الزعم أن الحروب الصليبية قامت بسبب غلظة المسلمين ولم تكن بوازع ديني (*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المشككين أن الحروب الصليبية لم تكن دينية وإنما قامت بسبب غلظة المسلمين وقسوتهم المعهودة والتي ولدت رد فعل مضاد على الصعيد الآخر ارتأى أن من العار أن يسيطر هؤلاء الهمج المتأخرون على الأماكن المقدسة في فلسطين؛ ولذا وجبت محاربتهم. ويهدفون من وراء ذلك إلى التشكيك في تاريخ المسلمين وعدالة حكامهم والترويج لمشروعية الحملات الصليبية ونبل مقصدها.
وجها إبطال الشبهة:
1) الحملات الصليبية انطلقت من عقيدة عدائية تاريخية ممتدة منذ ظهور الإسلام حتى اليوم، وستظل ما دام في القوى الغربية النصرانية من يضمر للإسلام كيدا وحقدا.
ولقد كان الدافع وراء هذه الحروب - دائما - دينيا في المقام الأول، وإن طفت على سطح الأحداث دوافع أخرى.
2) لقد أحسن المسلمون معاملة غيرهم على مر الزمن، وإن تخلل هذه الفترة حالات فردية مغايرة إلا أن الطابع العام والسائد كان حسن المعاملة، حتى شهد المنصفون الغربيون بهذا التسامح وتلك المعاملة الحسنة.
التفصيل:
أولا. لقد انطلقت الحملات الصليبية من عقيدة عدائية تاريخية بدافع ديني في المقام الأول:
الحروب الصليبية - تاريخيا - هي تلك الحملات الثمانية التي داهم بها الغرب الأوربي الشرق الإسلامي خلال القرنين السادس والسابع الهجريين، الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين، وجاءت رافعة شعار الصليب؛ ومبتغية - كما ادعى مثيروها - تخليص الأماكن المقدسة في الشرق من أيدي الكفار، يعنون المسلمين ([1])!
ومبدأ الأمر أن السلاجقة الترك المسلمين قد هزموا الروم البيزنطيين في موقعة ملاذكرد سنة 463هـ هزيمة ساحقة وأسروا إمبراطورهم رومانوس الرابع، وضغطوا عليهم جهة الغرب في آسيا الصغرى، فاستصرخ هؤلاء البابوية في روما، فأطلق البابا أوربان الثاني في مجمع كليرمونت دعوته لبدء الحملات الصليبية نحو الشرق في 27 نوفمبر 1095م - 489هـ.
وبناء على هذه الدعوة انطلقت ثماني حملات مشهورة جهة الشرق؛ الأولى والثانية والثالثة والسادسة ناحية بلاد الشام، والرابعة اتجهت نحو الشرق الإسلامي أولا، ثم نتيجة خلافات بين قادتها تحولت وهي في عرض البحر نحو القسطنطينية، عاصمة البيزنطيين حيث الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية، وبينها وبين الكنيسة البابوية الكاثوليكية الغربية خلاف كبير، وعندما أدركوا أن مصر تمثل ركيزة للدفاع الإسلامي، تحطم جهودهم ببلاد الشام، وجهوا نحوها الحملتين الخامسة والسابعة، وقد قاد الأخيرة لويس التاسع ملك فرنسا الذي أسر في النهاية وحبس بدار ابن لقمان بالمنصورة، وأطلق سراحه بعد ذلك بعد أن تعهد بعدم القيام بحملة جديدة، لكنه ما إن عاد إلى دياره حتى قاد حملة جديدة ثامنة - وأخيرة - اتجه بها وجهة غير تقليدية نحو شمالي إفريقيا حيث هزم عند تونس، ومات هناك.
على أن هذا العداء التاريخي بين الغرب النصراني والشرق الإسلامي لم يقتصر على هذه الحملات الثمانية، بل سبقتها إرهاصات وصلت إلى العهد النبوي نفسه، فقد استثمر النبي - صلى الله عليه وسلم - هدنة الحديبية بينه وبين المشركين وراسل الملوك، والأمراء، والزعماء، داعيا إلى الإسلام، ومن بين من راسلهم الروم، والقبائل الموالية لهم ببلاد الشام كالغساسنة، وقد جاءت الردود متباينة، لكن أقساها كان قتل مبعوث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على يد أمير غساني موال للروم، فكانت هذه بداية العداوة بهذا العدوان على رسول أعزل يحمل رسالة هداية لا تمثل تهديدا عسكريا أو سياسيا.
واستشعر الروم الخطر من وقتها، وأدركوا أن شبه جزيرة العرب لم تعد كما كانت قطاعا مهملا لا يقيمون له حسابا، وقبائل متنازعة لا رابط بينها، بل إن دعوة جديدة جمعت شمل أهلها وألفت بين قلوبهم فتشكلت دولة جديدة، رأى الروم أنه لا بد من وأدها في مهدها حتى لا تناوئهم وتقف في وجوههم.
ويصور حالة التوتر والعداء المبكر هذه بين المسلمين والروم بفعل تحرشات الروم وكيدهم صاحب الرحيق المختوم - بعد أن أشار إلى استقرار أمر الإسلام بشبه الجزيرة بعد فتح مكة سنة 8 هـ - بقوله: "هناك قوة تعرضت للمسلمين من غير مبرر... تلك هي قوة الرومان - أكبر قوة عسكرية ظهرت على وجه الأرض في ذلك الزمان... وكانت بداية هذا التعرض بقتل سفير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحارث بن عمير الأزدي - على يد شرحبيل بن عمرو الغساني - حينما كان السفير يحمل رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى عظيم بصرى، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل بعد ذلك سرية زيد بن حارثة التي اصطدمت بالرومان اصطداما عنيفا في مؤتة، ولم تنجح في أخذ الثأر من أولئك الظالمين المتغطرسين، إلا أنها تركت أروع أثر في نفوس العرب، قريبهم وبعيدهم.
ولم يكن قيصر ليصرف نظره عما كان لمعركة مؤتة من الأثر الكبير لصالح المسلمين، وعما كان يطمح إليه بعد ذلك كثير من قبائل العرب، من استقلالهم عن قيصر، ومواطأتهم للمسلمين، إن هذا كان خطرا يتقدم ويخطو إلى حدوده خطوة بعد خطوة، ويهدد الثغور الشامية التي تجاور العرب، فكان يرى وجوب القضاء على قوة المسلمين قبل أن تتجسد في صورة خطر عظيم لا يمكن القضاء عليه، وقبل أن تثير القلاقل والثورات في المناطق العربية المجاورة للرومان.
ونظرا لهذه المصالح لم يقض قيصر بعد معركة مؤتة سنة كاملة حتى أخذ يهيئ الجيش من الرومان والعرب التابعة لهم من آل غسان وغيرهم، وبدأ يجهز لمعركة دامية فاصلة، وكانت الأنباء تترامى إلى المدينة بإعداد الرومان للقيام بغزوة حاسمة ضد المسلمين، حتى كان الخوف يتسورهم كل حين، لا يسمعون صوتا غير معتاد إلا ويظنون زحف الرومان.
وهذا يدل على خطورة الموقف الذي كان يواجهه المسلمون بالنسبة إلى الرومان؛ إذ بلغهم من الأنباط الذين يقدمون بالزيت من الشام إلى المدينة أن هرقل قد هيأ جيشا عرمرما قوامه أربعون ألف مقاتل، وأعطى قيادته لعظيم من عظماء الروم، وأنه أجلب معهم قبائل لخم وجذام وغيرهما من متنصرة العرب، وأن مقدمتهم بلغت البلقاء، وهكذا تمثل أمام المسلمين خطر كبير(2)، وكانت هذه مقدمات غزوة تبوك التي انطلقت سنة9 هـ وجهة حدود الروم لدرء هذا الخطر على طريقة: الهجوم خير وسيلة للدفاع.
كانت هذه هي الإرهاصات المبكرة للعدوان الصليبي، على أن الأمر لم يخل أيضا من توابع لحقت الحملات الثمانية بعد انتهائها وتتابعت حتى يومنا هذا، وقد تكرر على لسان الرئيس الأمريكي قبيل انطلاق ما يسمى بـ "الحملة الدولية على الإرهاب" وخلالها تعبير: "إنها حملة صليبية جديدة"، وهو وإن عاد فاعتذر أو اعتذر عنه، إلا أن الأمر قد تكرر، مما يعني أن الأمر لم يكن مجرد فلتة لسان - كما قيل - ففلتات اللسان - إن تكررت - تنبئ عن صريح مكنون الجنان (3) وصدق زهير حين قال:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة
وإن خالها تخفى على الناس تعلم
ومن عجب أن تقتصر تلك الحملة على العالم الإسلامي وحده دون غيره، ويعبر المستشرق الألماني المسلم مراد هوفمان عن الطبيعة العدائية المتوترة للعلاقة التاريخية بين الشرق والغرب بقوله: "بعث النبي محمد في أخريات حياته برسائل إلى حكام المناطق المجاورة، مثل النجاشي ملك الحبشة، وخسرو الثاني في فارس (590: 628هـ)، وهرقل القيصر الرومي الشرقي (610: 641م) طالبا إليهم في وضوح تام أن يسلموا، مبينا أن في ذلك خيرهم وخير رعيتهم.
بهذا الحدث في تاريخ الدبلوماسية الدولية تبدأ العلاقة بين الإسلام والغرب، وهي علاقة لم تبتر قط، ولكن لم تتسم أيضا بخلوها من التوتر أو التحفز، فقد صحبتها ملامح المجابهة، على امتداد ألف وأربعمائة عام، وذلك على الرغم من توافر التلاقي الفكري والاقتصادي المثمر بينهما.
لذا يرى المرء اليوم أمام خلفية الصراع الإسلامي المسيحي عالمي الشرق والغرب - أو المشرق والمغرب - عالمين لا يتمم أحدهما الآخر في أغلب الأمر، بل عالمين متقابلين، أحدهما معاد للآخر، لا يتفهمه ولا يطمئن إليه، إن الذاكرة الجماعية لكليهما حافظة واعية متيقظة، ترصد حركات الخصم وسكناته(4).
ثم يحاول اقتراح الحل لفض هذا الاشتباك في هذه العلاقة الممتدة، فيقول: "نستخلص من تاريخ هذه العلاقة التي هي أقرب إلى أن تكون مدعاة للحزن، والتي عرفها كلا العالمين الإسلامي والمسيحي أربعمائة وألفا من الأعوام، أن عليهما كليهما - خاصة في عصر أسلحة الإبادة الشاملة - أن تتم المواجهة بينهما في جو من التسامح والفهم المتبادل وتقبل وجهة نظر الآخر واحترامها، ذلك إذا كانا حريصين على أن يسود السلام العالم"(5).
إننا نستطيع باطمئنان شديد أن نقر بأن الدوافع الحقيقة وراء الحروب الصليبية كانت دينية في المقام الأول، وأن غرضها الانتقام من المسلمين، ورغم أن العدوان الصليبي قد انطلق نحو الشرق على أثر دعوة البابا - كما سـبق ذكـر ذلك - وهو أكبر رمز ديني في الغرب بل في العالم النصراني بعامة، ورغم أن الصليبيين هم من جاءوا رافعين شعار الصليب، ورغم أن الحملة الصليبية الشعبية التف خلالها نصف مليون من العامة وراء بطرس الناسك - القس الذي تجول في ربوع الغرب الأوربي على أثر دعوة البابا - يدفعهم الحماس الذي أثارته هذه الدعوة - رغم كل هذا فإن المؤرخين المسلمين - والمسلمين عامة - المعاصرين للحملات الصليبية لم يطلقوا عليها هذا المصطلح ولم ينعتوها بالصليبية، وإنما سموها "حروب الفرنجة"، وإنما أطلق عليها ذلك المصطلح الباحثون الغربيون في فترة متأخرة - حوالي القرن الثامن عشر الميلادي - فسموها "الحروب الصليبية" cross wars أو "المقدسة" Holy wars وسموا من قاموا بها "الصليبيين" the crusades، ورغم أن مصطلح "الحرب الصليبية" تردد - كما ذكرنا - في الآونة الأخيرة على لسان ساسة غربيين، رغم كل ما سبق فإن العجب كل العجب ممن يتحسب لمشاعر الآخرين، ويطالب بعدم استعمال الاسم الذي ارتضاه أهلها لأنفسهم وهو "الحروب الصليبية"، ويصرون على أنها كانت صراعا عاديا كأي صراع اندفع بدوافع اقتصادية، واجتماعية، وليست بالضرورة دينية، ولنا أن نتساءل؛ إذا لم تكن دينية صليبية، فما تفسير كل الدلائل السابقة من قبل القوم أنفسهم؟! إن لم تشر أو تؤد إلى الفهم بأنها كانت كذلك - دينية صليبية - وإن لم تكن كذلك فما الدافع لذبح أكثر من سبعين ألف مسلم في بيت المقدس وحدها وداخل المسجد الأقصى، وفيهم العلماء وطلاب العلم والزهاد والمجاورون لهذا الحرم، وهي الفعلة الشنيعة التي أرسل رجال الحملة الأولى بعد ارتكابها إلى البابا رسالة يفتخرون بها(6)، إن لم تكن كذلك، فماذا عساها أن تكون؟! أم أننا ملكيون أكثر من الملك نفسه!!
ولك أن تعرف - كي يطمئن قلبك إلى الدور الحاسم للدافع الديني عند الصليبيين وهو هنا بمعنى التعصب لا الالتزام الديني الصحيح، والتعصب هو طابع العصور الوسطى في تاريخ أوربا حتى إنها عرفت بـ "عصور الإيمان" بمعنى التعصب للدين لا الالتزام بصحيحه بالضرورة - لك أيها القارئ الكريم أن تعرف أن رأس الحربة في هذا العدوان الصليبي كانت جماعات فرسان رهبان كنسية، ويعرفنا بدورها الفاعل د. علي حبيبة فيقول: "وعرفت بلاد الشام في عصر الحروب الصليبية عددا من الهيئات الدينية المتعصبة، ومنها جماعات الفرسان الاسبتارية والداوية. وكانت لهم أملاك واسعة كسبوها عن طريق الهدايا والهبات، أو عن طريق الغزو والغارات على الآمنين من المسلمين.
وكان أفراد هذه الجماعات يأتون من طوائف الأتقياء من المسيحيين الذين رفضوا الحياة بسلام مع الزهد والعبادة في داخل الكنيسة، ورغبوا في المشاركة في حرب المسلمين، وكانوا أشد الناس نكاية وقسوة عليهم، ولعلهم كانوا من الأسباب الظاهرة التي مدت في أجل الكيان الصليبي ببلاد العرب؛ لأنهم كانوا يجمعون بين حياتي المتعبد والمحارب، وكانوا أعظم الجماعات المحاربة ثباتا، وبالإضافة إلى جهودهم العسكرية كانوا يسهمون في الخدمات الاجتماعية، ويمنحون الحجاج المسيحيين تسهيلات اقتصادية تشجع وفودهم على قدوم بيت المقدس، ولعلهم كانوا دولة في داخل هذه الدويلات؛ لأن اتجاهاتهم كانت مستقلة وكانوا لا يعترفون بالتبعية للسلطات السياسية أو العسكرية في أماكنهم، وإنما كانت تبعيتهم للبابا وحده، وتهيأت لهم أسباب الحياة الجيدة؛ لأنهم كانوا يمتلكون مساحات واسعة من الأرض وكانوا يمتلكون بعض المدن والحصون، وكل ما يمكنهم من مسئولية الدفاع عن الحياة الصليبية في بلاد المسلمين"(7).
ولكن الأشد غرابة من إنكار الملامح الدينية الصليبية لهذه الحروب تحسبا لمشاعر الآخرين - وهو تحسب زائف ليس في محله - هو تحميل المسلمين مسئولية إشعال هذه الحروب بسبب غلظتهم وجفوتهم، وسوء معاملتهم للحجاج القادمين لزيارة هذه الأماكن المقدسة بفلسطين.
وما أشنع أن ترمى الضحية - في أي عدوان - بتسببها في اعتداء الجاني عليها، فتكون قد جمعت عليها الإهلاك وعدم الإنصاف في الوقت نفسه، وقد يزيد بعض هؤلاء فيعتبرون أن المسلمين كانوا محتلين لهذه البلاد والأماكن المقدسة بها، وأن الصليبيين جاءوا لتحريرها كما زعم الصليبيون أنفسهم.
ثانيا. عامل المسلمون غيرهم من غير المسلمين معاملة حسنة، شهد الغربيون أنفسهم على عدالتها وإنصافها:
وربما يسوغ هنا أن نورد عدة شهادات متنوعة عن أوضاع غير المسلمين ومقدساتهم في المجتمع والتاريخ الإسلامي بعامة، يقول الباحث الروسي أليكس جورافسكي: "إن ظهور الدين الإسلامي وترسخه السريع والقوي في أراض آسيوية وأفريقية واسعة في أثناء مسيرة الفتوحات العسكرية الدينية للعرب، حدد بصورة حاسمة مصائر المسيحية الشرقية، التي قابلت الدين الجديد - الإسلام - دون أي مقاومة، بل بالترحاب في كثير من المناطق، ومرد ذلك الموقف إلى عدة عوامل؛ أهمها:
· تسامح الإسلام إزاء القضايا المتعلقة بإقامة طقوس العبادة المسيحية، بشرط التعاون السياسي.
· أن المسلمين الفاتحين حموا المسيحيين من تعديات واعتداءات وملاحقات إمبراطورية بيزنطة غير المتسامحة مطلقا في ما يخص التيارات المونوفيزية والنسطورية.
· وهناك عامل مهم ثالث: يتجسد في حقيقة أن العرب المسلمين اعتمدوا - في السنوات الأولى بشكل خاص - على أبناء جلدتهم من المسيحيين، وهم قبائل قوية وواسعة التوزع والانتشار، فاستخدموا - في الأوساط المسيحية - اللغات المحلية بدلا من الإغريقية، ولهذا التشجيع العربي الإسلامي ازدهرت موجة جديدة من الأدب بين القبط في القرنين السابع والثامن الميلاديين، وكانت ذات طبيعة قانونية تشريعية بالدرجة الأولى.
وفي مرحلة لاحقة - ومع الرسوخ السياسي واللاهوتي للدين الإسلامي، وتنامي النزعات والاتجاهات الانتقادية للمسيحية - تحولت الكتلة الأساسية لمسيحيي الشرق الأدنى إلى الإسلام، أما الذين بقوا أوفياء لدينهم فقد استعربوا، عدا الأرمن الذين لم يخضعوا عمليا للاستعراب، وحافظ كل من الآشوريين، والأقباط، والموارنة على سماتهم الخاصة إلى حد كبير أو صغير، ولكنهم تكيفوا مع الواقع العربي الإسلامي في الميدان اللغوي محتفظين بلغاتهم الأصلية القديمة" (8).
وعن وضع أهل الذمة في المجتمع الإسلامي "نظريا وتطبقيا" أجرت إحدى الباحثات دراسة موسعة تحت عنوان "معاملة غير المسلمين في الدولة الإسلامية"، تقول ملخصة فحواها: "تمخضت الدراسة عن عرض للإطار النظري والتطبيقي لمعاملة أهل الذمة في الإسلام، تناولنا في البداية ما جاء في القرآن والسنة النبوية، وما وضعه الفقهاء فيما يخص الطوائف الدينية من غير المسلمين، ثم تناولت الدراسة كافة الجوانب التطبيقية من حرية دينية، ومشاركة في وظائف الدولة، ودورهم في الحياة الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، من خلال المادة التاريخية المبعثرة في بطون المصادر، وكذا دراسة المراجع التي من خلالها أمكننا رسم صورة لوضعية أهل الذمة في الإسلام.
ويتضح من دراسة النصوص القرآنية أن الإسلام كان صريحا فيما يتعلق بالدعوة إلى الإسلام، التي يجب أن تكون من خلال الإقناع، وهي نفس السياسة التي سار عليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكذا الفاتحون من بعده ساروا على نفس المنهاج القويم في الدعوة.
وانتهينا إلى أن عهود الأمان التي أبرمت مع أهالي البلاد المفتوحة، قد أتاحت كافة الحريات الدينية والمدنية التي لم تتح لهذه الشعوب قبلا.. وفيما يخص الحرية الدينية، وجدنا أن المسلمين قد أتاحوها لأهالي البلاد المفتوحة، تلك التي طالما افتقدوها، فقد جاء الإسلام في وقت ليس فيه حرية في كافة أرجاء المعمورة، بل اضطهاد وتعذيب، ثم شملت سماحة الإسلام كل هذه الأرجاء، مما جعل كثيرا من أهل الذمة يدخلون في الإسلام، أما الذين ظلوا على دينهم فتمتعوا بحرية ممارسة شعائرهم وطقوسهم داخل معابدهم، وكنائسهم وبيعهم بحرية تامة، ولهم أنظمتهم الداخلية التي لا دخل للدولة الإسلامية فيها" (9).
وبعد أن تستعرض ملامح هذه الحرية في بقية المجالات التطبيقية، من نيلهم وظائف عليا في الجهاز الإداري، وأدائهم دورا واضحا مؤثرا في الحياة الاقتصادية، إلى غير ذلك، تجمل القضية في النهاية بقولها: "وأخيرا، لنا أن نقرر أن أهل الذمة قد نعموا بجميع الحريات والحقوق في دار الإسلام، بما أتيح لهم من امتيازات سمحت لهم - كما أسلفنا - بالقيام بنشاط كبير على كافة الأصعدة السابقة، مما ترتب عليه تمتعهم بوضعية اجتماعية مميزة عاشت في كنف المسلمين حياة سهلة، فعايشوا المسلمين واختلطوا بهم، وإذا كانوا قد تعرضوا لبعض النواهي من خلال القرارات التي صدرت، فهذا يرجع أساسا إلى اشتطاطهم في رغبة الحصول على أكثر مما ينبغي من حقوق وحريات من ناحية، وتسامح المسلمين من ناحية أخرى" (10).
ويزيد د. يوسف القرضاوي الأمر تأكيدا وإيضاحا مستشهدا بكلام مستشرقين منصفين؛ فيقول: "وهذا التسامح مع المخالفين في الدين من قوم قامت حياتهم كلها على الدين، وتم لهم به النصر والغلبة، أمر لم يعهد في تاريخ الديانات، وهذا ما شهد به الغربيون أنفسهم، يقول العلامة الفرنسي جوستاف لوبون: رأينا من آي القرآن التي ذكرناها آنفا أن مسامحة محمد لليهود والنصارى كانت عظيمة إلى الغاية، وأنه لم يقل بمثلها مؤسسو الأديان التي ظهرت قبل كاليهودية والنصرانية على وجه الخصوص، وسنرى كيف سار خلفاؤه على سنته، وقد اعترف بذلك التسامح بعض علماء أوربا المرتابون أو المؤمنون القليلون الذين أمعنوا النظر في تاريخ العرب، والعبارات الآتية التي اقطتفتها من كتب الكثيرين منهم تثبت أن رأينا في هذه المسألة ليس خاصا بنا، قال روبرتسن في كتابه "تاريخ شارلكن": "إن المسلمين وحدهم هم الذين جمعوا بين الغيرة لدينهم، وروح التسامح نحو أتباع الأديان الأخرى، وأنهم مع امتشاقهم الحسام نشرا لدينهم، تركوا من لم يرغبوا فيه أحرارا في التمسك بتعاليمهم الدينية" (11).
ويحسب بنا أن ننتقل - بعد هذا الاستطراد - من العام إلى الخاص لنورد شهادة تصور أوضاع غير المسلمين ومقدساتهم ببلاد الشام خاصة قبيل مجيء الحملات الصليبية، للوقوف على مدى صحة الرأي القائل بأن المسلمين كانوا السبب في اندلاع الحروب الصليبية بعجرفتهم وقسوتهم في معاملة غير المسلمين - خاصة النصارى - في الشرق وتحكمهم في أدائهم شعائر دينهم في مقدساتهم كما يزعم المدعون.
يقول د. علي حبيبة: "وليس صحيحا في كل الأحوال أن نقول: إن المسلمين وحدهم كانوا السبب في هذه الحروب كلها، وأنهم الذين جلبوا على أنفسهم هذا الشر بعد أن عرضوا حياة بعض المسيحيين في الشرق للخطر والاضطهاد، وبعد أن عطلوا حركة سير الحجاج المسيحيين إلى بيت المقدس؛ لأنه إذا كانت هناك اضطهادات وقعت على المسيحيين في الشرق، فإنها لم تكن شاملة أو عنيفة تستدعي مثل هذه الحروب، وإذا كان هناك حاكم فاطمي مختل التفكير أوقع بعض العقوبات الصارمة على المسيحيين أو اليهود - المقصود هنا الحاكم بأمر الله الفاطمي - فإن تصرفاته تلك كانت تشمل بقسوتها المسلمين كذلك، ولم يحدث أنه كان يأمر بقتل المسيحيين أو غيرهم بسبب الخلافات الدينية وحدها، وكذلك إذا كانت هناك بعض محاولات من جانب السلاجقة المسلمين المتحمسين لمنع المظاهرات المسيحية القادمة إلى بيت المقدس، فقد كان الغرض من ذلك منع الفوضى وانتشارها أو إظهار سلطة القانون في أوقات كانت فيها دولتهم كلها مشغولة بالحروب الداخلية وغيرها.
وهذا يعني أن الحروب الصليبية لم تكن رد فعل للاضطهادات التي تعرض لها المسيحيون في بلاد المسلمين؛ لأن هؤلاء عاشوا قبل ذلك زمنا طويلا في هذه البلاد في ظل التسامح المعهود من أهل هذه البلاد ودينهم، وليست هناك حاجة للاستشهاد بالنصوص التاريخية الدالة على تسامح المسلمين مع المخالفين لعقيدتهم، ويذكر المؤرخون أقوالا صريحة لبعض القساوسة المنصفين تشهد بتسامح المسلمين ورحمتهم، وأنهم لم يشهدوا مثل هذا التسامح طول تاريخهم حتى ممن كانوا معهم على دين واحد.
وليست الأمثلة الدالة على اضطهاد بعض المسلمين لأفراد مسيحيين أو لجاليات مسيحية - ليست هذه الأمثلة بأكثر من مثيلاتها التي تشير إلى اضطهاد المسيحيين في بلادهم بعضهم البعض الآخر، والمعروف أنه قد صاحب انتشار المسيحية في أوربا مذابح رهيبة، واضطهادات داخلية بين أصحاب الدين الواحد، ولقد استمرت هذه الأحوال الخطيرة منذ القرن الرابع حتى نهاية العصور الوسطى في القرن الخامس عشر الميلادي أو بعده.
وهناك شهادات تاريخية موثوق بها تشير إلى أن المسلمين لم يسمحوا للمسيحيين بالاحتفاظ بكنائسهم القديمة فقط، وإنما كانوا يعطونهم الحق في بناء كنائس جديدة بديلة، وبعد عصر الاضطرابات في عهد الحاكم بأمر الله الفاطمي رجعت الأحوال بين المسلمين والمسيحيين إلى ما كانت عليه من التسامح والتفاهم، وعقد صلح بين البيزنطيين والفاطميين، ووفد الحجاج المسيحيون على بيت المقدس كما كانوا يفعلون طوال التاريخ المسيحي.
ورغم ذلك كانت البواعث الدينية في الحركة الصليبية بالغة الأثر؛ نظرا للحماس الطارئ للمسيحية في أوربا كلها، وبسبب الادعاءات القائلة بأن المسيحيين الشرقيين كانوا في خطر داهم من جراء اضطهاد الأتراك السلاجقة الأقوياء المتحمسين"(12).
وأخيرا يجمل د. علي حبيبة القضية كلها بقوله: "إذا كانت المسيحية تعرف التسامح وتوصي به، فإن المسيحيين لم يعرفوا هذا التسامح فيما بينهم، ولم يتواصوا به في التعامل مع الآخرين من حولهم. أما الإسلام فقد عرف التسامح، وأوصى به أهله، وكان المسلمون طول تاريخهم - عدا حالات غريبة وشاذة - من دعاة التسامح الديني وغيره، ومن الملتزمين به حتى مع خصومهم في أوقات الشدة.
ويقوم التسامح في الإسلام على أساس القدرة على الانتقام، ومنح الرحمة لمن يستحقها دائما. وليس ذلك من المبادئ التي كانت سائدة في تلك العصور، ولا هو من المبادئ التي كانت تسود في كل العصور، فكثيرا ما استغل الأقوياء قوتهم في ظلم الآخرين، ولم يكن الحق عندهم يعني إلا ما يحقق مصالحهم وحدها، وكأن المسلمين التزموا بشيء لم يكن معهودا في السلوك العام في عصرهم" (13).
بعد كل هذا ربما جاز لنا أن نقرر - بارتياح كبير - أن الدافع الأساسي وراء اندفاع الحملات الصليبية نحو الشرق دافع ديني واضح، وإن تلبس بدوافع أخرى؛ اقتصادية، وسياسية، وما إلى ذلك.
والقول بغير هذا يعد مغالطة ظاهرة، وظنا في غير محله، ونحن المسلمين إن قلنا بغير هذا نكون كالقاضي الذي ظلم نفسه وأهله ليقال إنه عدل وأنصف في حق الآخرين. أو بعبارة أخرى، نكون ملكيين أكثر من الملك نفسه، كما يقولون.
الخلاصة:
· الحروب الصليبية هي تلك الحملات الثمانية التي داهم بها الغرب الأوربي الشرق الإسلامي خلال القرنين السادس والسابع الهجريين.
· الإرهاصات الأولى للعدوان الصليبي تمثلت في غزوة مؤتة التي كانت أول لقاء بين المسلمين والروم، ثم ظل هذا العداء مستمرا.
· زعم هؤلاء المغالطون أن دافع الحروب الصليبية هو قسوة المسلمين ووحشيتهم وسوء معاملتهم لمسيحيي الشرق وحجاج بيت المقدس من النصارى، بالإضافة إلى أشياء أخرى، ليس من بينها الدافع الديني الحماسي المتأجج في نفوس الصليبيين، وهو ما نعده نحن - وعدد كبير من الباحثين - دافعا أساسيا واضحا في هذه الحروب.
· فقد اندفع الصليبيون نحو الشرق بناء على دعوة أكبر رمز ديني في الغرب وهو البابا، وجاءوا رافعين شعارا دينيا لحملاتهم هو الصليب، وقد أسماها مؤرخوهم الغربيون - لا المسلمين - حروبا صليبية، وترددت هذه التسمية على ألسنة بعض ساسة الغرب المعاصرين، ثم إن ممارسات الصليبيين الشائنة ضد المسلمين كانت تنم عن حقد دفين مبعثه العداوة في الدين.
· لا شك أن هناك دوافع عديدة وراء الحروب الصليبية، لكن الدافع الديني هو أول هذه الدوافع وأقواها في تحريك الغرب الأوربي نحو الشرق الإسلامي.
· وقـد تمتـع أهـل الذمة في بلاد الإسلام قبيل الحروب الصليبية - وقبلها بكثير - بقدر كبير من الحرية في أداء شعائرهم والتسامح والإنصاف، بل تولى كثير منهم المناصب الإدارية الرفيعة في الدولة الإسلامية، ولم يحدث ضدهم أي اعتداء أو اضطهاد إلا في حالات نادرة شاذة لا يمكن لها أن تطغى على أخلاقيات السماحة والحرية التي كان يتمتع بها أهل الذمة في ديار الإسلام.
· وقد شهد الكثيرون من مؤرخي النصارى بهذا التسامح وذاك العدل الذي لم يسجل التاريخ له مثيلا.
· وليس من المنطق ولا الإنصاف في شيء بعد هذا كله أن يقال إن الحروب الصليبية قامت بسبب غلظة المسلمين؟!! أتترك حقائق التاريخ الناصعة لمجرد اتهام من مجموعة من الحقدة الموتورين؟!!
(*) هذا هو الحق: رد على مفتريات كاهن الكنيسة، ابن الخطيب، المطبعة المصرية، القاهرة، 1399هـ/ 1879م. الإسلام والغزو الفكري، محمد عبد المنعم خفاجي، وعبد العزيز شرف، دار الجيل، بيروت، ط1، 1411هـ / 1991م.
[1]. العدوان الصليبي على الشرق الإسلامي في العصور الوسطى، د. جمال فوزي، دار الهاني، القاهرة، 1429هـ/ 2008م، ص5 بتصرف يسير.
2. الرحيق المختوم، المباركفوري، دار المؤيد، الرياض، 1418هـ/ 1998م، ص412: 414 بتصرف.
3. الجنان: القلب.
4. الإسلام كبديل، مراد هوفمان، مؤسسة بافاريا، ألمانيا، مجلة النور الكويتية، الترجمة العربية، ط1، 1993م، ص21.
5. الإسلام كبديل، مراد هوفمان، مؤسسة بافاريا، ألمانيا، مجلة النور الكويتية، الترجمة العربية، ط1، 1993م، ص33.
6 . القدس الخالدة، عبد الحميد زايد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، د. ت، ص214.
7. الحروب الصليبية والشرق الإسلامي، د. علي حبيبة، دار الثقافة العربية، القاهرة، 2000م، ص119: 121.
8. الإسلام والمسيحية، إليكسي جورافسكي، ترجمة: خلف الجراد، عالم المعرفة، العدد 215، 1996م، ص177، 178.
9. معاملة غير المسلمين في الدولة الإسلامية، د. ناريمان عبد الكريم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر، 1996م، ص187: 189.
10. معاملة غير المسلمين في الدولة الإسلامية، د. ناريمان عبد الكريم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر، 1996م، ص190.
11. غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، طـ3، 1992م، ص21، 22.
12. الحروب الصليبية والشرق الإسلامي، د. علي حبيبة، دار الثقافة العربية، القاهرة، 2000م، ص90: 92.
13. الحروب الصليبية والشرق الإسلامي، د. علي حبيبة، دار الثقافة العربية، القاهرة، 2000م، ص92.