الزعم أن اتباع السلف الصالح رجعية وتخلف (*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المتقولين أن في اتباع المسلمين للسلف الصالح رجعية وتخلفا عن ركب الحضارة. ويرمون من وراء ذلك إلى حجب القدوة الصالحة عن المسلمين وإسقاط النموذج الإيماني والمثل الأعلى من مخيلتهم؛ وبذلك يصير المسلمون همجا رعاعا أتباعا لكل ناعق.
وجوه إبطال الشبهة:
1) اتباع السلف الصالح لا يتعارض مع الأخذ بأسباب التقدم الحضاري، بل لو أحسن المسلمون اتباع أسلافهم واقتفوا آثارهم لتقدموا، ولوجدوا أن الأخذ بأسباب المدنية والحضارة من مقتضيات اتباعهم السلف.
2) الطعن في اتباع السلف الصالح محاولة من أعداء الإسلام لهدمه عن طريق حجب القدوة الصالحة عن المسلمين.
3) إن الإسلام هو الرسالة الوحيدة التي بمقدروها - بما اشتملت عليه من تعاليم وقيم - أن تنقذ العالم من التخلف والانهيار، والمسلمون - على الرغم مما أصيبوا به من ضعف - لا يزالون الأمة الوحيدة التي تمتلك المقومات الحقيقية لقيادة الأمم.
التفصيل:
أولا. اتباع السلف لا يتعارض مع الأخذ بأسباب التقدم الحضاري:
الإسلام هو شرعة هذه الأمة ومنهاجها كما أوحاه الله إلى رسوله المبعوث إليهم - صلى الله عليه وسلم - رحمة منه وفضلا، يأخذون ما آتاهم، وينتهون عما نهاهم، ويتخذون وحي الله - عز وجل - المجموع في القرآن إماما لا يأتمون بسواه، ولا تطمح أبصارهم إلى غيره، ولا تنزع قلوبهم إلى ما عداه.
وقد آمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - والسلف الصالح بما جاءهم من الحق، سواء عرفوا وجه الحكمة فيما يأخذون وما يدعون، أو لم يعرفوه، إيمانا وتسليما، قال عز وجل: )وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون (153)( (الأنعام).
وإذا تجاوزنا هذا قلنا: إن الحضارة لغة: الإقامة في الحضر، والحضر خلاف البدو، وهي تطلق الآن - اصطلاحا - على كل ما ينشئه الإنسان في كل ما يتصل بمختلف جوانب نشاطه ونواحيه، فهي - في إطلاقها وعمومها - قصة الإنسان في كل ما أنجزه على اختلاف العصور، وتقلب الأزمان، وما صورت به علائقه بالكون وما وراءه. [1]
ولقد أشار القرآن الكريم بكل وضوح إلى شروط التمكين، ولوازم الاستمرار فيه، ولقد فهم السلف الصالح أن التمكين لدين الله، وإبدال الخوف أمنا، وعد من الله - سبحانه وتعالى - متى حقق المسلمون شرطه؛ إذ قال الله عز وجل: )وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون (55) وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون (56)( (النور).
فشروط التمكين - كما أشارت الآيات - هي: الإيمان بكل معانيه، وبكافة أركانه، وممارسة العمل الصالح بكل أنواعه، والحرص على كل أنواع الخير وصنوف البر، وتحقيق العبودية الشاملة، ومحاربة الشرك بكل أشكاله وأنواعه وخفاياه، وأما لوازم استمرار التمكين فهي: إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم [2].
ولقد فهم السلف الصالح أن الأخذ بالأسباب التي تؤدي إلى التمكين أمر أرشدنا إليه القرآن الكريم، وحثنا على الأخذ به سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - فقد أمر الله - سبحانه وتعالى - بالإعداد الشامل فقال عز وجل: )وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون (60)( (الأنفال).
ومعلوم أن الإعداد في حقيقته أخذ بالأسباب. وإن من أهم السنن الربانية التي ترتبط بالتقدم والتمكين سنة الأخذ بالأسباب؛ ولذلك يجب على الأفراد والجماعات العاملة على التمكين لدين الله من فهمها واستيعابها وإنزالها على أرض الواقع، كما فعل ذلك من قبلنا سلفنا الصالح، والقاعدة تقول: إن البدايات المتشابهة تعطي نتائج متشابهة، وعليه، فليس مطلوبا منا سوى الأخذ بالأسباب؛ لنصل - في الدنيا - إلى المكانة التي نرجوها ونرضاها لأنفسنا.
هذا وقد أمر الله - عز وجل - عباده المؤمنين بضرورة العمل، والسعي، والأخذ بالسبب؛ فقال عز وجل: )وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون (105)( (التوبة)، وقال عز وجل: )هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور (15)( (الملك)، ولقد أخبرنا القرآن الكريم أن الله تعالى طلب من السيدة مريم - عليها السلام - أن تباشر الأسباب وهي في أشد حالات ضعفها؛ فقال سبحانه وتعالى: )وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا (25)( (مريم). وهكذا يؤكد القرآن الكريم على ضرورة مباشرة الأسباب في كل الأمور والأحوال.
ولقد قدر الله - سبحانه وتعالى - لدينه أن ينتصر، وللمسلمين أن يمكنوا، وللمشركين أن ينهزموا، ومع ذلك فهل قال الله - سبحانه وتعالى - للمسلمين: ما دمت قدرت لكم النصر والتمكين، فاقعدوا وانتظروا إنفاذ قدري، وهو لا بد نافذ؟ كلا، وإنما قال لهم: )وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله( (الأنفال: 60)، وقال سبحانه وتعالى: )ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض( (محمد: 4)، وقال عز وجل: )يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم (7)( (محمد)، فلا بد من اتخاذ الأسباب للنصر والتمكين، حتى وإن كان هذا النصر وذاك التمكين قدرا مقدورا من عند الله.
وليس الله - سبحانه وتعالى - عاجزا عن نصرة الحق بغير الأدوات البشري، فهو الذي يقول للشيء كن فيكون، ولكن هكذا اقتضت مشيئته، وهكذا تجري سنته، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أفضل المتوكلين، كان أوعى الناس لهذه السنة الربانية؛ فكان - صلى الله عليه وسلم إبان إرسائه دعائم الدعوة الإسلامية - يأخذ بكل ما في وسعه من أسباب، ولا يترك شيئا يسير جزافا، والمتتبع للسيرة النبوية يلمس ذلك تماما... ففي الهجرة - على سبيل المثال - لم يترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرا من الأمور إلا أعد له عدته، وحسب له حسابه، ورسم له خطته على نحو يستوعب كل الطاقات والوسائل.
فقد أعد النبي - صلى الله عليه وسلم - الرواحل والدليل، واختار الرفيق والمكان الذي سيتوارى فيه - هو وصاحبه - حتى يهدأ الطلب، وتفتر الحماسة، وأحاط ذلك كله بما يمكن للبشر من أخذ الحذر، والكتمان، وأسباب الاحتياط، وترك للإرادة الإلهية - بعد ذلك - ما لا حيلة له فيه. وكذلك الأمر بالنسبة لغزوة بدر، وأحد، والأحزاب... وجميع غزواته - صلى الله عليه وسلم - وكل أموره.
وكان - صلى الله عليه وسلم - يوجه أصحابه دائما إلى مراعاة هذه السنة الربانية في أمورهم الدنيوية والأخروية على السواء؛ ففي أمورهم الدنيوية كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرشدهم دائما إلى الأخذ بما يمكن من أسباب الوصول إلى حياة كريمة بعيدا عن ذل السؤال ومهانة العوز والحاجة.
روى عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - عن النبيـ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يوم القيامة ليس في وجهه مزعة[3] لحم». [4] وروى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يغدو - أحسبه قال: إلى الجبل - فيحتطب فيبيع فيأكل ويتصدق، خير له من أن يسأل الناس» [5].
وهذا المعنى نفسه الذي أشار إليه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين قال للكسالى القابعين في المسجد ينتظرون الرزق: لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق، ويقول: "اللهم ارزقني" وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة، وإن الله - عز وجل - يقول: )فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون (10)( (الجمعة).
نعم، لا بد من بذل الجهد؛ لأن الأخذ بالأسباب والكدح للحصول على ما يرغب الإنسان في تحقيقه هو ذاته من سنن الله تعالى...
إن استيعاب وفهم سنة الأخذ بالأسباب لأفراد الأمة الإسلامية وجماعتها، كما فهمها السلف الصالح هو السبيل إلى انتشال المسلمين من تخلفهم عن ركب الحضارة، وهو - بعد الله عز وجل - المعين لهم على التقدم والرقي والعزة.
إن التغيير الإسلامي الذي تنشده الأمة لا يمكن تحقيقه من غير جهاد، وبدون صياغة جيل مجاهد، فالمهمة التغييرية مهمة شاقة، فالقوى الظاهرة والخفية القابضة على الزمام في العالم قوى شريرة، وقد هيأها أعداء الإسلام لهذا الدور من زمن بعيد، وهي تعمل ليل نهار على خفت صوت الإسلام بشتى الطرق والوسائل، وإزالة هذه القوى، وإقامة الإسلام مكانها ليس بالأمر السهل، فهي ستتشبث بمواقعها حتى النفس الأخير، وذلك يحتاج - أولا وقبل كل شيء - إلى تربية جهادية تخرج أنماطا من المجاهدين، يحبون الموت كما يحب الناس الحياة، ويعيشون هم الإسلام وقضاياه ليلهم ونهارهم.
ولا بد من بناء قاعدة صلبة متينة تستطيع أن تصمد في هذا الصراع الجبار، وتقف في وجه المؤامرات، وتجاهد في كل المجالات والجبهات، وتدفع ثمن التمكين لدين الله في الأرض من زهرة أبنائها الشهداء.
إن الواجب على الأمة الإسلامية اليوم لتنهض وتتقدم وترقى في مصاعد المجد، أن تجاهد بمالها ونفسها الجهاد الذي أمرها الله به في القرآن الكريم مرارا وتكرارا، فالجهاد بالمال والنفس هو العلم الأعلى الذي يهتف بالعلوم كلها، فإذا تعلمت الأمة هذا العلم وعملت به دانت لها سائر العلوم والمعارف" [6].
وبهذا التفصيل يتبين لنا أن الزاعمين أرادوا خلط الأمور وتشويه الحقائق، ولكن الحق خلاف ما زعموا، فاتباع السلف الصالح هو سبيل المسلمين إلى التقدم والتطور والصدارة.
ثانيا. محاولة وصم اتباع السلف بمصطلحات لا أصل لها، ليس إلا محاولة لتعميق الهوة بين المسلمين ونموذج القدوة:
وليس من شك في أن مثل تلك الهوة من شأنها أن تجرد المسلمين من تمثل النموذج المحتذى؛ فيصيروا بذلك همجا رعاعا، أتباعا لكل ناعق، وبذلك يصير كل مسلم محض إمعة، إن أحسن الناس أحسن، وإن أساءوا أساء.
وضمن منظومة التغريب، وتحت ضغط نزوات الغزو الثقافي، لم يدخر أولئك المغربون جهدا في استبدال كل ما هو سلفي؛ [7] إيمانا منهم بأن "هدم القمم طريق مختصر لهدم الإسلام"؛ فبذلك الهدم تتسع الهوة - على نحو ما ذكرنا - فيسهل هدم الدين وإطفاء نوره [8].
على أنه ينبغي ألا يغيب عن الأذهان أننا حين ننفي كون اتباع السلف جمودا وتخلفا لا نقصد بذلك - فقط - الدفاع عن ذاك الجيل الفريد، بقدر ما نقصد إلى الذب عن تعاليم القرآن الكريم والسنة المطهرة التي تمثلها ذلك الجيل تمثلا دقيقا حتى أصبحا وجهين لعملة واحدة.
ولا يبعد هذا عن اتهامهم ذاته؛ فهو لا يحمل من الطعن في أولئك الرجال بقدر ما يطعن في الدين الذي تمثل فيهم، ولعل هؤلاء انتهزوا فرصة ضعف المتأخرين من هذه الأمة وتخلفهم عن ركب أسلافهم وتعاليم دينهم وأخذوا يوهمونهم بأن ما هم فيه من التخلف إنما هو بسبب اتباعهم أسلافهم وليس الأمر كذلك؛ إذ هؤلاء أبعد ما يكونون عن نهج أسلافهم، لكن أولئك الملأ استغلوا الفرصة وحققوا غير قليل مما قصدوا إليه من حملتهم هذه وتشكيكاتهم تلك.
ومعلوم أن "الغرب استطاع أن يضع يده على العالم الإسلامي كله منذ قرن أو أكثر، وكان المسلمون في حال يرثى لها من التخلف المادي والأدبي، على حين كانت النهضة الصناعية مزدهرة في أقطار أوربا وتيقظت معها علوم وفلسفات إنسانية كثيرة، فلما قدم الصليبيون الجدد كانت الأرض ممهدة لهم كي يصنعوا ما شاءوا، وقد شرعوا لفورهم يعملون ضد الإسلام فمزجوا الختل بالقتل، ومشى الغزو العسكري بين طلائع من الغزو الفكري، وأحكم المغيرون خطتهم هذه المرة، فإذا الغارة الجديدة تفتك بالإسلام فتكا ذريعا، وتحقق في القرن العشرين ما لم تحققه في حروبها من عشرة قرون" [9].
وإذا كان هؤلاء يخبطون في أحكامهم خبط عشواء دونما برهان يثبت، أو دليل يعضد ويؤكد؛ فقصورهم عن إيجاد دليل على زعمهم هو أدل دليل على كذبهم، والتماس الدليل فيما لا يعد دليلا ضرب من فقدان المرجعية والحجة.
ثالثا. الإسلام هو الرسالة الوحيدة التي تستطيع إنقاذ العالم من التخلف والانهيار؛ وذلك لما اختصت به من مقومات الحياة وخصائصها:
من الواقع الغريب أن المسلمين قد أصبحوا في الزمن الأخير - في كثير من نواحي الأرض حتى في مراكز الإسلام وعواصمه - حلفاء للجاهلية الأوربية وجنودا متطوعين لها، بل صارت بعض الشعوب والدول الإسلامية ترى في الشعوب الأوربية، التي تزعمت حركة الجاهلية منذ قرون ونفخت فيها روحا جديدة، وركزت أعلامها على الشرق والغرب، ناصرا للمسلمين حاميا لذمار الإسلام المستضعف، حاملا لراية العدل في العالم قواما بالقسط.
ورضي عامة المسلمين بأن يكونوا ساقة عسكر الجاهلية بدلا من أن يكونوا قادة الجيش الإسلامي، وسرت فيهم الأخلاق الجاهلية ومبادئ الفلسفة الأوربية سريان الماء في عروق الشجر، فترى المادية الغربية في البلاد الإسلامية في كثير من مظاهرها وآثارها، ترى تهافتا على الشهوات ونهما للحياة، نهم من لا يؤمن بالآخرة، ولا يوقن بحياة بعد هذه الحياة، ولا يدخر من طيباتها شيئا.
كما ترى تنافسا في أسباب الجاه والفخار وتكالبا عليها، فعل من يغلو في تقويم هذه الحياة وأسبابها، وترى إيثارا للمصالح والمنافع الشخصية على المبادئ والأخلاق، شأن من لا يؤمن بنبي ولا بكتاب، ولا يرجو معادا، ولا يخشى حسابا.
وترى حبا للحياة وكراهة للموت، دأب من يعد الحياة الدنيا رأس بضاعته، ومنتهى أمله ومبلغ علمه، وترى افتتانا بالزخارف والمظاهر الجوفاء، كالأمم المادية التي ليست عندها أخلاق ولا حقيقة حية، وترى خضوعا للإنسان، واستكانة للملوك والأمراء ورجال الحكومة والمناصب وتقديسهم شأن الأمم الوثنية وعبدة الأصنام.
ولكن برغم كل ما أصيب به المسلمون من علة وضعف فإنهم لا يزالون الأمة الوحيدة على وجه الأرض، التي تعد خصيم الأمم الغربية وغريمتها ومنافستها في قيادة الأمم، ومزاحمتها في وضع العالم، والتي يعزم عليها دينها أن تراقب سير العالم وتحاسب الأمم على أخلاقها وأعمالها ونزعاتها، وأن تقودها إلى الفضيلة والتقوى، وإلى السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة، وتحول بينها وبين جهنم بما استطاعت من القوة، والتي يحرم عليها دينها ويأبى وضعها وفطرتها أن تتحول أمة جاهلية" [10].
هذا ولن ينهض العالم الإسلامي إلا برسالته التي وكلها إليه مؤسسه - صلى الله عليه وسلم - والإيمان بها والاستماتة في سبيلها، وهي رسالة قوية واضحة مشرقة، لم يعرف العالم رسالة أعدل ولا أفضل ولا أيمن للبشرية منها" [11].
وبإمكاننا بمقارنة سريعة بين جيل الصحابة - رضي الله عنهم - والأجيال التي تعيش اليوم في الجاهلية الأوربية المعاصرة أن نحسم الكلام في هذه النقطة، فأيهما هو الإنسان في أعلى صورة؟ أيهما الذي يعيش بمشاعر الإنسان وأفكار الإنسان وأخلاقيات الإنسان وسعة أفق الإنسان والعمل والكدح اللائق بالإنسان؟
الإجابة واضحة دون شك، وحاسمة كذلك.. إن ذلك الجيل الذي لم يكن يملك من أشكال الحضارة المادية والتنظيمية إلا القدر الأدنى هو أعظم أجيال البشرية قاطبة غير منازع. والأجيال التي تعيش اليوم في الجاهلية المعاصرة هي من أسوأ أجيالها إن لم تكن أسوأها، وإن كانت تملك أعلى قدر من الحضارة المادية والتنظيمية في تاريخ البشرية، وذلك لأنها تعرت من القيم وتنكرت لها إلا القيم النفعية البحتة، لذلك نسمي حضارتها حضارة هابطة، في مقابل الحضارة الرفيعة المتمثلة في ذلك الجيل الفريد، حضارة القيم العليا والمبادئ السامية.
من هنا نقول باطمئنان: إن الإسلام هو الحضارة، وإن المجتمع المسلم - كامل الإسلام - هو المجتمع المتحضر، أيا كان القدر الذي يشتمل عليه من الأشكال المادية والتنظيمية. ولكن الأمر الطبيعي في الفطرة السوية أنها تسعى لإشباع الجوانب الحسية والجوانب المعنوية معا في ذات الوقت بلا تعارض ولا تناقض، بل على توازن واتساق.
وهذا التكامل في الفطرة وفي الحياة الواقعية علامة صحية بالنسبة للإنسان، الذي خلقه الله من قبضة من طين الأرض ونفخ فيه من روحه؛ يقول عز وجل: )إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين (71) فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (72)( (ص).
ولئن كـان الإسلام قد وضع القيم المعنوية في المقدمة - كما يـنـبغي لها أن تكون - فإنه لم يهمل الجوانب الأخرى ولا دعا إلى مصادرتها، بل أعطى كل ذي حق حقه؛ فقال عز وجل: )زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب (14) قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد (15) الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار (16) الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار (17)( (آل عمران).
فأما إذا جنح الإنسان بأحد جانبيه على حساب الآخر، فهنا يحدث الخلل في حياته، سواء جنح إلى الجانب الروحي وأهمل المادي كما تصنع الرهبانية والهندوكية والبوذية، أو جنح إلى الجانب المادي وأهمل الروحي، كما تصنع الجاهلية المعاصرة.
إنما يسعى الإسلام لإشباع الجوانب كلها، فينتج من ذلك الإنسان السوي الذي يحقق التوازن على المستوى الرفيع؛ لذلك كان قيام الجانب المادي والتنظيمي من الحضارة - بعد استكمال الجانب المعنوي القائم على القيم العليا والمبادئ السامية - أمرا طبيعيا في حياة المجتمع المسلم، وعلامة صحية كذلك.
ولئن كان هذا الأمر قد استغرق فترة من الوقت، فقد كان ذلك بالنسبة لخلو الحياة العربية السابقة من كثير من أشكال الحضارة المادية والتنظيمية، وعدم شعورها بالحاجة إلى تغيير واقعها الذي تعيشه بكل تفصيلاته [12].
ولا يضير الدين الإسلامي ولا أتباعه الذين تمثلوه خير تمثل أن خلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى، وليس تخلف بعض من ينسبون لما كان السلف يقيمونه على أنفسهم منهاج حياة دليلا على تخلف المسلمين عامة ورجعية دينهم الإسلام، والواقع يشهد بذلك، وصدق الشاعر حين قال:
يقولون في الإسلام ظلما بأنه
يصد ذويه عن طريق التقدم
فإن كان ذا حقا فكيف تقدمت
أوائله في عهدها المتقدم
وإن كان ذنب المسلم اليوم جهله
فماذا على الإسلام من جهل مسلم
ولعل من الأقرب للصواب أن نشهد لمتبعي هذا الدين بتعاليمه ونظمه بالسبق - إن تمثلوه التمثل الأمثل - على نحو ما كان المسلمون الأول، ولو أن المتأخرين اتبعوه حقا لسادوا وما سيدوا وقادوا وما قيدوا، ولما علم أن الفرق بين الأوائل والمتأخرين من المسلمين في السيادة والتبعية بين، وعلم أن المسلمين الأول كانوا ينهجون الإسلام منهاج حياة؛ علم بذلك أصالة أن المتأخرين أهملوا ما اهتموا به، فحرموا ما رزقه أولئك من التمكين، ولو كانوا متبعين حقا لكان لهم ما كان لأسلافهم!
على أن الأمة الإسلامية التي قضت على وثنية الجاهلية فأبدلتها، وقلبت موازين المجتمع وتحولت به تحولا خطيرا قصيرا في حساب التاريخ، من الممكن "أن تعود في حين من الأحيان خطرا على النظام الجاهلي الذي بسطته أوربا في الشرق والغرب، وأن تحبط مساعيها". [13])فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم (63)( (النور).
الخلاصة:
· ليس في اتباع الخلف للسلف ما يزعمه بعض المتقولين من رجعية وتخلف، بل لن يصلح آخر هذه الأمة - وينقذه من براثن التبعية، ومهاوي الضياع - إلا ما صلح به أولها.
· إن الطعن في سلف الأمة ليس في مجمله سوى محاولة صريحة لتغييب الهوية، وإسقاط النموذج القدوة من حياة المسلم؛ فيصير المسلمون جميعا همجا رعاعا سوقة، أتباعا لكل ناعق.
· لا يخفى علينا أن وصم السلف بالتخلف والرجعية لا يطعن فيهم أشخاصا، بقدر ما يطعن في الدين الحق الذي تمثلوه وصاروا وإياه وجهين لعملة واحدة، لاتنفك مواثيقها، ولا تنفصم عراها.
· إذا كان هؤلاء الأدعياء يخبطون في أحكامهم خبط عشواء دونما بينة تشهد، أو حجة تعضد، أو دليل يؤكد، فقصورهم عن إيجاد الدليل على مزاعمهم أدل دليل على ضعف موقفهم، ومعلوم أن التماس الدليل فيما لايعد دليلا ضرب من فقدان المرجعية والحجية.
· إن دعواهم تلك تندرج تحت منظومة التغريب ضمن حملة الغزو الثقافي، تحت شعار التقدمية، بسيف هدم القمم، وهو أخصر طريق خطط به الأعداء لهدم الإسلام.
· إننا مع إقرارنا بما آل إليه واقع المسلمين - في الآونة الأخيرة - من تبعية للجاهلية الأوربية - نقول: إن المسلمين برغم هذا الضعف وتلك التبعية لا يزالون الأمة الوحيدة التي تقف موقف الغريم المنافس للغرب في قيادة الأمم، ومزاحمتها في وضع العالم.
· إن الأمة الإسلامية التي قضت في زمن قصير جدا على وثنية الجاهليين، لمن الممكن أن تعود في حين من الأحيان بشكل يمثل خطرا واضحا على جاهلية الأوربيين المبسوطة غربا وشرقا؛ )فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم (63)( (النور).
(*) تهافت العلمانية في الصحافة المعاصرة، سالم علي البهنساوي، دار الوفاء، مصر، ط2، 1413هـ/ 1992م.
[1]. الإسلام والحضارة الغربية، محمد محمد حسين، دار الرسالة، السعودية، ط9، 1413هـ/ 1993م، ص5، 6.
[2]. فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2003م، ص187.
[3]. المزعة: القطعة.
[4]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب من سأل الناس تكرارا (1405)، ومسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب كراهة المسألة للناس (2445).
[5]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب قوله تعالى: ) لا يسألون الناس إلحافا ( (البقرة: ٢٧٣) (1410).
[6]. فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2003م، ص248: 261 بتصرف.
[7]. السلفي: كل من ينتمي لنهج سلف الأمة من جيل الصحابة ومن تبعهم.
[8]. حرمة أهل العلم، د. محمد بن إسماعيل المقدم، دار ابن الجوزي، القاهرة، ط1، 2005م، ص331 بتصرف يسير.
[9]. ظلام من الغرب، محمد الغزالي، دار القلم، دمشق، ط1، 1420هـ/ 1999م، ص144.
[10]. ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، أبو الحسن الندوي, مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط1، 1418هـ/ 1997م، ص196، 197.
[11]. ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، أبو الحسن الندوي, مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط1، 1418هـ/ 1997م، ص199.
[12]. واقعنا المعاصر، محمد قطب، مؤسسة المدينة للصحافة والنشر، السعودية، ط3، 1410هـ/ 1989م، ص102، 103.
[13]. ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، أبو الحسن الندوي, مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط1، 1418هـ/ 1997م، ص197.
husbands who cheat
open my boyfriend cheated on me with a guy
generic viagra softabs po box delivery
viagra 50 mg buy viagra generic