الزعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينتقم لنفسه بقسوة (*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المفترين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينتقم لنفسه بقسوة، مستدلين على ذلك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سرق بعض الناس ماشيته الخاصة وقتلوا راعيه؛ انتقم منهم انتقاما بشعا، إذ قطع أيديهم وأرجلهم وسمل[1] أعينهم بالنار، حتى لقد نزل القرآن معاتبا له، وناهيا له عن العودة إلى مثل هذه القسوة مرة أخرى في قوله عز وجل: )إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم (33)( (المائدة). ويهدفون من زعمهم الباطل واستشهادهم المتوهم إلى الطعن في رحمته ورفقه وعفوه صلى الله عليه وسلم.
وجها إبطال الشبهة:
1) إن ما عرف من تسامح النبي - صلى الله عليه وسلم - وعفوه عند المقدرة، لدال - بما لا يدع مجالا لزعم زاعم - دلالة قاطعة على كمال خلقه - صلى الله عليه وسلم -، فإن نبيا شملت رحمته الحيوانات والجمادات، حري بنا أن ننزهه - صلى الله عليه وسلم - عن مظنة القسوة انتقاما لنفسه - كما يزعمون - وإنما الأمر من قبيل: "الجزاء من جنس العمل".
2) الآية التي توهموا أن فيها شاهدا يستندون عليه في تعضيد مزعمهم لم تنزل في عتاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما نزلت لتشريع حد الحرابة، وهذا الحد تشريع رباني ليس فيه من القسوة شيء، ثم إن الإبل كانت إبل الصدقة، ولم تكن إبل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا ماله الخاص، والراعي كان عاملا عليها، ولم يكن الراعي الخاص لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يقال إن النبي كان ينتقم لنفسه.
التفصيل:
أولا. إن ما عرف من تسامح النبي - صلى الله عليه وسلم - وعفوه عند المقدرة لدال دلالة قاطعة على كمال خلقه صلى الله عليه وسلم:
إن العفو عند المقدرة مرآة تتجلى فيها أحسن صور النفس، وسمو المقصد، وقد أدب القرآن الكريم النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الخلق الكريم قال عز وجل: )خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين (199)( (الأعراف)، فتخلق - صلى الله عليه وسلم - بهذا الخلق في أقواله وأفعاله، ودعا إليه، وحث عليه بقوله، ولا يخفى معاملته لأهل مكة والطائف، ورؤساء الفتنة، وزعماء الشر لما دخل مكة المكرمة فاتحا مظفرا منصورا، فشمل عفوه البلاد والسادة والزعماء الذين عتوا في الأرض وأسرفوا في إيذائه واضطهاده.
دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة، ولكن عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، ومن جمعوا من الناس، أبوا إلا قتالا فهزموا وفروا، ثم استأمنوا فأمنوا، بل عفي عنهم، وأعطوا من غنائم هوازن تأليفا لقلوبهم.
وهذا صفوان بن أمية، العدو ابن العدو، يفر إلى جدة ليبحر إلى اليمن، فيأتي عمير بن وهب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقول: "يا نبي الله، إن صفوان بن أمية سيد قومه قد خرج هاربا منك ليقذف نفسه في البحر فأمنه، قال: هو آمن، قال: يا رسول الله، فأعطني آية يعرف بها أمنك، فأعطاه الرسول عمامته التي دخل فيها مكة، فخرج بها عمير حتى أدركه وهو يريد أن يركب البحر، فقال يا صفوان فداك أبي وأمي! الله الله في نفسك أن تهلكها! فهذا أمان رسول الله قد جئتك به، قال: إني أخافه على نفسي، قال: هو أحلم من ذاك وأكرم، فرجع معه حتى قدم به على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال صفوان: إن هذا يزعم أنك قد أمنتني؟ قال صدق، قال: فاجعلني فيه بالخيار شهرين، قال: أنت بالخيار أربعة أشهر" [2].
ولم يكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليقصر رحمته وبره، الذي هو صورة صادقة لنفسه الكريمة على الناطقين من بني الإنسان، فإن هذه الرحمة ملكت مشاعره، وحفزته لكفاح موفق في سبيل الرفق بالحيوان، فكان العرب يقتطعون من حيواناتهم وهي حية، فيشوون ويطعمون، فحرم ذلك،.. وكان وشم الحيوان - ولا يزال - ضرورة لإثبات الملكية في البادية، فنهى عن ذلك الأذى، وخفضه باختيار أقل الأثر في أقل الأعضاء إحساسا، وكان العرب يتخذون من دوابهم أهدافا للرماية، فنهى عن ذلك وعن قطع ذيول الخيل، ومر مرة بناقة مربوطة جائعة فحل وثاقها، وأطلقها، وأوصى الناس أن يخشوا الله في البهائم[3]، ومن الأمثلة التي ضربها - صلى الله عليه وسلم - في ذلك:
رأى - صلى الله عليه وسلم - رجلا أضجع شاة، فوضع رجله على عنقها، وهو يحد شفرته، فقال له النبي: "ويلك، أردت أن تميتها موتات؟ هلا أحددت شفرتك قبل أن تضجعها" [4] [5].
وكان يرغب - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في الرحمة بالحيوان، إذ يقول: «بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئرا، فنزل فيها، فشرب ثم خرج، وإذا كلب يلهث، يأكل الثرى[6] من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني! فنزل البئر، فملأ خفه ماء، ثم أمسكه بفيه حتى رقي، فسقى الكلب، فشكر الله - عز وجل - له، فغفر له، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في هذه البهائم لأجرا؟ قال: في كل كبد رطبة أجر».[7] وقال أيضا: «دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض» [8] [9].
وهذه رحمته يفيض بها قلبه الكبير على عصفور صغير، قال عبد الرحمن بن عبد الله: «كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حمرة [10]معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تعرش[11]، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها».[12] وقال - صلى الله عليه وسلم - لعائشة حين قست على بعير ركبته: «من يحرم الرفق يحرم الخير»[13] [14].
وكما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - رحيما بالحيوان، كان رحيما بالجماد، فلما بني له - صلى الله عليه وسلم - المنبر ليقيم الخطبة عليه بكى الجذع الذي كان يقف النبي - صلى الله عليه وسلم - ويخطب عليه؛ لفراق النبي، فحن - صلى الله عليه وسلم - لهذا الجذع وتأسى عليه.
ولكن ليس معنى كون النبي - صلى الله عليه وسلم - رحيما أن يتساهل في حقوق العباد؛ فيعفو عن الظالمين والمجرمين؛ لأن الرحمة تبقى صفة حسنة ما وضعت موضعها، أما إذا لم توضع موضعها، واستعملت استعمالا غير صحيح، فإنها تنقلب إلى عنصر تخريب كما قال الشاعر:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا
مضر كوضع السيف في موضع الندى
فمع ما وصفناه به - صلى الله عليه وسلم - من الرحمة وجدناه يتصرف بمنتهى الحزم مع العرينيين (الذين سرقوا الإبل وقتلوا الراعي)؛ لأن الحكمة تقتضي أن يتصرف هذا التصرف، ونحن لا نشك في أن قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعتصر ألما، ويود أن لا يكون قد فعل معهم ما فعل، ولكن الرحمة لا تكون رحمة مستحسنة إلا إذا كانت بناءة، أما إذا أدت إلى الدمار والخراب كما حدث من هؤلاء المجرمين، فإن الرحمة في غير هذا الموطن أولى.
ومن ثم فلم يكن انتقام النبي - صلى الله عليه وسلم - من هؤلاء المجرمين لحقد عليهم في صدره - صلى الله عليه وسلم -، ولكن تطهيرا للمجتمع ورحمة بآلاف الأنفس التي يمكن أن تتعرض لمثل هذا الاعتداء، وقد صدق الله حين أخبر عن نبيه صلى الله عليه وسلم: )وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (107)( (الأنبياء).
ثانيا. لم تنزل آية المائدة لعتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما لتشريع حد الحرابة:
إن آية: )إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم (33)( (المائدة)، لم تنزل لعتاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما نزلت لتشريع حد الحرابة.
والحرابة: هي قطع الطريق أو هي السرقة الكبرى، وإطلاق السرقة على قطع الطريق مجاز لا حقيقة؛ لأن السرقة هي أخذ المال خفية، وفي قطع الطريق يؤخذ المال مجاهرة، ولكن في خلسة، حيث يختفي القاطع عن الإمام؛ ولذا لا تطلق السرقة على قطع الطريق إلا بقيود، فيقال: السرقة الكبرى، ولو قيل: السرقة فقط لم يفهم منها قطع الطريق[15].
وهذه الآية: اختلف الناس في سبب نزولها، والذي عليه الجمهور أن هذه الآية نزلت في العرينيين.
روي عن أنس بن مالك «أن رهطا من عكل - أو قال: عرينة - قدموا المدينة، فأمر لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بلقاح وأمرهم أن يخرجوا فيشربوا من أبوالها وألبانها، فشربوا حتى إذا برئوا قتلوا الراعي واستاقوا النعم، فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - غدوة، فبعث الطلب في إثرهم، فما ارتفع النهار حتى جيء بهم، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسمر[16] أعينهم، وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون»[17].
وفي رواية: فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طلبهم قافة [18] فأتي بهم، فأنزل الله - عز وجل - في ذلك: )إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم (33)( (المائدة)، وقد حكى أهل السير: أنهم قطعوا يدي الراعي ورجليه، وغرزوا الشوك في عينيه حتى مات، وأدخل المدينة ميتا، وكان اسمه يسار، وكان نوبيا، وكان هذا الفعل من المرتدين سنة ست من الهجرة.
قال أبو قلابة: فهؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله[19]، والآية نزلت لتجعل لأمثال هؤلاء حدا من حدود الإسلام هو الحرابة، وليس القصاص.. فهي نزلت بتشريع جديد، وليس لنهي الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن القسوة[20].
وبذلك نجد أن هذه الآية لم تنزل لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن القسوة كما يدعون، وإنما نزلت لتشريع حد من الحدود، وهو حد الحرابة، وهذا الحد ليس فيه من القسوة شيء، وإنما هو من قبيل: "الجزاء من جنس العمل".
ثم إن الإبل التي جاءت في القصة التي استدل بها هؤلاء المشككون لم تكن خاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ولكنها كانت إبل صدقة، وإذا رجعنا إلى كتب أسباب النزول، وإلى صحاح السنة النبوية، وإلى تفاسير القرآن الكريم اكتشفنا أن تلك الإبل كانت إبل الصدقة، ولم تكن إبل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا ماله الخاص، والراعي كان عاملا على إبل الصدقة، ولم يكن الراعي الخاص لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهؤلاء الذين عاقبهم الرسول هذا العقاب، كانوا قد ارتكبوا عدة جرائم بشعة، فهم استاقوا الإبل، وارتدوا عن الإسلام وقتلوا الراعي النوبي يسار.. ومثلوا به، عندما قطعوا يديه ورجليه، وغرزوا الشوك في عينيه حتى مات، فنحن أمام جريمة حرابة، هي: "محاربة لله؛ أي: الكفر به.. فقد قتلوا النفس، وحاربوا الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فالجريمة ليست سرقة في خفاء، وإنما هي حرابة استاقوا فيها الإبل، واستخدموا السلاح في القتل والتمثيل مع الكفر والردة، والمحاربة لله ورسوله.. ولذلك كان حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم هو القصاص" [21].
كما أن القصة التي يستند إليها أصحاب هذا الافتراء - قصة قطاع الطرق الذين قطع النبي - صلى الله عليه وسلم - أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم - إن دلت على شيء، فإنما تدل على حرصه - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين، وحمايته لحقوقهم والاقتصاص لهم، ولقد فعل ذلك حتى يعلم الجميع أن المسلمين قوة، وحتى يهاب كل من تسول له نفسه أن يؤذي مسلما؛ لأن الإمام الذي يخاف على رعيته قائم دونهم، ويستطيع أن يأخذ على يديه.
فأين إذا الانتقام للنفس الذي يدعونه؟! إنه أخذ بحق الضعيف، ونصرة للمظلوم، وانتصار من الظالم، وتطبيق لمبدأ "الجزاء من جنس العمل"، ثم إن هؤلاء - الذين نزلت فيهم آية الحرابة - يستحقون ذاك المصير والعقاب الذي حل بهم، فهل هذا هو جزاء ما فعله معهم النبي صلى الله عليه وسلم؟ وإنقاذه إياهم من المحن والهلاك، ألم يكن من الأولى بهم أن يشكروا ولا يكفروا، وأن يردوا الجميل؟ كلا، لم يفعلوا وإنما بادروا بالسوء، فكان العقاب الرادع والعادل من الله عز وجل.
الخلاصة:
· لقد أدب القرآن الكريم النبي - صلى الله عليه وسلم - بخلق العفو، والرحمة، والتسامح، ونبي شملت رحمته الحيوانات والجمادات، حري به أن يكون ببني البشر أرحم، ولكن رحمته - صلى الله عليه وسلم - كانت رحمة بناءة؛ لا تضيع الحقوق ولا تطمع الطغاة.
· إن آية المائدة لم تنزل في عتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما نزلت لتشريع حد الحرابة، والحرابة اتفاق طائفة من المجرمين على الخروج على الجماعة، بارتكاب مفاسد من أنواع الاعتداء المختلفة أو اغتصاب أموال، وهذا ما فعله العرينيون، فكان الجزاء من جنس العمل.
· ثم إن الإبل التي سرقها هؤلاء كانت إبل الصدقة، ولم تكن ملكا خاصا بالرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى يقال أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان ينتقم لنفسه، وكذلك الراعي كان راعي إبل الصدقة ولم يكن راعيا خاصا له، ولكن فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالقوم ما فعل، من منطلق حرصه على المسلمين، وحماية حقوقهم.
(*) سقوط الغلو العلماني، د. محمد عمارة، دار الشروق، القاهرة، 1416هـ/ 1995م.