ادعاء أن خطأ النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض اجتهاداته يتنافى مع عصمته (*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المشككين أن خطأ النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض اجتهاداته يتنافى مع عصمته، ويستدلون على ذلك: بما كان منه - صلى الله عليه وسلم - حين مر بقوم يلقحون النخل، فقال: «لو لم تفعلوا لصلح، فخرج شيصا» [1]. ويرمون من وراء ذلك إلى الطعن في اجتهاداته صلى الله عليه وسلم؛ بغية التشكيك في عصمته صلى الله عليه وسلم.
وجه إبطال الشبهة:
معلوم أن الأنبياء هم أئمة المجتهدين، بما يناط بهم من اجتهاد في غير أمور التشريع وفيما لم ينزل فيه نص، وليس من شك في أنهم يتحرون تحقيق الرضا الإلهي، إلا أنهم قد يخطئون، ولا يخل خطؤهم بعصمتهم؛ إذ لا يعد ذنبا أصلا، وحديث تأبير النخل من هذا القبيل.
التفصيل:
الأنبياء - عليهم السلام - قد يخطئون فيما قالوه مجتهدين، ولكن خطأهم في الاجتهاد لا يخل بعصمتهم؛ إذ لا يعد ذنبا أصلا:
إن اجتهادات الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما لا وحي فيه، والتي هي ثمرة لإعماله عقله وقدراته الفكرية، وملكاته البشرية من الممكن ألا تصادف الصواب، ومن هنا كان الصحابة - رضوان الله عليهم - في كثير من المواطن، وبإزاء كثير من مواقف وقرارات وآراء واجتهادات للرسول - صلى الله عليه وسلم - يسألونه - قبل الإدلاء بمساهماتهم في الرأي - هذا السؤال الذي شاع في السنة والسيرة: "يا رسول الله، أهو الوحي؟ أم الرأي والمشورة"؟ فإن قال: إنه الوحي، كان منهم السمع والطاعة، وإن قال: إنه الرأي والمشورة، فإنهم يجتهدون، ويشيرون، ويصوبون[2].
وحديث تأبير النخل الذي جاء عن طلحة بن عبيد الله قال: «مررت مع رسول الله بقوم على رءوس النخل فقال: "ما يصنع هؤلاء"؟ فقلت: يلقحونه، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أظن يغني ذلك شيئا"، قال: فأخبروا، فتركوه، فأخبر رسول الله بذلك، فقال: "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه فإني إنما ظننت ظنا، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله» [3].
وعن رافع بن خديج قال: «قدم رسول الله المدينة وهم يأبرون النخل فقال: "لعلكم لو لم تصنعوا كان خيرا"، فتركوه فنفضت[4]، فذكروا ذلك له، فقال: إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا حدثتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر» [5]. وعن أنس «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بقوم يلقحون، فقال: "لو لم تفعلوا لصلح"، قال: فخرج شيصا، فمر بهم، فقال: "ما لنخلكم"، قالوا: قلت كذا وكذا، قال: أنتم أعلم بأمور دنياكم» [6].
وواضح من هذه الروايات أنه - صلى الله عليه وسلم - لم ينههم، وإنما قال: "ما أظن يغني ذلك شيئا"، ولم يرد - صلى الله عليه وسلم - بذلك صرفهم عما هم فيه، بدليل أنهم لما تركوا التأبير، ووصل الخبر إليه - صلى الله عليه وسلم - بين لهم، أنه ظن، وأنه ما يصح أن يصرفهم الظن عن أمر يرونه صوابا، فهم غلطوا في ظنهم أنه نهاهم.
أما ما ورد في إحدى الروايات من قوله صلى الله عليه وسلم: "أنتم أعلم بأمر دنياكم"، فهو بيان منه - صلى الله عليه وسلم - بأن أمور الدنيا، تلك التي يرجى منها كثرة المال وحطام الدنيا هذه موكولة إلى دراسة الأمة وخبرتها، فإن الجانب العقدي والخلقي، والذي يرسم علاقة الإنسان بربه وبغيره من الكائنات، يقوم به الدين، أما الجانب التجريبي الذي به تجمع الأموال ويستكثر من حطام الدنيا فهذا موكول للناس، يسلكونه بتجاربهم، لكن وفق المنهج الخلقي الذي يرسمه الإسلام، فليجمع المرء المال بكل وسيلة يراها، لكن دونما غش أوكذب، ودونما ربا، أو أي كسب محرم.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم تكن همته جمع المال أو الاستكثار من حطام الدنيا، وإنما كانت همته الآخرة، كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم «ما لي وللدنيا، وما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار، ثم راح وتركها» [7]. وعليه فقد كان - صلى الله عليه وسلم - متفرغا لتبليغ رسالته للأمة وتعليمها، وهذه الأمور - أي أمور جمع المال والمعاش - موكولة إلى خبرة الأمة، ولكن القائمين بالتأبير لم يدركوا ذلك[8].
وعليه فإن ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - ظانا من قبل رأيه جائز أن يقع فيه خطأ ما دام الأمر غير تشريعي، وما قاله عن الله لم يجز فيه ذلك، ولا فرق بين أمور الدنيا والدين، فالأمر الدنيوي الذي يقوله النبي - صلى الله عليه وسلم - إما أن يكون قاله برأيه، أو يكون قاله وحيا عن الله، وهذا - الثاني - لا يمكن أن يناله خطأ، بالإجماع، وأما الأول فمن الممكن أن يصاب بشيء من الخطأ، والأنبياء - عليهم السلام - في هذا سواء؛ ومن شواهد ذلك ما حدث مع داود عليه السلام.؛ فقد روى أبو هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «كانت امرأتان معهما ابناهما فجاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت صاحبتها إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود - عليه السلام - فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله هو ابنها، فقضى به للصغرى».[9] فها هما - عليهما السلام - اجتهدا رأيهما في مسألة دينية، فأصاب أحدهما، وفي سورة الأنبياء: )وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين (78) ففهمناها سليمان( (الأنبياء78، 79)، وهذا النوع كثير في القرآن والسنة، وتحته يندرج حديث تأبير النحل؛ إذ غاية القول فيه: أنه - صلى الله عليه وسلم - اجتهد فيما لم يوح إليه، فصار الصواب في خلافه[10].
وعليه "فإن ما يجتهد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، لعدم وجود نص محدد فيه، ويتأدى به اجتهاده إلى رأي فيه، فإنه حتى ولو كان في واقع الأمر مخطئا فيه لا يوصف بأنه ارتكب كبيرة، أو صغيرة خسية؛ لأنه بذل وسعه وطاقته في الاجتهاد، حتى أداه إليه الحكم الذي اختاره، وهو غير مطالب بأكثر من هذا، إزاء أمر ليس عنده من الله فيه بيان وليس هو مبلغا عن ربه في هذا الأمر: )لا يكلف الله نفسا إلا وسعها( (البقرة: ٢٨٦) فضلا عن أن المجتهد مأجور حتى وإن أخطأ في اجتهاده" [11].
نخلص من هذا كله إلى أن الأمور الدنيوية قسمان؛ الأول: وحي عن الله، وعصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا القسم ثابتة دون شك، والثاني: اجتهاد رأي، وهذا الذي قد يجوز فيه الخطأ، والخطأ فيه لا ينافي عصمته صلى الله عليه وسلم.
ولكن قبل الختام يبقى سؤال يطرح نفسه، وربما يثور في نفوس بعضنا وهو: لماذا ألهم الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يشير عليهم بهذه الإشارة مع أنها لم تكن في مصلحتهم؟ ولماذا جعلهم الله يستسلمون لمجرد الإشارة، وهم المعروفون بالمراجعة والنقاش وكثرة السؤال؟
ولماذا لم يتدارك الله هذا الاجتهاد بالتصحيح قبل أن تنتج شيصا للمسلمين يسخر منه اليهود، وأعداء الإسلام حين يصح نخلهم، ويسوء نخل المسلمين بسبب مشورة نبيهم صلى الله عليه وسلم؟
والجواب عن ذلك يكمن في محاولة تلمس حكمة لهذه القصة، فإن حصلت بها قناعة واطمئنان فالحمد لله، وإلا فنحن مؤمنون أرسخ الإيمان بأن لله - عز وجل - في ذلك حكمة، وهو الحكيم الخبير، ولعل الحكمة في ذلك تدور حول ثلاثة أمور:
1. صرف بلاء الأعداء عن المؤمنين الذين لم تقو شوكتهم بعد؛ فقد كان من الجائز أن يطمع الكافرون في المدينة وتمرها، فيهاجموها من أجل نزول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها، فخروج التمر شيصا جعلها غير مطمع، وصرف الله بذلك هجوم الكافرين حتى يستعد المؤمنون، هذا احتمال.
2. تعليم المسلمين الأخذ بأسباب الحياة بهذا الدرس العملي الذي كان قاسيا عليهم فتنافسوا بعده في أسباب الحياة.
3. اختبار صدق إيمانهم، فهذه القصة حتى اليوم ابتلاء واختبار، وقد نجح الصحابة - رضي الله عنهم - في هذا الاختبار القاسي - وهم في أول الإيمان - نجاحا باهرا، فقد استمروا في طاعة أوامره صلى الله عليه وسلم، ولم يرد إلينا ردة أحد بسببها، بل لم يرد عتاب أحد منهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليها رغم خسارتهم، مما يشهد لهم بالإيمان الصادق المتين، ولعل تلك الحكمة الأخيرة هي أوجه الحكم في هذه القصة، والله أعلم بحكمته[12].
الخلاصة:
· كل الأنبياء معصومون؛ لأنهم مختارون من قبل الله تعالى لأداء مهمة خاصة جدا؛ لذا فقد صانهم الله على الدوام وزودهم بالعصمة، بحكم كونهم - عليهم السلام - أئمة الهدى وقدوة الإنسانية جمعاء.
· إن ما كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن نهيا عن تأبير النخل، وإنما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - على سبيل الظن أنه لا يفيد، وما كان ينبغي لهم وهم العالمون بهذا الأمر أن يصرفهم الظن عن أمر يرونه صوابا، فإن كان ثمة خطأ، فهو خطأ القائمين على التأبير، إذ أخطأوا في ظنهم أنه نهاهم، وليس خطأ النبي صلى الله عليه وسلم.
· ليس من شك في أن الاجتهاد الدنيوي كالديني؛ فمنه ما يقوله النبي - صلى الله عليه وسلم - برأيه، ومنه ما يكون وحيا من الله، والخطأ في الأول محتمل، وفي الثاني محال.
· الروايات صريحة في أن ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - من قبل رأيه ظانا؛ يجوز أن يقع فيه الخطأ، وما قاله عن الله؛ لم يجز فيه ذلك، وليس النبي - صلى الله عليه وسلم - بدعا من الرسل في ذلك؛ فقد حدث أن أدرك سليمان ما أخطأ فيه داود.
(*) حضارة الإسلام، جوستاف لوبون، وجرونباوم، ترجمة: عبد العزيز جاويد، وعبد