اتهام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإفك والكذب(*)
مضمون الشبهة:
يتهم بعض المدعين النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه كاذب أفاك، ويستدلون على زعمهم هذا بما وصم به من إفك منذ بدء البعثة المدعاة من وجهة نظرهم، وقد اتفق على هذا الوصف عرب الجاهلية مرورا بأهل الكتاب في أوربا في العصور الوسطى، وانتهاء بالعصر الحديث؛ إذ لا يزال موصوما بالصفة ذاتها - الإفك والكذب - عند بعض المفكرين المحدثين منهم. ويرمون من وراء ذلك إلى الطعن في أخلاقه صلى الله عليه وسلم.
وجوه إبطال الشبهة:
1) لقد كان الصدق المحمدي مشهورا معلوما في المجتمع المكي الذي كفر بعضه بالرسالة، وظل صدق محمد صلى الله عليه وسلم - الصادق الأمين حسبما لقبوه - معجزة أولى دفعت كثيرا من الناس إلى اتباع الرسالة؛ إيمانا بصدق صاحبها.
2) إن تناقض موقف المشركين من النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة وبعدها، إنما مرده - فقط - إلى ما أحدثه التوحيد الذي يدعو له النبي - صلى الله عليه وسلم - من زلزلة معتقداتهم ومعتقدات آبائهم، وتسفيه أحلامهم، وسب آلهتهم، شأنهم في ذلك شأن من سبقوهم من معاندي الرسل، وهذا يؤكد أن شمائل النبيـ صلى الله عليه وسلم - التي امتدحوه بها - في الجاهلية - ما ازدادت بالبعثة إلا كمالا.
3) إن المتأمل المنصف لطبيعة ما اشتملت عليه نصوص الرسالة المحمدية - قرآنا وسنة - بما فيها من أمر بالصدق، وذم للكذب ونهي عنه من جهة، وجملة ما اعترف به المفكرون الغربيون المنصفون في مقابل ما ادعاه آخرون في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - من جهة أخرى؛ ليوقن بما لا يدع مجالا للشك صدق النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم.
التفصيل:
أولا. اشتهار النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصدق في قومه:
إن ما كان من تلقيب النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصادق الأمين لخير شاهد من مشركي قريش أقاموا به الدليل على أنفسهم، والواقع يشهد للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ما ازداد بالبعثة إلا صدقا فكان الصادق الأمين، وما زال صادقا مصدقا أمينا، جذب بصدقه وعظيم خلقه كثيرين من أهل مكة، فصدقوا دعوته واتبعوه، إيمانا منهم بأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لا يكذب ولا يتقول؛ فكان صدقه سببا في إيمان هؤلاء جميعا.
وعجيب أن يتهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإفك، وهو الذي اشتهر في قومه بمكارم الأخلاق، وجميل الصفات منذ الصبا، حيث كان نمطا فريدا متميزا في بيئة تعج بالفساد والانحراف، فقد كان من أحسن الناس خلقا، وأفضلهم مروءة، وأصدقهم حديثا، وأعظمهم أمانة، فلم يؤثر عنه كذبة واحدة، ولم يخن الأمانة في يوم من الأيام، شهد بذلك العدو قبل الصديق؛ فلذا لقب بالصادق الأمين، لالتزامه بالصدق والأمانة دائما دون تكلف أو تصنع؛ لأنها أصبحت جزءا من ذاته كملامح وجهه ولون بشرته، وهذا من فضل الله على رسوله الذي أدبه ورباه حتى بلغ هذه الدرجة الرفيعة في صفاته وأخلاقه.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكان - صلى الله عليه وسلم - من أكمل الناس تربية ونشأة لم يزل معروفا بالصدق والبر والعدل، ومكارم الأخلاق، وترك الفواحش والظلم، وترك كل وصف مذموم، مشهودا له بذلك عند جميع من يعرفه قبل النبوة وممن آمن به وكفر بعد النبوة، لا يعرف له شيء يعادى به لا في أقواله ولا في أفعاله ولا في أخلاقه، ولا جربت عليه كذبة قط، ولا ظلم ولا فاحشة".
ومن أجل هذه الصفات الحميدة والأخلاق الكريمة التي عرف بها - صلى الله عليه وسلم - أحبه قومه، وكان موضع احترامهم وثقتهم المطلقة، فقد كانوا يأتمنونه على ما عندهم من أشياء قيمة، ويقبلون حكمه في مدلـهمات[1] الأمور، كحادثة اختلاف القبائل في وضع الحجر الأسود في مكانه عند بناء الكعبة، ونظرا لاشتهاره - صلى الله عليه وسلم - بالصدق والأمانة فيهم نزلوا على حكمه بنفوس راضية مطمئنة، فلو كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - أفاكا فهل كانوا يرضون بحكمه؟!
وجدير بالذكر - في هذا الصدد - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بصدقه وعظيم خلقه نال ما نال من ثقة من حوله، حتى لقد كان صدقه سببا في أحداث كثيرة، منها الاجتماعي والعملي والعقدي، وفي حياته كلها، من ذلك تجارته لخديجة - رضي الله عنها - وزواجه منها، بل وإيمانها بدعوته، ومساندتها له وشدها من أزره صلى الله عليه وسلم.
ولم يقف أثر صدقه - صلى الله عليه وسلم - في حياته عند هذا الحد، بل أثر في دعوته - كما أسلفنا - من خلال استجابة مسلمي العهد الأول ومن تبعهم، فشخصيته - صلى الله عليه وسلم - وعظم أخلاقه، ونبل سلوكه، وكرم معاشرته، كانت أهم العوامل الرئيسة في نجاح دعوته.
وإن الذين أسلموا في أوائل العهد المكي لم يكن يجذبهم لهذا الدين الجديد إلا يقينهم الكامل بصدق صاحب الدعوة، فأول الناس إيمانا على الإطلاق خديجة بنت خويلد، حاضنة الإسلام، فعندما فجأ الحق النبي - صلى الله عليه وسلم - في غار حراء، ورجع إلى زوجه يقص عليها ما حدث، قالت في ثقة كاملة: «أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا، والله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب[2] الحق...»[3].
فشهدت له بالصدق في الحديث، وهذا قبل البعثة، ثم كان أول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر الصديق، صاحب الرسول قبل البعثة، ودخل معه وخرج، وعرف سريرته وعلانيته، فلم يتردد لحظة يوم دعاه إلى الإسلام.
إن الصدق هو المعجزة الأولى التي دفعت الناس إلى الإيمان بالرسالة المحمدية، وظل اليقين بهذا الصدق في سويداء قلب المجتمع المكي، لا يتزلزل اليقين به لسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - حتى مـع كـفـرهـم بـالـرسـالـة، حـتى جـاء الـقـرآن الـكـريم مـؤيـدا ذلك، فـقـال سـبـحـانه وتـعـالى: )قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون (33)( (الأنعام)[4]، يعني كما يقول ابن عباس - رضي الله عنهما -: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمى الأمين، فعرفوا أنه لا يكذب في شيء، ولكنهم كانوا يجحدون"، وكان أبو جهل يقول: ما نكذبك؛ لأنك عندنا صادق، وإنما نكذب ما جئتنا به. وروي أن الأخنس بن شريق قال لأبي جهل: يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد؛ أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس عندنا أحد غيرنا، فقال له: والله إن محمدا لصادق وما كذب قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة فماذا يكون لسائر قريش" [5]؟
ثانيا. تناقض موقف المشركين من النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة وبعدها:
إن ما اتهم به مشركو قريش النبي - صلى الله عليه وسلم - من كذب وإفك وتقول بعد البعثة ينقض ما وصفوه به من صدق وأمانة قبلها، ذلك أن الواقف على طبيعة ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم أنه جاء بدين الوحدانية الذي سفه أحلامهم، وسب آلهتهم، وخالف ما كان عليه آباؤهم، وطبيعي أن يقف هؤلاء في البداية موقف المعادي لهذا الدين وصاحبه حتى لو كان محمدا الصادق الأمين.
وطبيعي كذلك أن ينتصر هؤلاء المشركون لآلهتهم ولأنفسهم ومعتقداتهم، ويكيلوا لهذا النبي التهم والأقاويل، ويقلبوا ما وصفوه به آنفا، فبعد ما كان محمدا صار مذمما وأخذوا يسبون مذمما، ويصفونه بقائمة مطولة من قبيح الصفات ورذيلها، فهو أفاك وساحر، وشاعر وكاهن... وكذا وكذا إلى آخر هذه القائمة.
غير أن أحدا من هؤلاء المعاندين لم يعبأ بالتناقض الحاصل بين موقفهم منه قبل البعثة وموقفهم منه - صلى الله عليه وسلم - بعدها، وليس أدل على مدى تلك المفارقة العجيبة مما رواه ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لما نزلت: )وأنذر عشيرتك الأقربين (214)( (الشعراء) «صعد النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصفا، فجعل ينادي: (يا بني فهر، يا بني عدي.." لبطون قريش حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش فقال: "أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي"؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا، قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد"، فقال أبو لهب: تبا[6] لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟! فنزلت: )تبت يدا أبي لهب وتب (1) ما أغنى عنه ماله وما كسب (2)( (المسد)» [7].
فانظر كيف تحول الموقف من النقيض إلى النقيض في لحظة واحدة، وانظر إلى براعة الاستهلال، ولباقة العرض، وبلاغة الحوار، وتأمل كيف استنطقهم بصدقه وألزمهم بتصديقه.!! فما كان - صلى الله عليه وسلم - ليترك الكذب على الناس ويكذب على الله[8].
وعلى ما فعله هؤلاء مع النبي - صلى الله عليه وسلم - صارت تلك عادة درج عليها هؤلاء المعاندون من تكذيب الرسل واتهامهم بما ليس فيهم - وبئست العادة تلك - فالنبي الصادق صار أفاكا، وعلى هذا صار القوم يقلبون الحقائق؛ ليشككوا حديثي العهد بالإسلام في محمد - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به.
ومن النماذج التي ندلل بها على تناقض موقف الأتباع من المتبع بتغييره معتقده، إسلام عبد الله بن سلام، وها هي القصة كما أوردها الشيخ محمد بيومي في كتاب "عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم" إذ يقول: "عن عوف بن مالك الأشجعي - رضي الله عنه - قال: «انطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما وأنا معه، حتى دخلنا كنيسة اليهود بالمدينة يوم عيد لهم، فكرهوا دخولنا عليهم، فقال لهم: "يا معشر اليهود، أروني اثني عشر رجلا يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، يحط الله عن كل يهودي تحت أديم السماء[9] الغضب الذي غضب عليهم"، قال: فأسكتوا ما أجابه منهم أحد، ثم رد عليهم، فلم يجبه منهم أحد، فقال: "أبيتم، فوالله إني لأنا الحاشر، وأنا العاقب، وأنا النبي المصطفى، آمنتم أو كذبتم".
ثم انصرف وأنا معه حتى إذا كدنا أن نخرج، فإذا رجل من خلفنا يقول: كما أنت يا محمد! فقال ذلك الرجل: أي رجل تعلموني فيكم يا معشر اليهود؟ قالوا: والله، ما نعلم أنه كان فينا رجل أعلم بكتاب الله منك، ولا أفقه منك، ولا من أبيك قبلك، ولا من جدك قبل أبيك، قال: فإني أشهد له بالله أنه نبي الله الذي تجدونه في التوراة، فقالوا: كذبت، ثم ردوا عليه قوله، وقالوا فيه شرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذبتم، لن يقبل قولكم، أما آنفا فتثنون عليه من الخير ما أثنيتم، وأما إذا آمن فكذبتموه، وقلتم، فلن يقبل قولكم» [10].
قال: فخرجنا ونحن ثلاثة: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا وعبد الله بن سلام، وأنزل الله - سبحانه وتعالى - فيه: )قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين (10)( (الأحقاف).
فهذا تصديق آخر من يهودي، وهو في وسط قومه، ولم يمنعه أحد أن يشهد بصدقه ونبوته صلى الله عليه وسلم، فهيهات ما ادعاه هؤلاء.
قال ابن القيم: إن عبد الله بن سلام وذويه إنما أسلموا في وقت شدة من الأمر، وقلة من المسلمين، وضعف وحاجة، وأهل الأرض مطبقون على عداوتهم، واليهود والمشركون هم أهل الشوكة والعدة، والحلقة والسلاح، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إذ ذاك قد أووا إلى المدينة، وأعداؤهم يتطلبونهم في كل وجه، وقد بذلوا الرغائب لمن جاءهم بهم، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه وخادمهما، فاستخفوا ثلاثا في غار تحت الأرض، ثم خرجوا بعد ثلاث على غير الطريق إلى أن قدموا المدينة، والشوكة والعدد والعدة فيها لليهود والمشركين.
فأسلم عبد الله بن سلام حين مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة لما رأى أعلام النبوة التي كان يعرفها وشاهدها فيه، وترك الأغراض التي منعت المغضوب عليهم من الإسلام من الرياسة والمال والجاه بينهم، وقد شهدوا له كلهم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه رئيسهم وخيرهم وسيدهم، فعلم أنهم إن علموا بإسلامه أخرجوه من تلك الرياسة والسيادة، فأحب أن يعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فقال: أدخلني بعض بيوتك وسلهم عني، ففعل وسألهم عنه، فأخبروه أنه سيدهم ورئيسهم وعالمهم، فخرج عليهم وذكرهم وأوقفهم على أنهم يعلمون أنه رسول الله، وقابلهم بذلك، فسبوه وقدحوا فيه، وأنكروا رياسته وسيادته وعلمه" [11].
يعضد هذا أن مشركي قريش عرضوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - من الإغراءات ما هو معلوم وثابت في كتب التاريخ، من مال وملك ووجاهة، فلما أبى النبي صلى الله عليه وسلم - بوصفه رجلا من أصحاب الرسالات والمبادئ - جردوه مما عرضوه، ولم يأبهوا لحظة واحدة بأن يهينوا هذا الذي كانوا مستعدين منذ قليل لجعله ملكهم وأغناهم وأوجههم، وقاطعوه في شعب بني طالب، وكالوا له التهم، والأوصاف، لا لشيء إلا لما جاء به من عقيدة الإسلام الخاتمة بما تقتضيه تلك العقيدة من وحدانية لا يعترفون بها.
وبالمقارنة بين موقف المشركين مع النبي صلى الله عليه وسلم، وتناقض اليهود كذلك مع عبد الله بن سلام، نبادر بسؤال مؤداه: هل اعتمد اليهود والمشركون في وصفهم - الثاني - للنبي - صلى الله عليه وسلم - وابن سلام على دليل قوي، أم دفعهم التعصب العقدي الأعمى دونما حيدة أو إنصاف أو تؤدة؟!
ثم أليس في موقفهم هذا من التناقض ما لا نجد له مسوغا إلا مجرد الانتصار للمذهب حقا كان أو باطلا؟!
ثم أمن المنطق أن نصدق نحن وصفهم الأول أم الثاني؟!
إن مما لا يكاد ينكره منصف أن ما وصف به اليهود عبد الله بن سلام أولا - قبل علمهم بإسلامه - من كونه خيرهم وابن خيرهم، وأفضلهم وابن أفضلهم لأصدق - بالتأكيد - مما اتهموه به حسدا من عند أنفسهم بعد علمهم بإسلامه - شرنا وابن شرنا - وما تنقصوه به.
ولا يبعد عن هذا المنطق أن نقرر أن ما وصف به المشركون النبي صلى الله عليه وسلم - أولا - بقولهم: ما جربنا عليك كذبا قط، وما لقبوه به من أنه "الصادق الأمين" أصدق وأقرب للحقيقة من الإفك الذي اتهموه به بعدما عرفوا أنه نذير لهم بين يدي عذاب شديد، وما تقتضيه رسالته من الوحدانية، وسب الأصنام، وتسفيه الأحلام، ومخالفة الآباء، وعبادة الله وحده لا شريك له، فبقدر ما أحدثت دعوة النبي في نفوس هؤلاء من الاهتزاز وبقدر ما أثرت في معتقداتهم من انقلاب انبروا لسبه - صلى الله عليه وسلم - والتشنيع به وقلب ما مدحوه به من قبل ذما؛ تبريرا لموقفهم، وإرضاء لذواتهم، وانتصارا لمعتقداتهم الوثنية.
وليس النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - في هذا بدعا من الرسل "فقد اقتضت حكمة الله - سبحانه وتعالى - أن يكون لكل نبي أعداء يحاربون دعوته ويصدون الناس عنه، كما قال سبحانه وتعالى: )وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون (112)( (الأنعام)، قال ابن كثير: يقول الله عز وجل: وكما جعلنا لك يا محمد أعداء يخالفونك ويعادونك ويعاندونك، جعلنا لكل نبي من قبلك أيضا أعداء فلا يحزنك ذلك كما قال عز وجل: )ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين (34)( (الأنعام)، وقال عز وجل: )ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم (43)( (فصلت)، وقال سبحانه وتعالى: )وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا (31)( (الفرقان)، وقـال ورقـة بـن نـوفـل لـرسـول الله صـلـى الله عـلـيـه وسـلـم: «لم يـأت رجـل قـط بمـثـل مـا جـئـت بـه إلا عـودي» [12] [13].
وحسبنا من هؤلاء المشركين وصفهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالصادق الأمين ودعنا مما اقتضاه موقفهم العدائي المتحامل عليه - صلى الله عليه وسلم - المتقول عليه بما ليس فيه كدأب من سبقوهم مع أصحاب الدعوات والرسالات ممن سبقوا النبي صلى الله عليه وسلم.
ثالثا. أمره - صلى الله عليه وسلم - بالصدق ونهيه عن الكذب:
إن المتأمل - المنصف - لطبيعة ما اشتملت عليه رسالة النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم - في القرآن والسنة - ليقف على ما فيهما من أمر بالصدق، ونهي عن الكذب وتحذير من آفات اللسان أيا ما كان الحال.
ومعلوم أن "مما حث الإسلام عليه من الأخلاق، الصدق في القول والعمل، وفي كل حال وشأن مع نفسه ومع غيره وقبل كل شيء مع خالقه، فكيف للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكون أفاكا وهو الذي بلغ عن رب العزة قوله عز وجل: )يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين (119)( (التوبة)، )طـاعـة وقـول مـعـروف فـإذا عـزم الأمـر فـلـو صـدقـوا الله لـكـان خـيرا لهـم (21)( (محمد).
وفي النهي عن الكذب وحفظ اللسان، قال سبحانه وتعالى: )ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد (18)( (ق)، وقال عز وجل: )ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا (36)( (الإسراء).
هذا بعض ما بلغه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ربه - عز وجل - بشأن الصدق، وهو كاف - وإن كان على سبيل التمثيل لا الحصر - لأن يستبعد المنصف أن يسم النبي - القدوة المبلغ لتلك الأوامر والنواهي - بالإفك والكذب - على حد ما زعموا ـ ناهيك عما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - بشأن الصدق الذي كان ثالث ما أمر به حسبما روي في الحديث بعد التوحيد والصلاة، فعن أبي سفيان صخر بن حرب - رضي الله عنه - في حديثه الطويل في قصة هرقل،«قال هرقل: فبماذا يأمركم، قال أبو سفيان: قلت: يقول: "اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والعفاف، والصلة» [14].
وقد جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيان منزلة الصدق، وأنه أساس البر، وسبيل إلى الجنة قوله: «إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا»[15].
فالكذب من أبشع ما يتصف به الإنسان لذا حذر منه - صلى الله عليه وسلم - بل كرهه كثيرا، فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «ما كان من خلق أبغض إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الكذب، ولقد كان الرجل يحدث النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكذبة فما يزال في نفسه حتى يعلم أنه قد أحدث منها توبة» [16].
وحذر من الظن لما يترتب عليه من الكذب، فعن الحسن بن علي - رضي الله عنهما - قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة» [17].
والكذب محرم في شريعة الإسلام ولو بالمزاح، قال صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن العبد الإيمان كله حتى يترك الكذب من المزاحة، ويترك المراء[18] وإن كان صادقا» [19] [20].
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر»[21].
وبعد.. كانت هذه طائفة من بعض ما روي عنه صلى الله عليه وسلم، وهي أيضا من أدل ما يستحيل معه أن يوصم قائلها بالإفك، وهو الذي ألح على ذمه والترغيب في ضده - وهو الصدق - على نحو ما أسلفنا، وكلها تؤكد صدقه الكامل الذي ما شابته شائبة - وما ينبغي أن تشوبه، مبرأ مما وصمه به الواصمون، وتقول عليه به المتقولون صلى الله عليه وسلم.
وما كان قديما من دوافع حدت بالمشركين لتكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعوته - على الرغم من يقينهم الجازم بصدقه - صلى الله عليه وسلم - لا تبعد كثيرا عما حدا بأذنابهم في كل زمان ومكان. يقول ابن القيم: "وهذا قد رأيناه نحن في زماننا وشاهدناه عيانا، ولقد ناظرت بعض علماء النصارى معظم يوم، فلما تبين له الحق بهت، فقلت له وأنا وهو خاليان: ما يمنعك الآن من اتباع الحق؟ فقال لي: إذا قدمت على هؤلاء الحمير - هكذا لفظه - فرشوا لنا الشقاف تحت حوافر دابتي، وحكموني في أموالهم ونسائهم، ولم يعصوني فيما آمرهم به، وأنا لا أعرف صنعة ولا أحفظ قرآنا، ولا نحوا ولا فقها، فلو أسلمت لدرت في الأسواق أتكفف الناس، فمن الذي يطيب نفسا بهذا؟!
فقلت: هذا لا يكون، وكيف تظن بالله أنك إذا آثرت رضاه على هواك يخزيك ويذلك ويحوجك؟! فلو فرضنا أن ذلك أصابك فما ظفرت به من الحق والنجاة من النار ومن سخط الله وغضبه، فيه أتم العوض عما فاتك، فقال: حتى يأذن الله، فقلت: القدر لا يحتج به، ولو كان القدر حجة لكان حجة لليهود على تكذيب المسيح، وحجة للمشركين على تكذيب الرسل، ولا سيما أنتم تكذبون بالقدر فكيف تحتج به؟! فقال: دعنا الآن من هذا وأمسك" [22].
شهادة المنصفين من الغرب بصدقه صلى الله عليه وسلم:
ولا يبتعد عن الذهن أن ناسا من الغرب المهاجمين للإسلام كان جهلهم وراء موقفهم من الإسلام ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا ما أوضحه المفكر الفرنسي ديبا سكييه حين قال: "إن الغرب لم يعرف الإسلام أبدا، فمنذ ظهور الإسلام اتخذ الغرب موقفا عدائيا منه، ولم يكف عن الافتراء عليه والتنديد به، لكي يجد المبررات لقتاله، وقد ترتب على هذا التشويه أن رسخت في العقلية الغربية مقولات فظة عن الإسلام، ولا شك أن الإسلام هو الوحدانية التي يحتاج إليها العالم المعاصر؛ ليتخلص من متاهات الحضارة المادية المعاصرة التي لا بد إن استمرت أن تنتهي بتدمير الإنسان" [23].
ويقول الكاتب السويسري مسيمر (1827 - 1898م) في كتاب "العرب في عهد محمد" ترجمة الأستاذ فؤاد بطرس: "إن من تسافه وتطاول، وأنكر صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد بت بهذه المسألة دون أن يحلها وحمل ضميره مسئولية المكابرة العمياء، ورمى نفسه في نهاية سيئة؛ إذ ليس من وحي الضمير الحر ما يقترفه أولئك المغرضون على محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي اتصف بكل صفات الكمال".
ويقول الأديب والمفكر الإنجليزي وليم سوبر في كتابه "سيرة محمد": "امتاز محمد - صلى الله عليه وسلم - بوضوح كلامه ويسر دينه.. ولقد أتم من الأعمال ما أدهش الألباب.. فلم يشهد التاريخ مصلحا أيقظ النفوس وأحيا الأخلاق الحسنة.. ورفع شأن الفضيلة في زمن قصير كما فعل محمد صلى الله عليه وسلم".
ويقول المستشرق السويدي د. سترستين (1866 - 1953م) في كتابه "تاريخ حياة محمد": "إننا نظلم محمدا إذا أنكرنا ما هو عليه من عظيم الصفات وحميد المزايا..".
ويقول المستشرق الفرنسي كازانوفا: في كتاب "حضارة الشرق": "يهمني أن أجهر أولا بأنني رافض أصلا لكل نظرية يفهم منها الشك في صدق وطهارة محمد صلى الله عليه وسلم، وإن سيرة محمد من بدايتها وحتى نهايتها تدل على أنه شرف، ولا مناص من الإقرار بأن محمدا كان على نقاء وسمو".
ويقول المستشرق البلجيكي د. دوسين في بحثه "الحياة والشرائع": "ليس يزعم اليوم أحد أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - راح يزور دينا، أو أنه كاذب في دعواه أو أفاك في رسالته.. إن من يعرف محمدا، ويدرس سيرته بتفكير علمي، ويستوعب ما يتمتع به دينه من تشريعات تصلح أن تظل مع الزمن مهما طال لا يملك إلا أن يحترمه ويقدره.. وكل من يكتب عن محمد - صلى الله عليه وسلم - ودينه ما لا يجوز، فإنما هو من قلة التدبير، وضعف الاطلاع، وامتهان للمنهج العلمي المحايد".
ويقول المفكر والأديب الفرنسي أميل در مجنهام (1790 - 1857م) في مقدمة كتابه "حياة محمد": "لا يوجد واحد في الدنيا يمكنه أن ينكر عظمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن وجد من ينكر بعض ما جاء في سيرته في الكتب العربية.. ومن الناس من يتجاوز الحد في النقد والاعتراض.. حتى يقع في ظلم نفسه، أما أنا فقد جعلت كتابي هذا سيرة حقيقية مبنية على المنابع العربية الأصيلة بدون إهمال جميع ما وصلت إليه من تدقيقات المتخصصين المحايدين في هذا الموضوع، خاصة الأزمنة المتأخرة.
وقد أردت أن أمثل لمحمد - صلى الله عليه وسلم - صورة مطابقة له بقدر الاستطاعة كما فهمته من الكتب التي قرأتها وأمعنت النظر فيها.. ومن مشافهة الأحياء من المسلمين... فإذا كانت كل حياة بشرية تنطوي على تعليم، وكانت كل حادثة تشتمل على مشهد يمثل حقيقة من الحقائق، فكم يكون مؤثرا ومفيدا التلاقي مع رجل عظيم من الرجال العظماء.. الذي يقتدى به في جانب كبير من الإنسانية".
ويقول المستشرق الألماني د. تيودور نولدكه في كتابه "تاريخ النص القرآني": "وحري بنا أن ننصف محمدا - صلى الله عليه وسلم - في الحديث عنه؛ لأننا لم نعلم عنه إلا كل صفات الكمال فكان جديرا بالتقدير والاحترام".
ويقول المفكر السويسري يوهان دي كبرت (1836 - 1912م) في كتابه "محمد والإسلام": "كلما ازداد الباحث تنقيبا في الحقائق التاريخية الوثيقة المصادر فيما يخص الشمائل المحمدية، أزداد احتقارا لأعداء محمد - صلى الله عليه وسلم - أمثال أنجلز وبريدر وماركس في آرائه القديمة، وغيرهم من متعصبي المستشرقين الذين أشرعوا أسنة الطعن في محمد - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يعرفوه ويدرسوا دعوته، ونسبوا إليه ما لا يجوز أن ينسب إلى رجل عادي فضلا عن رجل كمحمد الذي يحدثنا التاريخ بأنه سار حسب هداه وإرادته المستمدين من الله".
ويقول الشاعر الفرنسي الكبير لامارتين في كتابه "السفر إلى الشرق": أترون أن محمدا كان أخا خداع وتدليس؟ وصاحب باطل وإفك؟ كلا بعدما وعينا تاريخه ودرسنا حياته، فإن الخداع والتدليس والباطل والإفك كل تلك الصفات هي ألصق بمن وصف محمدا - صلى الله عليه وسلم - بها؛ لأنهم من منافقي العقائد.
إن حياة محمد وقوة تأمله وتفكيره وجهاده، ووثبته على خرافات أمته وجاهلية شعبه، وشهامته، وبأسه في لقاء ما لقيه من عبدة الأوثان، وثباته، وتقبله سخرية الساخرين، وحميته في نشر رسالته، وحروبه التي كان جيشه فيها أقل عددا من عدوه، ووثوقه بالنجاح وإيمانه بالظفر، وتطلعه إلى إعلاء الكلمة وتأسيس العقيدة.. ونجواه التي لا تنقطع مع الله..
كل هذا دليل على أنه لم يكن يضمر خداعا، أو يعيش على باطل وضلال، بل كان وراءه عقيدة صلبة صادقة، ويقين مضيء في قلبه، وهذا اليقين الذي ملأ روحه هو من الله لا شك، وبذلك جدد الحياة بفكرته العظيمة، وحجته القائمة، وشاغله في هذا كله تأكيد وحدانية الله[24].
ونهاية القول فهذا إقرار بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن كذابا ولا أفاكا، شهد بذلك القاصي والداني، والعدو والصديق، مما ينفي كل شبهة، ويرد كل باطل يتهم به النبي - صلى الله عليه وسلم - ورحم الله القائل:
وشمائل شهد العدو بفضلها
والفضل ما شهدت به الأعداء
الخلاصة:
· إن فيما لقب به النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة - الصادق الأمين - خير شاهد - أقام به مشركو قريش الدليل على أنفسهم - على الصدق المحمدي الذي لا يشوبه كذب، وإن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم - الصادق الأمين - ما ازداد بالبعثة إلا صدقا وتصديقا، فكان خير قدوة لخير مقتد، ولقد كان صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - المعجزة الأولى التي دفعت كثيرا من مسلمي العهد المكي إلى الإيمان برسالة الإسلام، إيمانا ويقينا في صدق المرسل بها الداعي إليها محمد صلى الله عليه وسلم.
· إن التناقض الحاصل في موقف القرشيين، وقلب ما امتدحوه به اتهاما بالإفك، لأمر طبيعي جرت به عادة من قبلهم مع رسلهم من إجهاض الدعوات ونبذ الدعاة إليها بالسب والنقيصة لا لشيء إلا لمعاداتهم لدعواتهم، ولقد كان من سنن الابتلاء في حياة النبي صلى الله عليه وسلم - كسائر الرسل والأنبياء - أن يكيل له المشركون من ذميم الصفات بقدر ما أحدث التوحيد في نفوسهم من هزة وزلزلة وسب لآلهتهم وتسفيه لعقول الآباء والأجداد.
· إن في آيات القرآن التي أوحي بها إلى محمد صلى الله عليه وسلم، والسنة التي رواها صحابته عنه من النصوص الصريحة الآمرة بالصدق الناهية عن الكذب، ما يكفي ليستبعد المنصف أن يخالف مبلغ هذه الأوامر - الآمر بالصدق الناهي عن الكذب في نفسه وخلقه - ما بلغه فيأتي ما نهى عنه ويترك ما أمر به؛ إذ إن هذا لا يستقيم طبعا وعقلا، ومنطقا في شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو غيره.
· كما أن شهادات المنصفين من مفكري الغرب بعظيم شمائل النبي - صلى الله عليه وسلم - وصدقه ووضوحه، في مقابل ما ادعاه آخرون ممن فارقوا الإنصاف والحيدة - لخير دليل على إبطال حجج المدعين، ودحض الشبه التي ساقوها زورا وبهتانا في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(*) موسوعة القرآن العظيم، عبد المنعم الحفني، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط1، 2004م.