تعليق الإيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى يأتي بقربان تأكله النار (*)
مضمون الشبهة:
يزعم اليهود أن الله عهد إليهم في كتبهم ألا يؤمنوا لرسول حتى يكون من معجزاته أن يأتي بقربان يتقرب به إلى الله، فتنزل نار من السماء تأكل هذا القربان، قال عز وجل: )الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار( (آل عمران: ١٨٣).
وجها إبطال الشبهة:
1) زعم اليهود باطل؛ لأن كون الإتيان بقربان تأكله النار وإن كان معجزة لبعض الرسل؛ فهذا لا يستلزم أن يكون معجزة لكل رسول.
2) لقد جاء الكثير من الأنبياء بالمعجزات والبراهين التي طلبها اليهود، وعلى الرغم من هذا لم يؤمنوا بهم، بل كذبوا بعضهم وقتلوا بعضهم الآخر.
التفصيل:
أولا. الإتيان بقربان تأكله النار وإن كان معجزة لبعض الرسل، فهذا لا يستلزم أن يكون معجزة لكل رسول:
لقد ذكر جماعة من المفسرين أن بعض اليهود منهم: كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازوراء، وحيي بن أحطب، وغيرهم، أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالوا له هذا القول، وهو: )إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار( (آل عمران:١٨٣).
والقربان: هو ما يتقرب به إلى الله من نعم أو غير ذلك، ومقصدهم من وراء هذا القول الذي حكاه القرآن عنهم أن يظهروا أمام الناس بمظهر المحافظين على عهود الله. وأنهم ما تركوا الإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - حسدا له، وإنما تركوا الإيمان به؛ لأنه لم يأت بالمعجزات التي أتى بها الأنبياء السابقون، فهم معذورون إذا لم يؤمنوا به؛ لأنه ليس نبيا صادقا في زعمهم.
ولا شك أن قولهم هذا ظاهر البطلان، لأن الإتيان بالقربان إذا كان معجزة لرسول لا يستلزم أن يكون معجزة لكل رسول، إذ إن آيات الله في إثبات رسالات رسله متعددة النواحي، مختلفة المناهج، وكون هذا الإتيان بالقربان الذي تأكله النار معجزة لبعض الرسل لا يستدعي أن يكون معجزة لجميعهم[1].
وقد حصل هذا في زمن موسى - عليه السلام - حين ذبح أول قربان على النحو الذي شرعه الله لبني إسرائيل، فخرجت نار من عند الرب فأحرقته، إلا أنها معجزة لا تطرد لسائر الأنبياء كما زعمه اليهود؛ لأن معجزات الرسل تجيء على ما يناسب تصديق الأمة، وفي الحديث: «ما من الأنبياء نبي إلا أعطى ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة»[2] [3].
ثانيا. إنكار القرآن عليهم قتلهم الأنبياء الذين جاءوهم بما طلبوا:
لقد رد القرآن الكريم على هؤلاء اليهود بما يبطل زعمهم هذا فقال: )قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين (183)( (آل عمران).
أي: قل لهم يا محمد )قد جاءكم رسل من قبلي( كثير عددهم )بالبينات(، أي: بالحجج الواضحة، وبالمعجزات الساطعة الدالة على صدقهم )وبالذي قلتم(، أي: وجاءكم هؤلاء الرسل بالقربان الذي تأكله النار )فلم قتلتموهم( بعد أن جاءوكم بتلك المعجزات الباهرة )إن كنتم صادقين( في دعواكم أنكم تتبعون الحق، وتطيعون الرسل متى أتوكم بما يشهد بصدقهم؟
فالجملة الكريمة ترد على هؤلاء اليهود بأبلغ الوجوه التي تثبت كذبهم فيما يدعون، لأن قتلهم للأنبياء بعد أن جاءوهم بالمعجزات الواضحة الدالة على صدقهم دليل على أن هؤلاء اليهود قد بلغوا منتهى الجحود والظلم والعدوان، وأن دعواهم أن إيمانهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - متوقف على مجيئه بالقربان الذي تأكله النار دعوة كاذبة؛ لأن من جاءهم بالقربان كان جزاؤه القتل منهم.
ويؤكد هذا قول الفخر الرازي: "وقد بين الله بهذه الدلائل أنهم لا يطلبون هذه المعجزة على سبيل الاسترشاد، وإنما على سبيل التعنت؛ وذلك لأن أسلافهم طلبوا هذه المعجزة من الأنبياء المتقدمين؛ مثل: زكريا ويحيى وعيسى، فلما أظهروا لهم هذا المعجزة سعوا في قتلهم بعد أن قابلوهم بالتكذيب والمخالفة والمعاندة، وذلك يدل على أن مطالبهم كانت على سبيل التعنت، إذ لو لم يكن الأمر كذلك لما سعوا في قتلهم، ومتأخرو اليهود راضون بفعل متقدميهم. وهذا يقتضي كونهم متعنتين - أيضا - في مطالبهم. ولهذا لم يجبهم الله فيها"[4].
الخلاصة:
· لقد أراد اليهود أن يتملصوا من الإيمان بصدق محمد - صلى الله عليه وسلم - بحجة أنه لم يأتهم بالمعجزات التي جاء بها الأنبياء السابقون كالإتيان بقربان تأكله النار، وقولهم هذا باطل؛ لأن الإتيان بالقربان إذا كان معجزة لرسول لا يستلزم أن يكون معجزة لكل رسول.
· قد رد الله عليهم شبهتهم هذه بأن الرسل جاءوهم من قبل بالبينات والحجج والبراهين الواضحة، فلم قتلوهم وقابلوهم بالتكذيب والمخالفة والمعاندة إن كانوا حقا يتبعون الحق وينقادون للرسل؟
(*) الآي