الزعم أنه - صلى الله عليه وسلم - مدح أصنام المشركين (*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض الطاعنين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أثنى على أصنام قريش ومدحها، ويستدلون على ذلك بما جاء في بعض التفاسير من أنه - صلى الله عليه وسلم - لما قرأ قوله سبحانه وتعالى: )أفرأيتم اللات والعزى (19) ومناة الثالثة الأخرى (20)( (النجم), قال - صلى الله عليه وسلم - بعده: «تلك الغرانيق العلي, وإن شفاعتهن لترتجى». ويتساءلون: أليس ذلك مدحا صريحا منه - صلى الله عليه وسلم - لأصنام المشركين؟! هادفين من وراء ذلك إلى الطعن في عقيدته - صلى الله عليه وسلم - باتهامه أنه مدح ما جاء بذمه من أصنام المشركين، وأنه اعتقد خلاف ما انضوت عليه رسالته من التوحيد الخالص.
وجوه إبطال الشبهة:
1) الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الداعي إلى التوحيد وعبادة الله وهدم الشرك, وكان أول شيء فعله بعد تمكنه يوم الفتح هو هدم الأصنام، فكيف يقال: إنه مدح أصنام المشركين؟!
2) السياق في سورة النجم يهتم بترسيخ عقيدة التوحيد في نفوس المسلمين، ومحو ما دون الله عز وجل، فكيف يدعي عاقل أن النبي مدح أصنام المشركين في هذه السورة خاصة؟! فضلا عن أن قصة الغرانيق باطلة سندا ومتنا.
3) إن الشيطان ليس له سبيل على عباد الله المخلصين، فكيف الحال بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو المعصوم من قبل الله عز وجل؟!
التفصيل:
أولا. الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الداعي إلى التوحيد وعبادة الله, فكيف يقال: إنه مدح أصنام المشركين؟!
إن الإسلام يدعو إلى التوحيد وعبادة الله الواحد وبهذا بعث محمد صلى الله عليه وسلم، فكيف يمكن له - صلى الله عليه وسلم - أن يمدح أصنام المشركين ويخلق لها مكانة في الإسلام، وهو دائما يسبها ويلعنها ويدعو إلى هدمها؛ لأنها لا تنفع ولا تضر؟ ومن أين لها النفع والضر وأيدي البشر هي التي صنعتها[1]؟
فقد كان - صلى الله عليه وسلم - حامي جناب التوحيد من الشرك, بل سد كل طريق يوصل إليه, ويتضح هذا من المواقف التي حدثت مع المشركين أنفسهم، ذلك حين عرضوا عليه الملك والجاه والمال في مقابل أن يترك الدعوة إلى التوحيد، قال عتبة بن ربيعة للنبي صلى الله عليه وسلم: " إنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم، وكفرت به من مضى من آبائهم" [2].
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعظم صنما حتى قبل بعثته، فقد عصمه الله من ذلك، حتى إن عمه لما كلمه في حضور عيد لهم وعزم عليه، وخرج معهم كارها، كان كلما دنا من صنم تمثل له شخص أبيض طويل، ويصيح به: وراءك لا تلمسه، فما شهد لهم عيدا بعد ذلك[3].
والأحداث التي تؤكد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعظم صنما قط منذ نشأته كثيرة، منها ما حدث في رحلته إلى الشام مع عمه وهو طفل صغير؛ إذ قابل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بحيرا الراهب، فقال له بحيرا: يا غلام أسألك بحق اللات والعزى أن تخبرني عما أسألك، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسألني باللات والعزى.. فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما".
وهذا يدعونا للتأمل في رد الرسول صلى الله عليه وسلم، إنه وهو في سن الثانية عشرة يرفض القسم باللات والعزى, وهي من أعظم آلهتهم وأصنامهم, وذلك تحقيرا لشأنها، إنها أصنام من صنع يد الإنسان يصنعها بيده ويعبدها، والنبي في تلك السن الصغيرة ينصرف فكره إلى الله الواحد، ويرفض الاعتراف باللات والعزى[4].
تلك عقيدة قد غرسها الله في النبي - صلى الله عليه وسلم - منذ صغره، فهل يعقل أن يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد البعثة ويمدح تلك الأصنام؟!
ويكفي للتدليل على عصمة الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - من الشرك - حتى قبل البعثة - ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن هشام بن عروة عن أبيه قال: «حدثني جار لخديجة أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: أي خديجة، والله لا أعبد اللات والعزى» [5].
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - هدده كفار مكة وتوعدوه بأشد العقوبة على عيب دينهم وذم آلهتهم, فلم يأبه بوعيدهم وتهديدهم، موطنا نفسه على تحمل هذا الأمر والمضي قدما في ذم آلهتهم والدعوة إلى عبادة الله وحده، مهما جر عليه ذلك من متاعب وآلام، فهل يعقل أن يتراجع عن هذا وهو لب دعوته وصميم رسالته، ثم إنه الذي كان إذا مر بالأصنام أعرض عنها ولم يقبل بوجهه إليها, مع أن قومه وعدوه بالإيمان لو أقبل بوجهه إليها.
قال القشيري: لقد طالبته قريش وثقيف إذا مر بآلهتهم أن يقبل بوجهه إليها، ووعدوه بالإيمان به إن فعل ذلك, فما فعل، ولا كان ليفعل[6].
وهكذا نرى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - رفض كل ما عرض عليه من أجل أن ينظر إلى تلك الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، حتى ولو كان نظرا عابرا دون تقرب؛ إذ إن إعراضه عنها بوجهه كان يشعرهم باحتقارها، وهم لا يطلبون منه أكثر من عدم إشعارهم بذلك، حتى لو كانوا يعلمون أنه يحتقرها في نفسه, ولكن يريدون منه أن لا يظهر ذلك أمامهم فقط، فكيف به - إذن - وهو معصوم من قبل الله - عز وجل - أن يقع فيما هو أعظم من هذا؟!
وتأكيدا على هذا, فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدما فتح مكة، أرسل أصحابه لهدم تلك الأصنام, وهذا دليل واضح على بطلان هذه الشبهة؛ إذ كيف يمدحها ثم يهدمها، فقد بعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خالد بن الوليد في ثلاثين فارسا لهدم العزى، وهي هيكل بوادي نخلة تعظمه قريش وكنانة ومضر، فذهب إليها وهدمها وهو يقول:
يا عز كفرانك لا سبحانك
إني رأيت الله قد أهانك
وأرسل - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن العاص لهدم سواع - وهو أعظم صنم لهذيل على ثلاثة أميال من مكة - فذهب إليه وهدمه.
وبعث - صلى الله عليه وسلم - سعد بن زيد الأشهلي في عشرين فارسا لهدم مناة، وهي صنم لكلب وخزاعة، فتوجهوا إليها وهدموها.
وبهذا الفتح المبين، وبسقوط دولة الأصنام والهياكل، أصبح توحيد الله عقيدة راسخة في كل جنان, ويشهد بها كل لسان، وأضحت الكعبة منارة التوحيد في الأرض، وعادت كما كانت عليه في عهد الخليل إبراهيم عليه السلام[7].
ثانيا. السياق في سورة النجم يهتم بترسيخ عقيدة التوحيد في نفوس المسلمين, كما أن قصة الغرانيق - التي استندوا إليها - باطلة سندا ومتنا:
أما من ناحية السياق:يقول سبحانه وتعالى: )أفرأيتم اللات والعزى (19) ومناة الثالثة الأخرى (20) ألكم الذكر وله الأنثى (21) تلك إذا قسمة ضيزى (22) إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى (23)( (النجم), فهذا السياق صريح في أن اللات والعزى ومناة أسماء سماها المشركون هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان، وهذا ذم لها، وهل يستقيم - مع ذمها في آيات متوالية - مدحها في خلال تلك الآيات بالعلو ورجاء شفاعتها؟!
إن سياقا كهذا شأنه متناقض مضطرب لا يسلم به العقل، ولا يمكن أن يأتي في القرآن الكريم، فإنه: )الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير (1)( (هود)[8].
إن ما روي في قصة الغرانيق لو كان واقعا لشغب المعادون، ولارتد الضعفاء من المؤمنين، ولقامت قيامة مكة كما حدث في الإسراء، ولكن شيئا من ذلك لم يكن[9].
وإذا كان السياق القرآني يكذب هذه القصة, فإن اللغة تنكر هذه القصة أيضا؛ فقد ذكر الشيخ محمد عبده في معرض الرد على هذه الفرية أن وصف العرب لآلهتهم بالغرانيق لم يرد لا في نظمهم، ولا في خطبهم، ولم ينقل عن أحد أن ذلك الوصف كان جاريا على ألسنتهم، إلا ما جاء في "معجم ياقوت" من غير سند، ولا معروف بطريق صحيح، والذي تعرفه اللغة أن: الغرنوق، والغرنوق، والغرنيق، والغرنيق - اسم لطائر مائي أسود أو أبيض، ومن معانيه الشاب الأبيض الجميل، ويطلق على غير ذلك، ولا شيء من معانيه اللغوية يلائم معنى الإلهية والأصنام، حتى يطلق عليهما في فصيح الكلام الذي يعرض على أمراء الفصاحة والبيان[10].
لقد تناسى الطاعنون الأغراض التي جاءت من أجلها سورة النجم؛ فأول أغراض السورة: تحقيق أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صادق فيما يبلغه عن الله عز وجل، وأنه منزه عما ادعوه، وإثبات أن القرآن وحي من عند الله بواسطة جبريل، وتقريب صفة نزول جبريل بالوحي في حالين، زيادة في تقرير أنه وحي من الله واقع لا محالة, وإبطال إلهية أصنام المشركين, وإبطال قولهم في اللات والعزى ومناة: إنها بنات الله، وإثبات أن ذلك القول أوهام لا حقائق لها, وتنظير قولهم فيها بقولهم في الملائكة إنهم إناث, وتذكيرهم بما حل بالأمم ذات الشرك من قبلهم, وبمن جاء قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - من الرسل أهل الشرائع، وإنذارهم بحادثة تحل بهم قريبا، فافتتح الله - عز وجل - السورة بقوله: )والنجم إذا هوى (1) ما ضل صاحبكم وما غوى (2) وما ينطق عن الهوى (3)( (النجم), وهذا كلام موجه من الله - سبحانه وتعالى - إلى المشركين الطاعنين في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم[11].
وهذا تأكيد منه - عز وجل - على أن ما أتى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وحي وعقائد ما جاء إلا لهدم عقيدة الشرك وترسيخ عقيدة التوحيد، إذ انتقل الكلام من إثبات أن النبي - صلى الله عليه وسلم - موحى إليه بالقرآن، إلى إبطال عبادة الأصنام, فقال سبحانه وتعالى: )أفرأيتم اللات والعزى (19) ومناة الثالثة الأخرى (20) ألكم الذكر وله الأنثى (21) تلك إذا قسمة ضيزى (22)( (النجم).
ومناط الإبطال قوله سبحانه وتعالى: )إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى (23)( (النجم)[12], وقد قال سبحانه وتعالى: )وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى (26)( (النجم).
فالله - عز وجل - يوبخ عبدة الأوثان، بإقناطهم عما علقوا به أطماعهم من شفاعة أوثانهم، بأن ملائكته الكرام لا يتفوهون بالشفاعة إلا من بعد إذنه ورضاه, فأنى لهذه الطواغيت أن تفتات على هذا المقام، ولها من الذلة والصغار ما يبعدها عنه بألف منزل[13].
وهكذا نجد أن سياق السورة الكريمة من أولها ذم للمشركين وإبطال لكفرهم وشركهم، فالسياق لا يحتمل مسألة الغرانيق المدعاة.
· أما من ناحية الرواية: فقد استندوا إلى بعض الروايات الباطلة سندا ومتنا, والتي منها: ما رواه ابن أبي حاتم بسنده عن سعيد بن جبير قال: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة "النجم", فلما بلغ قوله عز وجل: )أفرأيتم اللات والعزى (19) ومناة الثالثة الأخرى (20)( (النجم), ألقى الشيطان على لسانه: "تلك الغرانيق العلى, وإن شفاعتهن لترتجى", فقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم، فسجد وسجدوا، فأنزل الله - عز وجل - هذه الآية: )وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم (52)( (الحج).
وروى مثل هذا البزار في مسنده عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ بمكة سورة "النجم" حتى انتهى إلى قوله تعالى: )أفرأيتم اللات والعزى (19)( وذكر بقيته.
ومعنى الآية عند هؤلاء كما ذكر ابن جرير: لم نر يا محمد من قبلك من رسول إلى أمة من الأمم، ولا نبي محدث ليس بمرسل إلا إذا تمنى، والتمني: إما حديث النفس، فيكون تمني النبي - صلى الله عليه وسلم - هو: ما حدثته نفسه من محبته مقاربة قومه في ذكر آلهتهم ببعض ما يحبون، وفي بعض الأحوال محبته أن لا يذكر آلهتهم بسوء.
وإما أن التمني بمعنى: القراءة والتلاوة، فيكون المعنى: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تلا كتاب الله وقرأ، أو حدث وتكلم، فيذهب الله ما يلقي الشيطان من ذلك على لسان نبيه ويبطله، ثم يحكم الله آياته، بأن يخلص آيات كتابه من الباطل الذي ألقى الشيطان على لسان نبيه.
ومما سبق يتبين أن القائلين بوقوع "قصة الغرانيق" يستندون إلى:
1. الآثار التي نقلوها.
2. قوله سبحانه وتعالى: )وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا (73)( (الإسراء)، وقوله تعالى: )وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم (52)( (الحج)[14].
فأما الآثار التي وردت في ذلك فكلها ضعيفة سندا ومتنا ولم تخرج في كتب الحديث المعتمدة، ولم تتحقق فيها شروط الصحة, وفي ذلك قال القاضي عياض: إن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند متصل، وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون، ورواية البزار المتصلة فيها ضعف, قال ابن كثير: قد ذكر كثير من المفسرين قصة الغرانيق، وما كان من رجوع كثير من المهاجرين إلى أرض الحبشة ظنا منهم أن مشركي قريش قد أسلموا، ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح.
وإن أصحاب كتب الحديث المعتمدة لم يذكروا حديث الغرانيق، وهذا يستأنس به على عدم صحته؛ إذ لو كان صحيحا لأخرجوه أو أخرجه بعضهم، فقد ذكروا حديث سجود النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه عندما قرأ سورة "النجم".
روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: «سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس» [15].
وروي أيضا عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: «أول سورة أنزلت فيها سجدة "والنجم", قال: فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسجد من خلفه إلا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قتل كافرا، وهو أمية بن خلف»[16].
ومعلوم أن عصمة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - من الكذب في التبليغ والتقول على الله ما لم يقل قد ثبتت بالأدلة القاطعة المعجزة والإجماع, فأي دليل آخر يناقضها لا يقبل، فما بالك عندما يكون هذا الدليل الآخر حديثا مرسلا، أو منقطعا، أو مطعونا في بعض رواته، إنه أحرى أن لا يقبل.
وليست الروايات باطلة من جهة السند فحسب, بل هي أيضا باطلة من جهة المتن, فقد حكى القاضي عياض عن القاضي بكر بن العلاء قوله بضعفه، واضطراب رواياته وانقطاع إسناده، واختلاف كلماته، فقائل يقول: «إنه في الصلاة»، وآخر يقول: «قالها في نادي قومه حين أنزلت عليه السورة»، وآخر يقول: «قالها وقد أصابته سنة», وآخر يقول: «بل حدث نفسه فسها», وآخر يقول: «إن الشيطان قالها على لسانه، وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما عرضها على جبريل قال:ما هكذا أقرأتك»، وآخر يقول: «بل أعلمهم الشيطان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأها، فلما بلغ النبي ذلك قال: والله ما هكذا نزلت», إلى غير ذلك من اختلاف الرواة.
وجاءت كلمات الحديث في بعض الروايات: «تلك الغرانيق العلى, وإن شفاعتهن لترتجى», وفي بعض آخر: «ترتضى»، وفي رواية: «لترجى», وفي بعض الطرق زيادة: «مثلهن لا ينسى»، وفي بعضها نقص, أي ذكر: «إن شفاعتهن ترتجى», دون ذكر الغرانقة والغرانيق، فهذا الاختلاف بين الروايات يجعل الحديث مضطربا.
والحديث المضطرب هو: الذي اختلف الرواة فيه, سواء كان الاختلاف في السند أو في المتن أو في كليهما، ويقع الاختلاف بالتقديم والتأخير، والزيادة والنقص, وبإبدال راو مكان آخر, وبالتصحيف في السند أو المتن.
والاضطراب موجب لضعف الحديث؛ لإشعاره بعدم ضبط الراوي، ومن شروط الصحة أن يكون الراوي ضابطا[17].
ثالثا. إن الشيطان ليس له سبيل على عباد الله المخلصين, فكيف بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو المعصوم؟
"إن تسلط الشيطان على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالزيادة في القرآن ما ليس منه مخالف لقوله سبحانه وتعالى: )إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين (42)( (الحجر), وأي شخص أحق بهذه العبودية من الأنبياء, فضلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وقال سبحانه وتعالى: )إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون (99)( (النحل), وأي بشر أصدق إيمانا وأقوى توكلا من رسول الله؟ وقد صدق الشيطان ذلك، كما حكاه الله - عز وجل - عنه بقوله: )قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين (82) إلا عبادك منهم المخلصين (83)( (ص) بفتح اللام وكسرها، ومن أحق من الأنبياء بالاصطفاء، أو من أشد إخلاصا منهم" [18]؟
وقد قام الدليل وأجمعت الأمة على عصمته - صلى الله عليه وسلم - من مثل ما روي، إما من تمنيه أن ينزل عليه مدح آلهة العرب وهو كفر، أو أن يتسور عليه الشيطان ويشبه عليه القرآن، حتى يجعل فيه ما ليس منه، ويعتقد النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، حتى ينبهه جبريل، وذلك ممتنع في حقه؛ فما كان النبي ليفعل ذلك من قبل نفسه عمدا وهو كفر، أو سهوا وهو معصوم، وقد ثبت بالبراهين والإجماع عصمته من جريان ذلك على لسانه أو قلبه، لا عمدا ولا سهوا، أو يكون للشيطان سبيل عليه في التبليغ، ولو جوزنا ذلك لذهبت الثقة بالأنبياء، ولوجد المارقون سبيلا للتشكيك في الأديان، وهذا ما لا يقبله العقل.
على أن هناك بعض الآيات التي تؤكد عصمته صلى الله عليه وسلم، وتنفي حادث الغرانيق من أساسه:
أولها: قوله سبحانه وتعالى: )وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا (73) ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا (74) إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا (75)( (الإسراء).
فهذه الآيات تفيد أن الرسول لم يقرب من الميل إليهم، لتثبيت الله إياه، ولو أنه فعل لأذاقه الله ضعف الممات، لكن الله لم يذقه هذا العذاب، فهو إذن لم يقرب من الميل إليهم لتثبيت الله له.
وهذه الآيات لا يستدل بها على إثبات حادث الغرانيق، بل على إبطاله, يقول القرطبي: ومما يدل على ضعفه - حديث الغرانيق - من الكتاب قوله تعالى: )وإن كادوا ليفتنونك( والآيتان بعدها، فهي ترد هذا الخبر؛ لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفتري، وأنه لولا أن ثبته لكاد يركن إليهم، فمضمون هذا ومفهومه أن الله - عز وجل - عصمه من أن يفتنه قومه فيفتري، وثبته حتى لم يركن إليهم قليلا، فكيف كثيرا؟! وهم يروون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والافتراء بمدح آلهتهم، وأنه قال صلى الله عليه وسلم: "افتريت على الله، وقلت ما لم يقل", وهذا ضد مفهوم الآية، وهي تضعف الحديث لو صح, فكيف ولا صحة له؟!
ثانيها: قوله سبحانه وتعالى: )ولو تقول علينا بعض الأقاويل (44) لأخذنا منه باليمين (45)( (الحاقة).
فالآيات تفيد أن نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - لو افترى على الله ما لا يصح نسبته إليه لأهلكه وعذبه، وما يستطيع أحد من الناس أن يدفع عنه هذا، وحيث إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يهلكه الله ولم يعذبه, فهو إذن لم يقل على الله ما لم يقله الله.
قال ابن كثير في تفسيره للأيات: لو كان محمد - صلى الله عليه وسلم - كما يزعمون - مفتريا علينا فزاد في الرسالة، أو نقص منها، أو قال شيئا من عند نفسه فنسبه إلينا وليس كذلك، لعاجلناه بالعقوبة، وما يقدر أحد منكم على أن يحجز بيننا وبينه إذا أردنا به شيئا من ذلك, والمعنى في هذا: بل هو صادق بار راشد؛ لأن الله - عز وجل - مقرر له ما يبلغه عنه ومؤيد له بالمعجزات الباهرات والدلالات القاطعات.
ثالثها: قول الله سبحانه وتعالى: )والنجم إذا هوى (1) ما ضل صاحبكم وما غوى (2) وما ينطق عن الهوى (3)( (النجم)، فقد أقسم الحق - عز وجل - بالنجم على أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - راشد تابع للحق ليس بضال ولا غاو، وأنه ما تقول قولا عن هوى وغرض، إنما يقول ما أمر بتبليغه إلى الناس كاملا موفورا من غير زيادة ولا نقصان، وعلى هذا فالزيادة التي جاءت في قصة الغرانيق باطلة لا أصل لها؛ لأنها عن هوى لا عن وحي، والله قد أقسم بأن ما ينطق به رسوله عن وحي لا عن هوى.
رابعها: قول الله - عز وجل - في وصف القرآن )لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد (42)( (فصلت), فعلى أن الباطل هو الشيطان، فقد ثبت أن الشيطان لا يستطيع أن يغير في القرآن شيئا، من ثم فلا يستطيع أن يلقي شيئا في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم.
خامسها: قول الله سبحانه وتعالى: )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)( (الحجر), يؤكد الله بقوله سبحانه وتعالى: )إنا نحن(، أنه هو المنزل للقرآن على وجه اليقين، وأنه هو الذي نزله محفوظا من الشياطين، وهو حافظه في كل وقت من الزيادة والنقصان، والتحريف والتبديل، وحادث الغرانيق فيه زيادة، فهو باطل؛ لأن القرآن محفوظ من الزيادة.
فالقرآن العظيم محفوظ من هذه الأشياء كلها، لا يقدر أحد من جميع الخلق من الجن والإنس أن يزيد فيه أو ينقص منه حرفا واحدا أو كلمة واحدة, وهذا مختص بالقرآن العظيم، بخلاف سائر الكتب المنزلة، فإنه قد دخل عليها التحريف والتبديل، والزيادة والنقصان، ولما تولى الله - عز وجل - حفظ هذا الكتاب بقي مصونا الأبد محروسا من الزيادة والنقصان.
سادسها: قول الله عز وجل: )وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم (15)( (يونس).
المعنى: وإذا تتلى على أهل مكة آياتنا الظاهرة في دلالتها على وحدانيتنا وصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم, قال الذين لا يؤمنون بالبعث: ائت بقرآن ليس فيه ذم آلهتنا، أو بدل منه ما نكره وائت بغيره من عند نفسك, فأمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لهم: ليس لي أن أغيره من تلقاء نفسي؛ لأنه ليس من عندي، وإنما هو من عند الله، فالتصرف فيه إلى صاحبه وهو الله عز وجل, لا إلي: )إن أتبع إلا ما يوحى إلي(، أي: ما أتبع في شيء مما أفعل أو أترك إلا ما يوحى إلي في القرآن من غير تغيير له في شيء أصلا.
ولو أن الشيطان ألقى على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ذكر في قصة الغرانيق من أنه مدح أصنام المشركين، لكان - صلى الله عليه وسلم - غير متبع ما يوحيه الله إليه، ولكان متبعا ما يوحيه الشيطان, والنبي - صلى الله عليه وسلم - متبع ما أوحاه الله وحده إليه[19].
سابعها: قوله تعالى: )وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم (52) ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد (53) وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم (54)( (الحج).
يقول الشيخ سيد قطب في مفتتح تفسيره لهذه الآيات: "والله الذي يحفظ دعوته من تكذيب المكذبين، وتعطيل المعوقين، ومعاجزة العاجزين.. يحفظها كذلك من كيد الشيطان، ومن محاولته أن ينفذ إليها من خلال أمنيات الرسل النابعة من طبيعتهم البشرية، وهم معصومون من الشيطان، ولكنهم بشر تمتد نفوسهم إلى أماني تتعلق بسرعة نشر دعوتهم وانتصارها وإزالة العقبات من طريقها, فيحاول الشيطان أن ينفذ من خلال أمانيهم هذه، فيحول الدعوة عن أصولها وعن موازينها, فيبطل الله كيد الشيطان، ويصون دعوته، ويبين الرسل أصولها وموازينها، فيحكم آياته ويزيل كل شبهة في قيم الدعوة ووسائلها" [20].
الخلاصة:
· الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الداعي إلى التوحيد وعبادة الله وحده، وترك الشرك وذم المشركين، وهو حامي جناب التوحيد, وقد سد كل طريق يوصل إلى الشرك أو الأصنام، وكتب السيرة مليئة بشواهد تؤكد ذلك، فلم يسجد لصنم منذ أن كان طفلا، ولم يمدح صنما, فقد بغضها كل البغض, ويشهد بذلك ما بدر من النبي عندما استحلفه بحيرا باللات والعزى.
· لقد أمر - صلى الله عليه وسلم - بهدم تلك الأصنام عندما فتح مكة، وهذا دليل على بغضه وكرهه لها, فهذا أصل عقيدة التوحيد، فهل يمدحها وهو كاره لها؟! وهل يهدمها بعدما مدحها؟!
· السياق في سورة النجم يرسخ عقيدة التوحيد في نفوس المسلمين، ومحو الشرك وذم ما دون الله من مثل اللات والعزى ومناة, وأنها افتراء ما أنزل الله بها من سلطان, فهل يستقيم مع ذمها في آيات متواليات مدحها من خلال تلك الآيات بالعلو ورجاء شفاعتها؟!
· قصة الغرانيق باطلة سندا ومتنا؛ لأن الروايات التي استند إليها الطاعنون موضوعة، ولم ترد القصة في كتب الحديث المعتمدة، وهذا يؤكد عدم صحة قصة المدح التي يزعمها الطاعنون.
· إن الشيطان ليس له سبيل على عباد الله المخلصين لقوة إيمانهم، وذلك مصداقا لقول الحق سبحانه وتعالى: )إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين (42)( (الحجر), وقوله سبحانه وتعالى: )إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون (99)( (النحل), فأي عبد أقوى إيمانا من النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فضلا عن أنه معصوم من قبل الله!!
(*) عصمة الأنبياء عن الزلات والأخطاء, أبو بكر أحمد الباقوري، دار الطباعة والنشر، جامعة مركز الثقافة السنية، الهند، ط2، د. ت.