ادعاء محاولة النبي - صلى الله عليه وسلم - الانتحار(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المشككين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حاول الانتحار أكثر من مرة، ويستدلون على ذلك بأنه لما تأخر الوحي عليه فترة تتراوح ما بين سنتين ونصف إلى ثلاث سنوات، حاول الانتحار بإلقاء نفسه من ذرا شواهق الجبال، وقد آنسه القرآن في قوله عز وجل: )ما ودعك ربك وما قلى (3)( (الضحى). وأنه أصيب باليأس والإحباط لعدم إيمان الناس بدعوته، فحاول قتل نفسه بدليل قوله عز وجل: )فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا (6)( (الكهف)، ويرمون من وراء ذلك إلى اتهامه - صلى الله عليه وسلم - بما يتنافى مع عصمته صلى الله عليه وسلم؛ محاولة منهم لنفيها عنه - صلى الله عليه وسلم - تدريجيا.
وجوه إبطال الشبهة:
1) كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في فترة انقطاع الوحي يرتاد الأماكن التي كان جبريل - عليه السلام - يظهر له فيها؛ اشتياقا إليه وليس عزما على الانتحار الذي يتعارض مع مبادئ دعوته صلى الله عليه وسلم، ثم إن سبب نزول سورة الضحى لاعلاقة له على الإطلاق بمحاولة الانتحار المزعومة.
2) مدة انقطاع الوحي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تكن طويلة كما يدعون بقدر ما كانت ثقيلة على نفس النبي صلى الله عليه وسلم، خاصة في بداية البعثة.
3) إن حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على دعوة قومه للإيمان، وتألمه لعدم استجابتهم أمر يحسب له، ولا يحسب عليه كما يدعون.
التفصيل:
أولا. ارتاد - صلى الله عليه وسلم - ذرا الجبال ائتناسا بأماكن ظهور جبريل - عليه السلام - لا عزما على الانتحار:
مما لا شك فيه أن الوحي ولقاء جبريل - عليه السلام - والاتصال بالله، كان - كل ذلك - زاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مشقة الطريق، وسقياه في هجير الجحود، وروحه في لأواء[1] التكذيب، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحيا بها في هذه الهاجرة المحرقة التي يعانيها في النفوس الشاردة العصية العنيدة، ويعانيها في المكر والكيد والأذى المصبوب على الدعوة من طغاة المشركين.
على أن آية الضحى التي استدلوا بها في سياق إثبات محاولته - صلى الله عليه وسلم - الانتحار، ليست كما زعموا، ولم تنزل في هذا الشأن؛ بل حين انقطع الوحي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مدة من الزمان، قال المشركون: إن محمدا قد ودعه ربه، وحزن النبي - صلى الله عليه وسلم - حزنا شديدا لانقطاع الوحي، ولما يقوله كفار قريش، فأنزل الله - سبحانه وتعالى - سورة الضحى وبها قوله عز وجل: )ما ودعك ربك وما قلى (3)( (الضحى)، فكانت هذه السورة بموضوعها وتعبيرها ومشاهدها وظلالها وإيقاعها - لمسة من حنان، ونسمة من رحمة، وطائفا من ود، ويدا حانية تمسح على الآلام والمواجع، وتنسم بالروح والرضى والأمل، وتسكب البرد والطمأنينة واليقين على قلب النبي صلى الله عليه وسلم[2]، وعليه فليس في الآية الكريمة موطن الشاهد أي إشارة من قريب ولا من بعيد تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد حاول الانتحار كما يدعي بعضهم.
وهناك من الطاعنين من تعلق بزيادة وردت في صحيح البخاري، ملحقة بحديث هو في أعلى درجات الصحة، واتهم من خلالها النبي - صلى الله عليه وسلم - بمحاولة الانتحار؛ فقد ذكر البخاري قصة مجيء جبريل - عليه السلام - للنبي - صلى الله عليه وسلم - في غار حراء ضمن حديث طويل، وكان مما ورد في هذا الحديث قول البخاري: «ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا - حزنا غدا منه مرارا كي يتردى[3] من رءوس شواهق[4] الجبال، فكلما أوفى[5] بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه تبدى له جبريل، فقال: يا محمد إنك رسول الله حقا؛ فيسكن لذلك جأشه[6]، وتقر نفسه، فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي[7] غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك»[8].
وهذه الزيادة ليست على شرط الصحيح؛ لأنها من بلاغات[9] الزهري وليست موصولة؛ بل من قبيل المنقطع، والمنقطع من أنواع الضعيف، والبخاري لا يخرج إلا الأحاديث المسندة المتصلة برواية العدول الضابطين، ولعل البخاري ذكرها لينبهنا إلى مخالفتها لما صح عنده من حديث بدء الوحي، الذي لم تذكر فيه هذه الزيادة.
ثم إن ما استفاض من سيرته - صلى الله عليه وسلم - يرد ذلك؛ فقد حدثت له حالات أثناء الدعوة إلى ربه أشد وأقسى من هذه الحالة، فما فكر في الانتحار بأن يلقي نفسه من شاهق جبل أو يبخع[10] نفسه.
ونحن لا ننكر أنه - صلى الله عليه وسلم - قد حصلت له حالة أسى وحزن عميقين على انقطاع الوحي خشية أن يكون ذلك عدم رضا من الله عليه، وهو الذي كان يهون عليه كل شيء من لأواء الحياة وشدائدها ما دام ذلك في سبيل الله، وفيه رضا الله عز وجل.
والتعليل الصحيح لكثرة غشيانه - صلى الله عليه وسلم - في مدة الفترة رءوس الجبال وشواهقها، أن الإنسان إذا حصل له خير أو نعمة في مكان ما فإنه يحب هذا المكان، ويتلمس فيه ما افتقده، فلما انقطع الوحي صار - صلى الله عليه وسلم - يكثر من ارتياد قمم الجبال، ولاسيما حراء، رجاء أنه إن لم يجد جبريل في حراء، فليجده في غيره، فرآه راوي هذه الزيادة وهو يرتاد[11] الجبال، فظن أنه يريد هذا، وقد أخطأ الراوي المجهول في ظنه قطعا.
وليس أدل على ضعف هذه الزيادة من أن جبريل - عليه السلام - كان يقول للنبي - صلى الله عليه وسلم - كلما أوفى بذروة جبل: «يا محمد إنك رسول الله حقا»، وأنه كرر ذلك مرارا، ولو صح هذا لكانت مرة واحدة تكفي في تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم، وصرفه عما حدثته به نفسه كما زعموا[12].
ثم إن هذه الزيادة ليست على شرط البخاري في صحيحه، فهو لم يخرجها في صحيحه بسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح البخاري روايات غير مسندة، وهذا أمر لا بد من معرفته حتى لا يقع خلط ولبس بدعوى أن كل رواية أوردها البخاري في صحيحه يطلق القول بصحتها، فلا بد أن نفرق بين الحديث المسند في صحيح البخاري، والمعلق، وبين الموصول فيه، والمرسل الذي جاء في الحديث الموصول عرضا كهذه الزيادة المرسلة التي جاءت في حديث عائشة الموصول.
ولمزيد من بيان هذه المسألة نقول: "إن الأحاديث التي أوردها البخاري في صحيحه تنقسم ثلاثة أقسام":
1. القسم الأول: هو الأحاديث المسندة والمرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهذه الأحاديث صحيحة جميعها بلا ريب.
2. القسم الثاني: وهو الأحاديث المعلقة؛ والحديث المعلق هو الذي سقط من أول إسناده راو فأكثر على التوالي، وهذه الأحاديث المعلقة يوردها الإمام البخاري في تراجم الأبواب ومقدماتها.
وحكم الحديث المعلق أنه مردود؛ لأنه فقد شرطا من شروط القبول، وهو اتصال السند، وذلك بحذف راو أو أكثر من إسناده مع عدم علمنا بحال ذلك المحذوف، وقد قام الحافظ ابن حجر - رحمه الله - بجهد جهيد تجاه الأحاديث المعلقة الواردة في صحيح البخاري، وذلك بتتبع أسانيدها فوجد أنها قد وردت بأسانيد متصلة في دواوين السنة المختلفة، وأنها قد بلغت درجة الصحيح إلا النزر اليسير منها.
3. القسم الثالث: الموقوفات؛ وهي أقوال الصحابة أو التابعين، وهذه الموقوفات منها ما هو صحيح، ومنها ما هو غير ذلك، وتعرف الصحة من غيرها بواسطة أسانيد هذه الموقوفات[13].
والإمام البخاري - رحمه الله - يجزم منها بما صح عنده ولم يكن على شرطه، ولايجزم بما كان في إسناده ضعف أو انقطاع، إلا حيث يكون منجبرا، إما بمجيئه من وجه آخر وإما بشهرته عمن قال.
فلو نظرنا إلى صنيع الإمام البخاري في هذه الزيادة المرسلة لوجدناه أوحى إلى تمريضها حينما أورد جملة الإمام الزهري الاعتراضية - فيما بلغنا - وهي بلاشك صيغة من صيغ التمريض والتضعيف.
والحافظ ابن حجر - رحمه الله - أجاب لنا عن تساؤل ملح، وهو ما سبب إيراد الإمام البخاري هذه الموقوفات والمعلقات في صحيحه في الوقت الذي اشترط فيه الصحة؟
فقال رحمه الله: "إنما يورد ما يورد من الموقوفات من فتاوى الصحابة والتابعين وتفاسيرهم لكثير من الآيات على سبيل الاستئناس والتقوية لما يختاره من المذاهب في المسائل التي فيها الخلاف بين الأئمة، فحينئذ ينبغي أن يقال... إن المقصود من هذا التصنيف بالذات هو الأحاديث الصحيحة المسندة، وهي التي ترجم لها، والمذكور بالعرض والتتبع والآثار الموقوفة، والأحاديث المعلقة، والآيات المكرمة، فجميع ذلك مترجم به...
ولكن المقصود بالذات هو الأصل، فافهم ذلك فإنه مخلص حسن، يندفع به اعتراض كثير عما أورده المؤلف من هذا القبيل" [14].
وقال في موضع آخر: "إلا أن الجواب عما يتعلق بالمعلق سهل؛ لأن موضوع الكتابين - يقصد الصحيحين - إنما هو المسندات، والمعلق ليس بمسند، ولهذا لم يتعرض الإمام الدارقطني فيما تتبعه على الصحيحين إلى الأحاديث المعلقة، التي لم توصل في موضع آخر لعلمه أنها ليست من موضوع الكتاب وإنما ذكرت استئنا سا واستشهادا" [15].
ويؤكد د. عماد الشربيني عدم صحة الزيادة الواردة في الحديث، ويذكر مجموعة من الأدلة التي تثبت عدم صحتها، ومنها:
1. معارضتها لأصل من أصول الإسلام، وهو عصمة الأنبياء والرسل - عليهم الصلاة والسلام -، بمعنى: حفظ الله ظواهرهم وبواطنهم، وتفكيرهم وخواطرهم، وسائر أعمالهم، حفظا كاملا، فلا يقع منهم قط ما يشكك في نبوتهم ورسالاتهم، وهذا البلاغ المعمري أو الزهري - نسبة إلى معمر والزهري راويي الحديث - لم يبق لعصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - مكانا في مدة الحزن اليائس التي تقول أقصوصة هذا البلاغ: إنه - صلى الله عليه وسلم - مكثها وهو يغدو مرارا كي يتردى من شواهق الجبال، ولا سيما على مذهب من يرى أن مدة فترة الوحي - وهي مدة الحزن اليائس - قد طالت إلى ثلاث سنوات، أو سنتين ونصف سنة، أو ستة أشهر، وفي هذا البلاغ الضعيف تصريح بأن صاحبه يذهب مذهب من يرى طول مدة فترة الوحي؛ لأن ما ذكر فيه من الغدو مرارا لكي يلقي بنفسه من ذرا الشواهق الجبلية يقتضي طول المدة، ولا سيما مع تمثل جبريل - عليه السلام - له وقوله: أنا جبريل، وأنت رسول الله حقا أكثر من مرة.
2. يتعارض هذا البلاغ مع ما يجب أن يكون عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من رسوخ الإيمان بنبوته، وكمال اليقين برسالته، ولا شك أن ما جاء في هذا البلاغ من تبدي جبريل - عليه السلام - للنبي - صلى الله عليه وسلم - كلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي منها نفسه، وقوله له: يا محمد، أنت رسول الله حقا، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل - عليه السلام - فقال مثل ذلك - لا شك أن ذلك يصور مدى ما بلغه ذلك الحزن اليائس - في زعم قائليه - من نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى جعله يتشكك في تبدي جبريل - عليه السلام - له، وفي إخباره أنه رسول الله حقا، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - كما تصرح به عبارة هذا البلاغ - لم يكد يسكن جأشه لتبدي جبريل له وإخباره أنه رسول الله حقا حتى يعود إلى عزيمته في إلقاء نفسه من ذرا شواهق الجبال، فيتبدى له جبريل مرة أخرى، ويقول له: يا محمد، أنت رسول الله حقا.
فأين سكون جأشه الذي أحدثه في نفسه جبريل عليه السلام، وإخباره أنه رسول الله حقا؟ وأين رسوخ إيمانه برسالة ربه التي شرفه بها قبل فترة الوحي، وأنزل عليه في أول مراتب وحيها في غار حراء قرآنا يتلى، حتي يعود عن عزيمته لإلقاء نفسه من ذرا شواهق الجبال إذا طالت عليه فترة الوحي؟!
3. إن ما تضمنه هذا البلاغ الضعيف يشمل أمرين:
الأول: ظاهر محسوس، يمكن مشاهدته، والحكم بوجوده أو عدم وجوده بمقتضى إمكان مشاهدته حسا.
الآخر: باطن محجوب في داخل النفس، لا يمكن معرفته إلا بإخبار صاحبه الذي دار في نفسه، أو إخبار من أظهرهم عليه بنقل ثابت عنه، فذهاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أعالي الجبال وشواهقها التي ألف الصعود إليها في أزمان خلواته، وتطلعاته للتفكر في عجائب آيات الله الكونية، وبدائع ملكوته، أمر محسوس، يمكن الحكم عليه برؤيته ومشاهدته، ولا حرج في أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد حزن في فترة الوحي؛ اشتياقا لأنوار الشهود الروحاني الأعلى الذي كان يغمره في أوقات نزول الوحي، ونزول آيات القرآن المبين، حزنا كان يغدو منه إلى ذرا الجبال التي كانت مأنس روحه، تطلعا إلى آفاق أشواقه لشهود تجليات أمين الوحي جبريل - عليه السلام - الذي سبق له أن تجلى في آفاقها بصورته الملائكية الروحانية العالية.
وكون هذا الذهاب إلى ذرا شواهق الجبال لقصد التردي منها ليقتل نفسه - كما هو نص عبارة البلاغ الضعيف - أمر باطن محجوب بأستار الضمير في حنايا النفس لا يعلمه، ولا يطلع عليه إلا الله علام الغيوب، وإلا صاحبه الذي دار في حنايا نفسه وعزم على تحقيق ذلك عمليا، وإلا من يظهره عليه صاحبه العليم به، بإخبار منه إليه، وكل ذلك لم يثبت[16].
على أن هناك مؤشرات أخرى تدل على ضعف هذه القصة، فمن تلك المؤشرات: ما رواه الإمام البخاري عن عروة أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حدثته أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: «هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: "لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب» [17] [18].
فهنا ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أشد ما وقع عليه، هو ذلك الأذى النفسي الحاصل من تكذيب أهل الطائف له، حتى إنه بقي مهموما حزينا لم يستفق إلا وهو بعيد عن الطائف، نعم، إن حزن النبي - صلى الله عليه وسلم - على فتور الوحي ثابت في نصوص أخرى، غير أن حزنه ما كان ليبلغ حد الرغبة في إلقاء نفسه من علو، وإلا لكان هذا أجدر بالذكر من حادثة الطائف المذكورة هنا.
ومع هذا كله، وبفرض صحة هذه القصة جدلا، فليس فيها ما يعيب شخص النبي - صلى الله عليه وسلم - أو يقدح في عصمته، وبيان ذلك أنه قد هم - على فرض صحة الرواية - بأن يلقي بنفسه، والهم هنا لم ينتقل إلى مرحلة التنفيذ، وذلك شبيه بما حكاه الله تعالى عن يوسف عليه السلام في قوله: )ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه( (يوسف:٢٤)، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في منهاج السنة: "ولهذا لما لم يذكر عن يوسف توبة في قصة امرأة العزيز، دل على أن يوسف لم يذنب أصلا في تلك القصة". وهذا كحديث النبي صلى الله عليه وسلم: «ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة» [19].
ثم نقول: إن العصمة متحققة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الحالة، ووجه ذلك أن الله سبحانه وتعالى صرف عنه هذا السوء، كما صرف عنه قبل مبعثه حصول التعري، وشرب الخمر، والجلوس مع فتيان قريش، وغير ذلك مما هو مبثوث في السيرة.
ثانيا. ترجيح ثقل انقطاع الوحي على النبي - صلى الله عليه وسلم - دون طول مدته:
ذكر د. محمد أبو شهبة اختلافات المؤرخين وكتاب السير في تحديد المدة التي فتر فيها الوحي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "قيل: كانت أياما، روى هذا ابن سعد في طبقاته عن ابن عباس، وروى أن أقصاها أربعون يوما، وقيل: ستة أشهر، وقيل: سنتان ونصف، وقيل: ثلاث سنين، ونسب هذا إلى ابن إسحاق، والذي في السيرة لابن هشام عن ابن إسحاق عدم التحديد بمدة.
والذي أرجحه وأميل إليه هو الأول، وأن أقصاها أربعون يوما، ويليه القول الثاني، وأما القولان الأخيران فإني أستبعدهما، فالفترة إنما كانت ليسترد النبي - صلى الله عليه وسلم - أنفاسه مما حدث له من ضغط جبريل عليه السلام، وما عراه من الهول والفزع لأول لقاء بين بشر وملك، وليحصل للنبي - صلى الله عليه وسلم - الشوق إلى لقاء جبريل - عليه السلام - بعد هذه الفترة.
أما أن يقضي النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث سنين أو سنتين ونصف سنة من عمر الدعوة الإسلامية من غير وحي ودعوة، فهذا ما لا تقبله العقول، ولا يدل عليه نقل صحيح، وفي هذه الفترة كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يداوم الذهاب إلى حراء، وإلى ما جاوره من الجبال عسى أن يجد هذا الذي جاءه بحراء حتى وصل جبريل ما انفصم[20]، وعاد الوحي وتتابع" [21].
ومما يؤكد ما ذهبنا إليه ما نقله د. منير محمد الغضبان عن المقريزي في كتاب "إمتاع الأسماع" إذ يقول: "يقول المقريزي: قيل إن فترة الوحي - انقطاعه - كانت قريبة من سنتين، وقيل: كانت سنتين ونصفا، وفي تفسير عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - كانت أربعين يوما، وفي كتاب "معاني القرآن" للزجاج كانت خمسة عشر يوما، وفي تفسير مقاتل ثلاثة أيام، ورجحه بعضهم وقال: ولعل هذا هو الأشبه بحاله عند ربه، ثم تبدى له الملك بين السماء والأرض على كرسي، وثبته وبشره أنه رسول الله، فلما رآه فرق[22] منه، وذهب إلى خديجة - رضي الله عنها - فقال: «زملوني زملوني»، فأنزل الله عز وجل: )يا أيها المدثر (1) قم فأنذر (2) وربك فكبر (3) وثيابك فطهر (4) والرجز فاهجر (5)( (المدثر)، فكانت الحالة الأولى بغار حراء حالة نبوة وإيحاء، ثم أمر الله تعالى في هذه الآية أن ينذر قومه ويدعوهم إلى الله عز وجل، فكان - فيما قاله عروة بن الزبير، ومحمد بن شهاب، ومحمد بن إسحاق - من حين أتت النبوة وأنزل عليه: )اقرأ باسم ربك الذي خلق (1)( (العلق)، إلى أن كلفه الله الدعوة وأمره بإظهارها فيما أنزل عليه من قوله عز وجل: )فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين (94)( (الحجر)، وقوله عز وجل: )وأنذر عشيرتك الأقربين (214)( (الشعراء)، )وقل إني أنا النذير المبين (89)( (الحجر) - ثلاث سنين.
ونلاحظ أن المقريزي رجح الآراء التي تعتبر فترة انقطاع الوحي فترة قصيرة حول الأربعين والخمسة عشر والثلاثة من الأيام، بينما ساق الأقوال الأولى عن السنتين والسنتين والنصف دون إسناد، وفي ترجيح المقريزي يزول الإشكال الكبير حول هذه الفترة التي لا نجد لها ذكرا أو تاريخا، ولو حسبت هاتان السنتان والنصف من المرحلة السرية لكانت مرحلة الدعوة فيها لا تعدو سنة أو نصف سنة، ومن المستبعد جدا أن يكون ذلك" [23].
وعلى كل فإن "فترة الوحي - طالت أو قصرت - شأن من شئون الله تعالى التي ينفرد بحكمتها، فقد كانت لطفا من الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ورحمة به؛ ليستجم من عناء ما لاقى من روع المفاجأة، وشدة الغط[24]، وشدة الوحي، لاستفراغ بشريته ليزداد تشوفا وتشوقا إلى تتابع الوحي، وتقوية لروحانيته، على احتمال ما يتوالى من الله - عز وجل - إليه، حتى يتم استعداده لتبليغ رسالته إلى الخلق كافة بصبر وقوة، ويقين لا يدانيه يقين في أن الله - عز وجل - سيتم عليه نعمته" [25].
ثالثا. تألمه - صلى الله عليه وسلم - لعدم إيمان قومه مما يحسب له لا عليه:
عندما أمر الله - سبحانه وتعالى - النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة إليه في قوله عز وجل: )يا أيها المدثر (1) قم فأنذر (2) وربك فكبر (3) وثيابك فطهر (4) والرجز فاهجر (5)( (المدثر)، والرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يأل جهدا في دعوة قومه، وكان يحزن أشد الحزن، ويأسف أيما أسف بإعراض قومه عنه، وعدم استجابتهم لما يدعو إليه؛ لأنه يعلم أن هذه الدعوة فيها خيرا الدنيا والآخرة، ولا يحيد عنها إلا من سفه نفسه، ونتيجة هذا الحزن الشديد، وهذا الأسف العميق أنزل الله - سبحانه وتعالى - قوله: )فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا (6)( (الكهف).
قال الإمام الشعراوي: "أي: تجهد نفسك في دعوة قومك إجهادا يهلكها، وفي الآية إشفاق على رسول الله؛ لأنه حمل نفسه في سبيل هداية قومه ما لم يحمله الله له، وألزمها ما لم يلزمه، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يدعو قومه فيعرضون ويتولون عنه، فيشيع آثارهم بالأسف والحزن، كما يسافر عنك حبيب أو عزيز، فتسير على أثره تملؤك مرارة الأسى والفراق، فكأن رسول الله - لحبه لقومه وحرصه على هدايتهم - يكاد يهلك نفسه أسفا، وقد حدد الله تعالى مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي البلاغ، وجعله بشيرا ونذيرا، ولم يكلفه من أمر الدعوة ما لا يطيق، ففي الآية مظهر من مظاهر رحمة الله برسوله صلى الله عليه وسلم" [26].
ورغم كل هذا يدعي هؤلاء المتوهمون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حاول قتل نفسه نتيجة الإحباط الذي أصابه لعدم استجابة قومه!! قد لا يعاب على شخص آمن بمبدأ أو دعوة ما أن يموت في سبيل نشر دعوته هذه، بل يمدح بأنه شجاع مات من أجلها، فإذا زاد حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على دخول قومه في دينه، وحزن على عدم إيمانهم حتى أثر الحزن عليه، أبعد ذلك يتهم أنه أراد أن ينتحر حزنا؟!
إن الشدائد لا تؤثر في عزائم أصحاب المبادئ والإيمان والقيم، فكيف تؤثر في نبي صاحب رسالة سماوية خاتمة؟!
لقد خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون من المحن التي تعرضوا لها - على قساوتها وشدتها - أقوى عودا وأصلب مكسرا لا تلين لهم قناة ولا تضعف لهم عزيمة، لقد استمروا في ثباتهم على طريق الهدى والتقى والإصرار على محاربة الشرك ومطاردته والقضاء عليه.
ويستفاد مما سبق أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان داعية لا يفتر عن الدعوة إلى الله، بل يبشر بدعوته وينشرها ويبلغها للناس، وأنه لم يعرف اليأس قط، ولم يشك في اصطفاء الله - عز وجل - له، وهذا ناتج عن إعداد الله - عز وجل - له وتنشئته في ظروف أهلته لذلك صلى الله عليه وسلم.
الخلاصة:
· كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في فترة انقطاع الوحي يرتاد الأماكن التي ظهر له فيها جبريل - عليه السلام - لاشتياقه إليه، وليس لغرض الانتحار كما يدعي المتوهمون.
· الرواية الواردة في صحيح البخاري والتي اتهم من خلالها النبي - صلى الله عليه وسلم - بمحاولة الانتحار - ليست على شرط الصحيح؛ لأنها من بلاغات الزهري وليست موصولة؛ بل من قبيل المنقطع، الذي هو من أنواع الضعيف، ولعل البخاري ذكرها لينبهنا إلى مخالفتها لما صح عنده من حديث بدء الوحي.
· ليست ثمة أدنى علاقة بين سبب نزول سورة الضحى، وبين محاولة الانتحار المزعومة.
· اختلف أهل السير في مدة انقطاع الوحي، فقيل: كانت ستة أشهر أو أربعين يوما أو خمسة عشر يوما؛ وقيل سنتين ونصف، وقيل ثلاث سنوات. والراجح أنها لم تزد عن خمسة عشر يوما أو أربعين يوما؛ وذلك أن مدة الدعوة السرية كانت ثلاث سنوات فقط، فكيف يتفق هذا مع الرأي الذي يحدد فترة انقطاع الوحي بسنتين ونصف أو بثلاث سنوات؟!
· لقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - حريصا كل الحرص على هداية قومه، فكان يحزن ويتألم أشد الحزن إذا صده قومه، أو خذلوه في دعوته، وهذا أمر يحسب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يحسب عليه، ونزل قوله عز وجل: )فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا (6)( (الكهف) للتخفيف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى لا يتعب نفسه ويهلكها، فإنما الهدى هدى الله يهدي به من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.
(*) هل القرآن