ادعاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مصابا بالجنون والصرع(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المغرضين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مصابا بالجنون، وتنتابه حالات من الصرع، ويستدلون على ذلك بما وصفه به قومه من الجنون وفقدان العقل، وبأنه - صلى الله عليه وسلم - كان ضعيف البنية الجسدية مثله مثل سائر المصابين بالصرع وبأنه - صلى الله عليه وسلم - كانت تصيبه حالات من التشنج والتعصب عندما يأتيه الوحي. هادفين من وراء ذلك إلى الطعن في عصمته - صلى الله عليه وسلم - في عقله، ومن ثم إنكار نبوته.
وجوه إبطال الشبهة:
1) إن سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - تشهد بكمال عقله - صلى الله عليه وسلم - وبسلامة حواسه وبقوة بنيانه الجسدي.
2) كيف تؤمن أمة بأكملها برسالة رجل مصروع؟! بل كيف يقنعهم بما جاء به فيصدقونه ويسيرون تحت قيادته؟! وكيف يصنع منهم أمة ذات حضارة عريقة إلا إذا كان ذا عقلية موهوبة وذكاء حاد، إضافة إلى التوفيق والتأييد من عند الله؟! لذا كان - صلى الله عليه وسلم - أمة وحده.
3) ما كان يحدث له - صلى الله عليه وسلم - عندما كان يأتيه الوحي في بعض صوره ليس بصرع، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يفقد الوعي، بل كان يدرك كل ما حوله، ثم يتلو على أصحابه ما نزل من القرآن، بخلاف المصروع الذي يفقد وعيه ولا يدرك شيئا مما حدث له.
4) لقد تناقض المشركون مع أنفسهم حينما اتهموا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنون؛ لأنهم كانوا يعلمون مدى رجحان عقله صلى الله عليه وسلم، فرد القرآن على مزاعم هؤلاء السفهاء، وبين تهافت أقوالهم.
التفصيل:
أولا. أجمع المؤرخون على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة وبعدها كان يتمتع بكامل قواه العقلية، والجسدية:
بداية نشير إلى أن كمال العقل وفطنته من أبرز صفات الرسل الذاتية التي منحهم الله تعالى إياها، وهي من لوازم الرسالة الإلهية، والاصطفاء الرباني لها: كما أنها عامل مهم، وسبب قوي من أسباب تبليغ رسالة الرسل إلى أقوامهم، ومعالجتهم بالتربية الحكيمة، والقيادة السليمة وفق طبائعهم وأخلاقهم، قال تعالى: )ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن( (النحل: 125)، وواضح من هذه الآية الكريمة التي تبين سبيل الدعوة أنها تعتمد على رجاحة العقل وفطنته.
فلابد أن يكون الرسول أكمل الناس عقلا وفطنة، حتى يقيم الحجة على قومه على خير وجه، بحيث تكون ملزمة للخصم كل الإلزام، فإن آمن، وإلا جادله فاستعمل معه أسلوب المعارضة والمناقضة الذي يقتضي الحكمة والذكاء[1].
والمتأمل في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - يجدها خير دليل على ما كان يتمتع به - صلى الله عليه وسلم - من كمال في عقله، وقوة في بدنه، فقد كانوا قبل البعثة يسمونه الصادق الأمين، وقد كانوا يتحاكمون إليه فيما يختلفون فيه، وهذا دليل على رجحان عقله، وقد ذكر المؤرخون قصة بناء الكعبة، وأن قريشا اختلفوا في وضع الحجر الأسود، ومن يكون له الشرف في وضعه وأرادت كل قبيلة رفعه، حتى كادوا أن يتقاتلوا، وتواعدوا للقتال، ثم تشاوروا فيما بينهم فجعلوا أول من يدخل عليهم من باب بني شيبة يقضي بينهم.
فكان أول من دخل عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رأوه، قالوا: هذا الأمين رضينا به وأخبروه الخبر، فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رداءه وبسطه على الأرض، ثم أخذ الحجر فوضعه فيه، ثم قال لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه. ففعلوا فلما بلغ موضعه، وضعه هو بيده الشريفة، فرضوا بذلك وانتهوا عن الشرور[2].
وبذلك رفع ما بينهم من ذلك الخلاف الذي كاد يودي برجالهم، والذي حارت فيه عقولهم، وفيهم المشهورون بالعقل والحنكة والتجربة والسؤدد، حتى خلصهم من هذه المشكلة ذو الفطنة النبوية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو يومئذ في سن الخامسة والثلاثين من عمره صلى الله عليه وسلم، على الرغم من وجود الكبار العقلاء والنبلاء جدا، إلا أنه هو الذي حل المشكلة[3].
فانظر إلى مدى حكمة النبي - صلى الله عليه وسلم - ورجحان عقله، وقوة بصيرته، ولا شك أن هذا منحة من الله - عزوجل - له؛ لإعداده لحمل الرسالة، وقيادة الأمة.
"هذا ومن تأمل حسن تدبيره للعرب الذين هم كالوحوش الشاردة في طباعهم المتنافرة المتباعدة، وكيف ساسهم، واحتمل جفاهم، وصبر على أذاهم، إلى أن انقادوا إليه، فالتفوا حوله، وقاتلوا دونه أهليهم، وآباءهم وأبناءهم، واختاروه على أنفسهم، وهجروا في رضاه أوطانهم، وأحباءهم من غير ممارسة سبقت له، ولا مطالعة كتب تعلم منها أخبار الماضين - تحقق أنه أعقل العالمين صلى الله عليه وسلم " [4].
وكما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كامل العقل، فإنه كان يتمتع بقوة جسدية كبيرة، وكان شجاعا مقداما، سليم الجسم، صحيح البدن، حتى إنه صارع ركانة بن يزيد المشهور بشجاعته فصرعه، وقد كان ركانة هذا من أصلب الناس عودا، وأشدهم بأسا[5].
وقد كان من شدة قوته أنه - صلى الله عليه وسلم - عمل برعي الأغنام في صغره، ثم تاجر مع عمه أبي طالب إلى اليمن وإلى الشام، ولما رأت السيدة خديجة مدى صدقه - إلى جانب قوته وشدته وأمانته -، عرضت عليه أن يتاجر لها في مالها، ثم تزوجته لما وجدت فيه من الأمانة، وحسن الخلق.
وليس أدل على قوته وشجاعته من موقفه يوم إسلام سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إذ يقول سيدنا عمر: فجلست بين يديه - أي بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخذ بمجمع قميصي فجبذني[6] إليه، ثم قال: أسلم يا ابن الخطاب اللهم اهده، قال: قلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فكبر المسلمون تكبيرة سمعت بطرق مكة[7].
فهذه بعض المواقف التي تدل على مدى قوة عقله ورجاحته، وقوة بدنه صلى الله عليه وسلم، وهذا ينفي مرضه البدني والعقلي، كما يدعي بعض المشككين.
ثانيا. كيف تؤمن أمة بأكملها برسالة رجل مصروع، بل كيف يقنعهم بما جاء به، فيصدقونه ويعظمونه ويسيرون تحت قيادته:
إن مهمة النبوة مهمة خطيرة، ومسئولية لا يقدر على حملها إلا من أعده الله - عزوجل - إعدادا يليق بجلال هذه المهمة، وإن محمدا - صلى الله عليه وسلم - قد خصه الله تعالى بهذا الإعداد دون أبناء عصره كلهم، ونحن إذا نفذنا ببصيرتنا في أعماق شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتتبعنا سيرته الشريفة تجلى لنا بوضوح هذا الإعداد.
إن جميع الصفات النفسية التي خلقها الله - عزوجل - في محمد - صلى الله عليه وسلم - هي غاية ما يتصور في الإنسان من النبل والسمو، وإن هذه الصفات على ما هي عليه من الكمال والتكامل والوفرة ما اجتمعت إلا في نبي، بل هي لم تكتمل في نبي كما اكتملت في محمد صلى الله عليه وسلم.
والذي نريد أن ننبه عليه هنا أن هذا النبل والسمو والاكتمال والتكامل لا يمكن أن يجتمع في نفس إلا بعناية إلهية خاصة، ولمهمة خاصة يريد الله - عزوجل - أن ينيطها بمن توفرت فيه[8].
ومن الصفات الأساسية التي لا بد لكل رسول أن يتصف بها العقل؛ إذ لا يسلم الناس لأي شخص ولا يتبعون إنسانا إلا إذا كان أرجحهم عقلا، ليطمئنوا إلى أنه لا يسير بهم في الطريق الخطأ، كما أنه بدون العقل الذكي العبقري لا يستطيع صاحب الرسالة أن يقنع الآخرين بالحق الذي معه، وخاصة أصحاب المدارك الواسعة، والعقول الكبيرة، ولا يستطيع أن يرد هجمات المبطلين والمتكبرين والمنحرفين والمنتفعين، ولقد بلغ محمد - صلى الله عليه وسلم - من رجاحة العقل وكماله الغاية القصوى التي لم يبلغها أحد سواه، وذلك بنعمة الله - عزوجل - وفضله.
ونحن نتساءل أيضا: هل الذين آمنوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ خمسة عشر قرنا واتبعوا الدين الذي جاء به، من قادة الفكر على امتداد العصور، كلهم أغبياء مغرورون، لم يميزوا بين الحق والباطل، والصدق والكذب، والصحة والمرض، والكمال والنقص[9]؟!
ثم كيف يتفق ذلك الداء العضال الذي أعيى الأطباء، وما انتدب له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تكوين شموس أبية، وتربيتها على أسمى نواميس الهداية وقوانين الأخلاق، وقواعد النهضة والرقي، مع أنها أمة صحراوية النفوس، صخرية الطباع؟!
أضف إلى ذلك أنه نجح في هذه المحاولة المعجزة، إلى درجة جعلت تلك الأمة بعد قرن واحد من الزمان، هي رائدة الأمم، وصاحبة العلم، وربة السيف والقلم، فهل المريض المتهوس الذي لا يصلح لقيادة نفسه، يتسنى له أن يقوم بهذه القيادة العالمية الفائقة، ثم ينجح فيها هذا النجاح المعجز المدهش[10]؟
ويتجلى كمال عقله - صلى الله عليه وسلم - وسعة فكره في مواجهته - صلى الله عليه وسلم - للعالم الذي انتشرت الجاهلية في جميع طبقاته حتى ضلت عقولهم، وتحويل هذه العقلية إلى عقلية لطيفة سليمة صائبة، وهو أمر يحتاج إلى عقل رجيح، وفكر صحيح، ولا ريب أن ذلك كان بتعاليم أحكم الحاكمين وبوحي رب العالمين، ولكن التعاليم الإلهية، والإيحاءات الربانية لا بد لها من عقل كبير مشرق منير قد أعده الله لحملها، ويتجلى كمال عقله - صلى الله عليه وسلم - في أساليب احتجاجه على عبدة الأوثان، وأدلته على اليهود والنصارى، وإلزامهم الحجة، وإفحامهم، وإلقامهم حجر الخذلان.
ويتجلى كمال عقله - صلى الله عليه وسلم - في منهجه التربوي في تعليم الشاب الذي جاءه يستأذنه في الزنا بقوله: «أتحبه لأمك؟ قال: لا، قال: وكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتم، أتحبه لابنتك؟ قال: لا، قال: وكذلك الناس لا يحبونه لبناتهم، أتحبه لأختك؟ قال: لا، قال: وكذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم، أتحبه لعمتك؟ قال: لا، قال: وكذلك الناس لا يحبونه لعماتهم، أتحبه لخالتك؟ قال: لا، قال: وكذلك الناس لا يحبونه لخالاتهم، فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده على صدره وقال: اللهم كفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه» [11].
ويتجلى كمال عقله الشريف في يقظته مع المتربصين له بالعداوة، وأخذه بأنواع الحذر منهم، ورده مكرهم عليهم، فقد أمر زيد بن ثابت أن يتعلم كتابة اليهود ولغتهم؛ أخذا بأسباب التحفظ من مكرهم وخديعتهم، ومن هنا قيل: من تعلم لغة قوم أمن مكرهم.
وأرسل يوم بدر من يكشف له عن عدد العدو، وهذا يدل على تمام يقظته التي يتجلى فيها كمال عقله الشريف، ومن ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يلبس أمور الحرب على أعدائه ويخفيها عنهم؛ كيلا يتفطنوا لها ويستعدوا للدفاع أو يزيدوا في الجمع، وفي ذلك حقن للدماء. وليس أدل على هذا من قوله صلى الله عليه وسلم «الحرب خدعة» [12].
وكل هذا يدل على كمال يقظته بأخذه بأسباب التحفظ، والحيطة، أو بأسباب تخويف وإرهاب الأعداء، وهذا من كمال عقله صلى الله عليه وسلم [13].
ثم أنى لمصروع أن يقود أمة بإدارة حكيمة، ورأي سديد، وتخطيط ناجع فعال حتى إن خططه الحربية لتدرس في أعرق المؤسسات العسكرية وأحدثها اليوم، فإن سياسته - صلى الله عليه وسلم - في إقامة الدولة الإسلامية وتدبير شئونها بحكمة وذكاء وحنكة، من أكبر الدلائل على أن الله - عزوجل - قد حباه من الذكاء الفطري والحكمة الفياضة، وبعد النظر وحسن التصرف في الأمور ما يقصر عنه كل وصف، وإن كنا لا ننكر دور العلم في صقل هذه الفطرة السياسية والتسامي بها، فإننا نعلم أن السياسة لا يتعلمها المرء في كتاب أو مدرسة بقدر ما تنضح بها فطرته، وإن المتصفح لسيرته الشريفة يظهر له هذا بكل وضوح.
ومن أنصع الأدلة على حنكته الفذة وسياسته الرشيدة صلى الله عليه وسلم، أنه كان يعرف كيف يمتص الحقد من قلوب الناس ويحل مكانه الحب والاحترام؛ ويتضح ذلك في مواقف كثيرة، منها: موقفه مع أبي سفيان الذي تصور يوم الفتح أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - ربما يسلبه الشرف والمكانة التي هو فيها، ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - امتص هذا الحقد بتصرفه الحكيم، وأكد له أن الإسلام لا يزيد العزيز إلا عزا؛ فأعلن: "أن من دخل دار أبي سفيان فهو آمن..."، وكذلك يوم الفتح حين ظنت قريش أن الدائرة قد دارت عليهم، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سيقتص منهم؛ حتى إن بعض أصحابه كان يقول: اليوم يوم الملحمة؛ ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول: «هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة ويوم تكسى فيه الكعبة» [14]. وغير ذلك من المواقف.
أبعد هذا كله يقولون: مجنون مصروع، أمجنون مصروع يبني دولة وينشئ نظاما ويقيم دينا، ويعيش منهجه في أجيال الناس منذ أن قام إلى اليوم دون أن يصاب بنكسة أو خلل؟! أمجنون مصروع يثبت لهذه العواصف العاتية المزمجرة وحيدا في وجه أمة صحراوية النفوس صخرية الطباع، ثم لا يكون منه في حال من الأحوال تخاذل أو ضعف، حتى يحول هذه العواصف إلى أنسام عليلة وريح رخاء[15]؟!
ثالثا. هناك فروق كثيرة بين الوحي بأشكاله المختلفة، وبين حالات الصرع التي تنتاب المصروع، ويعاني منها أشد المعاناة:
إن ثمة فرقا واضحا بين صور الوحي الذي كان يتلقاه النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين أعراض مرض الصرع؛ إذ إن من أعراض مرض الصرع أن يرى المريض شبحا، أو يسمع صوتا، أو يشم رائحة، ويعقب ذلك وقوع المريض صارخا على الأرض، فاقدا وعيه، ثم تتملكه رعدة تشنجية تتصلب فيها العضلات، وقد يتوقف فيها التنفس مؤقتا، ويعقب ذلك خور في القوى، واستغراق في النوم يصحو المريض منه خالي الذهن من تذكر ما حدث له.
فإذا كان هذا هو الثابت علميا، فهو بخلاف أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يكن يظهر عليه شيء مما ذكر من أعراض هذا المرض عند نزول الوحي عليه، بل يظل في تمام وعيه، وكامل قوته العقلية، قبل الوحي وأثناءه وبعده، كما قال - صلى الله عليه وسلم - لما سئل: كيف يأتيك الوحي؟ قال: «أحيانا يأتيني مثل صلصة الجرس، وهو أشده علي، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال» [16].
وقد كان جبريل - عليه السلام - يأتي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة الرجل فيحادثه أمام جمع من الناس وهم يشاهدونه، كما ثبت في حديث جبريل المشهور الذي سأل فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام والإيمان والإحسان، وكما جاء في حديث ابن عمر من إتيان جبريل - عليه السلام - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صورة الصحابي الجليل دحية الكلبي.
لقد عاش النبي - صلى الله عليه وسلم - طيلة حياته في صحة نفسية وعصبية وعقلية دائمة، لم يطرأ عليه أي خلل في عقله أو أعصابه في يوم من الأيام، بل كان كمال عقله - صلى الله عليه وسلم - بشهادة القرآن والسنة والتاريخ - مضرب الأمثال[17].
ثم إن الرسول عندما كان ينزل عليه الوحي كان يعرق، ويصاب برعشة خفيفة، ثم يأتيه مثل صلصلة الجرس، بعد ذلك يقول ما نزل عليه من الوحي مباشرة، وقد نزل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - (114) سورة في مكة والمدينة، وظل الرسول - صلى الله عليه وسلم - حافظا لكل هذه السور إلى آخر يوم من حياته، وكان هو المرجعية الوحيدة للمسلمين والصحابة في كل ما يخص القرآن ونزوله، ومن المعروف أن المريض بالصرع، يصاب بحالة فقدان للوعي تامة فلا يذكر شيئا مما يحدث، ولا يذكر من هو، أو المكان الذي هو فيه، وهذا الأمر غير وارد مع الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان في حالة وعي كامل يذكر كل ما جاء به الوحي، فأين الصرع الذي أصيب به الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما يدعون؟
ومن المعروف أن المصاب بالصرع غير قادر على تحمل مسئولية نفسه فضلا عن غيره؛ لأن نوبات الصرع يمكن أن تأتي في أي وقت، وليس لها أعراض تمهيدية، ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يقود أمة بأسرها، وكون أول دولة إسلامية، ووضع أسس الحضارة الإسلامية، وبالإضافة إلى ما سبق فإن أهل مكة وهم أعداء شهدوا له برجاحة العقل وسلامة التفكير[18].
ومن هذا كله يتضح لنا الفرق بين الوحي، وحالات الصرع التي قد تصيب الإنسان، فتغير حاله، وتزيل عقله.
ثم لو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مصابا بمرض الصرع، لذكر ذلك أصحابه الذين لم يتركوا صغيرة ولا كبيرة إلا نقلوها عنه، أو ذكره أعداؤه في ذلك العصر، هؤلاء الذين كانوا يتربصون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - الدوائر، ويريدون أن يظفروا منه ولو بشيء يسير يعيرونه به، أليسوا هم القائلين: )وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم (31)( (الزخرف)؟!
ومن ثم فإن أقصى ما عابوه عليه أنه فقير، ومثله في نظرهم لا يستحق أن يكون نبيا، فلو كان مريضا بالصرع - كما زعم هؤلاء الحاقدون - لوجد أعداؤه في ذلك فرصة سانحة للطعن فيه[19].
ولقد كان من شدة حرص الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الوحي وتمام إدراكه للتنزيل أنه كان يسارع بتلاوة ما يوحى إليه قبل أن يفرغ الملك من إلقاء الفيض القرآني، فنهي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ونزل قوله عزوجل: )لا تحرك به لسانك لتعجل به (16) إن علينا جمعه وقرآنه (17) فإذا قرأناه فاتبع قرآنه (18) ثم إن علينا بيانه (19)( (القيامة)، وهذا تعليم من الله - عزوجل - لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في كيفية تلقيه الوحي من الملك، فإنه كان يبادر إلى أخذه ويسابق الملك في قراءته، فأمره الله - عزوجل - إذا جاءه الملك بالوحي أن يستمع له، وتكفل الله له أن يجمعه في صدره، وأن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه، وأن يبينه له ويوضحه.
ومما يدل على أن إحساسه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يغيب عما حوله ومن حوله أثناء الوحي، ما جاء عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: «خرجت سودة بعدما ضرب الحجاب لحاجتها، وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها، فرآها عمر بن الخطاب، فقال: يا سودة، أما والله ما تخفين علينا، فانظري كيف تخرجين، قالت: فانكفأت راجعة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتي، وإنه ليتعشى، وفي يده عرق[20]، فدخلت فقالت: يا رسول الله، إني خرجت لبعض حاجتي فقال لي عمر كذا وكذا، قالت: فأوحى الله إليه ثم رفع عنه، وإن العرق في يده ما وضعه، فقال: إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن» [21] [22].
ومن ثم فإن ما كان يحدث للنبي - صلى الله عليه وسلم - من حالات أثناء تلقيه الوحي، هي أبعد ما تكون عن حالات الإغماء الهستيرية التي تنتاب المصابين بالصرع والجنون.
تقول الباحثة هدى عبد الكريم مرعي: إن اتهام هؤلاء للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالإصابة بالصرع أمر يكذبه الواقع ويدحضه، وزعمهم أنه - صلى الله عليه وسلم - نسي الليل والنهار والحلم واليقظة، وأنه يهيم بين شعاب الجبال، ويخر مغشيا عليه، ما هو إلا نسيج خيال لا أساس له من الصحة، فلم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه بلغ به الجهد في خلوته، وإن الروايات الصحيحة ترد كل هذه المزاعم والأقاويل الباطلة.
وليس أدل على انتفاء هذه الفرية وبطلانها من كفاحه المرير في سبيل نشر دعوته، ومن سياسته الحكيمة وخططه الحربية وتنظيماته الاجتماعية، فلو كان مصابا بالانهيار العصبي - كما يزعمون - فهل يقوى على مثل هذا النضال الطويل، وهل يؤثر عنه تلك السياسة البارعة والتنظيمات الدقيقة؟!
أما ادعاؤهم بأن ما كان يظهر على النبي - صلى الله عليه وسلم - من أعراض حين كان يتصل بالوحي إنما هو من جراء أعراض صرع فادعاء باطل، يدل على جهلهم المستحكم بحقيقة الوحي؛ لأن وحي الله لأنبيائه لا يمكن إخضاعه لقوانين البحث؛ لأنه فوق العقل وفوق العلم البشري.
وأعراض الصرع تختلف تمام الاختلاف عما كان يعتري النبي - صلى الله عليه وسلم - عند اتصاله بالوحي، فهي أعراض مرضية مصحوبة باصفرار في الوجه وبرودة في الأطراف واصطكاك في الأسنان وغيبوبة كاملة، إذ يحتجب نور العقل ويخيم الجهل، فلا يذكر من يصاب بذلك أي شيء مما حدث له، بل ينسى هذه الفترة من حياته نسيانا تاما.
ثم إن نزول الوحي لم يقترن بغياب الوعي دائما، إذ كان يأتيه أمين الوحي أحيانا في صورة رجل، فيحادثه ويوحي إليه بما شاء الله أن يوحي به إليه.
يقول د. محمد حسين هيكل في الرد على هذه الفرية: "وتصوير ما كان يبدو على محمد - صلى الله عليه وسلم - في ساعات الوحي على هذا النحو الخاطئ من الناحية العلمية أفحش الخطأ، فنوبة الصرع لا تذر عند من يصيبه أي ذكر لما مر به أثناءها، بل هو ينسى هذه المدة من حياته بعد إفاقته من نوبته نسيانا تاما، ولا يذكر شيئا مما صنع أو حل به خلالها؛ ذلك لأن حركة الشعور والتفكير تتعطل فيه تمام التعطل، هذه أعراض الصرع كما يثبتها العلم، ولم يكن ذلك مما يصيب النبي - صلى الله عليه وسلم - أثناء الوحي، بل كانت تتنبه حواسه ومداركه في تلك الأثناء، تنبها لا عهد للناس به، وكان يذكر بدقة - غاية الدقة - ما يتلقاه وما يتلوه بعد ذلك على أصحابه، ثم إن نزول الوحي لم يكن يقترن حتما بالغيبوبة الجسمية مع تنبه الإدراك الروحي غاية التنبه، بل كان كثيرا ما يحدث والنبي - صلى الله عليه وسلم - في تمام اليقظة العادية.
فالصرع يعطل الإدراك الإنساني وينزل بالإنسان إلى مرتبة آلية يفقد أثناءها الشعور والحس، أما الوحي فسمو روحي اختص الله به أنبياءه؛ ليلقي إليهم بحقائق الكون اليقينية العليا كي يبلغوها للناس، وقد يصل العلم إلى إدراك بعض هذه الحقائق ومعرفة سنتها وأسرارها بعد أجيال وقرون وقد يظل بعضها لا يتناوله العلم حتى يرث الله الأرض ومن عليها" [23].
وعليه فإن الوحي من الظواهر التي يعجز العلم حتى الآن عن إدراكها أو تفسيرها، ومن غير الإنصاف الحكم على الحالات التي كانت تعتري النبي - صلى الله عليه وسلم - أثناء تلقيه الوحي بأنها نوع من الصرع أو الجنون، نعم الوحي ظاهرة لم يعرف العلم تفسيرها - حتى الآن - ولكن لا عيب على العلم في هذا ولا عجب، فعلمنا ما يزال قاصرا عن تفسير بعض الظواهر الكونية القريبة منا كالشمس، والقمر، وغيرها من الكواكب الأخرى التي نراها، وكذا لا يزال عاجزا عن التوصل إلى حقيقة الروح، وماهيتها، ومكان وجودها، فإذا كان هذا واقعا في الحياة العادية وفيما نشاهد، كان عجزنا عن محاولة تفسير ظواهر الحياة جميعها بما فيها الوحي على الطريقة العلمية، عجزا تاما وتعد محاولتنا تلك محاولة عقيمة وإسرافا معيبا.
وأخيرا نقول: إن المصابين باعتلال الأعصاب لا يتنبأون فتصدق نبوءاتهم، ولا يتصدون للخرافات هدما، ولا يصححون الانحرافات التي وقع فيها أصحاب الأديان السابقة، فيردونهم إلى جادة الصواب، ويقولون لهم: إن الله واحد لا اثنان ولا ثلاثة، وإنه رب العالمين لا رب هذه الأمة وحدها أو تلك، وإنه صاحب السلطان المطلق والقدرة اللامحدودة الذي لا يمسه لغوب، وإن البشر جميعا سواسية أمام عدله الذي لا يحده حد، وإن الحياة ليست عبثا لا طائل تحتها، بل هي ممتدة إلى ما بعد الموت حيث الحساب الدقيق والرحمة للضعف البشري، والانتقام من الجبارين على أساس من المسئولية الفردية التي تشمل نية الشخص وجهده وطاقته.
أمن الممكن أن يكون هذا كله نتاج أعصاب معتلة وعقل مضطرب، ونفس مكتئبة؟![24].
رابعا. تناقض المشركين مع أنفسهم حينما اتهموه - صلى الله عليه وسلم - بالجنون:
لقد تناقض المشركون مع أنفسهم حينما اتهموا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنون؛ لأنهم كانوا يعلمون تمام العلم رجحان عقله صلى الله عليه وسلم، فرد القرآن على مزاعم هؤلاء السفهاء، وبين تهافت أقوالهم في كثير من الآيات:
إن ما يذهب إليه هؤلاء المدعون من اتهام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنون لأن قومه قد وصفوه بذلك - زعم باطل واه، ولقد عرض لنا القرآن مقالة هؤلاء السفهاء الذين اتهموا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنون، وناقشهم، وبين لهم طرائق الوصول إلى الحق، وكشف عن دخائل نفوسهم الخبيثة، ولو تتبعنا حديث القرآن عن هذا الجانب لوجدناه على النحو الآتي:
1. قال عزوجل: )وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون (6)( (الحجر) والذكر هو القرآن، وسمي به لشرف القرآن وعلو قدره، ولما فيه من الموعظة وخبر القرون السوالف، وعندما قال المشركون: )يا أيها الذي نزل عليه الذكر( قصدوا الاستهزاء والتهكم، فكان الرد المناسب لافترائهم هو: )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)( (الحجر).
2. بين القرآن استكبارهم وافتراءهم فقال عزوجل: )إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون (35) ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون (36)( (الصافات)، فالقضية عند هؤلاء ليست بحثا عن الحق، وليست معرفة بالقيم، وليست التزاما بالصدق، وإنما هو التعصب للتقاليد البالية، والأعراف الفاسدة، والتعلق بمظاهر الحياة الخادعة.
وقد أوقعهم هذا في التخبط، فحين يريدون اتهام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالجنون، إذ لا فكر، ولا وعي، ولا اختيار - يجمعون عليه وصف الشعر حيث الخيال الجامح، والتعبير الساحر، واختيار اللفظ البديع، والإيقاع المؤثر.
وكان الرد القرآني هنا هو: )بل جاء بالحق وصدق المرسلين (37)( (الصافات)، والحق هو الثابت، وهو المطابق للواقع، والمجنون لا يعرف الحق، والشاعر لا يلتزم بالواقع.
والدعوة للحق هي رسالة كل نبي، وقد التقى هتاف محمد - صلى الله عليه وسلم - بهتاف إخوانه المرسلين، وتطابقوا في المبدأ والمعاد، وأصول العبادات، ومكارم الأخلاق، فليس في الأمر اختلاق ولا وهم.
3. كشف القرآن عن عناد القوم ومكابرتهم مع وضوح الدلائل، وقوة البراهين فقال عزوجل: )أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين (13) ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون (14)( (الدخان)، فدلائل النبوة واضحة، وكل من تأمل حياة محمد - صلى الله عليه وسلم - قبل الرسالة وبعدها عرف أنه الصادق الأمين، أيده الله بالمعجزة التي تتحداهم صباح مساء أن يأتوا بمثلها.
4. حرص القرآن في موضعين على تأكيد أن الاصطفاء الإلهي للوحي نعمة على محمد - صلى الله عليه وسلم - وأن الله خير الشاهدين على خلقه، وسلوكه، فقال عزوجل: )فذكر فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون (29)( (الطور). وقال في سورة القلم: )ما أنت بنعمة ربك بمجنون (2) وإن لك لأجرا غير ممنون (3) وإنك لعلى خلق عظيم (4)( (القلم).
وأعقب ذلك في السورة الأولى التحدي بالقرآن، فقال عزوجل: )فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين (34)( (الطور).
وتلا ذلك في السورة الثانية تحد من نوع آخر، يمكن أن نسميه التحدي بالخلق والسلوك المحمدي، فقال: )فستبصر ويبصرون (5) بأيكم المفتون (6)( (القلم)، أي: فستعلم يا محمد، ويعلم الناس كافة من المجنون ومن الضال عن الحق.
5. انطلق القرآن في حديثه عن هذا الجانب انطلاقا يصعق قلوب المشركين، ويزيدهم حيرة وقلقا واضطرابا:
إن الرسالة المحمدية ليست موجهة لكم فقط، ولا خاصة بزمانكم أو عالمكم، إنها رسالة للعالمين..!!
وإن الرسول الذي يحرص على هدايتكم، ويقدم لكم سبيل شرفكم ومجدكم، مؤهل لقيادة العالمين، ويولى وجهه إلى الثقلين في دعوة مخلصة للتي هي أقوم، وقد عبر القرآن عن هذا المعنى في موضعين: فقال - عزوجل - في سورة القلم: )وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون (51) وما هو إلا ذكر للعالمين (52)( (القلم).
وهكذا فجعت سورة القلم المشركين في عقيدتهم وعقولهم بأن هناك عالما أرحب هو مجال هذه الدعوة، وفجأتهم بهذا الأمر العظيم، وقال - عزوجل - في سورة التكوير: )وما صاحبكم بمجنون (22) ولقد رآه بالأفق المبين (23) وما هو على الغيب بضنين (24) وما هو بقول شيطان رجيم (25) فأين تذهبون (26) إن هو إلا ذكر للعالمين (27)( (التكوير).
فطرائق تفكير المشركين قد ضلت، وضاقت عليهم أنفسهم، فلا يدرون ماذا يقولون، إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - قد وضحت لديه الدلائل، ويتحمل الرسالة في أمانة وصدق وثبات، محروسا بعناية الله، حتى تصل دعوته إلى الآفاق.
6. خلال حديث القرآن في تعقب هؤلاء المشركين والرد عليهم في زعم الجنون لصاحب الرسالة العصماء؛ اتجه في أكثر من موضع إلى تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتثبيت فؤاده، فلفت نظره إلى أن تلك سنة جارية مع رسل الله يتحملون البأساء والضراء، ويصبرون حتى يحكم الله بينهم وبين أقوامهم.
فحكى القرآن قصة موسى وأنه اتهم بالجنون، فقال عزوجل: )قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون (27)( (الشعراء)، هذا ما ادعاه فرعون على موسى، وقال - عزوجل - أيضا: )وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين (38) فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون (39)( (الذاريات)، وقبيل انتهاء هذه السورة ساقت الآيات عبرة للتاريخ وسنة كونية في تشابه المكذبين وتقارب أفكارهم، فقال عزوجل: )كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون (52)( (الذاريات).
وفي سورة القمر ألصقت نفس التهمة بشيخ الأنبياء نوح عليه السلام، قال عزوجل: )كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر (9)( (القمر)، وهكذا تعقب القرآن المجيد شوارد فكر هؤلاء المشركين، وبين تهافتهم وسوء منقلبهم؛ ليظل ذلك آية بينة على صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - وتصديق الله تعالى له[25].
ونخلص مما سبق كله إلى أن هذه الأدلة القرآنية التي ساقها الله - عزوجل - في سياق دفعه ما ذهب إليه المشركون من اتهامه - صلى الله عليه وسلم - بالجنون تقف أدلة قاطعة على بطلان هذا الاتهام الذي نادى به الطاعنون في عصرنا الحديث، مستندين إلى ما قاله المشركون قديما.
الخلاصة:
· إن المتأمل في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - يجدها خير دليل على كمال عقله - صلى الله عليه وسلم - وفطنته، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - أعقل الناس وأذكاهم، وفي الذروة من الفطنة، ومن شواهد ذلك حله المشاكل المستعصية التي حارت في حلها العقول الكبيرة مثل حله لمشكلة قريش في وضع الحجر الأسود الذي تنافست فيه قبائلها، واستطاعته تدبير حال العرب وسياستهم وهم كالوحوش الشاردة المتنافرة في طباعها، حتى انقادوا إليه والتفوا حوله، وقاتلوا عنه أهليهم وذويهم.
· وكما كان - صلى الله عليه وسلم - كامل العقل، كان قوي البنية الجسدية، فقد كان صحيح الجسم، سليم الحواس، ويشهد بذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - صارع ركانة بن يزيد المشهور بشدة بأسه وقوته - فصرعه
· لا يمكن لرجل له حكمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وذكاؤه الذي مكنه من أن يجعل من الأمة العربية المتخلفة بعد قرن من الزمان قائدة للأمم ورائدة لها في العلم والحضارة وكل ميادين الحياة - أن يوصف بالصرع والجنون، وهل يستطيع مصروع أو مجنون أن يقود نفسه حتى يتسنى له أن يقود أمة بأسرها إلى يوم القيامة.
· هناك فروق كثيرة بين حالات الصرع، وما ينتاب المريض من فقدان للذاكرة، وضعف وهوس واضطراب في الحركة، وانعدام وعي بما يدور حوله، وبين أنواع الوحي التي كانت تعرض للنبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان على وعي بكل ما يقال له، ويبلغه على أكمل وجه كما أراده الله سبحانه وتعالى.
· نعم لقد اتهم المشركون النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنون، وأي شيء يشين محمدا - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، وهذه هي سنة الله في أنبيائه، فلم يبعث الله نبيا إلا رماه قومه بالجنون، )كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون (52)( (الذاريات)، وقد دحض القرآن هذه الفرية، وبين كذبها، فهي فرية قديمة؛ استند إليها مفترون جدد.
(*) هل القرآن معصوم، عبد الله عبد الفادي، موقع إسلاميات. السيرة النبوية وأوهام المستشرقين، عبد المتعال محمد الجبري، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1408هـ/ 1988م. موسوعة القرآن العظيم، د. عبد المنعم الحفني، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط1، 2004م. قصة الحضارة،