف لدوابكم"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم» [15] [16].
ونخلص من هذا كله إلى أن وجود الجن معلوم من الدين بالضرورة، يقول ابن تيمية: "لم يخالف أحد من طوائف المسلمين في وجود الجن، ولا في أن الله أرسل محمدا - صلى الله عليه وسلم - إليهم، وجمهور طوائف الكفار على إثبات الجن، أما أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فهم مقرون بهم كإقرار المسلمين، وإن وجد فيهم من ينكر ذلك، كما يوجد في المسلمين من ينكر ذلك".
وهذا لأن وجود الجن تواترت به أخبار الأنبياء تواترا معلوما بالضرورة، ومعلوم بالضرورة أنهم أحياء عقلاء فاعلون بالإرادة، بل مأمورون منهيون، ليسوا صفات وأعراضا قائمة بالإنسان أو غيره - كما يزعم بعض الملاحدة - فلما كان أمر الجن متواترا عن الأنبياء تواترا تعرفه العامة والخاصة، فلا يمكن لطائفة من المنتسبين إلى الرسل الكرام أن تنكرهم[17].
وثانيهما: الدليل الحسي المشاهد؛ لقد تجاهل هؤلاء الطاعنون الواقع المعيش والمشاهد، وذلك حينما ادعوا أن الجن شيء غير موجود؛ وذلك لأننا لا نراه ولا ندركه، وإذا التمس هؤلاء هذا الواقع فإنه سيطلعهم لا محالة على أن كثيرا من الناس في عصرنا وقبل عصرنا شاهد شيئا من ذلك، وإن كان كثير من الذين يشاهدونهم ويسمعونهم لا يعرفون أنهم جن؛ إذ يزعمون أنهم أرواح، أو رجال الغيب، أو رجال فضاء[18].
وإذا كان مثيرو هذه الشبهة - الماديون الحسيون - لا يؤمنون إلا بما هو حسي مشاهد فلم أغفلوا هذا الدليل الحسي الذي يقطع بوجود الجن؟!
الخلاصة:
· لا يصح أن يتهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بفساد عقله لذكره الجن؛ لأن وجود الجن حقيقة واقعة، وإن شكك في ذلك المشككون، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - أرجح الناس عقلا؛ إذ خصه الله بخصائص عقلية، وفكرية، ما خص بها أحدا من البشر، وقد اعترف برجاحة عقل النبي - صلى الله عليه وسلم - أعداؤه قبل أتباعه.
· لا يمكن بحال من الأحوال إنكار وجود الجن لعدم رؤية البشر لعالمهم، أو عدم علمهم به؛ لأن عدم العلم بالشيء لا ينفي وجوده؛ وذلك لأن الكون حولنا مليء بالأسرار التي لا نراها، ولا نحيط بها علما، فالبشر يعرفون ويكتشفون في حدود الطاقة البشرية المعدة للخلافة في الأرض، ووفق مقتضيات هذه الخلافة، وفي دائرة ما سخره الله لهم، أما ما هو خارج عن هذه الدائرة، فلا نملك إلا أن نتلقاه كما هو فلا نزيد عليه، ولا ننقص منه؛ لأن المصدر الوحيد الذي نتلقى عنه مثل هذه المعرفة، هو الوحي الإلهي، وما أخبرت به الرسل الكرام.
· عالم الجن عالم مخلوق وموجود حقيقة، والأدلة على وجوده نوعان؛ الأول: أدلة نقلية تتمثل في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي تقطع بوجود الجن، والآخر: أدلة حسية مشاهدة تتمثل في أن كثيرا من الناس شاهد شيئا من هذه المخلوقات، وإذا كان مثيرو هذه الشبهة لا يؤمنون إلا بما هو حسي - فلم لا يؤمنون بوجود الجن وقد رآهم بعض الناس؟!
(*) السيرة النبوية وأوهام المستشرقين، عبد المتعال محمد الجبري، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1408هـ/ 1988م.