اتهام زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم - السيدة عائشة بالوقوع في الفحشاء(*)
مضمون الشبهة:
يطعن بعض المفترين في طهارة زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم - السيدة عائشة - رضي الله عنها - معرضين بعفتها، زاعمين أنها انتهكت حرمة الزوجية وخانت النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الصحابي الجليل صفوان بن المعطل، ويستدلون على ذلك بأنها كانت - رضي الله عنها - زوجة رجل شيخ، ووجدت نفسها وحيدة في خلوة مع شاب، فهما أقرب للوقوع في الفاحشة، كما يزعمون أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد اتكأ على الوحي في ثماني عشرة آية من سورة النور لتبرئتها مما رميت به، ويتخذ المغالطون من تأخر الوحي في هذا الشأن بعدا آخر في التشكيك متسائلين لو كانت السيدة عائشة بريئة؛ فلماذا لم يبرئها الوحي في الحال؟! ويرمون من وراء ذلك إلى الطعن في عفة زوجاته - صلى الله عليه وسلم - وقذف إحداهن بما لا يليق في حق زوجة نبي.
وجوه إبطال الشبهة:
1) لقد كانت حادثة الإفك إحدى حلقات الابتلاء والإيذاء والمحن التي تعرض لها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته، وقد كانت محنة شديدة عليه صلى الله عليه وسلم، ولكنه تجاوزها بالصبر والحلم، والحكمة، والتثبت، حتى أظهر الله الحق وبرأ السيدة عائشة من فوق سبع سماوات.
2) إن نشأة السيدة عائشة بنت أبي بكر - رضي الله عنها - وسيرتها، ومكانتها في الإسلام عامة، وقدرها عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة، وكذلك سيرة صفوان بن المعطل وتقواه واجتهاده في طاعة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ينفي وقوعهما في الفاحشة التي يتورع عنها أي مسلم، فما بالك بهؤلاء الصفوة الأبرار.
3) الوحي الإلهي ليس شعورا نفسيا ينبثق من كيان النبي صلى الله عليه وسلم، كما أنه ليس خاضعا لإرادته - صلى الله عليه وسلم - أو أمنياته، ولو كان كذلك لكان من السهل عليه أن ينهي هذه المشكلة ويقضي على هذه الفرية ساعة مولدها؛ ولكنه - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل؛ لأن هذا مما لا حول له به ولا قوة.
التفصيل:
أولا. حادثة الإفك إحدى حلقات الابتلاء والإيذاء والمحن التي تعرض لها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته:
إن الابتـلاء والاختبـار مـن سنـة الله - عـز وجـل - في خلـقـه، لذلك قال سبـحـانه وتـعـالى: )الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور (2)( (الملك)، وقال سبـحـانه وتعـالى: )أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون (2) ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين (3)( (العنكبوت).
إذن فالابتلاء سنة الله - عز وجل - في العقائد والدعوات، فلا بد من البلاء، ولا بد من الأذى في الأموال والأنفس، والأرواح والأجساد، أما أن يفهم مناخ هذا الطريق على أنه روح وريحان، فهو تصور غير صحيح.
يقول الأستاذ سيد قطب: إنها سنة الله في الدعوات الكبيرة، لا بد من بلاء، ولا بد من أذى في النفس والأموال، ولا بد من صبر ومقاومة واعتزام، إنه الطريق إلى الجنة، وقد حفت[1] الجنة بالمكاره، بينما حفت النار بالشهوات[2].
وعلى هذا يجب أن نوقن يقينا كاملا بأن هذه الدنيا إنما هي دار بلاء واختبار، وليست دار راحة واستقرار[3].
والمؤمن - في الإطار العام - أكثر الناس بلاء، فقد «سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أي الناس أشد بلاء، فقال صلى الله عليه وسلم: الأنبياء، ثم الأمثل[4] فالأمثل» [5]، وقال أيضا: «ويبتلى العبد على قدر دينه»[6]، وهكذا نجد النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكثر الناس بلاء، فقد تعرض - صلى الله عليه وسلم - لصنوف الأذى، وابتلي بشتى أنواع الابتلاءات، وقد أصابه من أذى المشركين، ومن شر اليهود، ومن فساد المنافقين الشيء الكثير، فصبر واحتسب أمره عند الله سبحانه وتعالى.
ولعل من أعظم صور الابتلاءات التي ابتلي بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه أبو بكر وابنته عائشة - رضي الله عنهما - هو الطعن في عرض النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي شرف حبيبته الصديقة بنت الصديق حين رموها بالإفك؛ فاتهموها بصفوان بن المعطل السلمي، وذلك أنهم «لما دنوا من المدينة بعد العودة من المريسيع آذن - صلى الله عليه وسلم - ليلة بالرحيل، وكانت السيدة عائشة قد مضت لقضاء حاجتها حتى جاوزت الجيش، فلما قضت شأنها أقبلت إلى رحلها، فلمست صدرها فإذا عقد لها من جزع ظفار[7] قد انقطع، فرجعت تلتمس عقدها، فحبسها ابتغاؤه، فأقبل الرهط[8] الذين كانوا يرحلونها، فاحتملوا هودجها ظانين أنها فيه؛ لأن النساء كن إذ ذاك خفافا لم يغشهن[9] اللحم، فلم يستنكر القوم خفة الهودج، وكانت عائشة جارية حديثة السن، فجاءت منزل الجيش بعد أن وجدت عقدها، وليس بالمنزل[10] داع ولا مجيب، فغلبتها عيناها فنامت، وكان الذي يسير وراء الجيش يتفقد ضائعه صفوان بن المعطل، فأصبح عند منزلها فعرفها؛ لأنه كان رآها قبل الحجاب، فاسترجع[11]، فاستيقظت باسترجاعه وسترت وجهها بجلبابها، فأناخ راحلته وأركبها من غير أن يتكلما بكلمة، ثم انطلق يقود بها الراحلة حتى وصل الجيش وهو نازل للراحة، فقامت قيامة أهل الإفك، وقالوا ما قالوا في عائشة وصفوان، والذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي بن سلول.
ولما قدموا المدينة مرضت عائشة شهرا، والناس يفيضون[12] في قول الإفك، وهي لا تشعر بشيء، وكانت تعرف في رسول الله رقة إذا مرضت، فلم يعطها نصيبا منها في هذا المرض، بل كان يمر على باب الحجرة لا يزيد على قوله: "كيف حالكم"؟ مما جعلها في ريب عظيم، فلما نقهت[13] خرجت هي وأم مسطح بن أثاثة - أحد أهل الإفك - للتبرز خارج البيوت، فعثرت أم مسطح في مرطها[14] فقالت: تعس مسطح، فقالت عائشة: بئس ما قلت، أتسبين رجلا شهد بدرا؟ فقالت: يا هنتاه[15]، أولـم تسمعي ما قالوا؟ فسألتها عائشة عن ذلك، فأخبرتها الخبر، فازدادت مرضا على مرضها، ولما جاءها - صلى الله عليه وسلم - كعادته، استأذنته أن تمرض في بيت أبيها، فأذن لها، فسألت أمها عما يقول الناس، فقالت: يا بنية، هوني عليك، فوالله، لقلما كانت امرأة قط وضيئة[16] عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن[17] عليها، فقالت عائشة: سبحان الله، أوقد تحدث الناس بهذا؟ وبكت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ[18] لها دمع، ولا تكتحل بنوم[19]، وفي خلال ذلك كان - صلى الله عليه وسلم - يستشير كبار أهل بيته فيما يفعل، فقال له أسامة لما يعلمه من براءة عائشة: أهلك أهلك، ولا نعلم عليهم إلا خيرا، وقال علي بن أبي طالب: لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك، فدعا - صلى الله عليه وسلم - بريرة جارية عائشة، وقال لها: "هل رأيت من شيء يريبك"؟ فقالت: والذي بعثك بالحق، ما رأيت عليها أمرا قط أغمصه[20] غير أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجينها، فتأتي الداجن[21] فتأكله.
فقام - صلى الله عليه وسلم - من يومه وصعد المنبر والمسلمون مجتمعون وقال: "من يعذرني[22] من رجل قد بلغني أذاه في أهلي؟ والله، ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما يدخل على أهلي إلا معي". فقال سعد بن معاذ: أنا يا رسول الله أعذرك منه، فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة الخزرجي وقال: كذبت لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أنه يقتل، فقام أسيد بن حضير وقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله، لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين. وكادت تكون فتنة بين الأوس والخزرج لولا أن رسول الله نزل من فوق المنبر وخفضهم حتى سكتوا، أما عائشة فبقيت ليلتين لا يرقأ لها دمع، ولا تكتحل بنوم. وبينما هي مع أبويها إذ دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - فسلم ثم جلس فقال: "أما بعد، يا عائشة، إنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألـممت[23] بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف وتاب تاب الله عليه"، فتقلص[24] دمع عائشة، وقالت لأبويها: أجيبا رسول الله، فقالا: والله، ما ندري ما نقول، فقالت: إني والله لقد علمت أنكم سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم إني بريئة لا تصدقوني، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني، فوالله، لا أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف حيث قال: فصبر جميل، والله المستعان على ما تصفون.
ثم تحولت واضطجعت على فراشها، ولم يزاول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجلسه حتى نزلت عليه الآيات من سورة النور ببراءة السيدة المطهرة عائشة الصديقة:)إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم (11) لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين (12) لـولا جـاءوا عليه بأربعـة شهـداء فـإذ لم يـأتـوا بالشهـداء فـأولئـك عند الله هم الكـاذبـون (13) ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم (14) إذ تلقـونـه بـألسنتـكـم وتقـولون بأفـواهـكـم مـا ليس لـكـم بـه عـلـم وتحسبـونـه هينـا وهـو عند الله عـظيم (15) ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم (16) يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين (17) ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم (18) إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون (19) ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رءوف رحيم (20) يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم (21) ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم (22)( (النور) «[25] [26].
وهكذا يتبين لنا أن حادثة الإفك كانت حلقة فريدة من سلسلة الإيذاء والمحن التي لقيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أعداء الدين، وتلك هي طبيعة الشر الذي لا يصدر إلا من المنافقين وخبر الإفك صورة فريدة للأذى الذي اضطلع به هؤلاء المنافقون.
فكانت هذه القصة أبلغ من غيرها في إيذاء النبي - صلى الله عليه وسلم؛ لأن كل ما كان قد كابده[27] قبل ذلك من المحن أمور كان يتوقعها، وقد وطن نفسه لقبولها وتحملها، وليس التقاؤه بها في طريق الدعوة مفاجأة له، أما هذه فقد فوجئ بها؛ لأنها ليس مما اعتاده أو توقعه، إنها اليوم شيء آخر، إنها شائعة لا يدري أصحيحة هي أم باطلة، ولو صحت لكانت طعنة نجلاء في أخص ما يعتز به إنسان، أخص ما يتصف به: الشرف والكرامة من هنا كانت هذه الأذاة أبلغ في تأثيرها من كل ما عداها، لأنها جاءت لتلقي بشعوره النفساني في اضطراب مثير لا مناص منه.
ومع ذلك فلو أن الوحي سارع إلى كشف الحقيقة وفضح إفك المنافقين لكان في ذلك مخرج من هذا الاضطراب وهذه الشكوك المثيرة، ولكن الوحي تلبث أكثر من شهر لا يعلق على ذلك، فكان ذلك مصدرا آخر للقلق والشكوك.
ومع ذلك فإن محنة الإفك هذه، جاءت منطوية على حكمة إلهية استهدفت إبراز شخصية النبي - صلى الله عليه وسلم - وإظهارها صافية مميزة عن كل ما قد يلتبس بها، إن معنى النبوة في حياته - صلى الله عليه وسلم - كان من المحتمل أن يبقى مشوبا، في وهم بعض المؤمنين به والكافرين على السواء، لو لم تأت حادثة الإفك هذه لتهز شخصية النبي - صلى الله عليه وسلم - هزا قويا، يفصل إنسانيته العادية عن معنى النبوة الصافية فيه، ثم لتجلي معنى النبوة والوحي تجلية تامة أمام الأنظار والأفكار، حتى لا يبقى أي مجال للقياس بينه وبين أي معنى من المعاني النفسية أو الشعورية الأخرى.
لقد فاجأت هذه الشائعة سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في طور من إنسانيته العادية، يتصرف ويتأمل ويفكر كأي أحد من الناس ضمن حدود العصمة المعروفة للأنبياء والمرسلين، فاستقبلها كما يستقبل مثلها أي بشر عادي من الناس، ليس له اطلاع على غيب مكنون ولا ضمير مجهول، ولا على قصد ملفق كاذب، فاضطرب كما يضطربون وشك كما يشكون، وأخذ يقلب الرأي على وجوهه، ويستعين في ذلك بمشورة أولي الرأي من أصحابه[28].
وهكذا فلم يكن حديث الإفك إلا قصة من قصص الابتلاء العديدة، بالنسبة للرسول - صلى الله عليه وسلم - وكذلك بالنسبة لعائشة - رضي الله عنها - ومثلها لأبي بكر - رضي الله عنه - وكذلك لصفوان - رضي الله عنه - بل هو اختبار وابتلاء للمجتمع الإسلامي كله آنذاك.
فها هي عائشة - رضي الله عنها - محور القصة المأفوكة، يصيبها الهم والغم والحزن، وتمرض على مرضها؛ لأن المسألة في غاية الخطورة والصعوبة، إنها قصة تتعلق بأكرم ما تملكه المرأة، ألا وهو عرضها وشرفها، ويا لها من مسألة ابتلائية، تهز الأعصاب، وتؤرق الإنسان، وتقلقه، بل تهز كيانه كله هزا عنيفا، إنه الابتلاء.. الاختبار.. التمحيص.
وقل مثل ذلك في العائلة الكريمة، عائلة أبي بكر - رضي الله عنه - بأكملها؛ لأن المحنة أصابت الجميع، فها هو أبو بكر - رضي الله عنه - يقف أمام الحدث مهموما مغلوبا على أمره لا يدري ما يفعل، ولا ما يجيب، وكأنه يريد أن يقول: إنها محنة تجعل الحليم حيران، وفعلا كان كذلك، فهو الحكيم الحليم - رضي الله عنه - إلا أنه لما قالت له عائشة - رضي الله عنها -: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما كان منه إلا أن قال: "والله، ما ندري ما نقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم" فهذا يعني أنه كان في حال من الضيق والشدة والحيرة، لكنه مسلم أمره إلى الله عز وجل.
والرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الهدف من هذه الشائعة، إذ أرادوا بها النيل منه، ومن عرضه، وجرحه وإيلامه، ومحاولة إعاقته عن المهمة القائم بها، وظن أعداء الله - عز وجل - أنهم قد أصابوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مقتله، وبأن الذي فعلوه من تجريح سمعة عائشة - رضي الله عنها - سيقعده عما هو عليه من عمل.
وكانت محنة شديدة الوطأة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكنه تجاوزها بالصبر والحلم، والحكمة، والثبات، إلى أن ظهرت براءة الصديقة - رضي الله عنها - وخذل الله - عز وجل - من تولى كبر هذه الجريمة[29].
ثانيا. إن نشأة السيدة عائشة وكذلك سيرة صفوان بن المعطل وتقواه لينفيان وقوعهما - رضي الله عنهما - في هذه الفاحشة النكراء:
إن المرء ليعجب أشد العجب من هؤلاء الذين يقلبون الحقائق ويشوهون التاريخ بمزاعم لا تقوم إلا على الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا، وإن عجب المرء ليزداد حينما يحاول هؤلاء أن يشوهوا سيرة الحصان الرزان أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - والمتأمل في سيرتها - رضي الله عنها - يجدها صفحة مشرفة منذ مولدها حتى توفاها الله، يجد حياتها - رضي الله عنها - ناصعة البياض، ولا عجب في ذلك فهي الصديقة بنت الصديق، وأحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونحن إذا ألقينا الضوء على سيرتها العطرة - رضي الله عنها - تبين لكل ذي عقل استحالة أن تقع في هذه الفاحشة النكراء التي رماها بها المنافقون قديما وحديثا، ونسوق هنا شيئا من سيرتها:
نسبها وأسرتها: تنتسب أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - إلى أسرة أصيلة عريقة هي أسرة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - من قبيلة "تيم" العربية، وكانت لأسرة أبي بكر الصديق مكانة كبيرة قبل الإسلام، فهي من أكرم الأسر العربية وأعرقها، وبعد الإسلام تعد أسرة أبي بكر الصديق من السابقين إليه، وقد ورثت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - الكثير من عناصر الفخار التي تميزت بها قبيلتها، كما أنها ولدت ونشأت في بيت عامر بالإسلام والإيمان، مما كان له الأثر الكبير والطيب عليها[30].
وأبوها أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - اسمه عبد الله بن أبي قحافة، وكان - رضي الله عنه - أحب الرجال إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعزهم عليه، وكان - رضي الله عنه - أول من أسلم من الرجال، وأفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأمها هي أم رومان - رضي الله عنها - وقد أسلمت - رضي الله عنها - في مكة، وكانت من أوائل المسلمات، وبايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهاجرت مع أهل النبي - صلى الله عليه وسلم - وآل أبي بكر.
هذه هي أسرتها، أما عن سيرتها - رضي الله عنها - فيمكننا أن نتحدث عنها بإيجاز شديد في النقاط التالية، كما ذكرت صاحبة كتاب "السيدة عائشة وتوثيقها للسنة":
مولدها: ولدت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - بمكة من أبوين مسلمين، يدل على ذلك قولها: «لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين»[31].
وذكرت أنها لحقت بمكة سائس[32] الفيل شيخا أعمى يستعطي[33]، ولقد ولدت في السنة الرابعة للبعثة النبوية الشريفة، حيث خطبها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي بنت ست سنين، بعد مرور سنتين - وقيل: ثلاث - على موت خديجة - رضي الله عنها - والتي توفيت قبل الهجرة بثلاث سنوات، وبنى بها بالمدينة، وهي بنت تسع في شوال، منصرفه من بدر في السنة الثانية من مقدمه.
وأقامت في صحبته ثمانية أعوام وخمسة أشهر، وتوفـي - صلى الله عليه وسلم - وهي ابنة ثماني عشرة سنة.
نشأتها: نشأت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - في بيت عامر بالإيمان لأبوين مسلمين؛ فوالدها أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - أول من أسلم من الرجال، وبإسلامه أسلمت زوجته أم رومان وابنتاه أسماء وعائشة - رضي الله عنهما - وبذلك تعد عائشة من أوائل المسلمات.
وقد أرسلها أبوها إلى البادية، وعهد بها إلى من يقوم بتربيتها من عرب بني مخزوم، فنشأت على الفصاحة والبلاغة، والصفات العربية الأصيلة.
وكان للأسرة التي نشأت فيها عائشة - رضي الله عنها - مكانة كبيرة، وذلك لمكانة أبي بكر - رضي الله عنه - قبل الإسلام وبعده، فقد كان قبل الإسلام من فضلاء قومه وساداتهم، وقد عهد إليه بتسوية الدم وأداء المغارم والديات، وقد وصف ابن إسحاق هذه المكانة بقوله: "كان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - رجلا مؤلفا لقومه، محببا سهلا وكان أنسب قريش[34] لقريش، وأعلم قريش بها، وبما كان فيها من خير وشر".
وقال أيضا: "كان أبو بكر رجلا تاجرا، ذا خلق، ومعروف، وكان رجال قومه يألفونه، ويأتونه لغير واحد من الأمر، لعلمه، وتجارته، وحسن مجالسته".
وبعد الإسلام تحملت أسرة أبي بكر الكثير من المتاعب التي واجهت المسلمين في البداية، فها هو عائلها ينفق ماله في سبيل نشر الدعوة الإسلامية ومناصرة النبي - صلى الله عليه وسلم - بكل ما يملك، وقصة هجرته مع النبي - صلى الله عليه وسلم - هي أكبر دليل على بذل أبي بكر لماله في سبيل الله.
فأم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - ولدت في بيت عامر بالإسلام، فلم تعرف من أباطيل الشرك شيئا، مما أكسبها فكرا نقيا، وقلبا طاهرا مكنها من أن تكون عالمة ذات شأن في عصرها.
كما أنها نشأت في بيت ذي مكانة اجتماعية كبيرة قبل الإسلام وبعده، لمكانة أبي بكر الصديق، فنالت عائشة - رضي الله عنها - مكانة كبيرة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصارت أحب زوجاته إليه؛ لأنها ابنة أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
زواجها من النبي صلى الله عليه وسلم: بدأت قصة زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من عائشة - رضي الله عنها - بعد وفاة السيدة خديجة - رضي الله عنها - بسنتين تقريبا، فقد حزن النبي - صلى الله عليه وسلم - على خديجة حزنا شديدا، فبوفاتها فقد - صلى الله عليه وسلم - العون والنصير، فأراد الله - عز وجل - أن يهون عليه وأن يعوضه عنها خيرا، فأرسل الله - عز وجل - جبريل - عليه السلام - إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - يبشره بالزواج من عائشة - رضي الله عنها - ابنة صاحبه الوفـي، لتحقق له الاستقرار النفسي ليتفرغ لشئون الدعوة الإسلامية.
وتروي أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - هذه الرؤيا قائلة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أريتك في المنام ثلاث ليال، جاءني بك الملك في سرقة[35] من حرير، فيقول هذه امرأتك، فأكشف عن وجهك، فإذا أنت هي، فأقول: إن يك من الله يمضه»[36].
ولأن رؤيا الأنبياء حق ومن عند الله تأتي خولة بنت حكيم - امرأة عثمان بن مظعون - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لتعرض عليه أمر الزواج بعد وفاة خديجة - رضي الله عنها - بسنتين تقريبا، وتعرض عليه كلا من عائشة وسودة، فوافق النبي - رضي الله عنه - وطلب منها أن تخطبهما له. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا افتقدها قال: "واعروساه".
وقد أكسب هذا الحب عائشة - رضي الله عنها - الحظوة لدى النبي صلى الله عليه وسلم، مما مكنها من الوقوف على كثير من أمور الدين، وخاصة تلك التي تتعلق بعلاقة الرجل بزوجته في الإطار الإسلامي، حتى إنها صارت المرجع الأول الذي يرجع إليه الصحابة في ذلك، قال الزهري: "لو جمع لي علم عائشة وعلم جميع أمهات المؤمنين وعلم جميع النساء، لكان علم عائشة أفضل".
فعيشها في بيت خير خلق الله قد أضاف إلى مكانتها الاجتماعية التي نشأت عليها في بيت أبيها مكانة أسمى؛ لكونها زوجة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأما للمؤمنين، وتلقيها العلم غضا طريا من المعلم الأول النبي صلى الله عليه وسلم، فصارت عالمة بالقرآن والسنة المطهرة لدرجة أن كبار الصحابة كانوا يلجئون إليها لغزارة علمها وسعته.
وعلى الرغم من اختلاف مستوى المعيشة في بيت الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الحياة الرغدة في بيت أبيها، إلا أنها أدركت واقع معيشتها الجديدة وقبلتها وصبرت عليها، وعندما خيرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الحياة معه والدار الآخرة، وبين الدنيا ومتاعها اختارت الله ورسوله والدار الآخرة دون أدنى تردد.
كل ذلك ترك أثره في نفس عائشة - رضي الله عنها - فجعلها جوادة كريمة زاهدة في الدنيا ومتاعها، حتى ليراها ابن أختها عروة بن الزبير ذات يوم وهي تتصدق بسبعين ألفا، وإنها لترقع جيب درعها.
وبعث لها عبد الله بن الزبير بغرارتين[37] مملوءتين بالمال فيهما مائة ألف، فدعت بطبق وجعلت تقسم المال في الناس، وكانت صائمة في هذا اليوم، وعندما حان وقت إفطارها لم تجد ما تفطر عليه؛ لأنها نسيت أن تستبقي لنفسها درهما واحدا تشتري به طعاما لها.
مكانتها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهذه المكانة الاجتماعية التي تمتعت بها أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أضيفت إليها مكانة أكبر منها؛ لزواجها من النبي - صلى الله عليه وسلم - وانتقالها إلى بيت النبوة ومهبط الوحي، وكانت حينئذ لا تزال صغيرة السن تحب اللعب بالعرائس مع صويحباتها، فما كان منه - صلى الله عليه وسلم - إلا أن أفسح لها المجال للعب، ولم يحرمها من هذه المتعة، بل إنه كان يفرح بلعبها ويضحك حتى ترى نواجذه.
تقول في ذلك عائشة - رضي الله عنها -: «كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله إذا دخل ينقمعن[38] منه فيسربهن»[39] [40].
وفي رواية: «كنت ألعب بالبنات يوما فربما دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعندي الجواري، فإذا دخل خرجن، وإذا خرج دخلن» [41].
وكان - صلى الله عليه وسلم - دائما يحب أن يدخل الفرح والبهجة على قلبها، فيحملها على عاتقه - صلى الله عليه وسلم - لتشاهد الحبشة وهم يلعبون بالحراب في صحن المسجد، ويشاركها في اللعب، وتقول: «سابقني النبي - صلى الله عليه وسلم - فسبقته ما شاء حتى إذا أرهقني اللحم سابقني فسبقني، فقال: يا عائشة هذه بتلك» [42].
وحظيت عائشة - رضي الله عنها - بحب النبي - صلى الله عليه وسلم - فكانت أحب زوجاته إليه، وقد قال له عمرو بن العاص: «يا رسول الله، أي الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة"، قال: ومن الرجال؟ قال: "أبوها»[43]. وقد أثارت تلك المنزلة التي احتلتها عائشة - رضي الله عنها - غيرة زوجاته، فأرسلن ابنته فاطمة - رضي الله عنها - يطالبنه - صلى الله عليه وسلم - بأن تكون لهن مكانة عائشة، فقال لفاطمة: «يا بنية ألا تحبين ما أحب؟" قالت: بلى، فرجعت إليهن فأخبرتهن». وقال - صلى الله عليه وسلم - لأم سلمة: «لا تؤذيني في عائشة، فإن الوحي لم يأتني وأنا في لحاف امرأة إلا عائشة». وكان يقول - صلى الله عليه وسلم - لهن أيضا: «إنها ابنة أبي بكر» [44] [45].
فضائلها: فضائل أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - كثيرة، ويكفيها فخرا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» [46].
ومن هذه الفضائل على سبيل الإجمال:
· نزول براءتها من السماء في قصة حادث الإفك في ست عشرة آية متوالية.
· «نزول جبريل - عليه السلام - بصورتها من السماء في خرقة من حرير إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: هذه زوجتك، فيكشف عن وجهها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقول: "إن يك هذا من عند الله يمضه» [47].
· تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكرا، ولم يتزوج بكرا غيرها.
· كانت أول من خيرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الحياة الدنيا وزينتها وبين الله ورسوله، فاختارت الله ورسوله على الفور.
· كانت أحب أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه.
· اختياره - صلى الله عليه وسلم - أن يمرض في بيتها.
· اجتماع ريقه - صلى الله عليه وسلم - وريقها في آخر أنفاسه.
· قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين سحرها[48] ونحرها[49].
· وفاته - صلى الله عليه وسلم - في يومها.
· دفنه - صلى الله عليه وسلم - في بيتها.
· لم ينزل الوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في لحاف امرأة من نسائه غيرها.
· رؤيتها لجبريل - عليه السلام - في صورة دحية الكلبي وسلم عليها.
· كان أبوها أحب الرجال إليه - صلى الله عليه وسلم - وأعزهم عليه.
· أن أباها أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
· لم ينكح النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة أبواها مهاجران - بلا خلاف - غيرها.
· كان الناس يتصدقون في هداياهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عائشة لعلمهم بمسرته بذلك.
· نزلت بسببها آية التيمم.
· لم ينزل بها أمر إلا جعل الله لها منه مخرجا وللمسلمين بركة.
· كفر قاذفها بصريح القرآن الكريم في الآيات التي نزلت ببراءتها.
· وجوب محبتها على كل أحد.
· أن الأكابر من الصحابة كانوا إذا أشكل عليهم الأمر في الدين استفتوها فيجدون علمه عندها.
· لم تروعن النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة أكثر منها.
· أنها كانت تغضب فيترضاها صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت هذا لغيرها.
· كان يتبع - صلى الله عليه وسلم - رضاها، كلعبها باللعب وقيامه لها لتنظر إلى الحبشة يلعبون.
· كان - صلى الله عليه وسلم - يقبلها وهو صائم، وتقول عنه: كان أملككم لإربه.
· كان إذا افتقدها تسمعه يناديها بـ "واعروساه".
· كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يناجي ربه في حبها، ويقول: «اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» [50] [51].
فهذه هي السيدة عائشة حبيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذه سيرتها لا يشوبها أي كدر، وهذه حياتها، حياة مملوءة بالتقوى، والورع، والابتعاد عن مواطن الشبهات، وتلك مكانتها عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي مكانة لم تحتلها غيرها من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - حاشا خديجة.
أما محبتها للنبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاؤها له، فلا يحتاج إلى شواهد، ويكفي في ذلك غيرتها - رضي الله عنها - الشديدة عليه حتى من زوجته خديجة التي توفيت، بمجرد أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يثني عليها خيرا، فهل من المنطقي أن من تحب زوجها وتعجب به ذلك الإعجاب الشديد تبدله بمن هو أقل منه منزلة، خاصة بعد أن نالت من زوجها كل هذا الحب، وهذا التقدير الذي ليس في إمكان أحد أن يعطيه لها؟!! قد يقول بعضهم: إنها افتتنت بشباب صفوان، ولكن هل هذا السبب من القوة بحيث يجعلها تتنازل عن عقيدتها الدينية، وطبيعتها الشريفة، وطبائعها العربية، ومكانة أسرتها، ومكانتها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنساق مع رغبة طارئة وهي العفيفة النقية الطاهرة؟
هل تهدم كل ذلك الكيان الضخم الذي امتلأت به نفسها من الإيمان والإسلام، وفي الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الشباب والحيوية والنضارة ما يوازي شباب الدنيا كلها، فما أكثر الشباب في سنهم وهم شيوخ في قلوبهم وعواطفهم وحيويتهم[52]؟
لا شك أن امرأة مثل عائشة - رضي الله عنها - لا يمكن أن تقع في مثل هذا الفعل الشنيع، كما أن زوجا كالنبي - صلى الله عليه وسلم - فيه صفات لا تستطيع أي زوجة إلا أن ترتبط به أشد الارتباط، وأن تخلص له كل الإخلاص، فما بالنا إذا كانت هذه الزوجة بمواصفات عائشة بنت أبي بكر، الصديقة بنت الصديق.
هذا من جانب؛ ومن جانب آخر فإن سيرة صفوان بن المعطل خير شاهد على أنه يستحيل أن يرتكب مثل هذه الجريمة، مع أي مسلمة فما بالنا بزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وابنة أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
"فهو صفوان بن المعطل - رضي الله عنه - السلمي الذكواني - نسبة إلى ذكوان - بن ثعلبة بن بهثة سليم، وذكوان بطن من بني سليم، وكان صحابيا فاضلا، أول مشاهده عند الواقدي الخندق، وعند ابن الكلبي المريسيع، وهناك ما يدل على تقدم إسلامه، وأنه قتل شهيدا في سبيل الله تعالى، وقد ذكر ابن إسحاق أنه استشهد في غزاة أرمينية في خلافة عمر - رضي الله عنه - سنة تسع عشرة، وقيل: بل عاش إلى سنة أربع وخمسين فاستشهد بأرض الروم في خلافة معاوية رضي الله عنه.
أما عن سبب تأخر صفوان بن المعطل عن الجيش، فقد ورد ما يفيد أن سبب ذلك أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعله على الساقة، فكان إذا رحل الناس، يتبعهم فمن سقط منه شيء أتاه به، مثل القدح والإداوة وما شاكل ذلك" [53].
وبعد حادثة الإفك تبدت بعض فضائل صفوان بن المعطل ويمكننا توضيحها كالآتي:
· شهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - بما شهد له من قوله: «ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي». فهذه الشهادة من النبي - صلى الله عليه وسلم - لصفوان توزن بكل ما طلعت عليه الشمس، وتسطر بصحائف من نور، وتكتب بماء الذهب في حق هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه.
· استرجاعه: أي قوله لما رآها: "إنا لله وإنا إليه راجعون". قال ابن حجر: قوله: فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، أي: بقوله: "إنا لله وإنا إليه راجعون"، وصرح بها ابن إسحاق في روايته، وكأنه شق عليه ما جرى لعائشة، أو خشي أن يقع ما وقع، أو أنه اكتفى بالاسترجاع رفعا بها صوته عن مخاطبتها بكلام آخر، صيانة لها عن المخاطبة في الجملة، وقد كان في هذا أمران:
الأول: هذا يدلك على فطنة صفوان - رضي الله عنه - وحسن أدبه، وهذا مثال المرء المسلم.
الثاني: شعور المسلم بشعور غيره من المسلمين، وفي هذا قتل لروح الأنا، انطلاقا إلى فسحة الإيثار والأخوة الإسلامية؛ لأنهم كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
· عفته رضي الله عنه: وبرز في هذا الحديث من خلال قول عائشة - رضي الله عنها -: «والله، إن الرجل الذي قيل له ما قيل ليقول: سبحان الله، فوالذي نفسي بيده، ما كشفت عن كنف أنثى قط» [54]، أي: أنه لم يزن بامرأة قط.
· حسن أدبه مع المرأة الأجنبية، وغض بصره: قالت عائشة - رضي الله عنها - عنه: «والله ما كلمني كلمة»، وفي هذا: "حسن الأدب مع الأجنبيات لا سيما في الخلوة بهن عند الضرورة في البرية، أو غيرها، كما فعل صفوان من إبراكه الجمل من غير كلام، ولا سؤال، وإنه ينبغي أن يمشي قدامها لا بجنبها، ولا وراءها".
فائدة: قال ابن حجر: "وقد فهم كثير من الشراح أنها أرادت بهذه العبارة نفي المكالمة ألبتة، فقالوا: استعمل معها الصمت، اكتفاء بقرائن الحال، مبالغة منه في الأدب، وإعظاما لها وإجلالا" [55].
ودليل ذلك ما رواه عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: «فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت[56] وجهي بجلبابي، ووالله، ما تكلمنا بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، وهوى حتى أناخ راحلته فوطئ على يدها فقمت إليها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش» [57].
وهذا الأدب من صفوان - رضي الله عنه - إنما منبعه تلك التربية الربانية التي تلقاها من كتاب الله - عز وجل - ومن هدي النبي صلى الله عليه وسلم. قال الله سبحانه وتعالى: )إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا (36)( (الإسراء)، وقـال سبـحـانـه وتـعـالى: )يـعـلـم خـائنـة الأعـين ومـا تخـفي الصـدور (19)( (غافر)، وقال سبحانه وتعالى: )إن ربك لبالمرصاد (14)( (الفجر) [58].
· خلق الإيثار: ومما يدلل على فضل صفوان - رضي الله عنه - ذلك الخلق العظيم، خلق الإيثار. واستنبط النووي منه حكما فقال: "استحباب الإيثار بالركوب، ونحوه كما فعل صفوان".
وخلق الإيثار لا يتصف به إلا من كمل إيمانه؛ لأنه صار يحب لأخيه ما يحبه لنفسه، بل ذهب إلى أبعد من هذا، إذ آثر أخاه بما تحبه نفسه، وتميل إليه.
لذلك مدح الله قوما يتصفون بهذه الصفة فقال: )ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة( (الحشر: 9)، وقال سبحانه وتعالى: )ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا (8)( (الإنسان).
· خلق التعاون، ومساعدة الآخرين: وهذا ما ظهر جليا من تصرف صفوان - رضي الله عنه - مع عائشة - رضي الله عنها - إذ إنه أعانها وهي ملهوفة، وأغاثها وهي منقطعة، وأنقذها إذ هي ضائعة.
وهذا الأمر العظيم جدير أن يجعل من ميزات وفضائل المرء إذا ما فعله؛ لأنه يعبر عن صلاحه، وعن حبه للآخرين؛ إذ إن مثل هذه الأمور من الواجبات الكفائية، التي إذا ما قام بها البعض، سقط الإثم عن الباقين، كما أن مثل هذه الأمور من حقوق الأخوة الإسلامية، قال الله سبحانه وتعالى: )وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب (2)( (المائدة) [59].
ومما سبق يتبين لنا أن سيرة الصحابي الجليل صفوان بن المعطل - رضي الله عنه - سيرة نقية لا تستدعي الشك في أخلاقه - رضي الله عنه - فلم يعرف عنه سوء قط، وكان رجلا مؤمنا بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ودعوته وغيورا على الإسلام، فجاهد وحضر كثيرا من الغزوات ومات شهيدا في الدفاع عن الإسلام ونشر دعوته.
فليس من المعقول - وهو بهذه الصفات والأخلاق - أن يتجرأ على زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وبنت الصديق، التي كان أبوها يحمل راية المهاجرين في غزوة بني المصطلق، التي حدثت فيها هذه الحادثة.
وما كانت نفسه لتسمح له بمجرد التفكير فيها بسوء، حتى ولو سمحت نفسه بذلك - وهو شيء لم يكن - فإن مهابة السيدة عائشة ومكانتها من الرسول - صلى الله عليه وسلم - لتحول دون ذلك.
ثم إننا في النهاية نود أن نسأل هؤلاء الأذكياء الذين يرمون أم المؤمنين عائشة بالفاحشة مع صفوان بن المعطل، لو أرادت عائشة - رضي الله عنها - أن تفعل أي شيء مع صفوان بن المعطل السلمي، هل كان يتم ذلك بجوار معسكر الرسول صلى الله عليه وسلم، وجميع الصحابة موجودون، والجيش الإسلامي موجود، ويمكن أن يراهما بعض هؤلاء؟ ثم هل يمكن أن يحدث أي شيء بين عائشة وصفوان، ثم يدخل معها المدينة وسط النهار، والشمس ساطعة، والكل يراها وهي تركب على ظهر البعير، وصفوان يقود البعير ويسير على قدمه أمام كل الناس في المدينة حتى تدخل منزلها، وهو منزل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثم بعد ذلك ينصرف صفوان بن المعطل إلى منزله؟ أم أن الأقرب للعقل أن لو كان حدث شيء ما بين عائشة وصفوان لكانت عائشة تدخل المدينة وحدها، وصفوان يدخل المدينة من مكان آخر وبعد مدة من دخول عائشة للمدينة، أما أن يوصلها صفوان بنفسه إلى منزل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في وضح النهار أمام كل أهالي المدينة فذلك أكبر دليل على براءة السيدة عائشة[60].
ثالثا. لم يكن الوحي الإلهي شعورا ينبثق من كيان النبي صلى الله عليه وسلم، خاضعا لإرادته:
لما أرجف المنافقون بحديث الإفك في حق عائشة - رضي الله عنها - أبطأ الوحي، وطال الأمر والناس يخوضون، حتى بلغت القلوب الحناجر، وهو - صلى الله عليه وسلم - لا يستطيع إلا أن يقول بكل تحفظ واحتراس: «إني لا أعلم عنها إلا خيرا»، ثم إنه بعد أن بذل جهده في التحري والسؤال واستشارة الأصحاب، ومضى شهر بأكمله والكل يقول: ما علمنا عليها من سوء، لم يزد على أن قال لها آخر الأمر: «يا عائشة، أما إنه بلغني كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله»[61].
فهذا كلامه بوحي ضميره، وهو كما نرى كلام البشر الذي لا يعلم الغيب، وكلام الصديق المتثبت الذي لا يتبع الظن، ولا يقول ما ليس له به علم، على أنه لم يغادر مكانه بعد أن قال هذه الكلمات حتى نزل صدر سورة النور معلنا براءتها، ومصدرا الحكم المبرم بشرفها، وطهارتها.
فماذا كان يمنعه - صلى الله عليه وسلم - لو أن أمر القرآن إليه - أن يصدر هذه الكلمة الحاسمة من قبل ليحمي بها عرضه، ويذب بها عن عرينه، وينسبـهـا إلى الـوحـي السمـاوي لتنقـطـع ألسنـة المتـخـرصين، ولكنـه ما كان ليذر الكـذب على الناس ويكـذب على الله: )ولو تقول علينا بعض الأقاويل (44) لأخذنا منه باليمين (45) ثم لقطعنا منه الوتين (46) فما منكم من أحد عنه حاجزين (47)( (الحاقة) [62].
ولقد كانت السيدة عائشة - رضي الله عنها - أول من تجلت لها الحقائق، حتى ذهبت في توحيدها وعبوديتها لله وحده مذهبا أنساها ما سواه ومن سواه؛ فلذلك أجابت أمها حين طلبت إليها أن تقوم فتشكر النبي - صلى الله عليه وسلم - قائلة: «لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي» [63].
هذا الكلام من السيدة عائشة قد يبدو وكأن فيه شيئا من عدم اللياقة تجاه النبي - صلى الله عليه وسلم - غير أن الظروف والحالة، هما اللذان أمليا عليها هذا الكلام، فهي إنما انساقت بوحي الحالة التي كونتها الحكمة الإلهية تثبيتا لعقيدة المؤمنين وقطعا لإفك المنافقين الملحدين، وإظهارا لمعنى التوحيد والعبودية الشاملة لله وحده[64].
فبراءة السيدة عائشة - رضي الله عنها - أصبحت قرآنا يتلى، يتحدى الإنس والجن إلى قيام الساعة، وهذا هو دأب أعداء الفضيلة، ليس مع نبينا فقط، بل ومع أنبيائهم، وكل من يدعو إلى فضيلة وينهى عن رذيلة سوف يناله منهم أذى كثير؛ وهذا ما أخبرنا به القرآن الكريم في قوله عز وجل: )لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور (186)( (آل عمران).
فالأذى لا ينتهي، وسخافاتهم لا تتوقف، وهم لا يملون من تكرار وقاحتهم، وقد شاء ربك أن يتكفل بالرد عليهم، فأنزل براءة عائشة في آيات قرآنية، ثم تحداهم بتلك الآيات، ولا يزال التحدي قائما، ومن الغريب أن القرآن الكريم اعتبر الطعن في أم المؤمنين عائشة خيرا للمسلمين، وقد اتضح لنا ذلك عندما شاهدنا من خلف حفنة المنافقين طوابير لا تنتهي من المنصرين، فلتحسم المسألة بكلمة ربك صدقا وعدلا، ولتكن براءة أم المؤمنين في قرآن يتلى يتحدى المفترين، ويتعبد به المسلم لله رب العالمين.
فقضية الافتراء الكبرى على أم المؤمنين قد حسمها الله - عز وجل - من فوق سبع سماوات[65]، وهذه منقبة عظيمة لعائشة - رضي الله عنها -.
وقد برأ الله أربعة بأربعة؛ برأ يوسف بلسان الشاهد: )وشهد شاهد من أهلها( (يوسف: 26)، وبرأ موسى من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه، وبرأ مريم بإنطاق ولدها حين نادى من حجرها، وهذا ما حكاه القرآن على لسان عيسى عليه السلام: )قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا (30)( (مريم)، وبرأ عائشة بهذه الآيات العظام في كتابه المعجز المتلو على وجه الدهر هذه التبرئة بهذه المبالغات.
فانظر كم بينها وبين تبرئة أولئك، وما ذلك إلا لإظهار علو منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليتأمل كيف غضب الله له في حرمته، وكيف بالغ في نفي التهمة عن حجابه[66].
وفي النهاية فإننا لا نملك إلا أن نعتذر لأم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - الحصان الرزان، الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله، وزوجته في الدنيا والآخرة، عما قاله هؤلاء المنافقون وأذنابهم، في كل زمان ومكان، كما اعتذر لها حسان بن ثابت - رضي الله عنه - بهذه الأبيات ويمدحها بما هي أهله:
حصان[67] رزان[68] ما تزن[69] بريبة
وتصبح غرثى[70] من لـحوم الغوافل[71]
عقيلة[72] حي من لؤي بن غالب
كرام المساعي مجدهم غير زائل
مهذبة قد طيب الله خيمها[73]
وطهرها من كل سوء وباطل
حليلة[74] خير الخلق دينا ومنصبا
نبي الهدى والمكرمات الفواضل
رأيتك - وليغفر لـي الله – حرة
من المحصنات غير ذات غوائل[75]
وإن الذي قد قيل ليس بلائق
بك الدهر بل قول امرئ متناحل[76]