الزعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحتقر ذوي العاهات ويجل ذوي الوجاهة (*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المشككين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحتقر الفقراء وذوي العاهات؛ إذ كان يرد الفقير، وينهر المسكين، ويقطب وجهه للأعمى، بينما كان يهتم بأصحاب الجاه والمكانة، ويستدلون على ذلك بعتاب الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بقوله سبحانه وتعالى: )عبس وتولى (1) أن جاءه الأعمى (2) وما يدريك لعله يزكى (3)( (عبس)، وبقوله عز وجل: )واصـبر نـفـسـك مـع الـذين يـدعـون ربهـم بـالغـداة والعـشـي يـريـدون وجـهـه ولا تـعـد عـينـاك عنـهـم تـريـد زينـة الحيـاة الـدنيا ولا تـطـع مـن أغـفـلـنـا قـلبـه عن ذكـرنـا واتـبـع هـواه وكـان أمره فرطا (28)( (الكهف). ويتساءلون: كيف لمحمد بعد كل هذا أن يدعي لنفسه أخلاق الأنبياء؟!! ويرمون من وراء ذلك إلى اتهامه - صلى الله عليه وسلم - بجعل الغنى والوجاهة معيارا لتفضيل بعض الناس على بعض؛ حتى لو كان المفضل كافرا والمفضل عليه مؤمنا!!
وجوه إبطال الشبهة:
1) كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسوي بين الناس جميعا في المعاملة، بل كان يفضل الفقراء ويتمنى أن يحشر معهم، فقد أمره الله تعالى أن يخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين.
2) كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يحب ذوي العاهات، ويرعاهم ويدعو لهم بالشفاء، وأمثلة ذلك كثيرة؛ منها رده لعين قتادة، ودعاؤه لكثير غيره.
3) لما جاء ابن أم مكتوم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستزيده علما، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مشغولا بدعوة صناديد قريش إلى الإسلام، فرأى أن الدعوة ها هنا أوجب وأهم، وهو اجتهاد نابع من الحرص على مصلحة الدعوة، لا عن احتقار منه - صلى الله عليه وسلم - لذوي العاهات.
التفصيل:
أولا. كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسوي بين الناس في المعاملة، فقيرهم وغنيهم:
لقد شمل النبي - صلى الله عليه وسلم - برحمته وعطفه الناس جميعا، فكان بره يصل إلى المؤمنين والمشركين، وكان الفقراء والضعفاء أقرب الناس إلى قلبه الكبير، وعطفه الشامل، وبلغ حبه الفقراء أن دعا الله أن يبقى فيهم حيا وأن يحشر معهم ميتا، روت عائشة - رضي الله عنها - أنه كان يقول: «اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين»[1]، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - أنه قال في شأن الفقراء: «يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم وهو خمسمائة عام»[2].
كانت حياته - صلى الله عليه وسلم - موصولة بالفقراء، وكان كل ما في بيته ويده لهم، وبلغ من عطفه عليهم أن مر رجل عليه، فقال لرجل عنده: «ما رأيك في هذا؟ فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع. فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم مر آخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما رأيك في هذا"؟ فقال: رجل من فقراء المسلمين، هذا والله حري إن خطب ألا ينكح، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال ألا يسمع لقوله، فقال صلى الله عليه وسلم: "هذا خير من ملء الأرض مثل هذا» [3].
لقد عمل محمد - صلى الله عليه وسلم - بما آتاه الله، وما أودع فطرته من الرحمة، على رفع شأن الفقير وإكرامه، والأخذ بيد الضعيف، وأرسل بره في هذه الطبقة، حتى قلب نظام المجتمع الذي ظهر فيه في سنين قليلة، وجعل من الفقراء المستضعفين أمة دان لها المشرق والمغرب فيما بعد، كما كان يقول صلى الله عليه وسلم: «ابغوني ضعفاءكم، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم».[4] وكان يسره أن يجتمعوا إليه، وقد آثر بالحديث مـرة واحـدة بـعـض الأغـنـيـاء الأقـويـاء مـن قـومـه، فـنـزل الـقـرآن بمـعـاتـبـتـه، فـقـال: )عـبـس وتـولى (1) أن جـاءه الأعـمـى (2) ومـا يـدريـك لـعـلـه يـزكـى (3) أو يذكر فتنفعه الذكرى (4) أما من استغنى (5) فأنت له تصدى (6)( (عبس)، وطالما سخرت قريش منه لحفاوته بالمساكين، وذهابه بهم إلى الحرم، فقالوا: )وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين (53)( (الأنعام)، ولكنه كان بالمساكين رءوفا رحيما.
يقول عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -: "دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - المسجد، فجلس إلى الفقراء، وبشرهم بالجنة، وبدا على وجوههم البشر، فحزنت؛ لأنني لم أكن منهم"، ورأى سعد بن أبي وقاص يتعالى على المساكين، فذكر له أن ما ينال من الخير والنصر، إنما هو أثر هؤلاء الفقراء، وأنه مدين للمساكين، وقد تحقق ذلك واضحا جليا حينما قاد سعد هؤلاء الفقراء المستضعفين إلى القادسية، فهزم رستم، ووطئ دولة الأكاسرة التي كان العرب بعض رعاياها.
كانت رحمته وبره بالمساكين يمتد إلى ما بعد الموت، فقد جاء «أن رجلا أسود - أو امرأة سوداء - كان يقم المسجد فمات، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه، فقالوا: مات، قال: "أفلا كنتم آذنتموني به، دلوني على قبره"، أو قال: "قبرها"، فأتى قبره، فصلى عليه» [6].
وهكذا كان حسن معاملة النبي - صلى الله عليه وسلم - لجميع الناس، وخاصة الفقراء، ونزيد الأمر تأكيدا فنقول: ما نهر رسول الله خادما، وما ضرب بيده شيئا قط، إلا أن يكون جهادا في سبيل الله، قال أنس رضي الله عنه: «خدمت النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين، والله ما قال لي أف قط، ولا قال لشيء: لم فعلت، وهلا فعلت كذا» [7].
وكذلك كان - صلى الله عليه وسلم - مع عبيده وإمائه ما ضرب منهم أحدا قط، وهذا أمر لا تتسع له الطباع البشرية لولا التأييدات الربانية[8].
وكان - صلى الله عليه وسلم - يركب الحمار، ويردف خلفه، ويعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجيب دعوة العبد، امتثالا لأمر الله - سبحانه وتعالى - بقوله: )واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين (215)( (الشعراء)، ويجلس بين أصحابه مختلطا بهم، حيثما انتهى به المجلس جلس "أي تواضعا لربه، وإرشادا لأصحابه ليتأدبوا بآدابه".
وفي حديث عمر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تطروني[9] كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله» [10].
وعن أنس رضي الله عنه: أن امرأة كان في عقلها شيء، «جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن لي إليك حاجة، قال: "يا أم فلان، انظري أي السكك شئت حتى أقضي لك حاجتك"، فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها»[11].
قال أنس - رضي الله عنه - أيضا: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعود المريض، ويتبع الجنائز، ويجيب دعوة المملوك، ويركب الحمار» [12].
وكان - صلى الله عليه وسلم - يأكل مع العبد والخادم، ويحمل حاجته من السوق، وكانت تقابله المرأة في سكة المدينة فتستوقفه فيقف حتى يقضي لها حاجتها، وعن أنس قال: «إن كانت الأمة - الجارية - من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتنطلق به حيث شاءت» [14].
ومن الثابت في كتب السيرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكثر من الجلوس مع الفقراء والمساكين من أهل الصفة، الذين كان منهم ابن أم مكتوم، فهل كان يجالسهم وهو يحتقرهم؟! بل إن الله - عز وجل - أمره أن يتقرب منهم، ونهاه عن طردهم، قال الله سبحانه وتعالى: )واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا (28)( (الكهف).
وهكذا نجد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث ليكون رحمة للعالمين، فقيرهم وغنيهم، وأن حياته - صلى الله عليه وسلم - كانت أكثر صلة بالفقراء دون الأغنياء.
ثانيا. كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يساعد ذوي العاهات، ويدعو لهم بالشفاء، وأمثلة ذلك كثيرة:
لقد كان - صلى الله عليه وسلم - يعتني بذوي الحاجات ويستمع إليهم ويعمل على قضاء حاجاتهم ولو كان صاحب الحاجة عبدا أو امرأة، وكان أمينا على أسرار ذوي الحاجات فلا يذيعها ولا ينشرها، وينأى عن مواجهة سماع الغير لها.
وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحترم ذوي العاهات، ويعمل على شفاء المرضى، بأدعية كثيرة تدل على مدى اهتمامه بهم، وذلك بإذن الله عز وجل، ومن مساعداته - صلى الله عليه وسلم - لذوي العاهات ما يأتي:
· روي عن عثمان بن حنيف أن رجلا ضرير البصر أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «ادع الله أن يعافيني، قال: "إن شئت دعوت لك، وإن شئت أخرت ذاك فهو خير"، فقال: ادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه فيصلي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد، إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه، فتقضى لي، اللهم شفعه في"، فرجع الأعمى وقد كشف الله عن بصره»[15].
· ورمي كلثوم بن الحصين يوم أحد في نحره، فبصق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه، فبرأ من المرض.
· وتفل على شجة عبد الله بن أنيس فلم تمد، أي: لم تحصل مادة القيح في ذلك الجرح، وتفل في عيني علي يوم خيبر وكان رمدا، فأصبح بارئا، ونفخ على ضربة بساق سلمة بن الأكوع يوم خيبر، فبرئت، وفي رجل زيد بن معاذ حين أصابها السيف إلى الكعب - كعب رجله - حين قتل كعب بن الأشرف، فبرئت. وعلى ساق علي بن الحكم يوم الخندق إذ انكسرت، فبرئ مكانه، وما نزل عن فرسه.
· ومرض علي بن أبي طالب، فجعل يدعو، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم اشفه، أو عافه"، قال: فما اشتكيت وجعي ذاك بعد» [17].
· وقد جاء عن عطاء بن رباح قال: «قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟! قلت بلى، قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إني أصرع، وإني أتكشف، فادع الله لي، قال: "إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك"، فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف، فادع الله أن لا أتكشف، فدعا لها»[18] [19].
وهكذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتأخر بالدعاء لأصحاب العاهات، والمرضى حتى يشفيهم الله عز وجل، فأين ما يدعيه هؤلاء من احتقاره لهم؟
ثالثا. إعراض النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ابن أم مكتوم اجتهاد نابع من حرصه - صلى الله عليه وسلم - على الدين:
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يدعو زعماء قريش إلى الإسلام يقوم بواجب تبليغ الدعوة الذي أوجبه عليه الله في قوله عز وجل: )ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين (125)( (النحل)، وقوله عز وجل: )يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين (67)( (المائدة)، ولهذا فقد استثمر فرصة لقائه بسادة قومه وإصغائهم له، وبالغ في وعظهم وإرشادهم، وحرص على هدايتهم، قال عز وجل: )إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين (37)( (النحل)، وكان يؤلمه كفرهم، قال عز وجل: )لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين (3)( (الشعراء)، وطمع هذه المرة في إسلامهم، ورجا بإسلامهم إسلام من وراءهم، ليكون في هذا الخير للإسلام والمسلمين.
أما ابن أم مكتوم فكان مسلما، وتعلمه من رسول الله يمكن أن يتم في غير هذا الوقت، الذي شغل فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بدعوة زعماء قريش، ثم إن ابن أم مكتوم ألح، وكرر الطلب في أثناء انشغال الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأمر قومه ودعوتهم، وشأن المشغول بالأهم إذا طلب منه مهم أن يؤجله، ويعرض عنه إلى أن ينتهي مما يشغله، لهذا أعرض عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتصدى للكفار، فعاتبه الله - عز وجل - على أنه ترك الأولى[20]. لا على أنه ارتكب ذنبا.
وللنبي - صلى الله عليه وسلم - العذر فيما صدر منه، فماذا كان يفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آنذاك؟ كان يريد نقل إلهام قلبه إلى القلوب المتحجرة الصلدة، وهو الذي وصف القرآن الكريم حرصه على هداية الناس بقوله سبحانه وتعالى: )فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا (6)( (الكهف)، )لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين (3)( (الشعراء). أجل كان يحزن ويغتم غما شديدا عندما يرى إنسانا غير مؤمن، حتى يكاد يهلك غما وحزنا، وعندما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - منشغلا بكل جوارحه في جو الدعوة إلى الله، دخل أحدهم وبدأ يتكلم ويخل بالجو الموجود هناك.
صحيح أن للقادم عذرا في هذا إذ كان أعمى لا يرى، فإذا عبس النبي - صلى الله عليه وسلم - وتولى، فله عذره الشرعي في ذلك[21]؛ لذا لا نتفق مع الذين يريدون استعمال هذه الحادثة للطعن في أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - أو ادعاء أنه كان يحتقر الفقراء، أو ذوي العاهات؛ لأن سيرته - صلى الله عليه وسلم - تنفي ذلك.
وللرسول العذر فيما فعل؛ وذلك لأن ابن أم مكتوم لو لم يكن أعمى، وكان بصيرا لما تعرض الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأي عتاب، أي أنه كان من الأولى أن يسامح الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا الشخص لكونه أعمى، لذا فعبوسه وإعراضه عنه استوجب التنبيه، هذا هو الحكم السطحي الذي نصل إليه إن تناولنا الموضوع بهذا الشكل؛ وذلك لأن هناك شروطا وآدابا ينبغي أن تراعى عند الدخول إلى مجلس أي شخص، ثم إن الدخول إلى مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يشبه الدخول إلى أي مجلس آخر؛ ولا يمكن التصرف فيه كالتصرف في مجلس أي شخص آخر، لذا نرى القرآن الكريم يشرح في آيات عديدة للمسلمين آداب حضور مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم، متى يتم الحضور، وكم يمكث فيه، قال الله سبحانه وتعالى: )يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث( (الأحزاب: 53)، وكذلك وضح القرآن كيف يتحدث معه بصوت خفيض، شرح الله تعالى للمؤمنين كل هذه الأمور، فقال سبحانه وتعالى: )يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون (2)( (الحجرات) [22].
وهكذا نجد أن ابن أم مكتوم له العذر، وقد عاتب الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بسببه، فلو كان مبصرا لعوتب هو؛ إذ لم يلتزم بآداب الجلوس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ومجلسه، ولم يستأذن، وألح في سؤاله للنبي - صلى الله عليه وسلم - رغم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مشغولا في دعوته.
أما الآية التي يستدل بها الطاعنون في أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - فقد ذكر المفسرون تأويلها على النحو التالي:
قال سبحانه وتعالى: )عبس وتولى (1)( (عبس)، فليس فيه إثبات ذنب له صلى الله عليه وسلم، بل إعلام الله لنا أن ذلك المتصدى له ممن لا يتزكى، فالخطاب لنا.
وإن الصواب أو الأولى كان - لو كشف حال الرجلين - الإقبال على الأعمى، وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فعل، وتصديه لذاك الكافر، كان طاعة لله، وتبليغا عنه، واستئلافا له، كما شرعه الله له، لا معصية ومخالفة له.
وما قصه الله عليه من ذلك إعلام بحال الرجلين، وتوهين لأمر الكافر عنده، والإشارة إلى الإعراض عنه بقوله: )وما عليك ألا يزكى (7)( (عبس).
ويحتمل أنه عتاب من الحق - عز وجل - على ما فعله - صلى الله عليه وسلم - مما ظهر له صلاحه، وترجح عنده نجاحه، وكان الواقع الذي قدر الله - عز وجل - بخلاف ذلك، والعتاب لا يقتضي ولا يلزم منه أن يكون بعد ذنب أو مخالفة، كما هو الجاري بين الناس في معاملتهم، فقد يعاتب الأخ أخاه والحبيب حبيبه على ترك الأولى بل على ترك الأكمل، وقد يعاتب الوالد ولده على التقصير، وفعل المذموم، فالعتاب أوسع من أن يكون في جهة واحدة[23].
وعلى غرار ما ذكر يتضح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن عبوسه عن الأعمى احتقارا له واستهانة بشأنه، ولكنه لانشغاله بأمر مهم وهو الدعوة والتبليغ، اللذان هما من أعظم واجباته - صلى الله عليه وسلم - لحرصه على هداية الناس جميعا، غنيا وفقيرا، وأن العتاب في الآية ليس لأنه اقترف ذنبا، ولكنه عتاب من ترك الأهم لانشغاله بمهم.
الخلاصة:
· كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر الناس تواضعا، ومن تواضعه أنه كان يعامل الناس معاملة واحدة الغني والفقير، والقوي والضعيف، والسيد والعبد، فكانت حياته - صلى الله عليه وسلم - مثالا رائعا، وقدوة حسنة، وكان من شدة تواضعه أنه تمنى أن يحشره الله - عز وجل - مع المساكين، لما لهم من المكانة عند الله عز وجل.
· كيف يقال: إنه - صلى الله عليه وسلم - كان يحتقر المرضى وأصحاب العاهات، ومن الثابت أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يرعاهم ويدعو لهم بالشفاء؟! ولم يثبت أن ابن أم مكتوم قد طلب منه أن يدعو الله له أن يرد عليه بصره، ولو طلب منه ذلك لفعل، خاصة وأنه دعا لعدد من الناس بالشفاء، فشفاهم الله عز وجل.
· إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعرض عن ابن أم مكتوم، احتقارا لشأنه، ولكن انشغالا بما كان فيه من دعوة الكفار والمشركين للإسلام، عسى أن يكون إسلامهم فتحا عظيما؛ حيث يتبعهم الناس بعد ذلك، ولو لم يكن ابن أم مكتوم أعمى لعاتبه الله - عز وجل - لقطعه حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعوته الكفار والمشركين.
· إن ما يدعيه هؤلاء من احتقار النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحاب العاهات والفقراء، ادعاء باطل تبطله الأدلة، والشواهد التي دلت على عناية النبي - صلى الله عليه وسلم - بذوي الاحتياجات الخاصة، كما أن زعمهم هذا لا يليق بشخص النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلقه الكريم الذي وصفه به ربه - عز وجل - فقال: )وإنك لعلى خلق عظيم (4)( (القلم).
(*) هل القرآن معصوم؟ عبد الله الفادي.