دعوى أن عدم الإتيان بالآباء الموتى دليل على كذب الرسل(*)
مضمون الشبهة:
ينكر المشركون البعث والمعاد والحياة بعد الممات ويقولون: لا بعث ولا نشور ويحتجون بآبائهم الماضين الذين ماتوا ولم يرجعوا، فإن كان البعث حقا، فليأت الرسل والأنبياء بالآباء حتى نصدقهم فيما جاءوا به. يقول تعالى: )وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين (25)( (الجاثية).
وجوه إبطال الشبهة:
1) إن البعث بعد الموت لا يكون في هذه الحياة الدنيا، إنما هو يوم القيامة، بعد انقضاء الدنيا وفراغها.
2) إن اعتراض المشركين على البعث بعد الموت لا يقوم على حجة أصلا، بل هو مجرد سفسطة أشبه بالبهتان.
3) الله هو المحيى وهو الذي خلق الناس من عدم، وهو القادر على البعث والإعادة بطريق الأولى.
التفصيل:
أولا. البعث والمعاد يكونان يوم القيامة، لا في الدار الدنيا:
إن لهؤلاء المشركين في نفي الحياة بعد الموت أفانين من أقوال الجحود، وهم هنا ينفون البعث بحجة أن الأموات السابقين لم يرجع أحد منهم إلى الحياة، وهو سفسطة منهم؛ لأن البعث الموعود به لا يحصل في الحياة الدنيا[1].
قال ابن كثير: وهذه حجة باطلة وشبهة فاسدة، فإن المعاد إنما هو يوم القيامة، لا في دار الدنيا، بل بعد انقضائها وذهابها وفراغها، يعيد العالمين خلقا جديدا، ويجعل الظالمين لنار جهنم وقودا.
ولقد أنذرهم - سبحانه وتعالى - بأسه الذي لا يرد كما حل بأشبهاههم من المشركين بقوله سبحانه وتعالى: )أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين (37)( (الدخان) [2].
أي: هم ليسوا خيرا من قوم تبع والأمم المكذبة بالبعث والساعة من قبل وقد كانوا أشد منهم قوة وأكثر جمعا، فلما لجوا في طغيانهم أهلكهم الله، وإن مصير هؤلاء المشركين - إذا ما استمروا في عنادهم - سيكون كمصير قوم تبع[3].
ثانيا. اعتراض المشركين على البعث مجرد سفسطة أشبه بالبهتان:
وهذا القول من المشركين والمنكرين للبعث من أضعف الحجج، بل ليس فيه حجة على الإطلاق، يقول الزمخشري: فإن قلت: لم سمي قولهم: "حجة"، وهو ليس بحجة؟ قلت: لأنهم أدلوا به كما يدلي المحتج بحجته، وساقوه مساقها، فسميت "حجة" على سبيل التهكم، أو لأنها في حسبانهم وتقديرهم حجة.
فبان مما سبق أن هذا ليس بحجة وإنما هو منهم سفسطة وشنشنة.
بل هذا تسجيل عليهم بالتلجلج عن الحجة البينة واللجوء إلى سلاح العاجز المكابر، والخروج عن دائرة البحث ومحل النزاع ولب القضية.
ثالثا. الله تعالى هو الذي بدأ الخلق وهو القادر على إعادته:
ثم يقيم القرآن الحجة عليهم عن طريق القياس العقلي فيقول لهم: لقد كنتم أمواتا فأحياكم الله وأخرجكم من العدم إلى الوجود، والذي قدر على البداءة يقدر على الإعادة بطريق الأولى والأحرى؛ فقال سبحانه وتعالى: )قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون (26)( (الجاثية)، وقال سبحانه وتعالى: )كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون (28)( (البقرة). وقال - سبحانه وتعالى - أيضا: )وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه( (الروم: 27)، وهو إنما يجمعكم إلى يوم القيامة لا يعيدكم في الدنيا حتى تقولوا: )فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين (36)( (الدخان).
وقد ورد في سبب نزول هذه الآية من سورة الدخان أن أبا جهل قال: يا محمد إن كنت صادقا في قولك فابعث لنا رجلين من آبائنا أحدهما قصي بن كلاب؛ فإنه كان رجلا صادقا لنسأله عما يكون بعد الموت.
وهذا القول من أبي جهل من أضعف الشبهات أيضا؛ لأن الإعادة إنما هي للجزاء لا للتكليف، فكأنه قال: إن كنت صادقا في إعادتهم للجزاء فأعدهم للتكليف، وهو كقول من قال: إن كان ينشأ بعدنا قوم من الأبناء فلم لا يرجع من مضى من الآباء؟!
فلما أنكروا البعث وكذبوا الرسل وحسبوا أن ما قالوه قول مبكت ألزموا ما هم مقرون به من أن الله - عز وجل - هو الذي يحييهم ثم يميتهم وضم إلى إلزام ذلك إلزام ما هو واجب الإقرار به إن أنصفوا وأصغوا إلى داعي الحق وهو جمعهم إلى يوم القيامة، ومن كان قادرا على ذلك كان قادرا على الإتيان بآبائهم، وكان أهون شيء عليه.
الخلاصة:
· إنكار البعث بعد الموت بحجة عدم رجوع أحد من الأموات السابقين، هو شبهة فاسدة؛ لأن البعث بعد الموت لا يكون إلا يوم القيامة بعد انقضاء الدنيا وفراغها.
· إن كلام المشركين في إنكار البعث ليس له حجة أصلا، بل هو مجرد تعنت واستهزاء وسفسطة وبهتان، وإنما سمى الله قولهم حجة تهكما واستهزاء بهم.
· لقد رد القرآن الكريم على هؤلاء المشركين بالحجة الدامغة والبرهان العقلي، فإذا كان الله تعالى قد خلق الناس من عدم، فهو قادر على إعادة الخلق بطريق الأولى والأحرى.
(*) الآيت