الزعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أصابته الحيرة بشأن نبوته في أول عهده بها (*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض الطاعنين أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يشك في كونه نبيا بعد نزول الوحي عليه؛ مستشهدين على ذلك بشكواه لخديجة، ورجوعه إلى ورقة بن نوفل عند نزول الوحي عليه أول مرة، وبتأخره في تبليغ الوحي حيرة منه - صلى الله عليه وسلم - في أمر نبوته. هادفين من وراء ذلك إلى إثبات أن شكه وحيرته يتنافيان مع عصمته.
وجها إبطال الشبهة:
1) لجوء النبي - صلى الله عليه وسلم - لخديجة بعد نزول الوحي عليه أول مرة، إنما هو لجوء للتخفيف مما أصابه من فزع وكرب، نتيجة هذا اللقاء الرهيب مع جبريل عليه السلام، ورجوعه - صلى الله عليه وسلم - إلى ورقة بن نوفل إنما هو لطلب الطمأنينة.
2) ما كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتأخر في تبليغ دعوته، وهو الذي بلغ ما أمره به ربه منذ أمر بذلك، وصبر على دعوته - على الرغم مما تعرض له - صلى الله عليه وسلم - من أذى قومه - مطمئنا متيقنا من أمره.
التفصيل:
أولا. حقيقة شكوى النبي - صلى الله عليه وسلم - لخديجة ورجوعه لورقة:
إن جاز لنا تجاوزا - أن نحمل ما كان منه - صلى الله عليه وسلم - مع زوجته السيدة خديجة عقب نزول الوحي عليه - إن جاز لنا أن نحمل هذا الموقف على سبيل الشكوى، فإنها شكوى التعبير عن أمر جليل وقع؛ عساها أن تخفف عنه ما أصابه من كرب، وما أحاط بفؤاده - صلى الله عليه وسلم - من فزع، فهي شكوى زوج لزوجته، يريد أن تخفف عنه ما لاقاه من رعب وفزع، وشدة في هذا اللقاء الذي عاد منه إلى بيته، ولا تزال آثاره على سائر جسده الذي يرجف، مما جعله يقول: "زملوني، زملوني" أو "دثروني، دثروني" والمعنى واحد تقريبا، وكأنه - صلى الله عليه وسلم - يقول: غطوني بما أدفأ به حتى يذهب أثر الرعب والرجفة عن سائر جسدي. تقول أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -: «فزملوه حتى ذهب عنه الروع»، وهو بفتح الراء أي: الفزع.
ويؤكد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «يا خديجة ما لي، بل للذي أرسلني؟!» وهو استفهام تعجبي، أي: أي شيء ثبت لي حتى حصل ما حصل؟ وأخبرها الخبر، وما عانى فيه حتى ظن أن نفسه تقبض من شدة الفزع والرعب، ومن هول المفاجأة، ومن معاناة نزول الوحي عليه، وهو ما عبر عنه بقوله: «لقد خشيت على نفسي»[1].
فأين الشكوى التي يزعمها هؤلاء الطاعنون؟ وإذا كانت شكوى فأين ما يفيد في زعمهم أنه شك وارتاب في نبوته؟! إنه مجرد إخبار من زوج لزوجته، عن موقف شديد حدث له، يريد أن تخفف عنه آثاره، فأي استنكار في ذلك؟!
وأرادت خديجة أن تزداد يقينا، فانطلقت به إلى ورقة بن نوفل، ابن عمها، وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية، وذاع عنه في مكة العلم بما في التوراة والإنجيل، وتباشير الأحبار والرهبان بما جاء في الكتابين من أوصاف نبي آخر الزمان، وأن وقته قد أظل، فلما أخبره - صلى الله عليه وسلم - بما رأى قال ورقة: «هذا الناموس الذي أنزل على موسى».[2] وتمنى ورقة أن يعيش حتى يدرك انتشار الإسلام؛ ليكون جنديا من جنود الله، يجاهد في ظل لواء النبي - صلى الله عليه وسلم - في سبيل إعلاء كلمة الله، ولكنه أدركته منيته، فلم يلبث بعد مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا قليلا، ثم توفي.
وأنى لهم بهذا الزعم، وقد سأل ورقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما رأى قائلا: «يا ابن أخي، ماذا ترى؟» فأخبره - صلى الله عليه وسلم - خبر ما رأى، إذن لم يسأله ورقة عما يشك فيه، ولم يقل له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إني أشك في كذا، وإنما كل ما في الأمر سؤال عما حدث له، وإخبار منه - صلى الله عليه وسلم - بهذا الحدث.
وما كان جواب ورقة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بيانا بأن من رآه هو أمين وحي الله تعالى الذي أنزل على موسى عليه السلام، وهنا ازداد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نورا إلى نور يقينه؛ لما يعلمه من مكانة ورقة في العلم والمعرفة بما في التوراة والإنجيل من المبشرات ببعث رسول قد أظل مبعثه.
فهل في طلب عين اليقين استنكار؟! لا سيما وأن النبوة من المغيبات، تبقى فيها أمور تتردد النفس في تفاصيلها، ولا يكون هذا التردد في المتعلقات التي لا تدخل في الإيمان، ألا ترى إلى قوله تعالى في سؤال إبراهيم - عليه السلام - عن كيفية إحيائه - عز وجل - للموتى: )أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي( (البقرة: 260)، أي الإيمان حاصل بالفعل، ولكن إحياءك غيب، فأريد أن أرى الغائب شاهدا، لأزيل به ما يبقى في الغيب، وسماه طمأنينة، وعليه فإن سؤاله - عليه السلام - لم يخالف إيمانه، بل أكده.
وكذلك الحال في ذهاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ورقة، فكل ما فيه طلب عين اليقين، ولا يعني ذهابه أنه شك في نبوته - كما يزعم الطاعنون - بدليل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعقب على كلام ورقة إلا بقوله:«أومخرجي هم؟» ولم يعقب - صلى الله عليه وسلم - على قوله: «هذا الناموس الذي أنزل على موسى»؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان على يقين بأنه ملك من عند ربه - عز وجل - نزل عليه بوحي من الله تعالى، فلم يزده - صلى الله عليه وسلم - هذا الجواب إلا يقينا على يقينه، وإلا - لو كان في شك - لجاء ما يشير إلى ذلك تعقيبا واستفسارا منه - صلى الله عليه وسلم - لورقة، وإنما جاء التعقيب والاستفسار على قول ورقة: "ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك".
ففي هذا الكلام شيء جديد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفسر بقوله: «أومخرجي هم؟»، وكأنه - صلى الله عليه وسلم - يقول: كيف يخرجوني، وأنا الذي جئت لإخراجهم من الظلمات إلى النور؟! وكيف يخرجوني من حرم الله، وجوار بيته، وبلدة آبائي من عهد إسماعيل عليه السلام؟!
فيأتي الجواب من ورقة: «نعم - أي هم مخرجوك - لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا» [3].
ولعل حكمة المولى - عز وجل - اقتضت أن يكون ما أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المخافة، وما غشيه من الخشية والرهبة أمورا ألقيت عليه تكوينا؛ ليرجع إلى من جعلها الله - عز وجل - سكنا، وترجع به إلى ورقة، فيشيع خبر نبوته من قبلهما، ويصير بهذا الطريق دليلا محكما على أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - نبي صادق، حتى شهد به شاهد من أهله "خديجة"، وشهد به ورقة الذي كان يعرف حال الأنبياء، ليكون حجة على أهل الكتاب، وعلى المشركين الذين يقدرون مكانة ورقة وعلمه بالكتب السابقة.
وهكذا يقدر المولى - عز وجل - لأنبيائه ورسله أمورا، ويلقيها عليهم تكوينا لمصالح لا يعلمها إلا هو[4]، وهكذا كان لقاء ورقة بالنبي صلى الله عليه وسلم، لقاء تبشير وتثبيت لما وجده النبي - صلى الله عليه وسلم - من الخوف والرعب في أول لقاء له - صلى الله عليه وسلم - مع جبريل عليه السلام.
ثانيا. صبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وعزيمته في تبليغ ما أمر بتبليغه عن ربه عز وجل:
من البدهي أن يتجرد النبي - صلى الله عليه وسلم - من كافة العلائق، ويقف لتبليغ الدعوة التي اصطفاه الله لتبليغها على قدم وساق، لكن الموقف الذي لا يفوتنا في هذا الصدد هو صبره وتحمله - صلى الله عليه وسلم - في سبيل تلك الدعوة المشاق والصعاب، وصبره هذا وحده دليل على ثقته - صلى الله عليه وسلم - بما هو عليه، وتيقنه من نبوته ورسالته؛ إذ ليس من المعقول أن يتحمل هذا الإيذاء ويصبر عليه وهو شاك في النبوة؟!
ولمزيد من الإيضاح، نظن أننا بحاجة للوقوف على طبيعة الدعوة الإسلامية وما صاحبها من عنت المشركين وأذاهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فلقد مرت الدعوة الإسلامية منذ بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بمرحلتين عظيمتين:
1. الدعوة السرية:
لما جاء الأمر الرباني بتبليغ الرسالة عرف النبي - صلى الله عليه وسلم - معرفة اليقين أنه أصبح نبيا لله الرحيم الكريم، وجاء جبريل - عليه السلام - للمرة الثانية، وأنزل الله على نبيه قوله عز وجل: )يا أيها المدثر (1) قم فأنذر (2) وربك فكبر (3) وثيابك فطهر (4)( (المدثر).
كانت هذه الآيات المتتابعة إيذانا للرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن الماضي قد انتهى براحته وهدوئه، وأن أمامه عملا عظيما يستدعي اليقظة والتشمير، والإنذار، والإعذار، فليحمل الرسالة، وليوجه الناس، وليأنس بالوحي، وليقو على عنائه فإنه مصدر رسالته ومدد دعوته.
وتعد هذه الآيات أول أمر بتبليغ الدعوة، والقيام بالتبعة، وبعد نزول آيات سورة "المدثر" قام الرسول - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى الله وإلى الإسلام سرا، وكان طبيعيا أن يبدأ بأهل بيته، وأصدقائه، وأقرب الناس إليه[5]. هذا، وقد استمرت تلك المرحلة ثلاث سنوات، فكيف يدعي هؤلاء أنه تأخر في تبليغ دعوته رغم أنه استجاب لأمر ربه فور بعثته؟!
2. الجهر بالدعوة:
ومعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - لما أمر بالجهر بالدعوة، «صعد على الصفا فجعل ينادي يا بني فهر، يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش فقال: "أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي". قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقا، قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد". فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا، فنزلت: )تبت يدا أبي لهب وتب (1) ما أغنى عنه ماله وما كسب (2) ((المسد)» [6][7].
وكانت الدعوة الجهرية بعد نزول قوله عز وجل: )فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين (94)( (الحجر)، وقوله عز وجل: )وأنذر عشيرتك الأقربين (214) واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين (215) فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون (216)( (الشعراء).
ومما سبق يتبين أن الأمر ببدء الدعوة، وترتيب مراحلها كان من الله عز وجل، وبذلك يتضح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتأخر في أداء مهمته في التبليغ. ثم إن صبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - على إيذاء المشركين كان صبر المتيقن من نبوته، الثابت على ما يدعو إليه، المدعوم بعصمة من الله عز وجل.
ودليل ذلك أن المشركين لم يفتروا عن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم, منذ أن صدع بدعوته إلى أن خرج من بين أظهرهم, وأظهره الله عليهم، ويدل على مبلغ هذا الأذى تلك الآيات الكثيرة التي كانت تتنزل عليه في هذه الفترة تأمره بالصبر، وتدله على وسائله، وتنهاه عن الحزن، وتضرب له أمثلة من واقع إخوانه المرسلين، مثل قوله عز وجل: )واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا (10)( (المزمل). وقوله عز وجل: )فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا (24)( (الإنسان). وقوله عز وجل: )ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون (70)( (النمل). وقوله عز وجل: )ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم (43)( (فصلت).
ويحسن بنا أن نطالع بعض الأمثلة الدالة على بعض ما تعرض له - صلى الله عليه وسلم - من الإيذاء والتعذيب، ومنها - حسبما ذكر د. الصلابي -:
· قال أبو جهل: «هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى، لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته أو لأعفرن وجهه في التراب، قال: فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي ليطأ على رقبته، قال: فما فجأهم منه إلا وهو ينكص[8] على عقبيه ويتقي بيديه، قال: فقيل له: ما لك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقا من نار وهولا وأجنحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا» [9].
وفي حديث ابن عباس قال: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي، فجاء أبو جهل فقال: ألم أنهك عن هذا؟ ألم أنهك عن هذا؟ فانصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - فزبره[10]، فقال أبو جهل: إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني، فأنزل الله عز وجل: )فليدع ناديه (17) سندع الزبانية (18) ( (العلق)، قال ابن عباس: فوالله، لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله» [11].
· عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: «بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يصلي عند الكعبة، وجمع من قريش في مجالسهم، إذ قال قائل منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي؟ أيكم يقوم إلى جزور آل فلان، فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها، فيجيء به ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه؟ فانبعث أشقاهم، فلما سجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضعه بين كتفيه، وثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - ساجدا، فضحكوا حتى مال بعضهم إلى بعض من الضحك، فانطلق منطلق إلى فاطمة - رضي الله عنها - وهي جويرية - فأقبلت تسعى، وثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى ألقته عنه، وأقبلت عليهم تسبهم، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة قال: "اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش"، ثم سمى: "اللهم عليك بعمرو بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمارة بن الوليد"، قال ابن مسعود: فوالله، لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأتبع أصحاب القليب لعنة» [12].
وقد بينت الروايات الصحيحة الأخرى أن الذي رمى الفرث هو عقبة بن أبي معيط، وأن الذي حرضه أبو جهل، وأن المشركين تأثروا لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وشق عليهم الأمر؛ لأنهم يرون أن دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - مستجابة.
هذا بعض ما لاقاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أذى المشركين، وقد ختم المشركون أذاهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمحاولة قتله في أواخر المرحلة المكية.
ومع ما له - صلى الله عليه وسلم - من عظيم القدر ومنتهى الشرف، إلا أنه قد حظي من البلاء بالحمل الثقيل، والعناء الطويل, منذ أول يوم صدع[13] فيه بالدعوة، ولقد لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - من سفهاء قريش أذى كثيرا، فكان إذا مر على مجالسهم بمكة استهزءوا به، وقالوا ساخرين: هذا ابن أبي كبشة[14] يكلم من السماء، وكان أحدهم يمر على الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيقول له ساخرا: أما كلمت اليوم من السماء؟
وهكذا لم يقتصر الأمر على مجرد السخرية والاستهزاء والإيذاء النفسي، بل تعداه إلى الإيذاء البدني، بل قد وصل الأمر إلى أن يبصق عدو الله أمية بن خلف في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، هذا ولم تتوقف حدة الابتلاء والأذى بعد هجرته - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، بل أخذت خطا جديدا بظهور أعداء جدد، فبعد أن كانت العداوة تكاد تكون مقصورة على قريش بمكة، صار له - صلى الله عليه وسلم - أعداء من المنافقين واليهود وغيرهم[15].
وبهذا يتبين مدى التعذيب والإيلام والإيذاء الذي تعرض له النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما صدع بالدعوة، أفيصبر النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمر يشك في حقيقته؟! والمنطق والعقل يقتضيان أنه - صلى الله عليه وسلم - لو كان شاكا في أمر نبوته لما صبر على كل هذا الإيذاء، ولما قال: «أترون هذه الشمس؟ قالوا: نعم، قال: ما أنا بأقدر أن أدع لكم ذلك على أن تستشعلوا لي منها شعلة»[16].
نخلص من جملة ما سبق إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان على يقين من نبوته وصبر على تبليغ مقتضاها، ولم لا وهو الذي سبق أن مهد الله له ببعض الإرهاصات، التي تدل على أنه سيكون له شأن عظيم، وبعد ذلك مرت عليه مراحل تدريجية تمهد بما سيحدث له بدءا بالرؤى الصادقة في المنام، ثم نزول جبريل - عليه السلام - في الغار ليتم ما بدأه، ويعده لتبليغ الرسالة إلى الناس، وقد تحمل النبي - صلى الله عليه وسلم - في سبيل ذلك من العناء والتعب والأذى الكثير، غير شاك في أمر نبوته ولا مرتاب؛ فبلغ الرسالة على أكمل وجه كما أمره ربه، وأشهد في نهاية حياته أصحابه على ذلك، فقال في حجة الوداع:«هل بلغت؟ فقالوا: نعم، فقال: اللهم اشهد» [17].
الخلاصة:
· لجوء النبي - صلى الله عليه وسلم - لخديجة واستشارته ورقة بن نوفل، كان طلبا للطمأنينة ولزيادة اليقين، وذلك لما عرف من علم ورقة ببشارات الكتب السابقة بالنبي المنتظر، ولهذا قصد إلى زوجته وابن عمها للتخفيف عما أصابه من فزع وكرب نتيجة لقائه بجبريل عليه السلام، ولم يكن ذلك شكا منه - صلى الله عليه وسلم - ولا ارتيابا في نبوته أو حقيقة اصطفائه.
· لقد أطاع النبي - صلى الله عليه وسلم - أوامر ربه - عز وجل - في تبليغه الوحي؛ فبعد نزول آيات المدثر قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى الله وإلى الإسلام سرا، ولما أمر بالجهر بالدعوة في قوله تعالى: )فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين (94)( (الحجر)، لم يتأخر عن دعوة الناس إلى الإسلام، على الرغم مما لقيه من الأذى والعذاب والصد؛ إيمانا منه بنبوته، وثقة في نصر الله عز وجل.
· لو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - شاكا أو حائرا في أمر نبوته لما استطاع تغيير العقائد والأفكار والتصورات، وعالم المشاعر والأخلاق في نفوس أصحابه، تحت ضغط الأذى والصد من قبل مشركي قريش.
(*) الهجمات المغرضة على التاريخ الإسلامي، د. محمد ياسين مظهر صديقي، ترجمة: سمير عبد العزيز إبراهيم، دار هجر للطباعة والنشر، القاهرة، ط1، 1408هـ/ 1988م. رد شبهات حول عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، د. عماد السيد الشربيني، دار الصحيفة، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م.
[1]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم (3)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (422).
[2]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب سورة العلق (4670)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم (422).
[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب سورة العلق (4670)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم (422).
[4]. رد شبهات حول عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، د. عماد السيد الشربيني، دار الصحيفة، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص236: 238 بتصرف.
[5]. السيرة النبوية: عرض وقائع وتحليل أحداث، د. علي محمد الصلابي، دار الفجر للتراث، القاهرة، ط1، 1424هـ/2003م، ج1، ص110، 111 بتصرف يسير.
[6]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الشعراء، قوله: ) وأنذر عشيرتك الأقربين (214) ( (4492)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب قوله تعالى: ) وأنذر عشيرتك الأقربين (214) ( (529).
[7]. الرسول صلى الله عليه وسلم، د. عبد الحليم محمود، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط1، 1974م، ص79، 80 بتصرف.
[9]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب قوله: ) كلا إن الإنسان ليطغى (6) أن رآه استغنى (7) ( (العلق) (7243).
[11]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، من مسند بني هاشم، مسند عبد الله بن العباس رضي الله عنهما (2321)، والترمذي في سننه، كتاب تفسير القرآن، باب سورة اقرأ (3349)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (275).
[12]. أخرجه البخاري في صحيحه، أبواب سترة المصلي، باب المرأة تطرح عن المصلي شيئا من الأذى (498)، ومسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي من أذى المشركين والمنافقين (4750).
[13]. صدع بالأمر: جهر به.
[14]. أبو كبشة: هو زوج حليمة السعدية مرضعة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أبو النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الرضاع، وكان كفار قريش يكنون النبي بأبي كبشة استهزاء منه.
[15]. السيرة النبوية، د. علي محمد الصلابي، دار الفجر للتراث، القاهرة، ط1، 1424هـ/2003م، ج1، ص252: 255 بتصرف يسير.
[16]. حسن: أخرجه أبو يعلى في مسنده (12/ 176)، برقم (6804)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (92).
[17]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم بعضا" (6667)، ومسلم في صحيحه، كتاب القسامة، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال (4477).
why do men have affairs
redirect why men cheat on beautiful women