الزعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عدل عن الصدق بعد هجرته وغير سياسته(*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المغالطين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ما كان يتميز بالصدق والشفافية في الشطر الأول من دعوته في مكة، طرحهما جانبا في النصف الثاني من الدعوة في المدينة، ويستدلون على هذا بأن سياسته - صلى الله عليه وسلم - قبل الهجرة تختلف عنها بعدها؛ فبعد أن كان مسالما مهادنا - في مكة -، صار دمويا يستخدم لغة العنف في المدينة. ويرمون من وراء ذلك إلى القول بعدم استمرارية صدقه - صلى الله عليه وسلم - وشفافيته؛ وذلك بغية الفصل بين ما كانت عليه أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - في مكة، وما آلت إليه في المدينة، وهذا كله بهدف الطعن في أخلاقه صلى الله عليه وسلم.
وجها إبطال الشبهة:
1) لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم - بشهادة خصومه فضلا عن اتباعه - مثالا للصدق في القول والفعل - كسائر الأشراف من العرب - يستوي في ذلك ما كان عليه في مكة - قبل الهجرة - وما كان عليه في المدينة - بعد الهجرة - وهذا ما يثبته الواقع، وتؤكده القرائن.
2) لم تتغير سياسة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الهجرة عما كانت عليه قبلها، وإنما تطورت الظروف تطورا أدى إلى تشريع الجهاد الذي كان وسيلة مشروعة للدفاع عن النفس واستعادة الحقوق المسلوبة، ولا عنف في هذا ولا دموية في ذاك.
التفصيل:
أولا. كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مثالا للصدق والأمانة:
إن من يطلب دليلا على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - لن يصعب عليه ذلك؛ لكثرة الآثار في هذا الجانب، وفي هذا يقول الشيخ محمد أبو زهرة: "إن الحديث عن صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - من نافلة القول؛ فهو الصادق الذي عرف بالصدق منذ أن وعى إلى أن قبضه الله - سبحانه وتعالى - إليه، فما عرفت عليه كذبة قط في حياته كلها صلى الله عليه وسلم.
فالكذب لم يكن من أخلاق كبراء العرب، فإن الحرية كانت متوفرة لهم بمقتضى قيامهم في بلاد لا يسيطر فيها طاغ يتحكم في عقولهم ونفوسهم، وألسنتهم وتفكيرهم، ولم يكن فيهم الملق[1] الذي يجعلهم يدهنون في القول رجاء خير يبتغونه، وإنه حيث يحكم الملك العضوض، وتسيطر أهواء الحكام توجد صفتان متلازمتان: إحداهما النفاق، وثانيتهما الكذب؛ لأن النفاق في ذاته كذب، والكذب لازمة من لوازمه، ولذا أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان».[2] فكيف يعيب النبي - صلى الله عليه وسلم - الكذب على المنافقين ثم يقع هو في هذا الإثم؟!
وإن التاريخ ليروي أن أبا سفيان، وقد كان زعيم الشرك في الوقت الذي جرى فيه حديث بينه وبين هرقل - ملك الروم - عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سأله عن نسبه - صلى الله عليه وسلم - وعمن يتبعونه، وعن أسئلة كثيرة تتعلق بأخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - فأجابه بالصدق، وقال - وهو محنق[3] من أثر الحقائق التي ذكرها لهرقل -: «لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبا لكذبت عنه» [4].
فعرب مكة والمدينة ووسط الصحراء لم يكن الكذب سائغا بينهم، وكذلك النفاق، ولم يعرف النفاق في أوساط المسلمين الذين استجابوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة إلا من اليهود، ومن يجاورونهم من مشركي المدينة، فقد ظهر فيهم النفاق مقترنا بقوة المسلمين.
لم يكن غريبا إذن أن يكون محمد - صلى الله عليه وسلم - صادقا بين الصادقين، ولكن صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - ليس كصدق غيره من أهل مكة المكرمة ومن حولها، ولكنه صدق من أعده الله - سبحانه وتعالى - ليكون رسولا للعالمين، فأخلاقه - صلى الله عليه وسلم - كانت من إرهاصات النبوة، فلم يكن - صلى الله عليه وسلم - صادق القول فقط، بل كان صادق القول، وصادق الحس، وصادق النفس، ونقصد بصدق الحس بأن يكون نظره إلى الأشياء والأشخاص صادقا في وصفها، مستبطنا حقيقة الأشياء من وراء الظاهر، ثم صادق في النظر إلى نفسه، فيعرف مواضع الخير فيفعلها، ويعرف مواضع الشر فيتجنبها، وهو صادق في مقاصده، وصادق في غاياته، يخلص في إدراك الحقائق والاتجاه إليها مستقيما لا عوج فيه، فيستقيم إدراكه، ويصدق في كل أمر يتصل بالقلب والضمير.
فالإيمان أساسه الإخلاص في العمل والقول والإذعان، ولا يتصور إيمان مع كذب، وهو القائل كما ذكرنا قبل ذلك: «آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان» [5].
وأما الأمانة فحسبنا أن نعلم أن ذلك أمر رأته قريش كلها وآمنت به، حتى سمي: الأمين، وإن الأمانة والصدق صنوان متلازمان، فلا أمانة من غير صدق، والصدق يقتضي كل الفضائل، والكذب عش الرذائل" [6].
وفيما يلي بعض الشهادات والاعترافات بصدقه - صلى الله عليه وسلم - كما أوردها الأستاذ سعيد حوى في كتابه "الرسول صلى الله عليه وسلم":
1. شهادة الخصوم بصدقه صلى الله عليه وسلم:
وشهادة الخصوم في هذا المجال لها وزنها الكبير، إذ تدلك على مبلغ الثقة التي كان يتمتع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند الجميع، وهذه نصوص تؤكد هذا الذي قلناه:
· عن علي - رضي الله عنه - قال: «قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم: قد نعلم يا محمد أنك تصل الرحم، وتصدق الحديث ولا نكذبك، ولكن نكذب الذي جئت به، فأنزل الله عز وجل: )قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون (33)( (الأنعام)»[7].
· روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: «لما نزلت: )وأنذر عشيرتك الأقربين (214)( (الشعراء)، صعد النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصفا، فجعل ينادي: "يا بني فهر، يا بني عدي..." لبطون قريش حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش فقال: "أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي"؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا، قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد"، قال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؛ فنزلت: )تبت يدا أبي لهب وتب (1)( (المسد)»[8].
من هذه النصوص يتبين أن الثقة بصدق محمد - صلى الله عليه وسلم - كانت متوافرة، ولم يكن في هذا الأمر شك أبدا.
2. شهادة الأتباع:
ونقدم لشهادة الأتباع بما يلي:
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان دائم الخلطة لأصحابه في طعامهم وشرابهم وسفرهم، وصلاتهم ومجالسهم، وكان - صلى الله عليه وسلم - يحب البساطة والصراحة، ويكره التكلف، وبعض الصحابة خالط الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل النبوة وبعدها عشرات السنين.
وهؤلاء الأصحاب لم يكونوا أغرارا ولا مغفلين ولا منعزلين عن العالم، بل بعضهم من مكة التي كان العرب يقصدونها سنويا للحج، وتسلم الجزيرة العربية كلها لأهلها بالفضل والزعامة، بالإضافة إلى صلات أهلها - بواسطة التجارة - مع اليمن ومع الشام حيث مراكز الحضارة، وكان بعضهم من المدينة حيث الصلات الفكرية مع اليهود، وما ينشأ عن ذلك من تفتح ذهني وحوار ثقافي.
كما أن هؤلاء الأصحاب أثبتوا في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبعد مماته أنهم أرجح الناس عقولا، وأكثرهم دهاء وحنكة، ومعرفة بالرجال والشعوب وسياسة الأمم، بدليل أنهم نجحوا رغم محدودية وسائلهم في فتح أعظم الدول المتحضرة وقتذاك وإدارتها، وكسب مودة شعوبها ودمجهم في الأمة الإسلامية.
فإذا ما اجتمعت هاتان الناحيتان: الخلطة الدائمة، وذكاء المخالطين، فإن أمر الكاذب يفتضح، وأمر الصادق يتضح.
والظاهرة الواضحة في حياة الصحابة أنهم كانوا كلما ازدادوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلطة ازدادوا به إيمانا وتصديقا، بل كان أكثرهم مخالطة له أكثرهم إيمانا به وطاعة له، وقد بلغ هذا منهم درجة أن أصبح الموت من أجل ما يريد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحب إليهم من الحياة، وإنفاق المال أحب إليهم من إمساكه والطاعة أحب إليهم من المعصية، ودين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحب إليهم من الأموال والأولاد والمساكن والزوجات والوطن، وكل هذا من مظاهر التصديق الكامل؛ إذ لولا التصديق لما كان شيء من هذا، فقد قتل منهم الابن أباه، وأراد الأب قتل ابنه، فعلام يفعلون هذا؟! لولا أن إيمانهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتصديقهم له وصل إلى ذروة الذرى.
3. شهادة الواقع:
إن شهادة الواقع أعلى الشهادات؛ لأن الإنسان يصل بواسطتها إلى اليقين الذي لا يخالطه شك، فليقم الإنسان بإجراء اختبار كامل لكل ما ورد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل، فإذا ما وجد أن كل قول أو فعل مما يمكن أن يدخل تحت الاختبار لا يخرج عن الحق والصدق، لم يبق أمام الإنسان إلا طريق واحد هو الإيمان والتصديق بصدقه - صلى الله عليه وسلم - والواقع يشهد أنه - صلى الله عليه وسلم - ما كان يعد ولا يعاهد إلا ويفي ويصدق من عاهد بما عاهد عليه، بل ما كان - صلى الله عليه وسلم - يمزح إلا صادقا.
إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - منزه عن الكذب سواء في ذلك يوم كان في مكة - في النصف الأول من دعوته - وبعد ما ذهب إلى المدينة - في النصف الثاني من دعوته -، وهذا ما لا ينكره كل مطالع، منصف لشهادة أتباعه قبل الهجرة وبعدها، ولا مستقص دقيق لشهادات الخصوم قبل الهجرة وبعدها - أيضا -، ولا مستقرئ فطن لأخبار الواقع ومواقفه قبل الهجرة وبعدها كذلك، فهذا مما لا يلابسه شك ولا تداخله ريبة.
ومن النماذج القليلة التي ذكرناها ترى أنه لا أحد من البشر وصل إلى ما وصل إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الوفاء لشرف الكلمة، فقد كانت كلمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - هي الضمان الذي ما بعده ضمان، حتى إن ألد خصومه وأعرقهم في عداوته كان لا يتردد إذا تأكد أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - أمنه أن يلقي بنفسه في أحضان المسلمين؛ ثقة منه أن كلمة محمد ضمان لا يعدله ضمان، ومن تتبع حوادث السيرة وجد الأمثلة الكثيرة على هذا، إنها صفة الصدق - عند الأنبياء - التي لا تتخلف[9].
ثانيا. كان الجهاد في المدينة للدفاع عن النفس واستعادة الحقوق المسلوبة:
لم يكن الجهاد الذي عمد إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد هجرته قط تشريعا عدوانيا، ولا نتاجا لرغبة دموية لدى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يزعمون؛ بل "لما أصبح للمسلمين دولة بالمدينة، ورضي أهلها جميعا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - رئيسا لها مسئولا عن أمنها وسلامتها، كان لا بد من حماية هذا الوضع من العدوان" [10].
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يربي المسلمين على إيثار السلام، واستنفاد الحيلة في دفع العدوان بالحسنى وعدم القتال، فكان يقول لأصحابه: «لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية».[11] وعن أبي هريرة قال: «جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أرأيت إن عدي على مالي؟ قال: "فانشد بالله"[12] قال: فإن أبوا علي؟ قال: "فانشد بالله"، قال: فإن أبوا علي؟ قال: "فانشد بالله"، قال: فإن أبوا علي؟ قال: "فقاتل، فإن قتلت ففي الجنة، وإن قتلت ففي النار» [13].وعلى أساس هذه الأصول، يعتبر الإسلام السلام هو الأصل، ويعتبر الحرب ضرورة لا يلجأ إليها إلا مقاومة للظلم ودفعا للعدوان، وحين لا يكون بد منها، أما الحروب العدوانية أو الهجومية بالمفهوم الحديث، فهي حروب لا يعرفها الإسلام، وقد قال عز وجل: )وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (190)( (البقرة)، وكذلك يأمر القرآن بوقف الحرب بمجرد طلب العدو للصلح، حتى ولو كان في طلبه مظنة خيانة أو غدر، أو كان يبغي من وراء وقف القتال كسب الوقت للإعداد لحرب ثانية: )وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم (61وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين (62)( (الأنفال).
ولم تكن حروب الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا تطبيقا عمليا لهذه المبادئ، فلم يلجأ إلى القتال إلا مضطرا وفي حدود الدفاع عن حرية دعوته وعن كيان المسلمين، ويظهر ذلك بوضوح من استعراض أشهر معاركه مع المشركين وأهل الكتاب، فقد كانت كلها دفاعية بالمفهوم الإسلامي الشامل للدفاع، أو مبادرة لاتقاء هجوم مؤكد.
أما مشركو قريش، فقد كان عدوانهم واضحا طول العهد المكي، ولم ينته هذا العهد حتى كانوا قد بدءوا يحكمون السيف؛ فتآمروا على رسول الله وأجمعوا على قتله حتى لا يتم انتقال الدعوة إلى المدينة: )وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين (30)( (الأنفال)[14].
والجهاد في الإسلام لم يشرع هباء، إنما شرع لأهداف ومقاصد سامية منها: الانتصاف للمظلوم من الظالم، والانتصار للنفس، فها هم المشركون قد آذوا المسلمين، وحاولوا ما وسعهم الجهد أن يفتنوهم عن دينهم، فلما لم يفلحوا أخرجوهم من ديارهم وأهليهم وأموالهم، والانتصار للنفس أمر فطري، وحق من حقوق الإنسان، قررته الشرائع السماوية والقوانين الأرضية، وقد قرر الله هذه الحقيقة الإنسانية في قوله عز وجل: )ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل (41) إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم (42)( (الشورى).
وقد أمر الله المسلمين بالصبر على أذى المشركين والتسامح معهم أثناء العهد المكي، وأوائل العهد المدني، عسى أن يرعووا، ولكنهم لم يزدادوا إلا بطرا وظلما واستعلاء في الأرض، فأما أنهم لم تفلح معهم سياسة المهادنة والتسامح، فلتقابل القوة بالقوة، والسلاح بالسلاح، وإلا صار السكوت والإغضاء عجزا وضعفا ومهانة.
وليس من العدل والحق أن يترك المشركون يمرحون في الأرض، ويجوبون الجزيرة من الجنوب إلى الشمال، يفسدون فيها ولا يؤذن للمسلمين في محاربتهم من جنس ما حاربوهم به، وأن يقطعوا عليهم تجارتهم، ويأخذوا منها ما تصل إليه أيديهم نظير ما اغتصبوا من أموالهم، وأن يضيقوا عليهم مثل ما ضيقوا عليهم، وصدق الله إذ يقول: )والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون (39) وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين (40)( (الشورى)، هذا عن حروب النبي - صلى الله عليه وسلم - مع مشركي مكة، أما عن حروبه - صلى الله عليه وسلم - مع اليهود فلم يكن في واحدة منها بادئا بالعداوة أو مهاجما أو فاتحا، إنما كان فيها كلها ملتزما جانب الدفاع عن دعوته ودولته، ومن التجوز أو الخطأ اعتبار ما حدث بينه وبين يهود المدينة معارك حربية؛ لأنهم كانوا من رعايا الدولة الإسلامية، ثم شقوا عصا الطاعة، وخانوا الدولة في أحرج الظروف، فظاهروا حركة النفاق، وشرعوا في قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - وحرضوا المشركين، وأعانوهم بالمال وانضموا إليهم في حرب المسلمين حتى أصبحوا خطرا يهدد الدولة الناشئة بالفناء، ولو أنهم نجحوا في إحدى محاولاتهم لقضوا على الإسلام والمسلمين، فلم يكن بد من أخذهم بغدرهم وخيانتهم، وقد قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - على كل فريق منهم بما يستحق[15].
وهكذا يتبين لنا أن حرب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الأخيار من بعده، لم يكن الباعث عليها إلا دفع الاعتداء، ولم يكن الدافع دمويا على الإطلاق، ولم يكن ذلك ضمن لغة العنف التي عمد إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - على حد ما يحلو لكثيرين أن يتهموه، وأيضا لم يكن الباعث أبدا فرض رأي أو دين، ولكن يجب علينا أن نفرض أن كل مبدأ سام يتجه إلى الدفاع عن العقيدة، وعن الحرية الشخصية، يهم الداعي إليه أن تخلو له وجوه الناس، وأن يكون كل امرئ حرا فيما يعتقد، يصطفي من المذاهب بحرية كاملة ما يراه أصلح للاتباع في اعتقاده، وما يراه أقرب إلى العقل في نظره.
فإذا كان طاغية أو ملكا قد أرهق شعبه من أمره عسرا، وضيق عليه في فكره، وحال بينه وبين الدعوات الصالحة التي تتجه إليه، فإن حق صاحب الدعوة - إذا كان في يده قوة - أن يزيل تلك الحجز التي تحول بينه وبين دعوته، ليصل إلى أولئك المستضعفين وتخلو وجوههم لإدراك الحقائق الجديدة، وإعلان اعتناقها إن رأوا ذلك وآمنوا به، ولكن محمدا النبي الأمين - صلى الله عليه وسلم - لم يلجأ إلى ذلك ابتداء، حتى لا يظن أحد أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - قاتل ليفرض دينه على الناس، أو ليكرههم عليه؛ ولذلك سلك طريقين:
1. أن يرسل الدعوة الدينية إلى الملوك والرؤساء في عصره، يدعوهم إلى الإسلام، ويحملهم إثمهم، وإثم من يتبعونهم إن لم يجيبوا دعوته، ولذلك جاء في كتابه إلى هرقل: «أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين[16]:)قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون (64)( (آل عمران)»[17].
إنه - صلى الله عليه وسلم - بعد هذه الدعوة الرسمية أخذ يعلن الحقائق الإسلامية ليعرفها رعايا تلك الشعوب فيتبعها من يريد اتباعها، وقد اتبعها فعلا بعض أهل الشام ممن يخضعون لحكم الرومان، وعرف المصريون وغيرهم حقيقتها، حتى لم تعد مجهولة لمن يريد أن يتعرفها، وتسامعت بها البلاد المتاخمة للعرب.
2. أن يتوجه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قتال الفرس أو الروم وما اتجه - صلى الله عليه وسلم - لذلك إلا بعد أن ثبتت حقيقتان:
· أن الروم قد ابتدءوا فاعتدوا على المؤمنين الذين دخلوا في الإسلام من أهل الشام، فكان ذلك فتنة في الدين، وإكراها عليه، وما كان محمد - صلى الله عليه وسلم - ليسكت على ذلك، وقد جاء لدعوة دينية، وإنه إن كان لا يحمل الناس على اعتناق الإسلام كرها، لا يمكن أن يسكت عمن يحاولون أن يخرجوا أتباعه من دينهم كرها، إنه لا يريد أن يعتدي، ولا أن يعتدى عليه، ولذلك اعتبر هذا العمل - من جانب الرومان - اعتداء على دينه وعليه؛ لأنه صاحب الدعوة فلا بد أن يزيل هذه الفتنة.
· إن كسرى عندما بلغه كتاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - هم بقتل من حملوه، وأخذ الأهبة ليقتل النبي صلى الله عليه وسلم، واختار من قومه من يأتيه برأسه الشريف الطاهر، ولكن أنى لكسرى وأمثاله من الطغاة أن يمكنهم الله - عز وجل - من ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم - وقد علم بالأمر - ما كان ليسكت حتى يرتكب كسرى هذا الإثم، بل إنه القوي العادل الحصيف، ولذلك كان لا بد أن يصرعه وجيشه قبل أن يصرعه هو.
لهاتين الحقيقتين اتجه النبي - صلى الله عليه وسلم - لقتال الرومان والفرس لمنع الفتنة في الدين من أولئك الرومان والفرس ومحاربيهم، كما قاتل المشركين لمنع هذه الفتنة، وبين ذلك القرآن الكريم: )وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين (193)( (البقرة).
يقول ابن تيمية في قتال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل الروم: "وأما النصارى فلم يقاتل النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدا منهم، حتى أرسل رسله إلى قيصر وإلى كسرى وإلى المقوقس والنجاشي، وملوك العرب بالشرق والشام، فدخل في الإسلام من النصارى وغيرهم من دخل، فعمد النصارى بالشام فقتلوا بعض من قد أسلم، فالنصارى هم الذين حاربوا المسلمين أولا، وقتلوا من أسلم منهم بغيا وظلما، فلما بدأ النصارى بقتل المسلمين أرسل محمد - صلى الله عليه وسلم - سرية أمر عليها زيد بن حارثة، ثم جعفرا، ثم ابن رواحة، وهو أول قتال قاتله المسلمون بمؤتة من أرض الشام، واجتمع على أصحابه خلق كثير من النصارى، واستشهد الأمراء الثلاثة - رضي الله عنهم - وأخذ الراية خالد بن الوليد" [18].
وبهذا يتبين أن قتال النبيـ صلى الله عليه وسلم ــ صلى الله عليه وسلم - لم يكن إلا دفعا للاعتداء، والاعتداء الذي حدث في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان على صورتين: إما أن يهاجم الأعداء النبي - صلى الله عليه وسلم - فيرد كيدهم في نحورهم، وإما: أن يفتنوا المسلمين عن دينهم، ولا بد أن يمنع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك الاعتداء على حرية الفكر والعقيدة.
وفي الصورتين نجد النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يفرض دينه ولا يكره أحدا عليه، ولكن يحمي حرية الاعتقاد التي هي مبدأ من مبادئه، إذ قد جاءت مقررة في القرآن، حيث يقول عز وجل: )لا إكراه في الدين( (البقرة: 256)، ففي الحق أن قتال النبي - صلى الله عليه وسلم - كان دفاعا عن حرية الرأي، وحماية العقيدة من أن يفتن أصاحبها[19].
فهل بعد هذا يصح الزعم بأنه - صلى الله عليه وسلم - استخدم لغة العنف في المدينة بديلا عن الصدق والمسالمة، مع العلم بأنه كان صادقا أمينا منذ صباه حتى مماته، رءوفا رحيما بأمته، رحمة مهداة للعالمين، وقد شهد بذلك خصومه وأعداؤه، والفضل ما شهدت به الأعداء.
الخلاصة:
· كانت قريش كلها تعرف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الصدق والأمانة في كل شيء، حتى لقب بالصادق الأمين ولو حفظوا عليه كذبة نادرة في غير الرسالة لجعلوها دليلا على تكذيبه في الرسالة، ومن لزم الصدق في صغره كان له في الكبر ألزم، ومن عصم منه في حق نفسه كان في حقوق الله أعصم، وقد شهد له أعداؤه بذلك قبل الهجرة وبعدها، فحينما سأل هرقل أبا سفيان - وهو لم يزل على الشرك: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ أجابه: لا، فعلق هرقل قائلا: ما كان ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله.
· كان - صلى الله عليه وسلم - يجاهد في المدينة بلسانه قبل سيفه، ولم يكن يلجأ إلى الصدام الحربي إلا عند الضرورة القصوى، وهي الاعتداء على المسلمين، وغزو بلادهم؛ لأن هناك فرقا كبيرا بين الجهاد والعنف، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يغير سياسته، ولم يستخدم لغة العنف في المدينة بديلا عن الصدق والمسالمة في مكة كما يزعمون، وإنما كان يحمي حرية الاعتقاد التي هي مبدأ من مبادئ دينه صلى الله عليه وسلم.
(*) شدو الربابة بأحوال مجتمع الصحابة، خليل عبد الكريم، سينا للنشر، القاهرة، 1997م. اليسار الإسلامي وتطاولاته المفضوحة على الله والرسول والصحابة، د. إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، 2000م. الانتصارات الإسلامية في كشف شبه النصرانية، سليمان عبد القوي الطوخي، مكتبة العبيكان، الرياض، ط1، 1419هـ/ 1999م.