ادعاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوشك على الوقوع في الفتنة (*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوشك على الوقوع في الفتنة، ويستدلون على ذلك بقوله - عز وجل - له: )وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا (73) ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا (74)( (الإسراء). ويتساءلون: أليس في هذا ما يتنافى مع عصمته صلى الله عليه وسلم؟!
وجها إبطال الشبهة:
1) بالوقوف على الروايات الواردة في سبب نزول الآيات - مناط الاستدلال - تتأكد لنا عصمته - صلى الله عليه وسلم - من الوقوع في الفتنة، أو مجرد الاقتراب من الوقوع فيها.
2) إن المتأمل في الآيات يجدها تحتاط لرسول الله عدة احتياطات؛ ففيها من القرائن - أمثال "لولا" و"كاد" و"شيئا قليلا" والملاطفة وغير ذلك - ما ينفي عنه - صلى الله عليه وسلم - مجرد الركون القليل، ويدخل "قد" في حيز الامتناع؛ فيصبح بذلك تحقيقها معدوما، ويصير المعنى: لولا أن ثبتناك لتحقق قرب ميلك القليل إليهم، ولكن ذلك لم يقع لأنا ثبتناك.
التفصيل:
أولا. الروايات الواردة في سبب نزول الآيات - مناط الاستدلال - تؤكد عصمته - صلى الله عليه وسلم - من الوقوع في الفتنة، أو مجرد الاقتراب من الوقوع فيها:
قال ابن عباس في بيان سبب نزول آيات سورة الإسراء حسبما أورده القرطبي في تفسيره: "نزلت في وفد ثقيف، أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألوه شططا[1]، وقالوا: متعنا بآلهتنا سنة حتى نأخذ ما يهدى لها، فإذا أخذناه كسرناها وأسلمنا، وحرم وادينا كما حرمت مكة، حتى تعرف العرب فضلنا عليهم، فهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعطيهم ذلك؛ فنزلت هذه الآية".
وقيل: هو قول أكابر قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد عنا هؤلاء السقاط والموالي، حتى نجلس معك ونسمع منك، فهم بذلك حتى نهي عنه.
وقال قتادة: "ذكر لنا أن قريشا خلوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة إلى الصبح يكلمونه ويفخمونه، ويسودونه ويقاربونه، فقالوا: إنك تأتي بشيء لا يأتي به أحد من الناس، وأنت سيدنا يا سيدنا، وما زالوا به حتى كاد يقاربهم في بعض ما يريدون، ثم عصمه الله من ذلك، وأنزل الله تعالى هذه الآية" [2]، وبهذا يتأكد - مع اختلاف الروايات في سبب نزول الآية الكريمة - أن الله عصم نبيه - صلى الله عليه وسلم - من الوقوع في الفتنة، ومن كيد الكائدين.
هذا وقد علق صاحب "التحرير والتنوير" على جملة محامل المفسرين التي حملوا الآيات عليها والتي استقصاها القرطبي وأسلفنا ذكر معظمها، وارتأى ابن عاشور أن من تلك المحامل ما ليس له حظ من القبول؛ لوهن سنده وعدم انطباقه على معاني الآية، ومنه ما هو ضعيف السند، ولا تتحمله الآية إلا بتكلف على أن ابن عاشور وفق في الوقوف على مرد ذلك عند المفسرين من أخبار، وخرج من ذلك بأمثل ما يناسب تلك الأخبار - لئلا تكون فتنة للناظرين فراعى - رحمه الله - تفسيرها بما تعطيه معاني تراكيبها مع ملاحظة ما تقتضيه أدلة عصمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أن تتطرق إليه خواطر إجابة المشركين لما يطمعون، فقال فضيلته: إن رغبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في اقترابهم من الإسلام وفي تأمين المسلمين، أجالت في خاطره أن يجيبهم إلى بعض ما دعوه إليه مما يرجع إلى تخفيف الإغلاظ عليهم أو إنظارهم، أو إرضاء بعض أصحابه بالتخلي عن مجلسه حين يحضره صناديد المشركين، وهو يعلم أنهم ينتدبون إلى ذلك لمصلحة الدين أو نحو ذلك مما فيه مصلحة لنشر الدين، وليس فيه فوات شيء على المسلمين، أي كادوا يصرفونك عن بعض ما أوحيناه إليك مما هو مخالف لما سألوه.
فالموصول في قوله: )الذي أوحينا إليك( (الإسراء: 73) للعهد لما هو معلوم عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بحسب ما سأله المشركون من مخالفته، فهذه الآية مسوقة مساق المن على النبي بعصمة الله إياه من الخطأ في الاجتهاد ومساق إظهار ملل المشركين من أمر الدعوة الإسلامية وتخوفهم من عواقبها وفي ذلك تثبيت للنبي وللمؤمنين وتأييس للمشركين بأن ذلك لن يكون[3].
هذا وقد أورد الإمام القرطبي - نفسه - في تفسير قوله عز وجل: )ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا (74)( (الإسراء) كلاما مؤداه أن ظاهر الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وباطنه إخبار عن ثقيف، والمعنى: وإن كادوا ليركنونك، أي: كادوا يخبرون عنك بأنك ملت إلى قولهم؛ فنسب فعلهم إليه - صلى الله عليه وسلم - اتساعا على سبيل المجاز، كما تقول لرجل: كدت تقتل نفسك، أي كاد الناس يقتلونك بسبب ما فعلت؛ ذكره المهدوي. وقال القشيري ما كان منه هم بالركون إليهم، بل المعنى: ولولا فضل الله عليك لكان منك ميل إلى موافقتهم، ولكن تم فضل الله عليك فلم تفعل. وقال ابن عباس: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معصوما، ولكن هذا تعريف لأمته لئلا يركن أحد منهم إلى المشركين في شيء من أحكام الله تعالى وشرائعه[4].
ثم إن الحق سبحانه وتعالى يريد بهذه الآية والتي بعدها: )إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا (75)( (الإسراء) أن يستل السخيمة[5] على النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - من قلوب أعدائه، وكأنه سبحانه وتعالى يقول لهم: يا قوم إن لم يوافقكم محمد على ما كنتم تريدون منه من الانصراف عما أنزل إليه من ربه، فاعذروه؛ لأن الأمر عندي والتثبيت مني، ولا ذنب لمحمد فيما خالفكم فيه، وهذا نفسه هو ما أداه التهديد الشرطي في الآية الثانية، فنقل به سبحانه وتعالى الكره من صدور القوم لمحمد - صلى الله عليه وسلم - إليه جل شأنه، ومعناها: أنه لو كدت تركن إليهم شيئا قليلا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات[6].
قال القرطبي: وهذا غاية الوعيد، وكلما كانت الدرجة أعلى كان العذاب عند المخالفة أعظم[7].
وأيا ما كان من أمر فإن هذا ما لم يحدث، وكان عدم وقوعه دليلا بينا على عدم وشك النبي - صلى الله عليه وسلم - الركون إليهم، حتى لو كان الركون إليهم شيئا قليلا.
ثانيا. إن المتأمل في الآيات يجدها تحتاط لرسول الله عدة احتياطات:
استهلت الآيات بالفعل "كادوا" أي قاربوا، ومعلوم أن المقاربة غير الفعل؛ فالمقاربة مشروع فعل وتخطيط له، لكنه لم يحدث، إنهم قاربوا أن يفتنوك عن الذي أنزل إليك لكن لم يحدث؛ لأن محاولتهم كانت من بعيد... كما قالوا مثالا: نعبد إلهك سنة، وتعبد آلهتنا سنة.
ثم إن الآية الثانية لم تقل: "لولا تثبيتنا لك لركنت إليهم"، لا، بل لقاربت أن تركن؛ فمنعت بذلك مجرد المقاربة، أما الركون فهو أمر بعيد وممنوع نهائيا، وغير متصور من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك أكد سبحانه هذا المعنى بقوله: )شيئا قليلا( أي: ركونا قليلا[8]، ولم يقتصر سبحانه على الوصف بـ "قليلا"، وإنما أورد قبلها كلمة "شيء" المتوغلة في إبهام جنس ما تضاف إليه أو جنس الموجود مطلقا، والمفيدة التقليل غالبا، فكان في ذكر كلمة "شيء" ووصفها بالوصف "قليلا"؛ تهيئة لتوكيد معنى التقليل[9].
هذا ولا يفوتنا أن نلمح إلى لطيفة مؤداها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - معصوم بطبيعته سليم الفطرة، فلو تصورنا عدم التثبيت له من الله، ماذا كان يحدث منه؟ يحدث مجرد "كاد" أو "قرب"؛ أي لم يكن ليحدث منه - صلى الله عليه وسلم - أكثر من أن يقارب شيئا قليلا، ومعنى المقاربة: مشروع فعل لم يحدث، وفي هذا ما يدل على أن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذاتية مستقلة [10] هيأ لها الله من العصمة أسبابا متصلة، كلما انقضى سبب قام مقامه آخر حتى تحصل المنعة ويحفظ مبلغ الدين ليتحقق حفظ الدين ممثلا في الذكر المبين الذي قال الله عنه: )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)( (الحجر)؛ فلما كان الذكر محفوظا اقتضى ذلك حفظ مبلغه وعصمته.
ويحسن في هذا المقام أن نجمل القول خاصة في الآية الثانية: )ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا (74)( (الإسراء) لنقف على مدلول الركون، ونصيب النبي - صلى الله عليه وسلم - منه، والحق أن الكلام في الآية يجوز أن يكون مستقلا غير متصل بقوله تعالى: )وإن كادوا ليفتنونك( (الإسراء: ٧3)، ويجوز أن يكون تكملة لما قبله فيكون الركون إليهم ركونا فيما سألوه منه على نحو ما ساقه المفسرون.
ولمزيد من الإيضاح نقول: إن المعنى على الوجه الأول - استقلال الكلام - أن الركون مجمل في أشياء هي مظنة الركون، ولكن الركون منتف من أصله لأجل التثبيت بالعصمة، كما انتفى أن يفتنه المشركون عن الذي أوحي إليه بصرف الله إياهم عن تنفيذ فتنتهم.
والمعنى على الوجه الثاني - اتصال الكلام بما قبله - أنه لولا أن عصمناك من الخطأ في الاجتهاد وأريناك أن مصلحة الشدة في الدين والتنويه بأتباعه - ولو كانوا من ضعفاء أهل الدنيا - لا تعارضها مصلحة تأليف قلوب المشركين، ولو كان المسلمون راضين بالغضاضة من أنفسهم استمالة للمشركين، فإن إظهار الهوادة في أمر الدين يطمع المشركين في الترقي إلى سؤال ما هو أبعد مدى مما سألوه.
ولما كان الأمر كذلك كانت مصلحة ملازمة موقف الحزم معهم أرجح من مصلحة ملاينتهم وموافقتهم، أي: فلا فائدة من ذلك، ولولا هذا كله )لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا(، أي: كدت تميل لهم بأن تعدهم بالإجابة إلى بعض ما سألوك استنادا لدليل مصلحة مرجوحة واضحة، وغفلة عن مصلحة راجحة خفية؛ اعتزازا بخفة بعض ما سألوا في جانب عظم ما وعدوا به من إيمانهم[11].
ثم جاءت "إذن" جزاء لـ "كدت تركن"، ولكونها جزاء فصلت عن العطف؛ إذ لا مقتضى له، فركون النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم غير واقع ولا مقارب الوقوع؛ لأن الآية قد نفته بأربعة أمور؛ وهي:
· لولا الامتناعية.
· فعل المقاربة المقتضي أنه ما كان يقع الركون، ولكن يقع الاقتراب منه.
· التحقير المستفاد من "شيئا".
· التقليل المستفاد من "قليلا".
وبالجملة نقول: أي لولا إفهامنا إياك وجه الحق لخشي أن تقترب من ركون ضعيف قليل، ولكن ذلك لم يقع، ودخلت "قد" في حيز الامتناع فأصبح تحقيقها معدوما، أي لولا أن ثبتناك لتحقق قرب ميلك القليل، ولكن ذلك لم يقع لأنا ثبتناك[12].
الخلاصة:
· أورد القرطبي في تفسيره كلاما للمهدوي في تفسير قوله تعالى: )ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا (74)( (الإسراء) مؤداه أن ظاهر الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وباطنه إخبار عن ثقيف، والمعنى: وإن كادوا ليركنونك، أي كادوا يخبرون عنك بأنك ملت إلى قولهم، فنسب فعلهم إليه - صلى الله عليه وسلم - اتساعا على سبيل المجاز، كما تقول لرجل: كدت تقتل نفسك، أي: كاد الناس يقتلونك بسبب ما فعلت.
· قال القشيري: ما كان منه هم بالركون إليهم؛ بل المعنى: ولولا فضل الله عليك لكان منك الميل إلى موافقتهم، ولكن تم فضل الله عليك فلم تفعل.
· قال ابن عباس: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معصوما، ولكن الآية تعريف للأمة؛ لئلا يركن أحد منهم إلى المشركين في شيء من أحكام الله وشرائعه.
· في الآيات الكريمات قرائن عدة، من شأنها أن تحتاط لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد استهلت بالفعل "كادوا" الذي يفيد المقاربة، ومعلوم أن المقاربة غير الفعل، فالمقاربة مشروع فعل وتخطيط له، دون أن يحدث.
· لو اعتبرنا قوله تعالى: )ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا (74)(على سبيل استقلال الكلام - وهذا جائز - لكان المعنى: أن الركون مجمل في أشياء هي مظنة الركون، ولكن الركون منتف من أصله لأجل تثبيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعصمة، كما انتفى أن يفتنه المشركون عن الذي أوحي إليه بصرف الله إياهم عن تنفيذ فتنتهم.
· ولو اعتبرنا الآية نفسها على سبيل اتصال الكلام - وهذا جائز أيضا - لكان المعنى: لولا أن عصمناك من الخطأ في الاجتهاد وأريناك أن مصلحة الشدة في الدين لا تعارضها مصلحة تأليف قلوب المشركين، لولا ذلك كله لقد كدت تركن إليهم قليلا بأن تعدهم بالإجابة إلى بعض ما سألوك؛ استنادا لدليل مصلحة مرجوحة واضحة، وغفلة عن مصلحة راجحة خفية؛ اغترارا بخفة بعض ما سألوا في جانب عظم ما وعدوا به من إيمانهم.
· في الآيات قرائن تؤكد خلاف ما استدل بها هؤلاء عليه، ومنها: "لولا الامتناعية"، وفعل المقاربة "كدت"، والتحقير المستفاد من "شيئا"، والتقليل المستفاد من "قليلا"، وفصل العطف في "إذن" التي هي جزاء لـ "كدت تركن"، ذاك الفصل الذي يشعر أنه لا حاجة للعطف، ويدل على أن ركون النبي - صلى الله عليه وسلم - غير واقع ولا مقارب الوقوع، ثم في الملاطفة - أخيرا ـ؛ إذ بدأ الخطاب معه بذكر ثباته وسلامته بموجب العصمة قبل ذكر معاتبته - إن كان ثمة معاتبة.
· لعل في عدم تحقق تعذير الله لنبيه:؛)إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا (75)( (الإسراء) ما يدل على عدم وقوعه - صلى الله عليه وسلم - فيما يستوجبه من مقاربة الوقوع في الفتنة، وإلا لاقتضى حصول الجزاء، وهذا ما لم يحدث.
· بالنظر لجملة القرائن ندرك دخول "قد" في قوله: )لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا (74)( (الإسراء) في حيز الامتناع؛ فيصبح تحقيقها معدوما، والمعنى: لولا أن ثبتناك لتحقق قرب ميلك القليل، ولكن ذلك لم يقع لأنا ثبتناك.
(*) سيد رسل الله وأباطيل خصومه، د. عبد الصبور مرزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1424هـ/2004م. شبكة اللادينيين العرب.