دعوى أن الأولاد يجلبون الفقر والإملاق على آبائهم(*)
مضمون الشبهة:
ادعى أهل الجاهلية أن الأولاد هم سبب الفقر والإملاق الذي يعيش فيه الآباء، مما يدفعهم إلى التخلص من هؤلاء الأولاد إما بالقتل المباشر للذكور، أو الوأد للبنات[1] في التراب حتى الموت، قال تعالى: )ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون (151)( (الأنعام)، وقوله تعالى: )ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم( (الإسراء: ٣١).
وجها إبطال الشبهة:
1) المولى - عز وجل - هو المتكفل بالرزق لجميع خلقه، ومسبب الأسباب التي بمجرد الأخذ بها يتحصل الرزق، فلا مجال إذن لجعل الفقر أو حتى خشيته ذريعة لقتل الأولاد.
2) السبب الحقيقي لقتل هؤلاء الجاهليين أولادهم هو تزيين الشيطان لهم ذلك؛ خشية الفقر فضلا عن سفه هؤلاء وقصور عقولهم.
التفصيل:
أولا. الرازق هو الله وهو مسبب الأسباب ليتكسب بها الخلق في حياتهم:
كان المشركون يقتلون أولادهم كما سولت لهم الشياطين، فكانوا يئدون البنات خشية العار، وربما قتلوا بعض الذكور محتجين بخشية الفقر، وخوف الإملاق كما حكى عنهم القرآن؛ لئلا تكثر عيلتهم، فنهاهم الله - عز وجل - عن ذلك، وفي هذا الصنيع يقول الشاعر:
إذا تذكرت بنتي حين تندبني
فاضت لعبرة بنتي عبرتي بدم
أحاذر الفقر يوما أن يلم بها
فيكشف الستر عن لـحم على وضم
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا
والموت أكرم نزال على الـحوم
وقد رد الله - عز وجل - عليهم وأبطل معذرتهم؛ لأنهم جعلوا الفقر عذرا لقتل الأولاد، ومع كون الفقر لا يصلح أن يكون داعيا لقتل النفس، فقد بين الله أنه لما خلق الأولاد، قد قدر رزقهم، فمن الحماقة أن يظن الأب أن عجزه عن رزقهم يخول له قتلهم، وكان الأجدر به أن يكتسب لهم؛ ولذا قال عز وجل: )نحن نرزقهم وإياكم( (الإسراء: ٣١)، وقال: )نحن نرزقكم وإياهم( (الأنعام: 151).
فذكر الله رزقهم في آية الإسراء مع رزق آبائهم، وفي آية الأنعام قدم رزق الآباء للإشارة إلى أنه كما رزق الآباء فلم يموتوا جوعا كذلك يرزق الأبناء، والله - عز وجل - هو الرزاق ولستم ترزقون أنفسكم أو ترزقون أبناءكم، فرزقكم ورزقهم على الله.
وبين آية الأنعام وآية الإسراء فرق في النظم، رغم ما بين الآيتين من تشابه، وهذا يتضح من وجهين هما:
1. أنه قال في آية الإسراء: )خشية إملاق( (الإسراء: 31)، وقال في الأنعام: )من إملاق( (الأنعام: 151)، ويقتضي ذلك أن الذين كانوا يئدون أولادهم أو بناتهم كانوا يئدونهم لغرضين: إما لأنهم فقراء لا يستطيعون الإنفاق عليهم، وربما لا يرجون من البنت إن كبرت إعانة على الكسب فهم يئدونها لذلك، فذلك مورد قوله - عز وجل - في سورة الأنعام: )من إملاق(، فإن (من) التعليلية تقتضي أن الإملاق سبب قتلهن، فيقتضي أن الإملاق موجود حين القتل.
وإما أن يكون الحامل على القتل ليس فقر الأب، ولكن خشية عروض الفقر له، أو عروض الفقر للبنت بموت أبيها، إذ كانوا في جاهليتهم لا يورثون البنات، فيكون الدافع للوأد هو توقع الإملاق، فذلك مورد قوله - عز وجل - في سورة الإسراء )خشية إملاق(.
2. من أجل الاعتبار في الفرق للوجه الأول قيل هنالك: )نحن نرزقكم وإياهم(، بتقديم ضمير الآباء على ضمير الأولاد؛ لأن الإملاق الدافع للوأد المحكي به في آية الأنعام هو إملاق الآباء، فقدم الإخبار بأن الله - عز وجل - هو رازقهم وكمل بأنه رازق أولادهم، وأما الإملاق المحكي في سورة الإسراء فهو الإملاق المخشي وقوعه، فلذلك قدم الإعلام بأن الله رازق الأولاد وكمل بأنه رازق آبائهم، وهذه من نكت القرآن في تقديم الأهم في كل موضع بحسبه[2].
ثانيا. السبب الحقيقي لقتل هؤلاء الجاهليين أولادهم هو تزيين الشياطين لهم مع قصور عقولهم:
من ردود القرآن عليهم أيضا أنه بين لهم أن السبب الذي جعلهم يقتلون أولادهم يرجع إلى ثلاثة أمور هي:
1. تزيين الشيطان لهم، ذلك بدعوى خشية الفقر والعيلة، قال )وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون (137)( (الأنعام).
فشركاؤهم من الشياطين هم الذين زينوا لهم ذلك، وليردوهم فيهلكوهم، ليلبسوا عليهم دينهم؛ أي: يخلطوه عليهم.
2. اتقاء العار، وهو خاص بوأد البنات خشية أن يكن سببا للعار إذا كبرن، فهم يصورون البنت لوالدها الجبار العاتي ترتكب الفاحشة، أو تقترن بزوج دونه في الشرف والكرامة فتلحقه الخسة، أو تسبى في القتال.
3. التدين بنحر الأولاد للآلهة تقربا إليها بنذر أو بغير نذر، وكان الرجل ينذر في الجاهلية لئن ولد له كذا غلاما لينحرن أحدهم كما حلف عبد المطلب، وخبره معروف يذكر في قصص السيرة النبوية. ولولا الشرك الذي يفسد العقول لما راجت هذه الوسوسة عندهم[3].
ومن ردود القرآن عليهم تعنيفه إياهم وإلقاء العيب عليهم وتهديدهم، وذلك في قوله عز وجل: )وإذا الموءودة سئلت (8) بأي ذنب قتلت (9)( (التكوير)، فإن الموءودة تسأل يوم القيامة على أي ذنب قتلوها، وفي هذا تهديد لقاتلها وبيان أنه غير معذور في قتلها، وفي هذا ما فيه من إلقاء الرعب في نفس الوائد.
فهذه كانت نظرة الجاهلية إلى المرأة على كل حال، حتى جاء الإسلام يشنع بهذه العادات ويقبحها، وينهى عن الوأد ويغلظ فعلته، ويجعلها موضوعا من موضوعات الحساب يوم القيامة. يذكره في سياق هذا الهول الهائج المائج - سياق سورة التكوير - كأنه حدث كوني من هذه الأحداث العظام. ويقول: إن الموءودة ستسأل عن وأدها. فكيف بوائدها؟!
وما كان يمكن أن تنبت كرامة المرأة من البيئة الجاهلية أبدا؛ لولا أن تتنزل بها شريعة الله ونهجه في كرامة البشرية كلها، وفي تكريم الإنسان: الذكر والأنثى؛ وفي رفعه إلى المكان اللائق بكائن يحمل نفخة من روح الله العلي الأعلى. فمن هذا المصدر انبثقت كرامة المرأة التي جاء بها الإسلام، لا من أي عامل من عوامل البيئة.
وحين تحقق ميلاد الإنسان الجديد باستمداد القيم التي يتعامل بها من السماء لا من الأرض، تحققت للمرأة الكرامة، فلم يعد لضعفها وتكاليف حياتها المادية على أهلها وزن في تقويمها وتقديرها؛ لأن هذه ليست من قيم السماء ولا وزن لها في ميزانها. إنما الوزن للروح الإنساني الكريم المتصل بالله، وفي هذا يتساوى الذكر والأنثى[4].
الخلاصة:
· كان المشركون يقتلون أولادهم من الفقر أو خشية الفقر، بيد أن المولى - عز وجل - وضح لهم أنه رازقهم ورازق أولادهم، ومن ثم فلا عبرة بحجتهم الواهية التي تدعوهم لقتل أولادهم.
· لقد بين القرآن الكريم أن السبب الحقيقي وراء قتل هؤلاء المشركين أولادهم ليس هو الفقر أو الخوف منه، إنما يرجع فعلهم هذا إلى تزيين الشياطين لهم، أو اتقاء العار بوأد البنات، أو التقرب إلى آلهتهم بنحر أولادهم بنذر أو بغيره.
(*) الآيت