دعوى انقسام صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى حزبي يمين ويسار (*)
مضمون الشبهة:
يعمد بعض مروجي المنهج المادي إلى إسقاط مبادئه على عصر الرسالة الإسلامية، وذلك لأنه في نظرهم قانون اجتماعي شامل يصدق على التاريخ كله فلا يستثنى منه عصر، وذلك لما يقوم عليه من افتراض وحدة باطنة في تطور المجتمعات، تتمثل فيما بين نقائض هذه المجتمعات من صراع.
وليس اليمين واليسار - في هذا السياق - إلا لفظين يشيران إلى أطراف هذا الصراع الذي تعول عليه المادية التاريخية في تفسير التطور الاجتماعي.
ويرمون من وراء ذلك إلى تنحية القيم والمعاني الدينية تماما ليتقدم النزاع الذي تغذيه فوارق العرق، وهذه المعالجة تمثل في الثقافة الإسلامية هبوطا بالعصر كله، وخرقا للهيبة التي يعامل بها المسلمون مشكلاته ورجاله.
وجوه إبطال الشبهة:
1) القراءة المادية وحدها لا تكفي لتفسير الأحداث التاريخية.
2) غياب فكرة الطبقة - بالصورة التي عرفتها المجتمعات الغربية - عن التاريخ الإسلامي لا سيما عصر الرسالة؛ يؤكد بطلان زعمهم.
3) القول بأن صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - يمثلون اليمين واليسار لا يستند إلى وعي سليم بمواقفهم.
التفصيل:
أولا. قصور القراءة المادية عن تفسير الأحداث التاريخية:
مما يلفت النظر في حياتنا الفكرية أنه كلما ظهرت فكرة أو نظرية التمس أناس لها سبيلا إلى التراث الإسلامي؛ قد يكون مثالا صالحا يتفق مع مبادئها، أو لعلهم يلتمسون فيه ما عساه أن يكون أصلا لها أو مبشرا بها، وكيفما كان الأمر فإن محصوله عدة كتابات، تقدم هذا التراث أو أقساما منه، تقديما طريفا، وفي هذا السياق يأتي كلام من تكلم عن اليمين واليسار في الإسلام.
واليمين واليسار هما اسمان للضدين اللذين لا يخلو منهما اجتماع إنساني، حسبما يقضي به القانون الأول للجدل الماركسي الذي يقرر أن المادة تتحرك وتتطور اعتمادا على تناقضاتها التي تعيش دائما في صراعس[1]، والمظهر الاجتماعي لهذه التناقضات هو صراع الطبقات الذي هو عنصر جوهري في تغير التاريخ[2].
وإذن فتطبيق المنهج المادي على عصر تاريخي يستدعي بالضرورة التفتيش عن طبقات ينشأ فيما بينها صراع يعول عليه في تحويل المجتمع من طور إلى طور؛ فهي - إذن - نية مبيتة وتصور محدد سلفا قبل دراسة العصر المعين، وقبل تعرف وقائعه وتوجهاته، والوقوف على قيمه ومفاهيمه التي تشكل تكوينه النفسي الذي لعله لا يعرف صراعا يبعث عليه التفاوت المادي.
لكن شيئا من ذلك لم يكن معتبرا في ذلك المنهج الذي هو - عند منشئيه وكذا عند حامليه إلينا - قانون اجتماعي شامل لا يستثني عصرا من عموم مبادئه، وبذلك اختزل النشاط الإنساني بجملته في حدود ضيقة، وحين يعمد بمثل هذا إلى فترات زمنية بعيدة وممتازة في خصائصها وتصوراتها كعصر الرسالة يبدو هذا المنهج - مع ضيقه - متعثرا في غاية التكلف والشطط في مقدماته ونتائجه على سواء.
"إن نقطة الخلل في التفسير المادي للتاريخ تكمن في اعتباره التفسير الوحيد الصحيح الجامع لكل جوانب التاريخ؛ أي: في اعتبار عموميته وشموله لكل الظواهر المتعلقة بالإنسان، وقد يغري بهذا الظن صدق بعض جزئيات هذا التفسير، وخصوصا فيما يتصل ببعض الأحداث السياسية والتغييرات الاجتماعية أو الثقافية، ولم يقل أحد إننا نستبعد العوامل الاقتصادية والاجتماعية في سير التاريخ، ولكننا نرى ذلك غير كاف في تفسير كل جوانبه، على الأخص الجانب الديني. ولعل تيقن كثير من الباحثين من حقيقة عدم كفاية النظرة المادية في تفسير التاريخ أو الدين؛ هو ما جعلهم يراجعون أنفسهم في حقيقة التاريخ وطبيعته"[3].
ومن العجب أن ترفع المادية مقولة "المادة فوق القيم الروحية والدينية، والمشاعر الوجدانية"، بزعم أنها تطمح إلى تحقيق العدل الاجتماعي، مع أن العدالة ليست فكرة تؤخذ من الطبيعة الصماء، ولا هي فكرة ترسخ لأجلها مفاهيم الحقد الطبقي وتنازع البقاء، "لا عدالة إلا في مذهب يعترف بماهية إنسانية مشتركة بين أفراد النوع، وبحياة إنسانية أرفع من الحياة المادية، وهذان ركنان لا يعترف بهما المذهب المادي"[4].
والحق أن العدل الاجتماعي لم يعدم مناصرين له قط، دون أن يحتاج هؤلاء أن يكونوا ماديين في دعوتهم، أو أن يعرفوا هذه الجرعات المرة التي لا يسيغها طبع سليم، وتاريخ الأديان التي تتنكر لها الماركسية حافل بنماذج من المصلحين الذين دعوا إلى العدل الاجتماعي، وإلى نبذ المادية معا.
ومن هؤلاء في تاريخنا الفكري الحديث الشيخ جمال الدين الأفغاني الذي "كان يعرف - كما يقول الأستاذ العقاد - خصائص المادية بالبداهة الصادقة قبل شيوع الماركسية في الديار الأوربية؛ فمن كلامه عن الماديين في رسالته "الرد على الدهريين" أنهم كانوا يظهرون في أوقات بدعوى السعي في تطهير الأذهان من الخرافات وتنوير العقول بحقائق المعلومات، وتارات يتمثلون في صور محبي الفقراء وحماة الضعفاء وطلاب خير المساكين.
وكيفما ظهر الماديون، وفي أي صورة تمثلوا، وبين أي أقوام تجمعوا - كانوا صدمة على بناء قومهم، وصاعقة مجتاحة لثمار أممهم. وهذا يكتب قبل سبعين سنة[5]، وقبل أن يسمع الغرب - فضلا عن الشرق - كلاما عن التفسير المادي للتاريخ" [6].
والأفغاني الذي يرى هذا الرأي، ويعادي الفكرة المادية حتى في صورتها الأولى الساذجة هو نفسه الذي خطب الناس في الإسكندرية بهذا القول الصادم: "أنت أيها الفلاح المسكين تشق قلب الأرض لتنبت ما تسد به الرمق، وتقيم أود العيال، فلم لا تشق قلب ظالمك؟! لماذا لا تشق قلب الذين يأكلون ثمرة أتعابك"[7]؟
وبهذا يتبين أن الإصلاح الاجتماعي قضية لا يستبد بها هؤلاء الماديون، ولا هي قصر على دعاتهم، فهذا هو الأفغاني المصلح المسلم يقول في حقوق الفلاح هذا القول الشديد.
ثانيا. المجتمع الإسلامي وفكرة الطبقة:
إن يكن التأويل المادي للتاريخ، على وجه العموم - محل نظر طويل - لا سيما بعد إخفاقه المدوي وتراجعه عالميا حتى في بيئاته الأولى - فإن فترة الرسالة النبوية في التاريخ الإسلامي حيز زمني مناسب لبيان وجوه القصور في هذا المنهج؛ فإنه فشل في معالجة تلك الفترة فشلا مدهشا يفجأ النظر! بل لا نحسب أحدا يقرأ كلاما عن اليمين واليسار بين الصحابة إلا علت شفتيه بسمة هازئة، وإنما سببها إحساس طبيعي بمدى العسر والتعنت في إقحام مثل هذه التعبيرات في دراسة مجتمعات، هي أبعد شيء عن سياق النظم الاجتماعية والسياسية، التي أنتجت هذه المقولات.
ذلك أن مفهوم الطبقة - كما عرفته المجتمعات الغربية - شيء لم تعرفه المجتمعات الإسلامية رأسا، فضلا عن أن تتصارع فيما بينها وتطور تاريخ هذه المجتمعات؛ "فالطبقة في الاصطلاح الجدلي - كما يقول الأستاذ محمد قطب - وضع اجتماعي اقتصادي سياسي يورث جيلا بعد جيل، وليس وضعا فرديا قابلا للتغيير، وهذا الوضع الطبقي يتعلق في الجاهلية "أي في المجتمعات غير الإسلامية" بقضية التشريع، فالمالكون لهم حق التشريع، وغير المالكين عليهم التنفيذ. أما الغنى والفقر في المجتمع الإسلامي فليس طبقة؛ لأنه لا تتعلق به حقوق تشريعية" [8].
ودور التشريع في هذه المجتمعات هو أن يضفي الشرعية على الأوضاع الاجتماعية القائمة، ويحفظها بقوة القانون، ومن ثم ينمو فصام نفسي لفئة غير المالكين عن النظام الاجتماعي والسياسي، الذي سيبدو وكأنه هيئة مستقلة لم يضعوها، وإنما وضعت لهم لاستبقائهم على حالهم من التبعية والهامشية، وهذا منشأ الصراع وفكرة الثورة وأحزاب اليسار، وهو المعني الذي تدق عليه الأدبيات الماركسية دقا طويلا مستمرا.
ولا شيء من ذلك يكون حيث لا يستلزم التفاوت في العرق أو الثروة أية امتيازات تشريعية، كما هي حال نظام الإسلام الذي قضى على جرثومة التنازع الطبقي من كلتا جهتيه القبلية والمالية، ففي جانب الانتساب القبلي "جعل كتاب الله وسنة رسوله دستور الأمة، ومع أن القبائل بقيت وحدات اجتماعية، تتحمل بعض المسئوليات كالدية والفدية في إطار الأمة - فإن الولاء والمسئولية يرتبطان بالأمة، وصارت العدالة والأمن والشئون العامة تهم الأمة ورئيسها، ولم تكن الأمة محدودة بحدود بشرية أو أرضية، بل تتفق وانتشار الإسلام" [9].
هذا المفهوم الجديد - مفهوم الأمة - إنما أقره الإسلام بعد رفضه نزعات التنفخ بالأنساب، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يفتر ينشر هذا المعنى ويؤكده ويقرره كيما ينتزع به إلف الجاهلية وقيمها، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«من قتل تحت راية عمية يدعو عصبية أو ينصر عصبية فقتلة جاهلية». [10] وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: «كنا في غزاة، فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: ياللأنصار!، فقال المهاجري: ياللمهاجرين! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعوها، إنها منتنة»[11] ولقد آتى هذا التعليم ثمراته في ذلك الرعيل الطيب حتى قال قائلهم:
أبي الإسلام لا أب لي سواه
إذا افتخروا بقيس أو تـميم
وهو قول إذا تأملناه بدا عجيبا، بمقياس عصره، وبمقياس كل عصر بعده! وأما جهة التفاوت في الثروة فإن التفاضل فيها وفي غيرها من سنن الله العامة في كونه وخلقه؛ فلذلك أقر الإسلام الملكية الفردية، لكنه قيدها بقيدين يكفلان لها ألا تفحش فتستذل لها رقاب المعوزين:
أحدها: ألا يكون التفاوت في الغنى كبيرا، وهو ما نهى عنه الإسلام في قوله عز وجل: )كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم( (الحشر: 7)، وكشف عنه تصرف الرسول بتوزيع فيء بني النضير على المهاجرين واثنين فقط من الأنصار كانا من الفقراء.
والثاني: ألا يؤدي الغنى إلى الترف، وشاهده قوله عز وجل: )واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين (116)( (هود). وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «فوالله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم؟ فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم»[12][13].
وأكثر من ذلك أن النبي - عز وجل - حين قال:«المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يسلمه». [14] لم يجعله فقهاء المسلمين خالصا للوعظ، فنجد ابن حزم يعلق عليه بقوله: "من تركه يجوع ويعرى فقد أسلمه"، حتى يبلغ الأمر بالجائع أن يقاتل على حقه في فائض الطعام، فيقول ابن حزم: "فإن قتل الجائع فعلى قاتله القصاص، وإن قتل المانع فإلى لعنة الله" [15]!
ويطول بنا المقام جدا لو تعرضنا لسياسة المال في الإسلام، فذلك باب واسع تقوم عليه مصنفات برأسها، وإنما تعنينا هنا الإشارة إلى أن الإسلام حين يتخذ وسائله في التكافل الاجتماعي، إنما يحوطها بقيم دينية وأخلاقية، تقي النظام الإسلامي ما يحدث أحيانا عن الإحسان من سلبيات نفسية، يقول الأستاذ سيد قطب: "وبعض الباحثين النفسيين في هذه الأيام يقررون أن رد الفعل الطبيعي في النفس البشرية للإحسان هو العداء في يوم من الأيام!
وهم يعللون هذا بأن الآخذ يحس بالنقص أمام المعطي، ويظل هذا الشعور يحز في نفسه، فيحاول الاستعلاء عليه بالتجهم لصاحب الفضل عليه، وإضمار العداوة له.. وقد يكون هذا صحيحا في المجتمعات الجاهلية - وهي المجتمعات التي لا تسودها روح الإسلام ولا يحكمها الإسلام - أما هذا الدين فقد عالج المشكلة على نحو آخر، عالجها بأن يقرر في النفوس أن المال مال الله، وأن الرزق الذي في أيدي الواجدين هو رزق الله.. وهي الحقيقة التي لا يجادل فيها إلا جاهل بأسباب الرزق البعيدة والقريبة، وكلها منحة من الله لا يقدر الإنسان منها على شيء" [16].
وبهذه الحقيقة لا يكون إعطاء المعطي ولا أخذ الآخذ مثارا لاستعلاء ذاك ولا لضغينة هذا.
ثالثا. حول صحابة اليسار واليمين:
يراد باليمين - في سياق هذا التوظيف التاريخي - السلطة السياسية التي تستند إلى قوة اجتماعية من جهة الانتساب القبلي، ومن جهة الثروة، ويقابل اليسار ذلك كله من جميع وجوهه، فيتألف من فئة المستضعفين والمهمشين الذين يغلب عليهم الفقر المادي، وانعدام القدرة على التوجيه السياسي، وهؤلاء - عند نضج الوعي الطبقي - سرعان ما يقومون بالثورات ويقودون حركات المعارضة، وهذا هو المظهر الحسي للصراع الاجتماعي بين الفئات المسيطرة والفئات المسحوقة.
وقد أسلفنا من قبل ذكر شيء من وجوه النقص في هذا الكلام، وأن العدل الاجتماعي هو أقرب متناولا من هذا الدوران والتعقيد، وأن التعاليم الإسلامية لا تقيم وزنا للنسب العرقي ولا للثروة في تقدير الأفراد، وليس من سياسة المجتمع وسياسة المال ما يرد التفاوت في ذلك، وهذا إلى توازن طبقي لا صراع طبقي.
وقد تقدمت إشارات إلى ذلك كله، وعلينا هنا في المقام الأول أن نجيب عن سؤال مؤداه: لماذا خص بعض صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يكونوا حزب يمين وبعضهم بأن يكونوا من حزب اليسار؟ وعلى أي أصل كان هذا؟
إن نظرة واحدة في أسماء الصحابة الذين أدرجوا في حزب اليسار من أمثال سلمان الفارسي وأبي ذر، وعمار وصهيب - نظرة واحدة إلى هؤلاء تكفي في تصور الأساس الذي انبنت عليه هذه القسمة؛ فهؤلاء عامتهم من المستضعفين الذين لا تمنعهم عشيرة ولا يملكون مالا يستجلبون به ملق الأتباع، وفيهم من هو غير عربي أصلا كبلال، وصهيب، وسلمان، وهذا زيادة في التهميش والضعف الاجتماعي؛ فلذلك كانوا يساريين، مصنفين ضمن هذا الحزب دون سواه! وهذا الرأي يشبه أن يكون تزييفا لواقع ذلك العصر وشهادة عليه بقول زور!
إن هذا الرأي - أولا - يغفل الفارق الكبير بين نفسية الزاهد، ونفسية الفقير التي يلهبها الحقد على الموسرين، وإن عامة هؤلاء إنما كانوا زهادا ولم يكونوا فقراء على الوجه المحبط الذي يشعل صراعا بين الطبقات، ولو أنهم أرادوا المال لسعوا إليه سعيه ولنالوا منه نوالا حسنا، ومن عجب أن يجعل مثل علي بن أبي طالب على رأس صحابة اليسار مع شرفه القبلي والديني معا، ومع قدرته المادية، تلك التي أبان عنها أبو جعفر في قوله: ما مات علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - حتى بلغت غلته مائة ألف، ولقد مات يوم مات، وعليه سبعون ألفا دينا! فقيل له: من أين كان عليه هذا الدين؟ قال: كانت تأتيه حاميته من أصهاره ومعارفه ممن لا يرى لهم في الفيء نصيبا فيعطيهم".
فهو - إذن - جود نفس وسخاء جعله يملك مائة ألف، ثم يموت مدينا، فليس هو فقر غير الواجدين، وكذلك صهيب الرومي الذي لما أراد الهجرة إلى المدينة قال له أهل مكة: «أتيتنا صعلوكا حقيرا فتغير حالك! قال: أرأيتم إن تركت مالي أمخلون أنتم سبيلي؟ قالوا: نعم، فخلع لهم ماله، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ربح صهيب ربح صهيب» [17].
وليست هذه نفسية من يثور لشيء من الدنيا، لكن هؤلاء الماديين لا يعرفون هذه الفئة من البشر ولا ما يصنعه الإيمان فيها، فينكرون ذلك كله كما ينكر المرء ما يجهله.
ثم إن هذا الرأي يغفل حقيقة أن هؤلاء لم يكونوا في إسلامهم من المستضعفين في مجتمع المسلمين، ولم يكونوا يحسون من أنفسهم ذلك حتى لقد اجترءوا على أبي سفيان، وهو يومئذ شيخ قريش وسيدها، فعن عائذ بن عمرو «أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر؛ فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها! فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فقال صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر، لعلك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك! فأتاهم أبو بكر فقال: يا إخوتاه، أغضبتكم؟، قالوا: لا. يغفر الله لك يا أخي» [18]!
إن هؤلاء لم يكونوا يحسون ضعفا في أنفسهم، ولم يكن المسلمون يضمرون لهم شعور الاستضعاف والاستهانة؛ ذلك أن تقدير الناس - في عرف الإسلام - له موازين أخرى، كهذا الميزان الجديد الذي ينبه عليه قول ابن عمر: "ما قدم المهاجرون الأولون العصبة[19] قبل مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة، وكان أكثرهم قرآنا "وهكذا أمهم سالم - وهو مولى - لأنه أكثرهم قرآنا، وسالم هذا هو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل هذا» [20] وهو نفسه الذي رآه عمر الفاروق - رضي الله عنه - أهلا لخلافة المسلمين، فقال: "لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا لاستخلفته".
ولما طعن عمر - رضي الله عنه - استناب صهيبا ليصلي بالناس، فكان يقال: صلى عمر على أبي بكر، وصلى صهيب على عمر! وكان عمار بن ياسر - رضي الله عنهما - عاملا لعمر بن الخطاب على الكوفة، فأين ضعف العشيرة هنا وأين أثره، لكنه النظر الطائش الذي يتلمس روايات عذابهم في بدء الدعوة، وسابقتهم في الدين، فيظن أن هذه حالة لم تغادرهم مدى حياتهم، وأنهم ظلوا أبدا مستضعفين، وليس الأمر كذلك؛ بل إن الله استخلفهم في أرضه، ومكن لهم دينهم، بدلهم من بعد خوفهم أمنا بموجب إيمانهم به وبمقتضى الوعد الإلهي: )وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون (55)( (النور).
وهذا الرأي أيضا يغفل جانب العقيدة الدينية التي يأخذ بها هؤلاء، والتي تبعثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو خلق إسلامي، رفع الإسلام قدره حتى جعله من أسباب خيرية هذه الأمة، تمتاز به عن الأمم السابقة، التي لم يكن أهلها يتناهون عن منكر فعلوه، فبهذا الواجب الديني نهوا وأمروا، لا بوازع الحقد على الموسرين كما هو شأن اللصوص وصعاليك الجاهلية.
فهذا عمار بن ياسر يقول وهو يسير إلى صفين يقول: "اللهم لو أعلم أنه أرضى لك عني أن أرمي بنفسي من هذا الجبل فأتردى فأسقط فعلت، ولو أعلم أنه أرضى لك عني أن أوقد نارا عظيمة فأقع فيها فعلت، اللهم لو أعلم أنه أرضى لك عني أن ألقى نفسي في الماء فأغرق نفسي فعلت، وإني لا أقاتل إلا وأنا أريد وجهك، وأنا أرجو ألا تخيبني وأنا أريد وجهك" [21]!
وروي عن أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - أنه قال: «أوصاني خليلي - صلى الله عليه وسلم - بسبع؛ حب المساكين وأن أدنو منهم، وأن أنظر إلى من هو أسفل مني ولا أنظر إلى من فوق، وأن أصل رحمي وإن جفاني، وأن أكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله، وأن أتكلم بمر الحق ولا تأخذني في الله لومة لائم، وألا أسأل شيئا»[22].
فالدنو من المساكين وقول الحق في غير خوف من لومة لائمة - هي هنا أخلاق دينية، يقدم عليها هؤلاء الصحابة بباعث من دينهم، ولا نحس هنا شيئا يشير إلى فوارق الطبقة، أو أن ذلك خلق اليسار مع اليمين!
وأما القول بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدني إلى مجلسه السادة والأشراف يستشيرهم، ويقصي عنه هؤلاء المستضعفين فادعاء باطل لا يشهد له شيء من سيرته - صلى الله عليه وسلم - بل المعروف أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يستشير الحاضرين معه دون تفريق بين شريف ومولى، فإن شرف الإسلام كان يفاضل بينهم حتى يكون أكرمهم أتقاهم، وذلك ما كان منه يوم بدر حين أقدمت قريش على حرب المسلمين بعد أن أفلتت العير، فقد استشار النبي - صلى الله عليه وسلم - من كان حاضرا معه ممن سيتولون القتال بأنفسهم.
ويوم أحد كان رأي النبي - صلى الله عليه وسلم - ألا يخرجوا من المدينة، ثم عدل عن رأيه لما أفضت إلى ذلك الشورى، بل كان أكثر الذين تحمسوا لأمر الخروج من الشبان.
ويوم الخندق قال سلمان رضي الله عنه: "يا رسول الله، إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خندقنا"[23]، فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله، ولا يمنع من ذلك أنه ليس عربيا، فذلك لم يكن بالشيء المعتبر في ذلك الزمان.
وأما أن الدعوة الإسلامية كانت ستمضي على غير سيرتها إن كان مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - مشكلا من الصحابة المستضعفين الذين يجعلهم هؤلاء الزاعمون "حزب يسار"، فذلك أيضا زعم غريب.
فأي سيرة هي خير مما سارت عليه الدعوة؟ وأي نقص كان فيها؟ إن نجاح الدعوة الإسلامية أمر مقرر بين جميع دارسيها، وإنما يختلف غير المسلمين في تفسير هذا النجاح.
الخلاصة:
· يعمد المنهج المادي إلى مبادئ محددة سلفا يطبقها على العصور التاريخية بعامة، بزعم أنه قانون عام، وهو بذلك يحصر الظاهرة الإنسانية في تصوراتها ومشاعرها، وتوجهاتها في حدود ضيقة، وهذه هي نقطة الخلل الرئيسية في ذلك المنهج، لقد ظنه الماديون كافيا وحده في تفسير التاريخ في حين أنه غير كاف، وأوجه قصوره تظهر عند تطبيقه، ومحاولة تطبيقه على عصر الرسالة الإسلامية مثال لهذه المحاولات القاصرة.
· فكرة الطبقة الاجتماعية - بالمفهوم الماركسي - إنما تعبر عن وضع اجتماعي واقتصادي ظهر في المجتمعات الغربية، ولم تعرفها المجتمعات الإسلامية في تاريخها، بل اتخذ الإسلام عدة وسائل لمنع التنازع الطبقي بما جاء به من سياسة للمجتمع وسياسة للمال.
· تصنيف فئة من الصحابة على أنه من "حزب اليسار" لا يستند على أكثر من أنهم كانوا من المستضعفين قبل إسلامهم، أو كانوا من غير العرب، وكلا المعنيين أهمل إهمالا كاملا بعد ظهور الإسلام، وقيام دولته التي لم توافق على قيم الجاهلية وموازينها في تقدير الناس.
(*) تهافت العلمانية في الصحافة العربية، سالم البهنساوي، دار الوفاء، المنصورة، ط2، 1413هـ/ 1992م.
[1]. مقدمة في الفلسفة العامة، د. يحيى هويدي، دار الثقافة، القاهرة، ط8، 1974م، ص189.
[2]. الماركسية والنقد في الفلسفة والأدب والاجتماع، أوجست كورنو، ترجمة: محمود الشنيطي، دار القرن العشرين، القاهرة، د. ت، ص15.
[3]. الإسلام بين الأديان، د. محمد كمال جعفر، مكتبة دار العلوم، القاهرة، 1977م، ص98.
[4]. تاريخ الفلسفة الحديثة، يوسف كرم، دار المعارف، القاهرة، ط5، 1986م، ص404.
[5]. كتب الأستاذ العقاد هذا الحديث سنة 1954م.
[6]. رواد الوعي الإنساني في الشرق الإسلامي، د. عثمان أمين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2001م، ص31، 32.
[7]. رواد الوعي الإنساني في الشرق الإسلامي، د. عثمان أمين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2001م، ص23.
[8]. الدولة الأموية المفترى عليها، د. حمدي شاهين، دار القاهرة للكتاب، القاهرة، ط2، 2005م، ص100.
[9]. التكوين التاريخي للأمة العربية: دراسة في الهوية والوعي، د. عبد العزيز الدوري، مركز دارسات الوحدة العربية، بيروت، ط3، 1986م، ص38.
[10]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب الأمر بلزوم الجماعة عند ظهور الفتن (4898).
[11]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب سورة المنافقون (4624)، ومسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب، باب نصر الأخ ظالما أو مظلوما (6748).
[12]. أخرجه البخاري في صحيحه، أبواب الجزية والموادعة، باب الجزية والموادعة من أهل الذمة والحرب (2988)، ومسلم في صحيحه، كتاب الزهد والرقائق (7614).
[13]. الاقتصاد الإسلامي ومشكلة الفقراء، د. محمد شوقي الفنجري، كتاب العربي الرابع عشر، 1987م، ص183 بتصرف.
[14]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المظالم، باب لا يظلم المسلم ولا يسلمه (2310)، ومسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم (6743).
[15]. الاقتصاد الإسلامي ومشكلة الفقراء، د. محمد شوقي الفنجري، كتاب العربي الرابع عشر، 1987م، ص 181.
[16]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج1، ص307.
[17]. صحيح: أخرجه ابن حبان في صحيحه (15/ 557) برقم (7082)، وصححه الألباني في فقه السيرة (152).
[18]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل سلمان وصهيب وبلال رضي الله عنهم (6568).
[19]. العصبة: موضع بقباء.
[20]. صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب في حسن الصوت بالقرآن (1338)، والحاكم في مستدركه، كتاب معرفة الصحابة رضي الله عنهم، باب ذكر مناقب سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه (5001).
[21]. أخرجه ابن سعد في الطبقات (3/ 258)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (43/ 457).
[22]. صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (7/ 81) برقم (34350)، والطبراني في المعجم الكبير (2/ 156) برقم (1649)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (811).
[23]. أخرجه الطبري في تاريخه (1/ 495).