الزعم أن اثنتين من زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - تجسستا عليه لصالح الحكومة الثلاثية(*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المغرضين أن اثنتين من زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - هما عائشة وحفصة كونتا حزبا لصالح الحكومة الثلاثية المتمثلة في أبي بكر وعمر وأبي عبيدة، ويستدلون على ذلك بأن أبا بكر كان يعد لهذه المهمة التي أوكلها لابنته عائشة بدليل حرصه على زواجها منه صلى الله عليه وسلم؛ إذ فسخ خطبتها من جبير بن مطعم، وزوجها للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لتسهل مهمته في تحقيق مطامعه السياسية، وكذلك - في زعمهم - كان زواج حفصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما أن عائشة وحفصة تجاهلتا ما بينهما من تباغض وغيرة؛ لتحقيق هذه المصلحة المشتركة. وقد اتخذت عائشة من عاطفيته - صلى الله عليه وسلم - وكبر سنه ورقة قلبه وسيلة ليصبح أداة طيعة في يدها لمصالح والدها السياسية، وأنها تجسست على النبي - صلى الله عليه وسلم - حين كان يتحدث مع عثمان بن عفان، كما أنها أفضت إلى أبيها بعزمه - صلى الله عليه وسلم - على فتح مكة.
وجوه إبطال الشبهة:
1) الثابت تاريخيا أن أبا بكر - رضي الله عنه - لم يفسخ خطبة جبير بن مطعم، ولكن أم جبير هي التي قامت بفسخها؛ خوفا على ابنها من دخول الإسلام. أما زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من عائشة فقد كان عن رضا واقتناع من الطرفين، وكذلك زواجه من حفصة ابنة الفاروق عمر الذي جاء تلقائيا دون ترتيب، وليس من أجل تحقيق مصلحة سياسية كما يدعى.
2) كانت عائشة - رضي الله عنها - صغيرة السن لا حول لها على التآمر السياسي والتحالف، فليس صحيحا أنها سعت بمعونة حفصة - رضي الله عنها - إلى تهيئة أمر التحزب لما سمي بالحكومة الثلاثية، أو أنها سعت إلى تحبيب النبي - صلى الله عليه وسلم - في والدها رضي الله عنه، وقد كان الصحابة - بما فيهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة - زاهدين في أمر الخلافة.
3) أما ما نسب إلى عائشة - رضي الله عنها - من التجسس على النبي - صلى الله عليه وسلم - أو إفشاء أسراره، فهو زور لا حقيقة له؛ فالحادثة الأولى تسمعت فيها عائشة - بدافع الغيرة - إلى حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - مع عثمان، ظنا منها أنه حديث يخص النساء. أما الحادثة الثانية فلم تخبر فيها أباها بوجهة النبي - صلى الله عليه وسلم - بل أخبرته فقط باستعداده - صلى الله عليه وسلم - للسفر.
التفصيل:
أولا. زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بعائشة وحفصة كان زواجا طبيعيا صادرا عن قبول ورضا متبادلين، ولا شبهة فيه لأية أغراض سياسية أو مصالح أخرى:
ليس صحيحا ما يدعيه هؤلاء من أن أبا بكر - رضي الله عنه - قد فسخ خطبة جبير بن مطعم لابنته ليزوجها للنبي - صلى الله عليه وسلم - تمهيدا لاستيلائه على الخلافة ولكن أم جبير أرادت أن تستوثق من أن أبا بكر لن يدخل ابنها في الإسلام، فلما لم تجد من أبي بكر رضا من استمرار ابنها على دينه رغبت هي وزوجها في فسخ هذه الخطبة، ولقد كان لأبي بكر - حقا - رغبة في أن يشرف بمصاهرة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الأمر سار طبيعيا تماما.
وشبيه بهذا ما حدث في زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بحفصة؛ إذ لما عرضها عمر على صاحبيه أبي بكر وعثمان، فسكت أبو بكر عند عرضها عليه، ومن بعده عثمان، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر حين شكا إليه عدم قبول عثمان: «حفصة يتزوجها خير من عثمان، وعثمان يتزوج خيرا من حفصة» [1]، ثم خطبها لنفسه[2].
والدليل على أن زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من عائشة وحفصة لم يكن من ترتيب أبي بكر أو عمر بن الخطاب - ما روي من أحاديث تروي قصة زواج كل منهما:
· زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من السيدة عائشة:
وعن أبي سلمة ويحيى قالا: «لما هلكت خديجة جاءت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون. قالت: يا رسول الله، ألا تزوج؟ قال: "من"؟ قالت: إن شئت بكرا وإن شئت ثيبا، قال: "فمن البكر"؟ قالت: ابنة أحب خلق الله - عز وجل - إليك، عائشة بنت أبي بكر، قال: "ومن الثيب"؟ قالت: سودة ابنة زمعة، قد آمنت بك واتبعتك على ما تقول، قال: "فاذهبي فاذكريهما علي"، فدخلت بيت أبي بكر فقالت: يا أم رومان، ماذا أدخل الله - عز وجل - عليكم من الخير والبركة؟ قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخطب عليه عائشة، قالت: انتظري أبا بكر حتى يأتي، فجاء أبو بكر فقالت: يا أبا بكر، ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة؟ قال: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخطب عليه عائشة، قال: وهل تصلح له؟ إنما هي ابنة أخيه، فرجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت له ذلك، قال: "ارجعي إليه فقولي له: أنا أخوك وأنت أخي في الإسلام، وابنتك تصلح لي"، فرجعت فذكرت ذلك له، قال: انتظري، وخرج، قالت أم رومان: إن مطعم بن عدي قد كان ذكرها على ابنه، فوالله، ما وعد وعدا قط فأخلفه لأبي بكر، فدخل أبو بكر على مطعم بن عدي وعنده امرأته أم الفتى، فقالت: يا بن أبي قحافة، لعلك مصب صاحبنا مدخله في دينك الذي أنت عليه أن تزوج إليك، قال أبو بكر لمطعم بن عدي: أقول هذه تقول إنها تقول ذلك، فخرج من عنده وقد أذهب الله - عز وجل - ما كان في نفسه من عدته التي وعده، فرجع فقال لخولة: ادعي لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعته فزوجها إياه وعائشة يومئذ بنت ست سنين»[3].
ومعنى ذلك أن مطعم بن عدي وزوجته أم جبير كانا يخشيان دخول ابنهما دين أبي بكر الصديق - وهو الإسلام - عند زواجه من ابنته عائشة، فقام أبو بكر الصديق من مجلسهما وهو في حل من وعده لمطعم بن عدي، وعند ذلك عزم أبو بكر على زواج ابنته عائشة من رسول الله صلى الله عليه وسلم[4].
فكيف يتهمون أبا بكر بأنه فسخ خطبة جبير بن مطعم ليزوج ابنته - عائشة - الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وهو الذي لم يزوج عائشة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بعد أن تأكد أن المطعم بن عدي وزوجته لا يريدان زواج ابنهما من عائشة، وعليه فقد كان حريصا على وعده لهما، وهذا ما أكدته زوجته أم رومان لخولة بنت حكيم حين قالت عنه: والله ما أخلف وعدا.
وجدير بالذكر أن ننوه إلى أن زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بعائشة كان بعد أن رآها في المنام مرتين؛ ولأن رؤيا الأنبياء حق، ومن عند الله، جاءت خولة بنت حكيم بدون ترتيب تعرض عليه الزواج من عائشة؛ فرضي النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلب منها أن تخطبها له[5]، وهكذا كان زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من السيدة عائشة أمرا طبيعيا، لم يتدخل فيه أبو بكر بأي ترتيب، بل كان أمرا من الله قضاه.
· زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من السيدة حفصة:
وكذلك كان زواجه - صلى الله عليه وسلم - من السيدة حفصة؛ فقد ورد في السيرة النبوية لابن هشام، وفي البخاري عن عمر أنه حزن على ترمل ابنته حفصة، واشتدت شفقته عليها وعلى شبابها، ففكر عمر بن الخطاب في أن يجد لها مخرجا من هذه الأزمة التي حلت بها، وهي استشهاد زوجها في معركة أحد بعد إصابته، فتوجه عمر بن الخطاب إلى صديقه أبي بكر الصديق، وعرض عليه أن يتزوج ابنته، ولكن أبا بكر الصديق سكت، لم يرفض ولم يقبل، فحز ذلك في نفس عمر، ثم توجه إلى صديقه الثاني عثمان بن عفان، وعرض عليه الزواج من ابنته حفصة، وكان جواب عثمان بن عفان: "ما أريد أن أتزوج اليوم"، فزاد ذلك من حزن عمر بن الخطاب بعد أن خيب رجاءه صديقاه، أبو بكر وعثمان، فتوجه إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يشكو أبا بكر وعثمان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يتزوج حفصة من هو خير من عثمان، ويتزوج عثمان من هو خير من حفصة» [6].
وفعلا حدث ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فقد تزوج الرسول - صلى الله عليه وسلم - حفصة بنت عمر، وهو خير من عثمان بن عفان، وتزوج عثمان بن عفان من هي خير من حفصة بنت عمر؛ فقد تزوج أم كلثوم ابنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من خديجة بنت خويلد، ولقد كان أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب أقرب الناس إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - محبة ومودة، وكانا بمنزلة وزيرين يستشيرهما في كل شيء خاص بالدعوة الإسلامية؛ ولذلك أراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إكرام وزيريه، ومكافأتهما فتزوج من ابنتيهما: عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنه، وحفصة بنت عمر رضي الله عنه، فأكرمهما النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الزواج على رحلة الكفاح معه ليزيد من أواصر القرابة بينهما[7].
فإذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الذي طلب الزواج بكل من عائشة وحفصة إكراما لأبويهما، وتكريما لهما؛ فأين هذا التدبير الذي يتهمون به كلا من أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب؟! وهما اللذان لم يدبرا قليلا ولا كثيرا لزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من ابنتيهما، بل كان هذا أمرا طبيعيا، حدث تلقائيا دون تدبير من أحد الجانبين.
ثم إنه لو سعى أحد إلى مصاهرة النبي - صلى الله عليه وسلم - سعيا دءوبا حثيثا، لما كان ذلك منكرا ولا مستغربا، لما في مصاهرته - صلى الله عليه وسلم - من الشرف واتصال الأسباب. لكن ما ذكرناه من تلقائية هاتين الزيجتين هو الحقيقة المجردة الثابتة.
أما مصطلح "الحكومة الثلاثية" فهو مصطلح فاسد مغرض، لا معنى له في الإسلام، وإنما أطلقه مستشرق لا يفقه أبعاد هذا المصطلح، إذ لا يوجد لهذا المصطلح أصل في الإسلام.
وبهذا يعرف مدى الحكمة من زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من ابنتي صاحبيه، وأنه نوع من التكريم لهما، ولا يليق إلصاق التهم بالصديق أبي بكر - رضي الله عنه - الذي نزل الوحي بتزكيته غير مرة في كتاب الله، وتواتر النقل على شدة لصوقه بالنبي صلى الله عليه وسلم، وحضوره جميع مجالسه وتصديقه له، ولقبه خير شاهد على ذلك، كما يتضح فساد القول بأن أبا بكر كان يحتاج إلى المؤامرة والخديعة لنيل خلافة المسلمين؛ حيث إن علو قدره، وشرفه، ولصوقه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وما نزل في حقه، يرقى به إلى خلافة رسول الله دونما حاجة إلى مكر أو خديعة. وكذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ثانيا. كانت عائشة - رضي الله عنها - صغيرة السن لا قدرة لها على التآمر السياسي:
لقد كان زواج السيدة عائشة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهي صغيرة السن غير ذات تجربة، فأنى لها بالقدرة على حبك المؤامرات التي هي من عمل أصحاب الأنياب الزرقاء[8]، فقد كان سنها حين تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - تسع سنوات؛ فقد جاء عن عائشة: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجها وهي بنت ست سنين، وبنى بها وهي بنت تسع سنين» [9]. فهل يمكن لمن في تلك السن أن تعي أمور السياسة وحبك المؤامرات؟! وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدرك أنها لا تزال صغيرة السن، فما كان منه - صلى الله عليه وسلم - إلا أن أفسح لها المجال للعب، ولم يحرمها هذه المتعة.
فهل يمكن وصفها بعد هذه البراءة بأنها كانت تدبر لتولي أبيها الخلافة؟!
وأما ما يزعمه هؤلاء من أن مهمة عائشة كانت تحبيب أبي بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنها في حبها لزوجها - صلى الله عليه وسلم - إنما أرادت تحقيق غايات أبيها، وكان آخر ما أسفرت عنه جهودها إمامة أبي بكر للمصلين - فمردود؛ لأن حب النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر كان معروفا قبل هذا الزواج؛ فقد اصطفاه خليلا ورفيقا في هجرته حتى نزل بذلك القرآن: )ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا( (التوبة: 40)، وقال صلى الله عليه وسلم: «لو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر، ولكن أخي وصاحبي» [10], وهذه الأخوة كانت معروفة قبل الزواج، حتى إن خولة بنت حكيم حين ذهبت تخطب عائشة من أم رومان قالت: كيف والنبي أخو أبيها أبي بكر[11]؟!
وقد كان أبو بكر الصديق من أحب الرجال إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعزهم عليه، وكان - رضي الله عنه - أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سئل بعد ذلك الإمام مالك عن خلافة الصديق، فقال: "وهل في ذلك شورى"؟
وقد ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يكتب الخلافة لأبي بكر؛ فعن عائشة أنها قالت: «لما ثقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعبد الرحمن بن أبي بكر: "ائتني بكتف أو لوح حتى أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه"، فلما ذهب عبد الرحمن ليقوم قال صلى الله عليه وسلم: "يأبى الله والمؤمنون أن يختلف عليك يا أبا بكر» [12] [13]. وعن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: «قلت: يا رسول الله، أي الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة"، فقلت: من الرجال، قال: "أبوها"، قال: قلت: ثم من؟ قال: "عمر بن الخطاب.." فعد رجالا»[14].
وقـد روي عـن عـائـشـة أنـها لم تـكن تـرغـب في إمامـة أبي بكر - عكس ما زعم هؤلاء - فقد روي أن رسول الله قال في مرض موته: «مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت عائشة: إن أبا بكر رجل رقيق الصوت لا يستطيع الصلاة، فكرر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره ثلاث مرات، وفي رواية أخرى: أن عائشة اقترحت اسم عمر، وطلبت من حفصة أن تقترح هي - أيضا - عمر، ففعلت حفصة استجابة لقول عائشة التي لم تقل إلا حقا معروفا، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لأنتن صواحب يوسف» [15]. وأخيرا صلى أبو بكر بالناس، فأين أثر عائشة وسيطرتها على الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما يزعمون؟
وهذه الروايات تتفق في معناها، ويتضح منها أنه لا صحة لادعاء هؤلاء، فلو أن عائشة - رضي الله عنهاـ كانت تعمل لإمامة أبيها في الصلاة لما طلبت أن يصلي غيره بالناس؛ ولو أنها كانت متفقة معه - كما يزعمون - لكانت هي البادئة في ذكر اسم أبي بكر. وقد فهمت من إمامة أبي بكر في الصلاة إلى أنها ترمز إلى استخلاف النبي - صلى الله عليه وسلم - له، فكيف إذن يوفق بين قولهم: إن عائشة تعمل على تولية أبيها خلافة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في إمامة المسلمين، وبين الواقع رغبتها في تحويل ذلك عنه؟! وقد قالت في هذا: «والله ما بي إلا كراهية أن يتشاءم الناس بأول من يقوم في مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم» [16], فأين إذن المؤامرة المدبرة من الاتفاق الثلاثي المزعوم؟! وأين خضوع الرسول لرغبات عائشة واستسلامه لها؟! وهو الذي كان على وشك طلاقها - مع سائر زوجاته - لطلبهن زيادة النفقة، وهو طلب عادل في حقيقته، غير أن الرسول رأى أنه يتنافى مع رسالته، كما أنه لم يطل مرض الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا خمسة عشر يوما في بيت عائشة، والناس تتلهف لسماع أخباره بين زائر وسائل، ولا يعقل أن تستطيع عائشة في هذا الزمن القصير أن تدبر المؤامرة بالاتفاق مع أبيها لدعم مركزه، ولا سيما أن بيت عائشة لم يكن إلا غرفة واحدة، فيها المريض، وفيها الزوار أو الزوجات.
فلم يكن أي من الوقت أو المكان مناسبا للنشاط الذي زعمه هؤلاء، والثابت أن عائشة لم تتدخل في السياسة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أبيها ولا عمر، ولا بدء عهد عثمان، فلما اضطربت الأمور وشكا الناس إلى أمهم عائشة تدخلت في الأمر[17]، فخرجت إلى البصرة مع طلحة، والزبير، فيما عرف بموقعة الجمل، ولما حدثت واقعة الجمل، وراح ضحيتها نحو عشرة آلاف مقاتل من الفريقين ندمت.
وكانت إذا قرأت الآية: )وقرن في بيوتكن( (الأحزاب: 33) بكت حتى تبل خمارها، وكانت كلما ذكر يوم الجمل تبكي حتى كان يظن من رآها أنها لا تسكت، وكانت هذه هي المرة الوحيدة التي تدخلت فيها السيدة عائشة في مسائل السياسة، وقد دفعها إلى ذلك أنها كانت تريد أن تنصف الناس، وقالت: إنما أخرج للإصلاح بين الناس، وأرجو فيه الأجر إن شاء الله، وقد ندمت كثيرا على تدخلها، وكانت تتمنى أن تدفن بجوار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجرتها، ولكن قبل وفاتها قالت: "إني أحدثت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فادفنوني مع أزواج النبي" [18]؛ تعني خروجها مخالفة الآية: )وقرن في بيوتكن( [19]، فقد ندمت كثيرا على هذه المرة الوحيدة التي تدخلت فيها، فهل بعد ذلك يتهمونها بأنها دبرت المؤامرت لتولي أباها الخلافة؟
الإجماع على خلافة أبي بكر وعمر وزهدهما فيها:
قد أجمع المسلمون على صحة خلافة أبي بكر ومن بعده عمر؛ قال أبو بكر الباقلاني في معرض ذكره للإجماع على خلافة الصديق، وكان - رضي الله عنه - مفروض الطاعة لإجماع المسلمين على طاعته وإمامته وانقيادهم له.
وقد ولي عمر الخلافة باتفاق أهل الحل والعقد وإرادتهم، فهم الذين فوضوا لأبي بكر انتخاب الخليفة، وجعلوه نائبا عنهم في ذلك، فشاور ثم عين الخليفة، ثم عرض هذا التعيين على الناس فأقروه وأمضوه ووافقوا عليه، وأصحاب الحل والعقد في الأمة هم النواب الطبيعيون عن هذه الأمة[20].
وما كان لأبي بكر وعمر أن يحرصا على الخلافة، وقد تربيا في المدرسة المحمدية، وتنشقا من نسيم هذا العصر ولبسا لباس روح الزهد في أمر الخلافة والمسئولية، وإن تصرفهما في اجتماع السقيفة لخير دليل على ذلك، فبعد أن أتم أبو بكر حديثه في السقيفة قدم عمر وأبا عبيدة للخلافة، ولكن عمر كره ذلك وقال فيما بعد: «فلم أكره مما قال غيرها، كان والله أن أقدم فتضرب عنقي، لا يقربني ذلك من إثم، أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر» [21].
ولقد ظهر زهد أبي بكر في الإمارة في خطبته التي اعتذر فيها عن قبول الخلافة؛ حيث قال: «والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما ولا ليلة قط، ولا كنت فيها راغبا، ولا سألتها الله - عز وجل - في سر أو علانية، ولكني أشفقت من الفتنة، وما لي في الإمارة من راحة، ولكن قلدت أمرا عظيما ما لي به من طاقة ولا يد إلا بتقوية الله عز وجل، ولوددت أن أقوى الناس عليها مكاني»[22].
ولم يكن أبو بكر وحده الزاهد في أمر الخلافة والمسئولية بل إنها روح العصر[23].
ويتجلى لنا هذا الزهد أيضا في موقف عمر عندما علم بنية أبي بكر في استخلافه، حين دخل عليه عمر في أيام مرضه فعرفه أبو بكر بما عزم فأبى أن يقبل، فتهدده أبو بكر بالسيف، فما كان أمام عمر إلا أن يقبل[24].
وإذا علمنا أن هذا هو حال هؤلاء الصفوة بشأن الخلافة وعلمنا من جهة ثانية إجماع الأمة على صحة خلافة أبي بكر وعمر؛ جاز لنا أن نتساءل مستنكرين: أين تلك المؤامرات المزعومة؟! ثم أين نصيب أبي عبيدة من الخلافة لو كان ثمة مخططا ثلاثيا كما يزعمون؟
ثالثا. ما نسب إلى عائشة - رضي الله عنها - من تجسس على النبي صلى الله عليه وسلم، أو إفشاء الأسرار، إنما هو اتهام مزور لا نصيب له من الصحة:
وقد استشكل القوم بحادثتين؛ أما الأولى منهما فقد استمعت فيها عائشة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يتحدث مع عثمان - رضي الله عنه - ظنا منها أن عثمان جاء في أمر يخص النساء، فحملها على ذلك غيرتها على النبي - صلى الله عليه وسلم - وحبها له، وفي هذا الحادث نزعة غيرة واضحة من حديثها نفسه، وما هذه إلا تصرفات طبيعية لامرأة شابة تغار على زوجها، وهذا بعيد كل البعد عن الأهداف السياسية والتآمر لمصلحة أبيها كما يزعمون.
وأما الثانية فكانت عندما سألها أبو بكر الصديق عن سفر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أنكرت السيدة عائشة معرفتها بتوجه النبي صلى الله عليه وسلم، سواء علمت أم لم تعلم، وهذا فيه الدليل الكافي على دحض قول هؤلاء.
ضعف الحديث الأول:
وقد وردت الحادثة الأولى عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: «ما استمعت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا مرة؛ فإن عثمان جاء في نحر الظهيرة[25]، فظننت أنه جاءه في أمر النساء، فحملتني الغيرة على أن أصغيت إليه، فسمعته - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله - عز وجل - ملبسك قميصا تريدك أمتي على خلعه؛ فلا تخلعه". فلما رأيت عثمان يبذل لهم - أي الثوار - ما سألوه إلا خلعه علمت أنه من عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي عهده إليه»[26]، وفي هذه الحادثة دافع غيرة واضح من حديثها نفسه، وهي غيرة محمودة من زوجة محبة مخلصة. هذا إذا افترضنا صحة هذا الحديث، فما بالنا إذا علمنا أن هذا الحديث الذي يستندون إليه في دعواهم تلك ضعيف، ولا يصح أن يكون دليلا تقوم به حجة.
وأما الحادثة الثانية فقد جاء تفصيلها في كتب السنة على الوجه الآتي:
«دخل الصديق - رضي الله عنه - على عائشة وهي تغربل حنطة[27] - وقد أمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن تخفي ذلك - فقال لها أبو بكر: يا بنية، لـم تصنعين هذا الطعام؟ فسكتت، فقال: أيريد رسول الله أن يغزو؟ فصمتت، فقال: لعله يريد بني الأصفر؟ - أي الروم - فصمتت، فقال: لعله يريد أهل نجد؟ فصمتت، قال: لعله يريد قريشا؟ فصمتت، فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له الصديق: يا رسول الله، أتريد أن تخرج مخرجا؟ قال: "نعم"، قال: لعلك تريد بني الأصفر؟ قال: "لا"، قال: أتريد أهل نجد؟ قال: "لا"، قال: فلعلك تريد قريشا؟ قال: "نعم"، قال أبو بكر: يا رسول الله، أليس بينك وبينهم مدة؟ قال: "ألم يبلغك ما صنعوا ببني كعب»[28]؟
وهنا سلم أبو بكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - وجهز نفسه ليكون مع القائد في هذه المهمة الكبرى.
ومن هذه الرواية يثبت أن السيدة عائشة كانت أمينة على أسرار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكتمتها حتى عن أبيها، فلم تخبره بإرادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - السفر لفتح مكة، وصمتت ولم تجب عن أسئلة أبيها، وهكذا كان وفاؤها لزوجها صلى الله عليه وسلم، لم يعرف أنها أفشت له سرا طيلة حياتها، فأي وفاء أكثر من هذا؟! فقد عرف أبو بكر بأمر فتح مكة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا من عائشة، وهذا دليل على دحض قول المفترين في هذه الحادثة، فقد افتروا عليها كذبا.
أما الرواية التي استند إليها هؤلاء في زعمهم والتي جاء فيها «إذ دخل عليها أبوها، فوجدها تدبر جهاز الرسولصلى الله عليه وسلم، فقال: يا بنية، أمركم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تجهزوا؟ قالت: نعم، فتجهز، قال: فأين ترينه يريد؟ قالت: لا والله ما أدري».
هذه الرواية لم تذكر في أي من كتب السنة المطهرة، وإنما أوردها ابن هشام في سيرته، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فليس فيها ما يفهم منه التجسس، إذ كان لا بد للرسول - صلى الله عليه وسلم - من أن يخبر أهله عن تجهزه للسفر وقد أخبرهم فعلا بذلك لما حان الوقت، أما جوابها بأنه مسافر فذلك ما لا يحتاج إلى كبير عناء لمعرفته، إذ كانت كل الظروف التي رآها أبو بكر في منزل الرسول - صلى الله عليه وسلم - توحي بأنه يريد السفر، ولو أنها أخبرت أباها بالجهة المقصودة لكان ذلك ما يؤيد رأي هؤلاء.
أما وقد أنكرت معرفتها سواء علمت أم لم تعلم، ففيه الدليل الكافي على دحض قولهم[29]، وقد أكدت كتب السيرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخفى مقصده لفتح مكة إلا عن بعض خاصته كالصديق رضي الله عنه.
هذا وإن فضائل أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - كثيرة، كلها تؤكد أنها بعيدة كل البعد عما يدعونه، أو يفترونه عليها، ويكفيها فخرا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» [30].
فهل يظن بمن تختص بمثل هذا التكريم أن تتصف بالجاسوسية، والتآمر ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وكيف ذلك وقد كان رسول الله هو أحب خلق الله إليها، وقد كانت أحب خلق الله إليه؟! وذلك كما جاء في حديثه إلى عمرو بن العاص الذي سأله فيه: «أي الناس أحب إليك؟ فقال: "عائشة» [31]، وكانت تبادله الشعور نفسه، وما غيرتها عليه - صلى الله عليه وسلم - إلا مظهر من مظاهر هذا الحب فهل إذا غارت المرأة على زوجها توصم بأنها جاسوسة عليه متآمرة ضده؟ أم توصف بأنها شديدة الحب والإخلاص له؟!
الخلاصة:
· الثابت تاريخيا أن أبا بكر - رضي الله عنه - لم يفسخ خطبة جبير بن مطعم لعائشة، وإنما فسختها أم جبير حين خافت على ابنها أن يدخل الإسلام، فقامت بفسخ الخطبة.
· زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من عائشة - رضي الله عنها - كان عن رضا واقتناع بين الطرفين، وكذلك كان زواجه - صلى الله عليه وسلم - من حفصة بنت الفاروق تلقائيا دون تدبير سابق، وليس من أجل تحقيق مصلحة سياسية لما يسميه بعض المغرضين: الحكومة الثلاثية، وهو مصطلح فاسد دخيل على التاريخ الإسلامي.
· إننا لو صح لدينا أن أحدا سعى إلى مصاهرة النبي - صلى الله عليه وسلم - سعيا حثيثا دءوبا، لما كان ذلك منكرا ولا مستغربا، لما في مصاهرته - صلى الله عليه وسلم - من الشرف واتصال الأسباب الكريمة، لكن ما ذكرناه من تلقائية هاتين الزيجتين هو الحقيقة المجردة.
· كانت عائشة - رضي الله عنها - إبان زواجها بالنبي - صلى الله عليه وسلم - جارية حديثة السن غير ذات تجربة، ولا قدرة لها على التآمر السياسي وإقامة الأحلاف ونحو ذلك، فليس صحيحا أنها سعت بمعونة حفصة - رضي الله عنها - إلى تهيئة أمر الخلافة لأبيها أبي بكر.
· أجمعت الأمة على صحة خلافة أبي بكر وعمر وأحقية كل منهما بالخلافة، وقد كانا - رضي الله عنهما - زاهدين فيها معرضين عنها شأنهما في هذا شأن كل الصحابة؛ وهذا وحده كاف لنفي أية شبهة لتآمرهما أو احتيالهما لتوليها.
· ما نسب إلى عائشة - رضي الله عنها - من تجسس على النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن كذلك، بل كان غيرة منها عليه وحبا دفعها إلى متابعة حديثه مع عثمان - رضي الله عنه - ظنا منها أنه حديث يخص النساء، هذا بالإضافة إلى أن العلماء ضعفوا الحديث سندا، وبخصوص ما نسب إليها من إفشاء سر النبي - صلى الله عليه وسلم - حين عزم على فتح مكة فهو غير ثابت، وإنما الذي ثبت أنها لم تخبر أباها بسر النبي - صلى الله عليه وسلم - حين استعلم عن جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوته التي يعد لها.
· إن لعائشة - رضي الله عنها - من التكريم ما ينفي عن الأذهان احتمال عصيانها للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو خيانتها له وإفشائها سره، وقد ضربت المثل في الحب والوفاء والإخلاص للنبي صلى الله عليه وسلم.