الزعم أنه - صلى الله عليه وسلم - اغتاب بعض صحابته بدافع الحقد(*)
مضمون الشبهة:
يتهم بعض المغرضين النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه كان يغتاب صحابته حينا ويبهتهم حينا آخر، ويمثلون لذلك بأنه لما جاءته فاطمة بنت قيس تستطلع رأيه في خاطبين تقدما لها - هما: أبو جهم بن هشام ومعاوية بن أبي سفيان - فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له»، ويرجعون هذا الحقد المزعوم إلى أن معاوية قد حارب النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرا وكاد له، وعاون والده أبا سفيان في محاولات استئصال شأفة محمد - صلى الله عليه وسلم - ويهدفون من وراء ذلك إلى الطعن في إخلاصه - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه، ووصمه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يشهر ببعضهم.
وجوه إبطال الشبهة:
1) كان من كمال خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - إغضاؤه عما لايحب، وعفوه عند المقدرة، وخلو قلبه من الغل والحقد لأي أحد حتى الذين آذوه وحاربوه، فما بالنا بأصحابه رضي الله عنهم.
2) لقد عفا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أبي سفيان بن حرب وسائر أهل مكة رغم عدائهم الشديد له وللمسلمين؛ بل إنه عظم قدر أبي سفيان وداره يوم الفتح الأكبر، فأين هو الحقد المزعوم؟
3) بيان النبي - صلى الله عليه وسلم - لحال معاوية حينما سألته السيدة عن أمر الخطيبين مشروع للنصيحة، وليس في وصفه بالصعلكة انتقاص من شأنه؛ إذ الصعلوك هو الفقير، خلافا لما اكتسبه هذا اللفظ من دلالات مذمومة، ثم إنه لا دليل لدى هؤلاء على كيد معاوية للنبيـ صلى الله عليه وسلم - واشتراكه في الحرب ضده.
التفصيل:
أولا. كان من كمال خلقه - صلى الله عليه وسلم - إغضاؤه عما لا يحب، وخلو قلبه من الغل والحقد:
ورد النهي عن الحقد والغل متمثلا في الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تذم الحقد والغل ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: )والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم (10)( (الحشر)، وقوله - سبحانه وتعالى - أيضا: )ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون (43)( (الأعراف)، وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: «قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أفضل؟ قال: "كل مخموم القلب صدوق اللسان"، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال صلى الله عليه وسلم: هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي، ولا غل ولا حسد»[1].
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تباغضوا ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث» [2].
وعن الزبير - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دب إليكم داء الأمم قبلكم؛ الحسد والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين».[3] وعن ضمرة بن ثعلبة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال الناس بخير؛ ما لم يتحاسدوا»[4] [5].
فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يحث على نبذ الغل والحقد وينهى عنهما، ومن ثم فهو أسمى وأكبر من أن يأتي هذه الخصال الذميمة، وما تصديق الناس له، وإيمانهم به، واقتناعهم بدعوته - صلى الله عليه وسلم - إلا دليل ساطع على سمو خلقه، فهو الصادق المصدوق الذي لا يقول إلا ما يفعل دائما.
وكان من كمال خلقه - صلى الله عليه وسلم - إغضاؤه عما لا يحب، وعفوه عند المقدرة، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - وافر الحلم والاحتمال، كثير الفضل والإفضال، يصل من يقطعه، ويعطي من منعه، ويبذل لمن حرمه، ويعفو عمن ظلمه، ويغض طرفه عن القذى، ويحبس نفسه عن الأذى، ويصبر على ما يشق ويكره، ولا يزيد مع أذى الجاهل إلا صبرا وحلما، وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، ولم يؤاخذ الذين كسروا رباعيته في أحد بل دعا لهم وعفا عنهم، وكم عفا عن مثلهم، وتجاوز عما بدا من المنافقين في حقه قولا وفعلا، ولم يقابل من شتمه ولا من أراده بسوء طولا وفضلا.
وقد جاء عن أبي هريرة أنه قال: «قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: دعوه وهريقوا على بوله سجلا من ماء أو ذنوبا[6] من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين» [7].
وهكذا يتبين لنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدفع السيئة بالحسنة، ويعفو عمن أساء، فلم يكن - صلى الله عليه وسلم - يحمل حقدا ولا كراهية لأحد كما يزعمون.
ثانيا. عفو النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أبي سفيان وسائر أهل مكة يوم الفتح:
لقد نال النبي - صلى الله عليه وسلم - من العفو الثريا، فهذه قريش قد بالغت في أذاه - صلى الله عليه وسلم - وأحكمت قبضتها منه، ثم أخرجته من بين أهله وعشيرته.. قتلوا من أصحابه في يوم أحد سبعين وجرحوا آخرين.. وجرح - صلى الله عليه وسلم - وكسرت، رباعيته وشج وجهه - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"، قال عبد الله بن مسعود: كأني أنظر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" [8].
ثم أمكنه الله منهم فعاد فاتحا مكة، ومعه أكثر من عشرة آلاف معهم السيوف مسلطة على رءوس قريش[9]، وهم الذين طالما عذبوه وآذوه هو وأصحابه - صلى الله عليه وسلم - فلم يلق أحد من الإهانة والإيذاء والصدود مثل ما لاقاه النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة من أهلها، فلو أن أي إنسان آخر تعرض لمثل ما تعرض له النبي - صلى الله عليه وسلم - لتحين الفرص لينتقم لنفسه ويشفي غليله، لكنه النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - الرحمة المهداة للبشر جميعا، بل للمخلوقات جميعا، قابل الإساءة بالإحسان، والظلم بالعدل، والإهانة بالإكرام، والبغض بالحب، فقد روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قد وقف يوم الفتح على باب الكعبة، وقد تكاثر الناس في المسجد، وأوجس المشركون خيفة، وكادت تغص حلوقهم بقلوبهم من شدة الخوف، وصارت أبصارهم مشدودة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولكن المظلوم المنتصر أبى إلا أن يضرب مثلا نادرا في العفو، فقام خطيبا، وكان مما قال: )لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين (92)( [10] [11].
ألا ما أجمل العفو عند المقدرة، وما أعظم النفوس التي تسمو على الأحقاد، وعلى الانتقام، بل تسمو على أن تقابل السيئة بالسيئة، ولكن تعفو وتصفح، والعفو عن قوم طالما عذبوه وأصحابه، وهموا بقتله مرارا، وأخرجوه وأتباعه من ديارهم وأهليهم وأموالهم، ولم ينفكوا عن محاربته، والكيد له بعد الهجرة!!
إن غاية ما يتوقع من نفس بشرية كانت مظلومة فانتصرت أن تقتص من غير إسراف في إراقة الدماء، ولكنه النبي، والنبوة من خصائصها كبح النفس ومغالبة الهوى، والعفو والصفح والسماح، أليس من صفاته التي بشرت بها التوارة أنه ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يقابل السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح؟
لقد ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بعفوه عن أهل مكة للدنيا كلها، وللأجيال المتعاقبة مثلا في البر والرحمة، والعدل والوفاء، وسمو النفس، لم تعرفه الدنيا، ولن تعرفه في تاريخها الطويل[12].
وأبو سفيان الذي كان من عتاة الجاهلية الذين حاربوا الإسلام أراد الله الهداية له، فأسلم قبل فتح مكة بقليل، وقد أكرمه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في فتح مكة وأعلن: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن».[13] [14] فلو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يضمر لأبي سفيان حقدا لمعاداته إياه قبل إسلامه، لقتله أو حط من قدره، ولم يمنحه هذا الشرف بين قومه.
ثالثا. بيان النبي - صلى الله عليه وسلم - لحال معاوية ليس فيه انتقاص من شأنه:
إن بيان عيوب أحد الخطيبين لمن سأل، إنما هو من حقوق المسلم على المسلم، ولا يعد غيبة، مع شرط حسن النية.
«وعن فاطمة بنت قيس أنها عندما خلت من عدتها بعد طلاقها من زوجها أبي عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي، ذكرت للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم بن هشام خطباها، فقال صلى الله عليه وسلم: "أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه (وفي رواية: فرجل ضراب للنساء)، وأما معاوية فصعلوك لا مال له (وفي رواية: فرجل ترب لا مال له)، انكحي أسامة بن زيد"، فنكحته فجعل الله في ذلك خيرا واغتبطت به»[15]. فهذا الحديث يبين لنا ما ينبغي على المسلم أن يفعله إذا سئل عن حال الخطيبين فينبغي عليه أن يقول الصدق، وأن يخبر بالحقيقة التي يعرفها، وليبين العيب الذي فيهما، ولا يعد هذا غيبة؛ فهو مشروع للنصيحة، على أن هذا من حق المسلم على المسلم الذي جاء في الحديث الشريف، ومنه: «وإذا استنصحك فانصح له» [16].
والذي يخرجه من تبعة النهي عن الغيبة هو النية والقصد، فالأعمال بالنيات، فليكن القصد من ذكر العيوب إسداء النصح و التحذير من الوقوع في الخطر، ولا يقصد التشفي والقدح والانتقام من المتحدث عنه وتشويه سمعته[17].
أما وصفه - صلى الله عليه وسلم - لمعاوية بالصعلكة فليس انتقاصا من شأنه، إذ الصعلوك هو الفقير، خلافا لما اكتسبه هذا اللفظ من دلالات مذمومة، والدليل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد قوله: "وأما معاوية فصعلوك"، قال: "لا مال له"، وجاء في لسان العرب: "الصعلوك: الفقير الذي لا مال له، زاد الأزهري: ولا اعتماد، قال حاتم طيئ:
غنينا[18] زمانا بالتصعلك[19] والغنى
فكلا سقاناه بكأسيهما الدهر
وقد يقال: كيف يكون معاوية صعلوكا لا مال له رغم غنى أبيه؟ ولكننا نقول: لقد أعلن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الكلام على ملأ من الناس، ولم يراجعه أحد أو يعلق على ما قال، كما أن غنى الأب لا يستتبع بالضرورة غنى الابن، ثم إن معاوية لم يكن يسكن في بلاد واق الواق فيقال إن السيدة المذكورة لم تكن تستطيع أن تكشف حقيقة أمره لو افترضنا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد ضللها.
ثم إن أبا سفيان كان رجلا شحيحا ممسكا، حتى لقد اشتكت زوجته وقالت: إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فأجابها بأن من حقها أن تأخذ منه ما يكفيها هي وولدها بالمعروف.
فقد اشتهر أبو سفيان إذن ببخله وشحه، ولم يكن ابنه معاوية مخولا بالتصرف في مال أبيه، ويعضد هذا ما يذكر عن معاوية من أن شخصيته كانت تعيش في ظل شخصية أبيه طوال حياة ذلك الوالد، ثم برزت بروزا جليا بعد مماته.
وعلى ذلك فعندما يقول سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - عن معاوية إنه صعلوك - أي فقير - فهو يقرر حقيقة لا ينكرها أحد.
أما زعمهم أن معاوية كان قد اشترك مع أبيه وقومه في حرب النبي - صلى الله عليه وسلم - والكيد له، فإننا نقرأ أخباره في مظانها المختلفة فلا نعثر على إشارة إلى اشتراكه معهم في حربه - صلى الله عليه وسلم - بل نجد فقط ذكرا لاشتراكه في غزوات الإسلام، بعد دخوله فيه عام الفتح، بدءا من حنين فصاعدا[20].
بل تذكر بعض المصادر أن إسلامه كان مبكرا عن الفتح؛ يقول معاوية: "أسلمت يوم القضية - أي عمرة القضاء سنة 7هـ - ولكن كتمت إسلامي من أبي، ثم علم بذلك، فقال لي: هذا أخوك يزيد وهو خير منك على دين قومه، فقلت له: لم آل نفسي جهدا، ولقد دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة في عمرة القضاء وإني لمصدق به، ثم لما دخل عام الفتح أظهرت إسلامي، فجئته فرحب بي وكتبت بين يديه".
وقد شهد معاوية - رضي الله عنه - مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حنينا، وأعطاه مائة من الإبل وأربعين أوقية من الذهب، وقد دعا له الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «اللهم اجعله هاديا مهديا واهد به».[21] وقال - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم علم معاوية الكتاب والحساب، وقه العذاب».[22] وكان معاوية - رضي الله عنه - يكتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكذلك رسائل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى زعماء القبائل[23].
فلو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يضمر حقدا على معاوية أو يريد الانتقام منه، فلماذا لم يقتله عام الفتح فيستريح منه؟! ولماذا يقربه ويغدق عليه، ويجعله واحدا من كتابه ويستأمنه على كتابة الوحي؟!
إذن فالأمر ليس كما زعم هؤلاء من أنه - صلى الله عليه وسلم - وصفه بالصعلكة بدافع من الحقد عليه ورغبة في الانتقام منه.
الخلاصة:
· الرسول - صلى الله عليه وسلم - أسمى من أن يحقد على أحد، أو يريد الانتقام من أحد؛ فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وافر الحلم والاحتمال، صبورا على الأذى، ويغض الطرف عن القذى، ويعفو عمن ظلمه، وقد عفا عن أهل مكة بعد الفتح وفيهم أبو سفيان بن حرب وغيره، وقد كان بوسعه أن يبيدهم جميعا.. إلا أنها رحمة النبي صلى الله عليه وسلم!!
· بيان النبي - صلى الله عليه وسلم - حال معاوية حينما سألته فاطمة بنت قيس عن أمر من أراد خطبتها مشروع للنصيحة، ولا ينبغي لمن يسأل في مثل ذلك أن يخفي ما يعلم، أما وصفه - صلى الله عليه وسلم - لمعاوية بالصعلكة فليس انتقاصا من شأنه - رضي الله عنه - لأن الصعلوك في اللغة هو الفقير، خلافا لما اكتسبه هذا اللفظ من دلالات مذمومة عند الناس.
· لا دليل على أن معاوية اشترك مع أبيه وقومه في حرب النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يحقد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بل إن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا له وقربه حتى جعله من كتبة الوحي، وشارك معاوية في الغزوات وأغدق عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الغنائم، وفي هذا خير دليل على نفي ادعاء المغرضين أنه - صلى الله عليه وسلم - أراد الانتقام منه رضي الله عنه.
(*) شدو الربابة بأحوال مجتمع الصحابة، خليل عبد الكريم، سينا للنشر، القاهرة، 1997م.