ادعاء اليهود أن الله - عز وجل - فقير وبخيل وهم أغنياء(*)
مضمون الشبهة:
ادعى اليهود أن الله فقير وهم أغنياء؛ وذلك أنه لما نزل قوله سبحانه وتعالى: )من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة( (البقرة: ٢٤٥) قالت اليهود: يا محمد افتقر ربك فسأل عباده القرض، وقال كبير أحبارهم فنحاص: ما بنا إلى الله من حاجة من فقر، وإنه إلينا لفقير ما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، ولو كان عنا غنيا ما استقرض منا، وقال أيضا مخاطبا المسلمين: ينهاكم عن الربا ويعطينا، ولو كان غنيا ما أعطانا الربا، ويصف اليهود الله - عز وجل - أيضا بأنه بخيل، وأن يده تمسك ما عنده بخلا، تعالى الله عن قولهم هذا علوا كبيرا، قال سبحانه وتعالى: )لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء( (آل عمران: ١٨١)، وقال سبحانه وتعالى: )وقالت اليهود يد الله مغلولة( (المائدة: ٦٤).
وجوه إبطال الشبهة:
1) تجرؤ اليهود على الله - عز وجل - ووصفه بما لا يليق بجلاله وعظمته سبحانه وتعالى.
2) هذا جهل من اليهود بمعنى إقراض الله واستخفاف منهم بالإسلام ونبيه.
3) الله - سبحانه وتعالى - واسع الفضل جزيل العطاء ينفق كيف يشاء، واليهود كتبت عليهم الذلة واللعنة والعدواة ثم لهم العذاب في الآخرة.
التفصيل:
أولا. تجرؤ اليهود على الله عز وجل:
وقعت هذه المجازفة في حق الله - عز وجل - من غير واحد من اليهود مثل فنحاص وهو من أحبارهم وعلمائهم، وكذلك من حيي بن أخطب زعموا أن الله فقير يسأل عباده القرض، وهو قول عظيم وأذى كثير.
وقد تهددهم الله - سبحانه وتعالى - وتوعدهم فقال: )لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا( (آل عمران: ١٨١).
فالله قد سمع قول هؤلاء المجازفين، ولم يفته ولم يخف عليه وهو سيجزيهم بما كانوا يفترون، وقوله: )سنكتب ما قالوا( تهديد ووعيد لهم. وقد قال اليهود لعنهم الله هذه المقالة لما نزلت آية الصدقة، وهي قوله سبحانه وتعالى: )من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له( (البقرة: ٢٤٥).
وقد أرادوا بهذه المقالة التمويه على الضعفاء لا أنهم يعتقدون ذلك، فهم أرادوا تشكيك الضعفاء منهم ومن المسلمين وتكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم - أي: أنه فقير على قول محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه اقترض منا.
وقائل ذلك هو حيي بن أخطب حبر اليهود، إذا إنه لما سمع الآية السابقة قال: يستقرض الفقير الغني، وقيل: قاله فنحاص بن عازوراء لأبي بكر الصديق بسبب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل أبا بكر إلى يهود قينقاع يدعوهم، فأتى بيت المدراس فوجد أنهم قد اجتمعوا على فنحاص حبرهم، فدعاه أبو بكر، فقال فنحاص: ما بنا إلى الله حاجة، وإنه إلينا لفقير ولو كان غنيا لما استقرضنا أموالنا كما يزعم صاحبكم؛ فغضب أبو بكر - رضي الله عنه - ولطم فنحاص وهم بقتله، فنزلت الآية وشاع قولهما في اليهود.
وقوله سبحانه وتعالى: )لقد سمع الله( تهديد، وهو يؤذن بأن هذا القول جراءة عظيمة، وإن القصد منها التعريض ببطلان القرآن؛ لأنهم أتوا بهذه العبارة بدون محاشاة، ولأن الاستخفاف بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وقرآنه إثم عظيم وكفر على كفر؛ ولذلك قال سبحانه وتعالى: )لقد سمع الله( المستعمل في لازم معناه، وهو التهديد على كلام فاحش؛ إذ قد علم أهل الأديان أن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فليس المقصود إعلامهم بأن الله علم ذلك بل لازمه وهو مقتضى قوله: )سنكتب ما قالوا( والمراد بالكتابة، إما كتابته في صحائف آثامهم إذ لا يخطر ببال أحد أن يكتب في صحائف الحسنات... أو أنه أريد من الكتابة عدم الصفح.. بل سيثبت لهم ويجازون عنه، فتكون الكتابة كناية عن المحاسبة، فعلى الأول يكون وعيدا وعلى الثاني يكون تهديدا[1].
ثانيا. جهل اليهود لمعنى إقراض الله عز وجل:
لقد جهل هؤلاء اليهود المراد بإقراض الله - عز وجل - فليس معنى إقراض الله أنه محتاج إلى ذلك، بل المراد إقراض الفقراء والمحتاجين والإنفاق في سبيل الله، فقد جاء في الحديث القدسي الجليل: «إن الله - عز وجل - يقول يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني، قال: يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده. يا ابن آدم، استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب، وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي. يا ابن آدم، استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب، كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟! قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي»[2].
فالله - عز وجل - جعل البذل والإنفاق بمثابة الإقراض له، وهو سبحانه غني عن العالمين، له ملك السموات والأرض وما بينهما، فلا يحتاج إلى شيء، والغرض من هذا التعبير السابق هو ترغيب الناس في الإنفاق في سبيل الله، قال سبحانه وتعالى: )إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم( (التغابن: ١٧)، ولكن اليهود لجهلهم وسوء أدبهم وسخف قولهم غفلوا عن هذا المعنى.
ولم يأخذوا المسألة بهذا الفهم بل أخذوها بغباء المادة فقالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء، ولم يفهم هؤلاء اليهود أن القرض لله هو تلطف من الحق - سبحانه وتعالى - واستدرار لحنان الإنسان على الإنسان، فقد شاء أن يحترم مجهودك أيها الإنسان، فإن وصلت إلى شيء من المال فهو مالك، ولم يقل الله لك: أعط أخاك، فسبحانه وتعالى تلطفا منه مع خلقه يقول: أقرضني؛ ليضمن الإنسان أن ما أعطاه إنما هو عند مليء، لكن أدب بني إسرائيل مع الله مفقود[3].
فهذا هو طبع اليهود الذين وجدوا في أيديهم المال - الذي آتاهم الله من فضله - فحسبوا أنفسهم أغنياء عن الله، لا حاجة بهم إلى جزائه ولا إلى الأضعاف المضاعفة التي يعدها لمن يبذل في سبيله - وهو ما يسميه تفضلا منه ومنة إقراضا له - سبحانه وتعالى - وقالوا في وقاحة: ما بال الله يطلب إلينا أن نقرضه من مالنا ويعطينا عليه الأضعاف المضاعفة وهو ينهى عن الربا والأضعاف المضاعفة؟! وهو تلاعب بالألفاظ ينم عن القحة وسوء الأدب في حق الله لذلك سوف يحاسبهم الله على ذلك، فما هو بمتروك ولا منسي ولا مهمل[4].)سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق (181) ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد (182)( (آل عمران).
ثالثا. الله - عز وجل - واسع الفضل، ولعنة الله على اليهود المفترين:
من المآثم والجرائم التي يحكيها القرآن عن اليهود ذلك النموذج المتمثل في قولهم بأبشع صوره: )وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء( (المائدة: ٦٤).
وهذا القول: إما أن يكون جرى مجرى التهكم بالمسلمين إلزاما لهذا القول الفاسد لهم، كما روي أنهم قالوا ذلك لما كان المسلمون في أول زمن الهجرة في شدة، وفرض الرسول عليهم الصدقات، وربما استعان باليهود في الديات، وكما روي أنهم قالوه لما نزل قوله: )من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون (245)( (البقرة)، فقالوا: إن رب محمد فقير وبخيل... وإما أن يكونوا قالوه في حالة غضب ويأس؛ فقد روي في سبب نزولها أن اليهود نزلت بهم شدة وأصابتهم مجاعة وجهد، فقال فنحاص بن عازوراء هذه المقالة، فإما تلقفوها منه على عادة جهل العامة، وإما نسب قول حبرهم إلى جميعهم؛ لأنهم يقلدونه ويقتدون به.
وقد ذمهم الله على كلا التقديرين، إذ الأول استخفاف بالإسلام وبدينهم أيضا، إذ يجب تنزيه الله عن هذه المقالات، ولو كانت على نية إلزام الخصم، والثاني ظاهر ما فيه من العجرفة والتأفف من تصرف الله فقابل الله قولهم بالدعاء عليهم وذلك ذم على طريقة العرب[5].
وقولهم: )يد الله مغلولة( من سوء تصور اليهود لله، يعللون بذلك بخلهم فالله - بزعمهم - لا يعطي الناس، ولا يعطيهم إلا القليل، فكيف ينفقون؟!
وقد بلغ من غلظ حسهم، وجلافة قلوبهم، ألا يعبروا عن المعنى الفاسد الكاذب الذي أرادوه وهو البخل بلفظه المباشر، فاختاروا لفظا أشد وقاحة وتهجما وكفرا فقالوا: )يد الله مغلولة(، ويجيء الرد عليهم بإحقاق هذه الصفة عليهم، ولعنهم وطردهم من رحمة الله جزاء على قولهم: )غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا(، وكذلك كانوا، فهم أبخل خلق الله بالمال.
ثم يصحح هذا التصور الفاسد السقيم، ويصف الله بوصفه الكريم وهو يفيض على عباده من فضله بغير حساب: )بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء(، وعطاياه التي لا تكف ولا تنفد لكل مخلوق ظاهرة للعيان.. شاهدة باليد المبسوطة، والفضل الغامر، والعطاء الجزيل، ناطقة بكل لسان، ولكن اليهود لا تراها؛ لأنها مشغولة عنها باللم والضم، وبالكنود وبالجحود، وبالبذاءة حتى في حق الله، ويحدث الله نبيه عما سيبدو من القوم وعما سيحل بهم.
بسبب حقدهم وغيظهم من اصطفاء الله له بالرسالة، وبسبب ما تكشفه هذه الرسالة من أمرهم في القديم والحديث: )وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا( (المائدة: ٦٤)، فبسبب من الحقد والحسد وبسبب من افتضاح أمرهم فيما أنزل الله، سيزيد الكثيرون منهم طغيانا وكفرا؛ لأنهم وقد أبوا الإيمان، لا بد أن يشتطوا في الجانب المقابل؛ ولا بد أن يزيدوا تبجحا ونكرا وطغيانا وكفرا، فيكون الرسول رحمة للمؤمنين، ووبالا على المنكرين. ثم يحدث الله الرسول عما قدر الله لهم من التعادي والتباغض فيما بينهم؛ ومن إبطال كيدهم وهو في أشد سعيره تلهبا؛ ومن عودتهم بالخيبة فيما يشنونه من حرب على الجماعة المسلمة.
قال عز وجل: )وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله( (المائدة: ٦٤)، وما تزال طوائف اليهود متعادية، وإن بدا في هذه الفترة أن اليهودية العالمية تتساند، وتوقد نارا للحرب على البلاد الإسلامية، ولكن ينبغي ألا ننظر إلى فترة قصيرة من الزمان ولا إلى مظهر لا يشتمل على الحقيقة كاملة، ففي أكثر من ألف وثلاثمائة عام، بل من قبل الإسلام واليهود في شحناء وفي ذل كذلك وتشرد ومصيرهم إلى مثل ما كانوا فيه مهما تقم حولهم الأسناد، ولكن مفتاح الموقف كله في وجود العصبة المؤمنة التي يتحقق لها وعد الله، فأين هي العصبة المؤمنة اليوم التي تتلقى وعد الله وتقف ستارا لقدر الله ويحقق الله بها في الأرض ما يشاء؟ )وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله(.
إن هذا الشر والفساد الذي تمثله اليهود، لا بد أن يبعث الله عليه من يوقفه ويحطمه، فالله لا يحب الفساد في الأرض، وما لا يحبه الله لا بد أن يبعث عليه من عباده من يزيله: )ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين (64)( (المائدة)[6].
الخلاصة:
· جهل هؤلاء اليهود المراد بإقراض الله، فليس معنى إقراض الله أنه محتاج إلى ذلك، بل المراد إقراض الفقراء والمحتاجين والإنفاق في سبيل الله، كما دلت على ذلك الآيات والآثار الكثيرة.
· مراد هؤلاء اليهود من ادعائهم هذا، تشكيك ضعفاء الإيمان، وتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم، وضرب المسلمين في عقيدتهم.
· سوء أدب اليهود مع الله - عز وجل - ونعته بما لا يليق بذاته - سبحانه وتعالى - كان من أسباب لعنهم واستحقاقهم غضب الله عليهم.
(*) الآيتان اللتان وردت فيها الشبهة: (آل عمران/ 181، المائدة/ 64).
الآيات التي ورد فيها الرد على الشبهة: (آل عمران/ 181، المائدة/ 64، الإسراء/ 100).
[1]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج3، ج4، ص183، 184 بتصرف.
[2]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل عيادة المريض (6721).
[3]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، مج3، ص1910.
[4]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج1، ص536.
[5]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج4، ج6، ص249.
[6]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج2، ص930.
click
read dating site for married people