مرحبًا بكم فى موقع بيان الإسلام الرد على الافتراءات والشبهات
 بحث متقدم ...   البحث عن

الصفحة الرئيسية

ميثاق الموقع

أخبار الموقع

قضايا الساعة

اسأل خبيراً

خريطة الموقع

من نحن

ادعاء أن قسوة خالد بن الوليد كانت وراء عزل عمر بن الخطاب له عن قيادة الجيوش (*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعص المتقولين أن ما كان من عزل الفاروق عمر بن الخطاب أمير المؤمنين لخالد بن الوليد عن قيادة الجيوش؛ ليس إلا نتيجة طبيعية لما عرف عن خالد بن الوليد من قسوة، أجملها عمر بقوله لأبي بكر: "إن في سيفه رهقا"، ويدللون على ادعائهم قسوته تلك بمثالين؛ أولهما في حياة النبي صلى الله عليه وسلم: حين قتل بني جذيمة متعمدا ذلك، وثانيهما بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم: في حروب الردة، ويمثلون له بأمره بقتل مالك بن نويرة وبنائه بزوجته في الليلة ذاتها. ويرون أن عزل عمر لخالد ترك في نفسه من الحقد والغيظ ما أوشك أن يؤلب الثوار على أمير المؤمنين عمر. ويرمون من هذا وذاك إلى اتهام صحابة النبي - رضي الله عنهم - بتحكم أهوائهم في سيوفهم؛ زاعمين فساد عصرهم، وانحرافهم عن هدي نبيهم.

وجها إبطال الشبهة:

1)  الحرب هي الحرب، والسياسة الاستراتيجية محض توازن بين "غاية السلم" و "هدف الحرب"، وليس من شك في أن خالدا توصل بالحرب إلى فاعليتها المطلقة بقدر ما استطاع تحقيق التوازن؛ فأقام سلما لا يتعارض مع فاعلية الحرب:

·   ثقل المهمة الملقاة على كاهل سيف الله خالد بن الوليد من جهة، وطبيعة الفتنة بعد استفحالها في الجزيرة كلها من جهة ثانية، وكذلك تفوق الأعداء عدة وعتادا من جهة ثالثة؛ لكل ذلك كان لا بد من إظهار الحسم واستخدام القوة للقضاء على الفتنة والنجاح في المهمة.

·   كثرة القتلى في بعض المعارك لا يدل على عنف خالد أو قسوته بل يدل على تفوق في خطط يحالفه التوفيق فيها على الدوام مع أن جيشه كان دائما الأقل عدة وعتادا، وإنما كان يصح وصفه بتلك القسوة لو تعرض للمدنيين بوحشية وهو ما لم يحدث.

·   هل من الإنصاف أن توصم أساليب خالد بالقسوة والتعارض مع المفاهيم الحضارية، ويعتبر ما يحدث في "عالم الحروب" في ظل الحضارة والتقنية الحديثة ظاهرة طبيعية لا تستدعي استنكارا أو اعتراضا؟!!

·       ما حدث في بني جذيمة من القتل كان على سبيل الخطأ أو سوء تأويل الجنود لكلامه.

2)  لقد عزل عمر بن الخطاب خالد بن الوليد رضي الله عنهما مرتين عن قيادة الجيوش، على أن عاقلا لم يقل بأن قسوة الثاني كانت وراء عزل الأول له، بل كانت لأسباب أخرى؛ منها:

·       حفظ عقيدة التوحيد نقية؛ حتى لا يفتن الناس بخالد ويظنوا أن النصر في ركابه ويضعف يقينهم بالله.

·       إفساح المجال لطلائع جديدة من القيادات، مثل أبي عبيدة وعمرو بن العاص والمثنى بن حارثة وغيرهم.

·   اختلاف منهجهما في السياسة العامة؛ فسياسة عمر تتسم بالمركزية الشديدة في كل التفاصيل، وخالد لا يحب أن يتحرك إلا في إطار إدارة لا مركزية كما كان على عهد أبي بكر.

·   اختلاف النظر في صرف المال؛ فعمر يرى حبس المال على ضعفة المهاجرين، في حين كان خالد يرى أن يعطيه ذوي البأس تأليفا لهم.

على أن هذا العزل لم يترك في نفس أيهما أثرا يذكر؛ بل سارت الأمور في مجاريها الطبيعية.

التفصيل:

أولا. خالد بن الوليد رجل حرب من الطراز الأول يضع الأمور في مواضعها، ويزن الأشياء بميزانها:

حقا كان سيف الله "خالد بن الوليد" تجسيدا رائعا لما ينبغي أن يكون عليه القائد المسلم، وصدق المتنبي حين قال:

ووضع الندى في موضع السيف بالفتى

مضر كوضع السيف في موضع الندى

ولا يضير خالد بن الوليد أن كان في بعض المواقف العسكرية قاسيا بعض الشيء، ما دام الموقف ذاته مقتضيا لذلك، بل إن العكس هو ما يؤخذ عليه، ومعلوم أنه " لم يقم أي محارب مقام خالد بن الوليد في مقاومة أهل الردة، والقضاء على فتنتهم، ولقد كانت حروب الردة - التي استمرت ملتهبة حوالي سنة كاملة - أعنف ما شهد العرب المسلمون في تاريخهم العسكري" [1].

ثقل المهمة وطبيعة الفتنة:

ونعتقد أننا بحاجة - في هذا الصدد - أن نلقي بعض الضوء على طبيعة المهام الملقاة على عاتق هذا القائد الهمام؛ لنعلم أولا أن ليس ثمة سياسة تصلح للنهوض بتلك المهام أفضل من تلك التي ألهم الله بها سيفه المسلول - خالد بن الوليد - ولقد نجح خالد في قيادته تحت راية الرسول وفي حياته، وكان من أبرز قادته صلى الله عليه وسلم، وفي حروب الردة قام خالد وحده بأوفر قسط منها؛ فله في قتالهم الأثر الأعظم؛ حيث قمع أخطر الفتن في الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها؛ قمع فتنة بني أسد وحلفائهم، وخطرها أنها كانت أقرب الفتن إلى المدينة ومكة، وقمع فتنة بني حنيفة، وخطرها أنها كانت فتنة القبيلة الأقوى والأكثر عددا بين العرب قاطبة، فكان نصيب خالد من وقاية الإسلام في أرضه أوفى نصيب [2].

لقد كانت فلسفة الأمر الواقع، ودواعي المقام يفرضان على خالد بن الوليد استخدام القوة والعنف للقضاء على الفتنة المشتعلة؛ تمشيا مع منهج الإسلام وروحه في إخماد الفتن وإقرار الأمن بأقل قدر من إراقة الدماء وخسارة الأرواح؛ فمثلا إذا نظرت لقبيلة بني حنيفة التي ذكرناها، ومعلوم أنها بزعامة مسيلمة، وارتدادها - مع ما لها من عدد كثير - تجد أنها تمثل أكبر خطر على المسلمين، ولكن بعد حرب خالد لها أخمدت الفتنة، ويتأكد ذلك من محادثات مجاعة مع خالد وخدعته له بإخراج النساء إلى الحصون والتظاهر بأنهن من الرجال المقاتلين، وعندما فتحت الحصون لم يجد خالد سوى النساء والأطفال.

وكان خالد في معاركه كلها يسعى للقاء قادة الأعداء ويعمل على قتلهم منذ بداية الاشتباك؛ فقتل هرمز في "ذات السلاسل"، وقتل قارن في "وقعة المذار"، وقتل مالك بن قيس في " أليسوذلك لإزاحة رؤوس الفتنة وفتح طريق الدعوة أمام الناس دون عوائق.

وعاد خالد في معركة "دومة الجندل" فبدأها بقتل أكيدر بن عبد الله، والجودي بن ربيعة، وقذف بهما على أبواب الحصن تخويفا للناس حتى أمكنه تحقيق النصر.

أما ما روي في نتائج بعض المعارك من قتل أعداد كبيرة كما في "الثني" و"الزميل" وغيرها من المعارك كمعركة "الفرائض" التي ورد أن الجيش الإسلامي قتل فيها مائة ألف - ما يروى من ذلك كله لا يدل على عنف أو قسوة، بل إنه لقاء جيوش عسكرية في الميدان ودائما ما كان المسلمون هم الأقل عددا وعتادا، لكن عناية الله وتوفيقه لخالد أيدته بهذه الانتصارات الساطعة في الميدان ولا علاقة لهذا بالمسالمين من الشعوب غير المحاربين، فالمسلمون كانوا لا يحاربون إلا الجيوش المسلحة، فإذا دخلوا المدن لم يمسوا أحدا بسوء وتركوا للناس حرية الاعتقاد.

ومهما يكن من أمر، فإن البحث عن الفاعلية في الحرب وتجاوز كل الحدود لم يكن ولن يكون أبدا هدف السياسة الاستراتيجية في الإسلام عبر التاريخ، ولئن استخدم خالد بعض الشدة والحزم في بعض المراحل؛ فذلك لأن الفتنة كانت في أوجها وليس ذلك لأن العنف والقسوة كانا في طبعه، بل من أجل إقرار الأمن والقضاء على الفتنة التي كادت تطيح بالدولة الإسلامية الوليدة في مهدها، وكان ذلك النجاح هو المثل الأعلى لما يطمح قائد في تحقيقه والوصول إليه. ولئن كان هناك من يجد في أساليب خالد قسوة تتعارض مع المفاهيم الحضارية، فلينظر إلى ما تعرضت له الإنسانية - ولم تزل - من ويلات الحروب الحديثة في ظل الحضارة والتقنية لعالم القرن العشرين وما بعده [3].

 ونحن من جانبنا نسوق لمن أدهشتهم عبقرية خالد فراحوا ينسجون حول شجاعته - غير معهودة النظير - الأقاصيص والأحاجي، فمنهم من قال بقسوته ومنهم قال بزهوه، فقط نريد أن نسوق لهم قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بلغه أن أحد الصحابة تكلم في خالد، قال صلى الله عليه وسلم: «لا تؤذوا خالدا فإنه سيف من سيوف الله صبه الله على الكفار»[4] [5].

ونهمس في أذنهم بقول معاذ بن جبل للناس - يوم اليرموك - مثنيا على خالد: أما والله إن أطعتموه، لتطيعن مبارك الأمر، ميمون النقيبة، عظيم الغناء، حسن الحسبة والنية[6].

قتلى بني جذيمة على سبيل الخطأ أو التأويل:

ويحسن بنا في هذا السياق أن نمثل لهؤلاء ببعض النماذج؛ ليعلموا أن بعض المواقف قد تصدر على سبيل الخطأ، أو سوء الفهم الناجم عن اختلاف اللهجات، وقع فيه منفذو كلامه حملا على وجه غير وجهه الذي قصده، ومن نماذج ما وقع على سبيل الخطأ غير المتعمد ما كان من قتل خالد لبني جذيمة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنعرض هذا الموقف لنرى رد فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه؛ يقول الحافظ الذهبي - ملخصا رد ابن تيمية عليهم -: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل خالدا بعد الفتح إلى بني جذيمة، فلم يحسنوا أن يقولوا: "أسلمنا"، فقالوا: "صبأنا، صبأنا"، فلم يقبل ذلك، وقال: ليس ذلك بإسلام، فقتلهم»[7]، فأخطأ في اجتهاده... وحاشا خالدا أن يكون معاندا للنبي صلى الله عليه وسلم، بل كان مطيعا له وإن أخطأ في هذه المرة، كما أخطأ أسامة بن زيد في قتل ذلك الرجل الذي قال: «لا إله إلا الله»، [8] «وقتل السرية لصاحب الغنيمة الذي قال لهم: السلام عليكم؛ فنزلت فيهم: )يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا( (النساء: 94)» [9].

فخالد - رضي الله عنه - لم يكن متعمدا قتل بني جذيمة، بل كان في فعله مجتهدا، تأول فأخطأ، ولذلك لم يعاقبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صنيعه، بل ولم يعزله عن الإمارة، بل ولم يزل يؤمره ويقدمه ويرسله على رأس السرايا لمحاربة الكفار والمشركين، وبعض الشيعة يعترف بهذا؛ فقد ذكر الفضل بن الحسن الطبرسي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل خالدا على رأس سرية إلى الأكيدر صاحب دومة الجندل، وكان ذلك في غزوة تبوك، أي: بعد فتح مكة، وفعل خالد ما فعل "لأن الأمير إذا جرى منه خطأ أو ذنب، أمر بالرجوع عن ذلك، وأقر على ولايته، ولم يكن خالد معاندا للنبي صلى الله عليه وسلم، بل كان مطيعا له، ولكن لم يكن في الفقه والدين بمنزلة غيره، فخفي عليه حكم هذه القضية"[10].

وكان من الذين جاءهم خالد بن الوليد قوم مالك بن نويرة، وكانوا قد منعوا زكاة أموالهم ولم يدفعوها لأبي بكر الصديق بل لم يدفعوها أصلا. فجاءهم خالد بن الوليد، فقال لهم: أين زكاة الأموال؟ مالكم فرقتم بين الصلاة والزكاة؟ فقال مالك بن نويرة: إن هذا المال كنا ندفعه لصاحبكم في حياته فمات فما بال أبي بكر؟ فغضب خالد بن الوليد، وقال: أهو صاحبنا وليس بصاحبك، فأمر ضرار بن الأزور بضرب عنقه. وقيل: إن مالك بن نويرة قد تابع سجاح التي ادعت النبوة.

وهناك رواية تقول: إن خالدا - رضي الله عنه - لما كلمهم وزجرهم عن هذا الأمر وأسر منهم من أسر، قال لأصحابه: أدفئوا أسراكم، وكانت ليلة باردة وكان من لغة ثقيف أدفئوا الرجل يعني: اقتلوه، فظنوا أن خالد يريد القتل فقتلوهم بدون أمر خالد بن الوليد رضي الله عنه. وأي الأمور الثلاثة حصل، فإن قتلهم كان حقا أو كان تأويلا وهذا لا يعاب عليه.

وأما قولهم: إن خالد بن الوليد بعد أن قتل مالك بن نويرة دخل بزوجته في نفس الليلة فهذا كذب، فبعد أن قتل خالد بن الوليد من قتل وسبي منهم استخلص زوجته لنفسه وهي من السبي، ولكن أن يكون قد دخل بها من أول ليلة أو أنه قتله من أجل زوجته فهذا كله كذب.

وها هو خالد بن الوليد - رضي الله عنه - المجاهد في سبيل الله يقول: لأن أصبح العدو في ليلة شاتية أحب إلي من أن تهدى إلي فيه عروس أو أبشر فيها بولد.

فلقد كان من القادة العظام الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: «خالد سيف من سيوف الله، سله الله - عزوجل - على الكفار والمنافقين» [11].

ولذلك لما وقع من خالد هذا الأمر وهو قتل مالك بن نويرة ومن معه قال عمر بن الخطاب لأبي بكر: اعزل خالدا فإن في سيفه رهقا. فقال أبو بكر: لا والله؛ إنه سيف سله الله على المشركين[12]!!

ثانيا. لم يأت عزل عمر بن الخطاب لـخالد بن الوليد نتيجة لما رآه الأول من قسوة الثاني - كما زعم هؤلاء المتقولون:

وعلى عادة أعداء الإسلام حين لا يجدون ما يتصيدونه من الروايات التي تظهر صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مظهر مشين، فإنهم يختلقون ما يظنون جوازه على عقول القارئين؛ لكي يصبح أساسا ثابتا لما يتنافله الرواة وتسطره كتب المؤلفين، وقد تعرض كل من عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد - رضي الله عنهما - لمفتريات أعداء الإسلام الذين حاولوا تشويه صفحات تاريخهما المجيد، ووقفوا كثيرا عند أسباب عزل عمر لخالد بن الوليد - رضي الله عنهما - وألصقوا التهم الباطلة بالرجلين العظيمين وأتوا بروايات لا تقوم على أساس عند المناقشة، ولا تقوم على البرهان أمام التحقيق العلمي النزيه [13].

ولعل ذيوع ذكر خالد بن الوليد من جهة، وما اتسم به من شجاعة خارقة ومواهب عسكرية فذة من جهة أخرى، هو ما حمل الرواة والمؤرخين على إسراف غير قليل في تفسير عزل عمر له، وهو القائد العبقري الذي دوخت عبقريته العالم آنذاك، وأورثت الناس عجبا ودهشة، فشغلوا بعزله وأسبابه كما لم يفعلوا في عزل غيره من الولاة والقادة [14].

ويحسن في هذا الصدد أن نعرض قصة عزل خالد بن الوليد - كما أوردها د. الصلابي - على حقيقتها من غير قلب للحقائق؛ فقد مر خالد بن الوليد في عزله بمرحلتين، وكان لعزله في المرحلتين أسباب موضوعية وهذا ما نفصله فيما يأتي:

العزل الأول: عزل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خالد بن الوليد - رضي الله عنه - في المرة الأولى عن القيادة العامة وإمارة الأمراء بالشام، وكانت هذه المرة في السنة الثالثة عشرة من الهجرة، غداة تولى عمر الخلافة بعد وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وسبب هذا العزل اختلاف منهج الصديق - رضي الله عنه - عن الفاروق في التعامل مع الأمراء والولاة؛ فالصديق كان من سنته مع عماله وأمراء عمله أن يترك لهم حرية التصرف كاملة في حدود النظام العام للدولة، مشروطا ذلك بتحقيق العدل كاملا بين الأفراد والجماعات، ثم لا يبالي أن يكون لواء العدل منشورا بيده أو بيد عماله وولاته، فللوالي حق يستمده من سلطان الخلافة في تدبير أمر ولايته دون رجوع في الجزئيات إلى أمر الخليفة، وكان أبو بكر - رضي الله عنه - لا يرى أن يكسر على الولاة سلطانهم في مال أو غيره ما دام العدل قائما في رعيتهم، وكان الفاروق قد أشار على الصديق بأن يكتب لخالد - رضي الله عنهم - ألا يعطي شاة ولا بعيرا إلا بأمره، فكتب أبو بكر إلى خالد بذلك؛ فكتب إليه خالد: إما أن تدعني وعملي وإلا فشأنك وعملك. فأشار عليه بعزله، ولكن الصديق أقر خالدا على عمله ولم يعزله.

ولما تولى الفاروق الخلافة كان يرى أنه يجب على الخليفة أن يحدد لأمرائه وولاته طريقة سيرهم في حكم ولاياتهم، ويحتم عليهم أن يردوا إليه ما يحدث حتى يكون هو الذي ينظر فيه ثم يأمرهم بأمره، وعليهم التنفيذ؛ لأنه يرى أن الخليفة مسئول عن عمله وعن عمل ولاته في الرعية مسئولية لا يرفعها عنه أنه اجتهد في اختيار الوالي. فلما تولى الخلافة خطب الناس، فقال: إن الله ابتلاكم بي، وابتلاني بكم، وأبقاني بعد صاحبي، فوالله لا يحضرني شيء من أمركم فيليه أحد دوني، ولا يتغيب عني فآلوا فيه عن الجزاء والأمانة، ولئن أحسن الولاة لأحسنن إليهم، ولئن أساءوا لأنكلن بهم.

وكان يقول: أرأيتم إذا استعملت عليكم خير من أعلم، ثم أمرته بالعدل، أكنت قضيت ما على؟ قالوا: نعم. قال: لا، حتى أنظر في عمله، أعمل بما أمرته أم لا؟

فعندما تولى الفاروق الخلافة أراد أن يعدل بولاة أبي بكر - رضي الله عنه - إلى منهجه وسيرته، فرضي بعضهم وأبى آخرون، وكان ممن أبى عليه ذلك خالد بن الوليد رضي الله عنه؛ فعن مالك بن أنس أن عمر لما ولي الخلافة كتب إلى خالد: ألا تعطي شاة ولا بعيرا إلا بأمري. فكتب إليه خالد: إما أن تدعني وعملي، وإلا فشأنك بعملك، فقال عمر: ما صدقت الله إن كنت أشرت على أبي بكر بأمر فلم أنفذه؛ فعزله، ثم كان يدعوه إلى العمل فيأبى إلا أن يخليه يفعل ما شاء فيأبى عليه.

نخلص من هذا إلى أن عزل عمر خالدا إنما كان من وجهة سياسة الحكم وحق الحاكم في تصريف شئون الدولة ومسئوليته عنها، وطبيعي أن يقع كل يوم مثله في الحياة، ولا يبدو فيه شيء غريب يحتاج إلى بيان أسباب تتجاذبها روايات وآراء وميول وأهواء ونزعات؛ فعمر بن الخطاب خليفة المسلمين في عصر كان الناس فيه لا يزالون يستروحون روح النبوة، ومن الحقوق الأولية أن يختار من الولاة والقادة من ينسجم معه في سياسته ومذهبه في الحكم، ليعمل في سلطانه ما دامت الأمة غنية بالكفايات الراجحة، فليس لعامل ولا قائد أن يتأبد في منصبه، ولا سيما إذا اختلفت مناهج السياسة بين الحاكم وبينه، ما دام هناك من يغني غناءه ويجزي عنه.

وقد أثبت الواقع التاريخي أن عمر - رضي الله عنه - كان موفقا أتم التوفيق وقد نجح في سياسته هذه نجاحا منقطع النظير، فعزل وولي، فلم يكن من ولي أقل كفاية ممن عزله، ومرد ذلك لروح التربية الإسلامية التي قامت على أن تضمن دائما للأمة رصيدا مذخورا من البطولة والكفاية السياسية الفاضلة.

على أن خالدا - رضي الله عنه - استقبل هذا العزل دونما اعتراض، وظل تحت قيادة أبي عبيدة - رضي الله عنه - حتى فتح الله عليه "قنسرين" فولاه أبو عبيدة عليها، وكتب إلى أمير المؤمنين يصف له الفتح وبلاء خالد فيه، فقال عمر قولته المشهورة: أمر خالد نفسه، رحم الله أبا بكر، هو كان أعلم بالرجال مني. ويعني عمر بمقولته هذه أن خالدا - فيما أتى به من أفانين الشجاعة وضروب البطولة - قد وضع نفسه في موضعها الذي ألفته في المواقع الخطيرة من الإقدام والمخاطرة، وكأنما يعني عمر بذلك أن استمساك أبي بكر بخالد وعدم موافقته على عزله على الرغم من الإلحاح عليه، إنما كان عن يقين في مقدرة خالد وعبقريته العسكرية التي لا يغني غناءه فيها إلا آحاد الأفذاذ من أبطال الأمم.

هذا وقد عمل خالد تحت إمرة أبي عبيدة نحوا من أربع سنوات، فلم يعرف عنه أنه اختلف عليه مرة واحدة، ولا ينكر فضل أبي عبيدة وسمو أخلاقه في تخفيف وقع الحادث على خالد، فقد كان لحفاوته به وعرفانه لقدره، وملازمته صحبته والأخذ بمشورته وإعظامه لآرائه وتقديمه في الوقائع التي حدثت بعد إمارته الجديدة أحسن الأثر في صفاء قلبه صفاء جعله يصنع البطولات العسكرية النادرة، وعمله في فتح دمشق وقنسرين وفحل شاهد صدق على روحه السامية التي قابل بها حادث العزل، وكان في حاليه سيف الله خالد بن الوليد.

ويحفظ لنا التاريخ ما قاله أبو عبيدة في مواساة خالد عند عزله: وما سلطان الدنيا أريد، وما للدنيا أعمل، وإن ما ترى سيصير إلى زوال وانقطاع، وإنما نحن إخوان وقوام بأمر الله عزوجل، وما يضير الرجل أن يلي عليه أخوه في دينه ودنياه، بل يعلم الوالي أنه يكاد يكون أدناهما إلى الفتنة وأوقعهما في الخطيئة لما تعرض من الهلكة إلا من عصم الله عزوجل، وقليل ما هم. وعندما طلب أبو عبيدة من خالد أن ينفذ مهمة قتالية تحت إمرته؛ أجابه خالد قائلا: أنا لها إن شاء الله عزوجل، وما كنت أنتظر إلا أن تأمرني. فقال أبو عبيدة: استحييت منك يا أبا سليمان. فقال خالد: والله لو أمر علي طفل صغير لأطيعن له، فكيف أخالفك وأنت أقدم مني إيمانا، وأسبق إسلاما، سبقت بإسلامك مع السابقين، وأسرعت بإيمانك مع المسارعين وسماك رسول الله بالأمين، فكيف ألحقك وأنال درجتك، والآن أشهدك أني قد جعلت نفسي حبسا في سبيل الله تعالى ولا أخالفك أبدا، ولا وليت إمارة بعدها أبدا؟! ولم يكتف خالد بذلك فحسب بل أتبع قوله بالفعل وقام على الفور بتنفيذ المهمة المطلوبة منه.

ويظهر بوضوح من قول خالد وتصرفه هذا أن الوازع الديني والأخلاقي كان مهيمنا على تصرفات خالد وأبي عبيدة - رضي الله عنهما - وقد بقي خالد محافظا على مبدأ طاعة الخليفة والوالي، بالرغم من أن حالته الشخصية قد تغيرت من حاكم إلى محكوم بسبب عزله عن قيادة الجيوش.

ولقد كان من توفيق الله تعالى للفاروق تولية أبي عبيدة - رضي الله عنهما - لجيوش الشام، فذلك الميدان بعد معركة اليرموك كان يحتاج إلى المسالمة واستلال الأحقاد، وتضميد الجراح وتقريب القلوب؛ وأبو عبيدة - رضي الله عنه - مسارع إلى المسالمة إذا فتحت أبوابها، غير مبطئ عن الحرب إذا وجبت عليه أسبابها، فإن كانت بالمسالمة جدوى فذاك وإلا فالاستعداد للقتال على أهبته، وقد كان أبناء الأمصار الشامية يتسامعون بحلم أبي عبيدة فيقبلون على التسليم إليه ويؤثرون خطابهم له على غيره؛ فولاية أبي عبيدة سنة عمرية، وكانت ولايته للشام في تلك المرحلة أصلح الولايات لها.

العزل الثاني: وقد جاء العزل الثاني لخالد في قنسرين، وذلك في السنة السابعة عشرة، فقد بلغ أمير المؤمنين أن خالدا وعياض بن غنم توغلا في بلاد الروم، ورجعا بغنائم عظيمة، وأن رجالا من أهل الآفاق قصدوا خالدا لمعروفه؛ منهم الأشعث بن قيس الكندي، فأجازه خالد بعشرة آلاف، وكان عمر لا يخفى عليه شيء في عمله؛ فكتب عمر إلى قائده العام - أبي عبيدة - يأمره بالتحقيق مع خالد في مصدر المال الذي أجاز منه الأشعث تلك الإجازة الغامرة، وعزله عن العمل في الجيش إطلاقا واستقدمه المدينة، وقد تم استجواب خالد بحضور أبي عبيدة وترك بريد الخلافة يتولى التحقيق، وترك مولى أبي بكر يقوم بالتنفيذ، وانتهى الأمر ببراءة خالد أن يكون مد يده إلى غنائم المسلمين فأجاز منها بعشرة آلاف.

ولما علم خالد بعزله ودع أهل الشام، فكان أقصى ما سمحت به نفسه من إظهار أسفه على هذا العزل الذي فرق بين القائد وجنوده أن قال للناس: «كتب إلي أمير المؤمنين حين ألقى الشام بوانيه بثنية وعسلا، وأمرني أن أسير إلى الهند،[15] وأنا لذلك كاره، فقام رجل فقال له: يا أبا سليمان، اتق الله، فإن الفتن قد ظهرت، قال: وابن الخطاب حي؟ إنما تكون بعده» [16].

وكلام خالد هذا لون من الإيمان القاهر الغلاب، لم يرزقه إلا المصطفون من أخصاء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. فأي قوة روحية سيطرت على أعصاب خالد في هذا الموقف الخطير؟ وأي إلهام ألقي على لسان خالد ذلك الرد الهادئ الحكيم؟ سكن الناس وهدأت نفوسهم بعد أن سمعوا كلمة خالد في توطيد قواعد الخلافة العمرية، وعرفوا أن قائدهم المعزول ليس من طراز الرجال الذين يبنون عروش عظمتهم على أشلاء الفتن والثورات الهدامة، وإنما هو من أولئك الرجال الذين خلقوا للبناء والتشييد، فإن أرادتهم الحياة على هدم ما بنو تساموا بأنفسهم أن يذلها الغرور المفتون.

ورحل خالد إلى المدينة فقدمها حتى لقي أمير المؤمنين، فقال عمر متمثلا:

صنعت فلم يصنع كصنعك صانع

وما يصنع الأقوام فالله يصنع

وقال خالد لعمر: لقد شكوتكم إلى المسلمين، وبالله يا عمر، إنك في أمري غير مجمل! فقال عمر: من أين هذا الثراء؟ قال: من الأنفال والسهمان، ما زاد على الستين ألفا فلك تقوم عروضه، فخرجت إليه عشرين ألفا، فأدخلها بيت المال، ثم قال: يا خالد، والله إنك لكريم على، وإنك لحبيب إلي، ولن تعاتبني بعد اليوم على شيء" [17]. وكتب عمر إلى الأمصار: إني لم أعزل خالدا عن سخطة ولا خيانة، ولكن الناس فتنوا به، فخفت أن يوكلوا إليه ويبتلوا به، فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع، وألا يكونوا بعرض فتنة [18].

ونستطيع من جملة ما أسلفنا أن نجمل أسباب عزل خالد - رضي الله عنه - حسبما أوردها د. الصلابي - فيما يأتي:

·   حماية التوحيد: ففي قول عمر رضي الله عنه: "ولكن الناس فتنوا به؛ فخفت أن يوكلوا إليه ويبتلوا به". تظهر خشية عمر من فتنة الناس بخالد وظنهم أن النصر يسير في ركابه؛ فيضعف اليقين بأن النصر من عند الله، سواء كان خالد على رأس الجيوش أم لا، وهذا الوازع يتفق مع حرص عمر على صبغ إدارته للدولة بصبغة عقائدية خالصة، وبخاصة وهي تحارب أعداءها حربا ضروسا متطاولة باسم العقيدة وقوتها، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن الافتتان بقائد كبير مثل خالد قد يؤدي بخالد نفسه إلى الافتتان بالرعية، وأن يرى نفسه يوما في مركز قوة لا يرتقي إليها أحد، وبخاصة أنه عبقري حرب ومنفق أموال، فيجر ذلك عليه وعلى الدولة أمر خسر، وهو إن كان احتمالا بعيدا في ظل ارتباط الناس بخليفتهم عمر وإعجابهم به، وفي ظل انضباط خالد العسكري وتقواه، فقد يحدث يوما ما بعد عمر، ومع قائد غير خالد؛ مما يستدعي التأصيل له في ذلك العصر ومع أمثال هؤلاء الرجال، والخوف في هذا الأمر من القائد الكفء أعظم من الخوف من قائد صغير لم يبل أحسن البلاء ولم تتساير بذكره الأنباء.

وقد أشار شاعر النيل حافظ إبراهيم إلى تخوف عمر، فقال في عمريته الشهيرة:

وقيل: خالفت يا فاروق صاحبنا

فيه وقد كان أعطى القوس باريها

فقال: خفت افتتان المسلمين به

وفتنة النفس أعيت من يداويها

·   اختلاف النظر في صرف المال: كان عمر يرى أن فترة تأليف القلوب، وإغراء ضعفاء العقيدة بالمال والعطاء قد انتهت، وصار الإسلام في غير حاجة إلى هؤلاء، وأنه يجب أن يوكل الناس إلى إيمانهم وضمائرهم، حتى تؤدي التربية الإسلامية رسالتها في تخريج نماذج كاملة تغلغل الإيمان في قلوبها، بينما يرى خالد أن ممن معه من ذوي البأس والمجاهدين في ميدانه من لم تخلص نيتهم لمحض ثواب الله، وأن أمثال هؤلاء في حاجة إلى من يقوي عزيمتهم، ويثير حماستهم من هذا المال، كما أن عمر كان يرى أن ضعفة المهاجرين أحق بالمال من غيرهم، فعندما اعتذر إلى الناس بالجابية من عزل خالد قال: أمرته أن يحبس هذا المال على ضعفة المهاجرين فأعطاه ذا البأس. ولا شك أن عمر وخالدا مجتهدان فيما ذهبا إليه، ولكن عمر - رضي الله عنه - أدرك أمورا لم يدركها خالد رضي الله عنه.

·   اختلاف منهج عمر عن منهج خالد في السياسة العامة: فقد كان عمر يصر على أن يستأذن الولاة منه في كل صغيرة وكبيرة، بينما يرى خالد أن من حقه أن يعطى الحرية كاملة من غير الرجوع لأحد في الميدان الجهادي، وتطلق يده في كل التصرفات، إيمانا منه بأن الشاهد يرى ما لا يراه الغائب [19].

وعليه فجوهر التباين المؤدي لعزل خالد عن قيادة الجيوش أن " سياسة عمر كانت تجنح أحيانا إلى المركزية الشديدة التي لم يكن خالد في اعتزازه بنفسه وقدراته مستعدا لأن يتعامل معها، كما كان يتعامل مع تفويض أبي بكر ولينه معه، ولم يكن عزله نشازا عن سياسة عمر مع غيره من الولاة ومقاسمتهم أموالهم تحرزا واحتياطا من كل شبهة، وعزله على غير تهمة؛ حرصا على إرضاء الرعية أو حفاظا على النسق الإسلامي الأعلى، والكمال الديني المنشود" [20].

ولعل من نافلة القول أن نشير إلى "أن عمر لو لم يصنع مع خالد ما صنعه بعد ما أخذ عليه، فإنما يكون قد حاسبه عندئذ بميزان غير الذي حاسب به جميع القادة والولاة" [21].

"ولعل من الأسباب أيضا، إفساح المجال لطلائع جديدة من القيادات حتى تتوافر في المسلمين نماذج كثيرة من أمثال أبي عبيدة والمثنى وعمرو بن العاص، ثم ليدرك الناس أن النصر ليس رهنا برجل واحد، مهما كان هذا الرجل" [22].

على أن شيئا غير قليل من تلك الأسباب كلها كان مستقرا في ذهن خالد بن الوليد ذاته، وليس أدل على ذلك من قوله حين دخل عليه أبو الدرداء في مرض موته: "يا أبا الدرداء، لئن مات عمر، لترين أمورا تنكرها. فقال أبو الدرداء: وأنا والله أرى ذلك. فقال خالد: قد وجدت عليه في نفسي في أمور، لما تدبرتها في مرضي هذا وحضرني من الله حاضر عرفت أن عمر كان يريد الله بكل ما فعل؛ كنت وجدت عليه في نفسي حين بعث من يقاسمني مالي، حتى أخذ فرد نعل وأخذت فرد نعل، ولكنه فعل ذلك بغيري من أهل السابقة، وممن شهد بدرا، وكان يغلظ علي، وكانت غلظته على غيري نحوا من غلظته علي، وكنت أدل عليه بقرابته، فرأيته لا يبالي قريبا ولا لومة لائم في الله، فذلك الذي أذهب عني ما كنت أجد عليه.

وكان يكثر علي عنده، وما كان ذلك إلا على النظر؛ فقد كنت في حرب ومكابدة وكنت شاهدا وكان غائبا، فكنت أعطى على ذلك، فخالفه ذلك من أمري.

ولما حضرته الوفاة وأدرك ذلك بكى، وقال: وما من عمل أرجى عندي بعد لا إله إلا الله، من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين، بتها وأنا متترس والسماء تنهل علي، وأنا أنتظر الصبح حتى أغير على الكفار، فعليكم بالجهاد، لقد شهدت كذا وكذا زحفا، وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربة بسيف أو رمية بسهم أو طعنة برمح، وها أنا ذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء، لقد طلبت القتل في مظانه فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي.

وأوصى خالد أن يقوم عمر - رضي الله عنه - على وصيته وقد جاء فيها: وقد جعلت وصيتي وتركتي وإنفاذ عهدي إلى عمر بن الخطاب، فبكى عمر رضي الله عنه، فقال له طلحة بن عبيد الله: إنك وإياه كما قال الشاعر:

لا ألفينك بعد الموت تندبني

وفي حياتي ما زودتني زادي

فقد حزن عليه الفاروق حزنا شديدا، وبكته بنات عمه، فقيل لعمر أن ينهاهن، فقال: دعهن يبكين على أبي سليمان ما لم يكن نقع أو لقلقة، على مثل أبي سليمان تبكي البواكي.

وقال عنه عمر الفاروق - رضي الله عنه - أيضا: قد ثلم في الإسلام ثلمة لا ترتق، وليته بقي ما بقي في الحمى حجر، كان والله سدادا لنحور العدو، ميمون النقيبة.

وعندما دخل على الفاروق هشام بن البختري في ناس من بني مخزوم، وكان هشام شاعرا، فقال له عمر: أنشدني ما قلت في خالد، فلما أنشده قال له: قصرت في الثناء على أبي سليمان - رحمه الله - إن كان ليحب أن يذل الشرك وأهله، وإن كان الشامت به لمتعرضا لمقت الله، ثم تمثل بقول الشاعر:

فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى

تهيأ لأخرى مثلها فكأن قد

فما عيش من قد عاش بعدي بنافعي

ولا موت من قد مات بعدي بمخلدي

ثم قال: رحم الله أبا سليمان، ما عند الله خير له مما كان فيه، ولقد مات فقيدا وعاش حميدا، ولقد رأيت - والكلام للفاروق - الدهر ليس بتارك أحدا يخلد في هذه الدنيا" [23].

ومما سبق يستبين لنا أن قول خالد دليل على صفاء نفسه تجاه عمر، ووجد عمر وحزنه بعد فقده وإقراره بفضله في حياته لخير شاهد " على ما يكنه له من عظيم حب واحترام وتقدير، وأن ما قام به من عزله كان لمصلحة الإسلام والمسلمين" [24].

ودل الموقفان جميعا على أن الصحابيين الجليلين كانا أكبر من هذا الحدث، وعلى مستوى المسئولية، فلم يعقب الأمر في نفسيهما أثرا؛ بل سارت الأمور في مجاريها الطبيعية.

الخلاصة:

·   لقد كانت المهمة الملقاة على كاهل سيف الله المسلول ثقيلة، وحسبه أنه نهض فقط بعبء حروب الردة، ناهيك عن جبهات الشام والعراق وغيرهما.

·   إن القائد قد يقع في جيشه أو يصدر عنه أو عن أحد جنده أشياء على سبيل الخطأ أو سوء تأويل الكلام، ولا تعد النتيجة المترتبة على هذا - قتلا أو ما شابهه - ضربا من القسوة؛ لذلك لم يعاقب النبي - صلى الله عليه وسلم - خالدا على صنيعه في بني جذيمة، بل لم يعزله عن الإمارة، ولم يزل يؤمره ويقدمه على رأس السرايا.

·   إن تفوق أعداء المسلمين وكثرة عددهم وعدتهم من جانب، وقلة المسلمين عددا وعدة من جانب آخر؛ من شأنه أن يجعل إظهار العنف واستخدام القوة هو الوسيلة الوحيدة لتحطيم تفوق أعداء المسلمين.

·   لقد كان هم خالد الأول هو القضاء على رؤوس الفتنة لإخمادها، والسيطرة على الأخطار التي تهدد الدولة الإسلامية الوليدة، ولإزاحتهم العوائق من وجه الدعوة وفتح طريق الحرية للناس كي يختاروا ما يشاءون.

·   هل أنصف هؤلاء الطاعنون حين وصموا خالد بن الوليد سيف الله بالقسوة، وغضوا الطرف عن مذابح العصر الحديث؟! أم أنهم يكيلون بمكيالين؟! أم أن حقوق الإنسان ومفاهيم الحضارة حكر عليهم حرام علينا؟!

·   إن الجدل القائم حول أسباب عزل عمر لخالد ليس - في جوهره - إلا دليلا على عبقرية ذاك القائد وبراعته العسكرية الفذة، هذه البراعة وتلكم العبقرية اللتان أدهشتا العالم آنذاك وحيرتاه!!

·   لقد تكرر عزل عمر لخالد مرتين ولم يكن السبب في أي منهما راجعا إلى ما فسره به هؤلاء المتقولون من قسوة ابن الوليد؛ لما يأتي من أسباب:

o   حماية التوحيد: إذ خشي "عمر" أن يفتن الناس بخالد ويظنوا أن النصر في ركابه؛ فيضعف يقينهم بأن النصر من عند الله سواء كان خالد على رأس الجيوش أم لا.

o   اختلاف النظر في صرف المال؛ فقد كان عمر يرى حبس المال على ضعفة المهاجرين، في حين كان خالد يعطيه ذا البأس، ولا شك أنهما مجتهدان فيما ذهبا إليه، لكن عمر أدرك أمورا لم يدركها خالد.

o   اختلاف منهج عمر عن منهج خالد في السياسة العامة؛ فعمر - رضي الله عنه - كان يميل للمركزية الشديدة في سياسة الولاة، في حين كان خالد يرى أن من حقه أن يعطي الحرية كاملة من غير الرجوع لأحد في الميدان الجهادي وهذا تناسبه القيادة اللامركزية التي اعتادها على عهد أبي بكر رضي الله عنه.

o   إفساح المجال لطلائع جديدة من القيادات؛ فعمر القائد - رضي الله عنه - يرى أن ليس لقائد جيش أن يتأبد في منصبه في وجود كفاءات راجحة، من أمثال أبي عبيدة والمثنى وعمرو بن العاص رضي الله عنهم.

·   إن في حديث خالد مع أبي الدرداء في مرض موته ما ينم عن تفهمه لكثير من وجهات نظر الفاروق، وفي حزن الفاروق لموته ما يدل على مكانة خالد في قلبه واحترامه لشخصه وتقديره لجهوده، وإن في الموقفين ما يثبت أن الرجلين تجاوزا الموقف بصفاء تام - شأن خالد في ذلك شأن غيره من الولاة - وكانا أكبر من الحدث وعلى مستوى المسؤلية المنوطة بهما.

 

 



 (*) قصة الحضارة، ول ديورانت، ترجمة: محمد بدران، دار الجيل، بيروت، 1418هـ. موقف الشيعة الاثنى عشرية من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، د. عبد القادر بن محمد عطا صوفي، دار أضواء السلف، الرياض، ط1، 1426هـ/ 2006م.

[1]. فرسان النهار من الصحابة الأخيار، د. سيد بن حسين العفاني، دار ماجد عسيري، السعودية، ط1، 1425هـ/ 2004م، ج2، ص545 بتصرف.

[2]. [2]. فرسان النهار من الصحابة الأخيار، د. سيد بن حسين العفاني، دار ماجد عسيري، السعودية، ط1، 1425هـ/ 2004م، ج2، ص621 بتصرف يسير.

[3]. [3]. فرسان النهار من الصحابة الأخيار، د. سيد بن حسين العفاني، دار ماجد عسيري، السعودية، ط1، 1425هـ/ 2004م، ج2، ص670: 672 بتصرف يسير.

[4]. إسناده صحيح: أخرجه ابن حبان في صحيحه (15/ 565) برقم (7091)، وصحح إسناده الأرنؤوط في تعليقه على صحيح ابن حبان.

[5]. موقف الشيعة الاثنى عشرية من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، د. عبد القادر بن محمد عطا صوفي، دار أضواء السلف، الرياض، ط1، 1426هـ/ 2006م، ج3، ص1530.

[6]. [6]. فرسان النهار من الصحابة الأخيار، د. سيد بن حسين العفاني، دار ماجد عسيري، السعودية، ط1، 1425هـ/ 2004م، ج2، ص601.

[7]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب بعث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خالد بن الوليد إلى بني جزيمة (4084).

[8]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب بعث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسامة بن زيد إلى الحرقان من جهينة (4021)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: "لا إله إلا الله" (288).

[9]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب سورة النساء (4315)، ومسلم في صحيحه، كتاب التفسير (7733).

[10]. موقف الشيعة الاثنى عشرية من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، د. عبد القادر عطا صوفي، دار أضواء السلف، الرياض، ط1، 1426هـ/ 2006م، ج3، ص1532، 1533.

[11]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه (43)، وصححه الأرنؤوط في تعليقه على المسند.

[12]. حقبة من التاريخ، عثمان بن محمد الخميس، مكتبة الإمام البخاري، مصر، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص298: 300.

[13]. عمر بن الخطاب، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص482، 483.

[14]. الدولة الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين، د. حمدي شاهين، مكتبة النصر، القاهرة، د. ت، ص144 بتصرف.

[15]. الهند: كان يطلق هذا الاسم في هذا الوقت على البصرة.

[16]. أخرجه أحمد في مسنده، مسند الشاميين، حديث يزيد بن العوام رضي الله عنه (16866)، والطبراني في المعجم الكبير، باب الخاء، جزء خزيمة السلمي (3841).

[17]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، ج1، ص380.

[18]. تاريخ دمشق، ابن عساكر، تحقيق: علي شيري، دار الفكر، بيروت، ط1، 1419هـ/ 1998م، ج16، ص268.

[19]. عمر بن الخطاب، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص483: 491 بتصرف يسير.

[20]. الدولة الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين، د. حمدي شاهين، دار النصر، القاهرة، 2000م ، ص145 وما بعدها.

[21]. منهج عمر بن الخطاب في التشريع، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط2، ص349.

[22]. عمر بن الخطاب، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص491.

[23]. عمر بن الخطاب، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص492: 494 بتصرف يسير.

[24]. المسلمون في عصر الخلفاء الراشدين، د. عبد الفتاح فتحي، دار الهاني، القاهرة، 2002م، ص521.

open read here black women white men
husbands who cheat women who cheat on husband my boyfriend cheated on me with a guy
my husband cheated married looking to cheat open
read here website why women cheat on men
مواضيع ذات ارتباط

أضف تعليقا
عنوان التعليق 
نص التعليق 
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء كاتبيها فقط ولا تعبر عن الموقع
 
 
 
  
المتواجدون الآن
  38363
إجمالي عدد الزوار
  38036480

الرئيسية

من نحن

ميثاق موقع البيان

خريطة موقع البيان

اقتراحات وشكاوي


أخى المسلم: يمكنك الأستفادة بمحتويات موقع بيان الإسلام لأغراض غير تجارية بشرط الإشارة لرابط الموقع