الطعن في أحكام الطلاق في الإسلام
مضمون الشبهة:
يطعن بعض المشككين في أحكام الطلاق في الفقه الإسلامي بحجة:
1. أن إباحته تهدد استقرار الأسرة.
2. أنه استخفاف بالحياة الزوجية؛ لأنه يقع بكلمة واحدة.
3. أنه يخضع في بعض الحالات للأهواء الشخصية، كما في طلاق الغضبان.
4. أن له أثرا سلبيا على المجتمع؛ لأنه يؤدي إلى الانفجار السكاني، فالزوجة تكثر من الإنجاب لكي تمنع زوجها من طلاقها.
وهم بذلك يشككون في صلاحية النظام التشريعي للأسرة في الإسلام.
وجوه إبطال الشبهة:
1) الطلاق ليس بدعة إسلامية، فقد كان مشروعا من قبل، ثم جاء الإسلام فوضع له أحكاما وشروطا قد تحول دونه في بعض الأحيان، وهذا التشريع كان ملائما لحياة البشر ومصلحتهم, مما جعل بعض الدول التي كانت تحرمه - خاصة المسيحية في الوقت الحاضر - تعترف به وتجعله قانونا.
2) إيقاع الطلاق بكلمة يدل على عظمة الكلمة في الإسلام وخطورتها، وهذا يجعل المسلم يفكر طويلا قبل أن يتلفظ بكلمة، وكلمة الطلاق ليست صاعقة تهدم الحياة الزوجية؛ بل هي مرحلة من ثلاث تسبقها سلسلة طويلة من التدابير الوقائية، ثم شروط وأحوال خاصة للمطلق والمطلقة، وضعها الإسلام لحماية النظام الأسري، وعملا على استمرارية الحياة الزوجية.
3) تشريع طلاق الغضبان لا يخضع لأهواء الناس؛ فلا يعقل أن يؤاخذ الرجل على فعل أثناء غياب عقله وفقدان صوابه، كما أنه ليس لأحد أن يحكم هواه في التشريع الإلهي، ولكن للعلماء اجتهادات حول النصوص التشريعية لا تخرج عن الشريعة، بل هي استنباط للأحكام من النصوص، ولا حق لهم في التشريع من عند أنفسهم.
4) زيادة النسل أمر دعت إليه الشرائع السماوية، والزيادة السكانية ليست خطرا يهدد بالانفجار السكاني، فهي ثروة بشرية مهمة لو أحسن استغلالها والإفادة منها، كما عملت واستغلتها الصين واليابان وروسيا وغيرهم.
التفصيل:
أولا. الطلاق ليس بدعة إسلامية، فقد عرفته كثير من الأمم قبل الإسلام، ولكن الإسلام هو أول من وضع له شروطا وأحكاما تنظمه وتقيده:
لقد سمى الإسلام الزواج "ميثاقا غليظا"، وقد صور القرآن الكريم مبلغ قوة الرباط بين الزوجين فقال عز وجل: )هن لباس لكم وأنتم لباس لهن( (البقرة: ١٨٧)، وهو تعبير يوحي بمعاني الاندماج والستر والحماية والزينة التي يحققها كل منهما لصاحبه، فإن دخل العلاقة الزوجية شيء من فقدان هذه المودة والرحمة؛ فإن الإسلام - الذي شرع هذا الميثاق - شرع - في حالة استحالة الحياة بين الزوجين - فك هذا الميثاق بالطلاق، الذي قد يكون فيه الخير للطرفين رحمة بهما معا، وهذا الطلاق ليس بدعة في شريعة الإسلام، وليس وقوعه أو تحققه بكلمة معناه استخفاف بالحياة الزوجية، بل له ضوابط وأحكام وفيه محاذير، وليس للطلاق آثار سلبية على المجتمع كما يدعي هؤلاء، فهو تشريع إلهي حكيم، والله تبارك وتعالى لا يشرع إلا ما فيه صلاح للدين والدنيا، وردا على هؤلاء المشككين نفصل القول في ذلك لعلهم يدركون محاسن شريعة الإسلام، ومدى ملاءمتها للفطرة البشرية.
تعريف الطلاق:
الطلاق لفظ من ألفاظ الجاهلية، كانوا يستعملونه في الفرقة بين الزوجين، فلما جاء الإسلام أقر استعماله، ووضع له الأحكام والضوابط، وحصره في أضيق نطاق، حرصا على بقاء الحياة الزوجية ودوامها.
ومعناه في اللغة: حل الوثائق، مأخوذ من الإطلاق وهو الإرسال والترك.
ومعناه في الشرع: إنهاء العلاقة الزوجية بلفظ يفيد ذلك صراحة أو كناية، على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.
حكمه:
الأصل في الطلاق الإباحة كما قال جمهور الفقهاء، وقد رأى بعض الفقهاء أنه من الأمور التي تعتريها الأحكام الخمسة، وهي: الحرمة، والكراهة، والإباحة، والاستحباب، والوجوب.
1. فيحرم في صور؛ منها:
· الطلاق في الحيض، فلا يجوز للرجل أن يطلق امرأته في حال حيضها، ونفاسها.
· الطلاق في الطهر الذي جامعها فيه، فلا يجوز أن يطلقها في هذا الطهر على ما سيأتي بيانه.
2. ويكره إذا وقع بغير سبب يقتضيه مع استقامة الحال، فمن الكفر بنعمة الله أن يقدم الرجل على طلاق امرأة لم يقع منها ما يدعوه لطلاقها، أو تطلب المرأة من الرجل الطلاق من غير بأس,قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة».
3. ويكون واجبا في صور؛ منها:
· لو اشتد الشقاق بينهما، ولم يجد الحكمان سوى التفريق بينهما.
· إذا لم يعد المولى لجماع زوجته بعد انقضاء المدة، وهى أربعة أشهر، والمولي هو الذي حلف ألا يجامع امرأته، فترفع امرأته أمرها للقاضي فيمهله أربعة أشهر، فإن فاء إليها فبها، وإلا طلقها القاضي عليه, وفي ذلك يقول الله عز وجل: )للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم (226) وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم (227)( (البقرة).
· ويجب على الرجل أن يطلق امرأته إن ثبت عليها الزنا، ولم تظهر لها توبة.
4. ويكون مندوبا في صور؛ منها:
· إذا كانت المرأة غير مطيعة لربها وزوجها.
· أو كانت بذيئة اللسان على زوجها وأحمائها وجيرانها.
· أو خاف أن تحمله على ارتكاب محظور.
5. ويكون مباحا إذا كانت نفسه لا تريدها، ولم يطق معاشرتها.
الحكمة في تشريع الطلاق:
شرع الله الطلاق عند استحكام الشقاق، واستحالة الوفاق بين الزوجين، بوصفه الحل الأمثل الذي لا مناص منه، ولا معدل عنه بعد أن تقطعت كل أسباب المودة والرحمة بينهما، ولم يعد أحدهما يسكن إلى الآخر أو يطمئن له، فكان ذلك التشريع الحكيم موافقا لواقع الناس في الحياة.
فالإسلام لم يفترض أن تسود المثالية بين الناس في جميع أوقاتهم وأحوالهم، وأن لا يقع خطأ في السلوك والتقدير، ولم يتجاهل أن البشر كثيرا ما يقع بينهم الخلاف، ويعرض لهم الخطأ بين الفينة والفينة.
فما من صغيرة ولا كبيرة يحتاج إليها الناس في حياتهم إلا شملها هذا التشريع ووسعها بيانه,وما من قضية إلا وقد بت فيها الإسلام بحكمه، وما من مشكلة إلا وقد وضع لها حلا مناسبا.
فإذا قصرت الزوجة في حق زوجها أباح له الإسلام هجرها وضربها بعد وعظها؛ فإن احتدم النزاع فعلى الحاكم أن يبعث حكمين يحكمان بينهما، فإن فشل الحكمان في فض النزاع فلا مناص من الطلاق؛ صيانة لهما من عواقب النفرة المستحكمة والشقاق الذي بلغ الحد.
قال تعالى: )وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما (130)( (النساء)، وقد أحاط الإسلام الأسرة بسياج منيع يصونها من التفكك والانهيار، ووضع لإنهاء العلاقة الزوجية نظاما محكما وشروطا دقيقة تحصره في أضيق نطاق.
وهو كما يقول الأستاذ أحمد محمد شاكر: تشريع تقطعت دونه أعناق الأمم قبل الإسلام وبعده، وها أنت ذا ترى الأمم العظيمة التي تزعم لنفسها المدنية ويزعمها لها الناس، تحاول إصلاح نظام الأسرة، وتشريع القوانين للطلاق، فلا تصل إلى شيء معقول، بل هي تتخبط في الظلمات، وتأتي بالبلايا وبالمضحكات؛ وذلك أنها تصدر في تشريعاتها عن العقل الإنساني القاصر.
أما التشريع الإسلامي فإنه وحي إلهي كريم، أرسل به أعظم رجل، وأعقل رجل ظهر في هذا الوجود، وأمر أن يفسره للناس ويبينه لهم، ثم يحملهم على طاعته والعمل به.
الطلاق في الأمم الأخرى:
والطلاق ليس بدعة إسلامية، فقد سبقت إليه أمم أخرى، وليس الإسلام هو الدين الوحيد الذي أباح الطلاق، فقبل الإسلام كان الطلاق شائعا - إذا استثنينا أمة أو أمتين - وكان الرجل يغضب على المرأة فيطردها من داره - محقا أو مبطلا - دون أن تملك المرأة له دافعا، أو تأخذ منه عوضا، أو تجد لنفسها عنده حقا.
فالطلاق عند قدماء المصريين: كان بلا قيود عندهم؛ فقد كان للرجل أن يطلق زوجته متى شاء.
وفي بابل القديمة: نجد في قوانين حمورابي - بعد أن قامت الروابط الزوجية على أسس غير مؤقتة - أن القانون يجعل للزوج الحق المطلق في الطلاق، أما بالنسبة للزوجة فإنه قد جعل لها الحق في طلب الطلاق.
وفي اليونان القديمة: كان للرجل أن يطلق زوجته متى شاء، ولأي سبب، وبدون أية إجراءات، ولم يكن يصرح للمرأة أن تطلب الطلاق إلا في عصر متأخر، وهو العصر الكلاسيكي.
وعند الرومان: كان للرجل الحق في أن يطلق زوجته بنفس الطريقة التي تم بها زواجه منها، فإذا كان الزواج قد تم في المعبد، يتم الطلاق أيضا في المعبد، وإن كان الزواج تم عن طريق شراء الزوجة، فإن عليه أن يبيعها فيتم الطلاق.
أما الطلاق قبل الإسلام عند العرب في جاهليتهم: فقد كان شائعا، وكان من حق الرجل تطليق امرأته متى أراد، وبأية صيغة تفيد الطلاق، ولم يكن هناك تحديد لعدد الطلقات، ولذلك كان الرجل إذا أراد تنكيلا بزوجته: طلقها، ثم يسترجعها قرب نهاية عدتها، ثم يطلقها مرة أخرى، ثم يسترجعها، وهكذا.
ولذلك وضع الإسلام حدا لعدد الطلقات حين قرر أن: )الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان( (البقرة: ٢٢٩)، أما إذا طلقها بعد ذلك فلا تحل له حتى تتزوج زوجا غيره.
أما الطلاق في اليهودية: فقد شرعه الله تعالى من قبل، كما في كتابهم المقدس: "إذا أخذ رجل امرأة وتزوج بها، فإن لم تجد نعمة في عينيه؛ لأنه وجد فيها عيب شيء وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته. ومتى خرجت من بيته ذهبت وصارت لرجل آخر. فإن أبغضها الرجل الأخير وكتب كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته، أو إذا مات الرجل الأخير الذي اتخذها له زوجة. لا يقدر زوجها الأول الذي طلقها أن يعود يأخذها لتصير له زوجة بعد أن تنجست؛ لأن ذلك رجس لدى الرب, فلا تجلب خطية على الأرض التي يعطيك الرب إلهك نصيبا".(التثنية 24: 1 - 4).
"إذا وجد رجل فتاة عذراء غير مخطوبة فأمسكها واضطجع معها فوجدا. يعطي الرجل الذي اضطجع معها لأبي الفتاة خمسين من الفضة، وتكون هي له زوجة؛ من أجل أنه قد أذلـها, لا يقدر أن يطلقها كل أيامه". (التثنية 22: 28، 29).
وكما هو واضح في هذا النص أن الله شرع لهم الطلاق، وجعله في يد الرجل, ولا يحتاج الطلاق في اليهودية إلى إثباته أمام القاضي، وللرجل مطلق الحق في تطليق زوجته، إذا لم تحسن في عينيه، وإن كانت اليهودية تقرر أن من الأفضل أن يكون الطلاق لعذر.
يقول الأستاذ زكي علي السيد: بل وأعطي الحق في الطلاق للأب!! فشاول اليهودي زوج ابنته ميكال وكانت زوجة لداود، ووالد زوجة شمشون طلقها منه لغيابه فترة.
ويقع الطلاق في شريعة التوراة بمجرد النية، فإذا نوى الرجل أن يطلق زوجته، وجب عليه أن ينفذ ما نوى عليه فورا, ومع ذلك فالطلاق في اليهودية: "فاحذورا لروحكم ولا يغدر أحد بإمرأة شبابه؛ لأنه يكره الطلاق". (ملاخي 2: 15، 16).
وأشنع ما في الطلاق في الشريعة اليهودية، أنها لم تفرض على المرأة بعد الطلاق فترة تتربص فيها استبراء لرحمها من الحمل، ولذلك فإنها قد تتزوج وتكون حاملا فيأتي الولد لغير اسم أبيه الحقيقي.
وقد جاء في سفر التكوين: "لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكونان جسدا واحدا". (التكوين 24: 2)، وذلك النص هو ما بني عليه المسيحيون القول بأن ما جمعه الله لا يفرقه إنسان، وقد قال علماء اليهود في التلمود بأن هذا النص لا يناقض إباحة الطلاق، فليس معنى الجسد الواحد هو الرجل والمرأة، بل المقصود نتاجهما وهو الطفل.
وقد ظل الطلاق معمولا به في الشريعة اليهودية إلى أن قرر المجمع اليهودي في عهد الرومان تقييد حرية الرجل في الطلاق، كما حصر حالات طلب المرأة للطلاق في سبعة أسباب لا يزال معمولا بها ليومنا هذا، ولم توضع هذه القيود في كتابهم المقدس، بل وضعت في المجامع البشرية:
· عدم القدرة على مضاجعة الزوجة.
· تغيير الدين.
· إسراف الزوج.
· الامتناع عن الإنفاق.
· هروب الزوج من البلاد لجريمة ارتكبها.
· سوء معاملة الزوجة باستمرار.
· إصابة الزوج بمرض خبيث أو ممارسته عملا أو تجارة محرمة[2].
أما الطلاق في المسيحية: فيجب أن نعرف أن عيسى - عليه السلام - لم يأت بتشريع جديد، بل اتبع هو وتلاميذه وأنصاره دين موسى - عليه السلام - وشريعته، بدليل وجوده الدائم في المعبد، وتعليمه الناس دين موسى الحق، ودليل استزادة اليهود من ثقتهم فيه عن طريق أسئلتهم له، واختبارهم إياه في شريعة موسى.
وقد قرر هو نفسه ذلك بقوله: "لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء, ما جئت لأنقض، بل لأكمل، فإني الحق أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل. فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلم الناس هكذا يدعى أصغر في ملكوت السماوات, وأما من عمل وعلم فهذا يدعي عظيما في ملكوت السماوات". (متى 5: 17 - 19).
وأمر الجموع من أتباعه أن يلتزموا به: "حينئذ خاطب يسوع الجموع وتلاميذه. قائلا: على كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيون, فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وافعلوا, ولكن حسب أعمالهم لا تعملوا لأنهم يقولون ولا يفعلون". (متى 23: 1 - 3).
وعلى الرغم من التزامه بالناموس، والدعوة للعمل به والتمسك به، فقد نسب إليه نقض الناموس بتحريمه للطلاق إلا لعلة الزنا وحدها: "وقيل: من طلق امرأته فليعطها كتاب طلاق, وأما أنا فأقول لكم: إن من طلق أمرأته إلا لعلة الزنا يجعلها تزني ومن يتزوج مطلقة فإنه يزني". (متى 5: 31، 32).
وكان الطلاق متفشيا في الطوائف المسيحية الأولى، بدليل أنه حين اعتنق الإمبراطور قسطنطين المسيحية سنة 324م وجد الطلاق متفشيا، ولذلك اضطر إلى أن يصدر أمرا بتحديد الحالات التي يجوز فيها الطلاق، ثم جاء بعده الإمبرطور جستنيان سنة 529م فحصرها في أربع حالات فقط.
ومعنى ذلك أن نص عدم الطلاق لم يكن موجودا وقتها في الأناجيل، وإلا لما أقدم قسطنطين أو جستنيان على اتخاذ هذا القرار! وأين كان آباء الكنيسة الذين كانوا يقومون بالتطليق وقتها؟
ولاستحالة تطبيق تعاليم الأناجيل التي تفرض على النصارى من العصمة والملائكية ما لم تفرضه على الأنبياء أنفسهم، فقد تحايل رجال الدين والفكر والقانون النصارى على هذه التعاليم، وشرعوا رغم أنفهم الطلاق المدني أي الذي يتم بغير طريق الكنيسة، وأسموه بالتطليق حتى لا يقال إنهم نسخوا وألفوا الطلاق فاستبدلوا لفظ الطلاق بالتطليق[3]!
وعلى أساس أنه لا طلاق ولا تطليق في المسيحية بناء على تعاليم الإنجيل إلا لسبب واحد لا ثاني له، وهو الزنا, قال البابا شنودة: "الشريعة التي وضعها السيد المسيح بخصوص الطلاق هي شريعة واضحة لا لبس فيها، وهو قوله في العظة على الجبل: "وأما أنا فأقول لكم بأن من طلق امرأته إلا لعلة الزنا يجعلها تزني ومن تزوج بمطلقة فإنه يزني". (متى 5: 32), وهذا الأمر أيدته وفسرته القوانين الكنسية وأقوال الآباء".
هذا وقد تمسكت الكنيسة بهذا الحكم، مهما كانت معاناة الزوجة أو الزوج من استمرار الزواج، وأمثلة ذلك كثيرة؛ منها:
1. تقدم إدوارد فرنسيس في سنة 1972م إلى إحدى المحاكم البريطانية طالبا الطلاق وأيدته زوجته في ذلك، وجاء بمذكرتهما للمحكمة أنهما: "لم يتبادلا الحديث منذ 10 سنوات مع أنهما في مسكن واحد"، ثم قالا: "إنهما لا يحتملان الصبر أكثر من ذلك".
ولكن المحكمة رفضت الحكم بالطلاق؛ لأن هذا السبب ليس ضمن أسباب الطلاق في القانون والقانون ظالم؛ ولهذا علقت الصحف البريطانية على الحكم بقولها: لقد أصدرت المحكمة حكما بالشقاء المؤبد، وكان على زوجة فرنسيس أن تفعل ما تفعله الإنجليزيات ممن يطلبن الطلاق, وهو أن يصطحب زوجها امرأة شابة إلى أحد الفنادق ثم يخلعان ملابسهما في ساعة يتفق عليها من الليل، وتطلب الزوجة وكالات المخبرين الخصوصيين ليدخل اثنان من رجالها إلى غرفة النوم فيحررا محضرا بالخيانة الزوجية ليقدم إلى المحكمة كدليل على حق طلب الطلاق، ولكن لرفض الزوجة هذا الأسلوب حكم عليها بالشقاء مدى الحياة.
وقد نشرت هذا عن الصحف البريطانية مجلة آخر ساعة المصرية بتاريخ 19/4/1972م.
2. أمام محكمة قنا الابتدائية بمصر طلب الزوج أن يطلق زوجته لأنها تركته منذ 7 سنوات, وأخذت معها الأولاد وأهانته واعتدت عليه، وبالتالي لا جدوى من الحياة معها؛ لأن الكراهية قد استبدت بهما وهما مسيحيان، فكان حكم المحكمة هو: لا اجتهاد مع نص صريح، وأحكام الإنجيل تفيد أنه لا طلاق إلا لعلة الزنا, وهذه الأحكام وضعت لمختلف العصور فلا يصيبها البلى والقدم. (جريدة الأخبار المصرية في 20/5/1956).
3. سبق أن روى التاريخ أن إدوارد الثامن ملك إنجلترا سابقا أحب مسز سمبلسون، وهي في عصمة زوجها ولما طلقها زوجها الشرعي جاء الملك ليضفي الشرعية على حبه وطلب عقد قرانه عليها فاعترضت الكنيسة؛ وذلك لأن الإنجيل ينص على أن من يتزوج بمطلقة يزني. (المستشرقون والمبشرون، إبراهيم خليل، راعي كنيسة أسيوط سابقا).
4. لقد أحبت الأميرة مارجريت، ورافقت وعاشرت من تحبه، وهو الكابتن تاونسند, وكانت تنتقل معه علنا في رحلاته، ولكن لما شرع في الزواج منها رفضت الكنيسة؛ لأنه سبق أن طلق زوجته، والإنجيل يقضي بأن من تتزوج بمطلق تزني.
ونظرا لحاجة المسيحيين إلى الطلاق الذي ترفضه الكنيسة إلا لعلة الزنا، لجأ رجال الفكر ورجال الدين لاختراع "التطليق" الذي أعطى للزوج أو الزوجة حق طلب الطلاق من القضاء لأسباب معينة، فحق التطليق حق قانوني وليس شرعيا، ومن هذه القوانين ما صدر في إيطاليا سنة 1970م, وجعل من أسباب الطلاق:
o الخيانة الزوجية.
o سجن أحد الزوجين 15 عاما فأكثر.
o محاولة قتل أحد الزوجين للآخر.
o الشروع في قتل الأفراد أو الاعتداء عليهم.
o إصابة أحد الزوجين بالجنون.
o إذا عاشا منفصلين 5 سنوات فأكثر, بشرط أن تكون متصلة وأن يتفقا على الطلاق.
o إذا عاشا منفصلين 6 سنوات ولم يتفقا على الطلاق.
وفي مصر بدأت الكنيسة تقنن لصدور قانون يبيح التطليق, فجاء في مجلة المصور العدد (4109) في 11/7/2003 تحت عنوان "في مؤتمر الكنيسة. المشاكل الجنسية وراء 25% من طلاق القبطيات".
25% من حالات الطلاق المعروضة على المحاكم للأسر المسيحية وراءها الفشل في الحياة الجنسية، وضغط هذه الأسر على فتياتها لقبول الزواج من أشخاص لا يرغبن في الزواج منهم, وأوضح المستشار إدوارد غالب أن المشروع الجديد لقانون الأحوال الشخصية، والذي نجح البابا في جمع الطوائف المسيحية حوله، تضمن بنودا أخرى - بخلاف "الزنا" - توجب الطلاق داخل الأسرة المسيحية، بل تبطل عقد الزواج من أساسه، مثل الغش في مسألتي "البكارة والعجز الجنسي"؛ لأن أحد الطرفين زيف الحقيقة ولم يذكر عيبه! وأكد المستشار غالب أنه يتعين في هذه الحالة - للطرف المتضرر - أن يقوم بإثبات الحالة، ويطلب من المحكمة بطلان عقد الزواج، خلال شهر واحد من اكتشافه للغش، بشرط ألا تقع خلال هذا الشهر علاقة زوجية بين الطرفين، وتختص المحاكم بنظر دعاوى الطلاق التي لا تقوم على الزنا, أي أنه سيكون طلاقا مدنيا, مشيرا إلى أن قانون الأحوال الشخصية الراهن للمسيحيين وضع عام 1938م، ثم وضع قانون آخر في سنة 1983م، لم ير النور إلى الآن، أما مشروع القانون الجديد فلا يزال لدى وزير العدل, وأكد المستشار غالب أنه لا يوجد "خلع" في المسيحية حتى مع اختلاف الملة، حتى إذا حصلت سيدة مسيحية على حكم بالخلع، فلا يعتد به من الناحية الكنسية.
جاء هذا في "مؤتمر للكنيسة القبطية" والذي انعقد في "دير مارمينا" الأثري بإبيار - طنطا - ورأسه الأنبا بولا أسقف طنطا ورئيس المجلس الإكليريكي للأحوال، وهكذا تبين لنا تحايل الديانة المسيحية لتشريع الطلاق لأسباب أخرى غير الزنا، حتى تستطيع تلبية حاجة المسيحيين المتزايدة لحرية الطلاق، مع تنوع أسبابه ومبرراته[4].
ثم إن هناك حيلا أخرى يلجأ إليها النصارى للحصول على الطلاق، منها:
1. تغيير المذهب أو الملة للحصول على الطلاق، وهو ما تسبب في تغيير الكثير من أقباط مصر لمللهم ليتخلصوا من سجونهم.
2. قد يتفق الزوجان على إثبات الزنا بأن يتهم أحدهما الآخر فيقر, أو بتدبير حيلة ما لإثباته! ولك أن تتخيل أن زوجتك أم أولادك تقف في المحكمة وتشهد على نفسها بالزنا لتطلق من زوجها! وكيف تصبح صورة الأولاد في مجتمعهم؟!
ومن الحيل التي تتخذ في ذلك في البلاد الأوربية أن تذهب المرأة مع عشيق لها إلى أحد الفنادق، وتثبت اسمها واسم عشيقها في سجلات الفندق، وتمكث مع عشيقها المدة التي تريدها، ثم تذهب هي بعد ذلك إلى المحكمة لتبلغ عن جريمتها، حتى توافق المحكمة على طلاقها, وبهذا قتلوا حياء المرأة، الذي هو شعبة من الإيمان، بسبب وقف الطلاق على الزنا فقط.
3. القتل للتخلص من الزوج حتى يصبح القاتل أرملا؛ فيجوز له الزواج مرة أخرى.
4. الهجرة وترك البلد بما فيها، وبالتالي تخلص الزوج من كل مسئولياته تجاه الزوجة وأولاده، فأين نفقتها؟ وأين مؤخر صداقها؟ وإلى أن تثبت أنه هاجر أو اختفى ولن يعود، فلا بد من مرور أربع سنوات، حتى يعترف القانون أن الرجل قد فقد.
5. الانفصال التام ولو بدون طلاق، وكل طرف يمارس حياته الاجتماعية والشخصية, ويقيم علاقات جنسية من معاشرة كاملة وخلافه مع عدم اعتراض الطرف الآخر!
وبذلك يلاحظ أن الزواج الفاشل عند النصارى هو سجن إجباري، لا فكاك منه إلا بارتكاب جرائم كالقتل والزنا والقذف؛ لذا ظهرت فكرة الـ boy friend في الغرب ليختبر الأحبة حياتهم قبل الدخول في سجن لا مخرج منه.
فالنصرانية المحرفة لم ترع يوما واقع البشر، ويتغنى النصارى بتعاليم المسيح التي لا يمكن أن تكون من عند الله، ولا نطق بها المسيح، فهي تبدو مثالية في الظاهر، ولكن في حقيقة الأمر هي تعاليم خربة، لا تزيد أتباعها إلا شقاء.
فالمرأة لو طلقت ليس لها الحق في الزواج مرة أخرى, ولتحيا هكذا كالأموات، حتى لو طلقت بلا ذنب[5]!
تنظيم الإسلام للطلاق وعمله على استقرار الحياة الزوجية:
يبغض الإسلام الطلاق وينفر منه، ويحث على علاقة زوجية دائمة، ومن شواهد ذلك:
قوله عز وجل: )ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (21)( (الروم)، وقوله عز وجل:)هن لباس لكم وأنتم لباس لهن( (البقرة: ١٨٧).
كما استهجن الإسلام الطلاق، ورسم السبل لحل الخلافات الزوجية دون اللجوء إليه ما أمكن ذلك، يقول عز وجل: )وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا (19)( (النساء)، قال عز وجل: )واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا(34)( (النساء).
ويأخذ الكثير من الغربيين على الإسلام أنه أباح الطلاق، ويعتبرون ذلك دليلا على استهانة الإسلام بقدر المرأة وبقدسية الزواج، وقلدهم في ذلك بعض المسلمين الذين جهلوا أحكام شريعتهم، مع أن الإسلام لم يكن أول من شرع الطلاق، فقد جاءت به الشريعة اليهودية من قبل، وعرفه العالم قديما.
وقد نظر هؤلاء العائبون إلى الأمر من زواية واحدة فقط، هي تضرر المرأة به والأولاد، ولم ينظروا إلى الموضوع من جميع جوانبه، وحكموا في رأيهم العاطفة غير الواعية، وغير المدركة للحكمة منه ولأسبابه ودواعيه، متناسين أنه قد يكون من مصلحة الأسرة أو المرأة أو الرجل أن يتم الطلاق بينهما.
إن الإسلام يفترض أولا، أن يكون عقد الزواج دائما، وأن تستمر الزوجية قائمة بين الزوجين، حتى يفرق الموت بينهما، ولذلك لا يجوز في الإسلام تأقيت عقد الزواج بوقت معين.
غير أن الإسلام - وهو يحتم أن يكون عقد الزواج مؤبدا - يعلم أنه إنما يشرع لأناس يعيشون على الأرض، لهم خصائصهم، وطباعهم البشرية، لذا شرع لهم كيفية الخلاص من هذا العقد، إذا تعثر العيش، وضاقت السبل، وفشلت الوسائل للإصلاح، وهو في هذا واقعي كل الواقعية، ومنصف كل الإنصاف لكل من الرجل والمرأة.
فكثيرا ما يحدث من الأسباب والدواعي، ما يجعل الطلاق ضرورة لازمة، ووسيلة متعينة لتحقيق الخير، والاستقرار العائلي والاجتماعي لكل منهما، فقد يتزوج الرجل المرأة، ثم يتبين أن بينهما تباينا في الأخلاق، وتنافرا في الطباع، فيرى كل من الزوجين نفسه غريبا عن الآخر، نافرا منه، وقد يطلع أحدهما من صاحبه بعد الزواج على ما لا يحب ولا يرضى من سلوك شخصي، أو عيب خفي، وقد يظهر أن المرأة عقيم لا يتحقق معها أسمى مقاصد الزواج، وهو لا يرغب في التعدد، أو لا يستطيعه، إلى غير ذلك من الأسباب والدواعي التي لا تتوفر معها المحبة بين الزوجين ولا يتحقق معها التعاون على شئون الحياة، والقيام بحقوق الزوجية كما أمر الله، وقد يكون ذلك سببا في انحراف كل منهما، ومنفذا لكثير من الشرور والآثام، لهذا شرع الطلاق وسيلة للقضاء على تلك المفاسد، وللتخلص من تلك الشرور، وليستبدل كل منهما بزوجه زوجا آخر، قد يجد معه ما افتقد مع الأول، فيتحقق قول الله عز وجل: )وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما (130)( (النساء).
وعلى هذا فالطلاق في الإسلام قد يكون أشبه بالبتر الذي يلجأ إليه الجراح مضطرا ومكرها، للاحتفاظ بسلامة الجسم كله، وإزالة الآلام التي تلازم العضو الذي فسد، ولحماية باقي أعضاء الجسم من التلف وتفشي المرض والألم فيها.
كذلك حياة الأسرة إذا دب إليها الفساد، ثم استشرى بحيث تعجز وسائل الإصلاح المختلفة عن تقويمه، يكون من الخير للأسرة والمجتمع معا أن يتغير الوضع بفصم رابطة الزوجية لعلها تنعقد مع شخص آخر يمكن معه أن تهنأ، وتتكون أسرة جديدة مستقرة، تحقق الثمار المرجوة من تكوين الأسرة كما تحقق المجتمع السليم.
والإسلام عندما أباح الطلاق، لم يغفل عما يترتب على وقوعه من الأضرار التي تصيب الأسرة، خصوصا الأطفال، إلا أنه لاحظ أن هذا أقل خطرا إذا قورن بالضرر الأكبر الذي تصاب به الأسرة والمجتمع كله إذا أبقى على الزوجية المضطربة، والعلائق الواهية التي تربط بين الزوجين على كره منهما، فآثر أخف الضررين، وأهون الشرين[6].
واعتراف الإسلام بالطلاق متفق مع منطق العقل، وأكثر ملاءمة للطبيعة النفسية للبشر، وهو ما يصدقه ويؤكده الواقع في كل زمان ومكان.
ومن حرص الإسلام على استمرار الحياة الزوجية أنه شرع أن تبقى المطلقة في بيت الزوجية مدة العدة، فلربما يراجعها ويردها إلى حظيرة الزوجية مرة أخرى إذا كان هذا هو الطلاق الأول أو الثاني، كما أن وجودها في البيت قريبا منه فيه إثارة لعواطفه، وتذكير له أن يفكر في الأمر مرة ومرات قبل أن يبلغ الكتاب أجله، وتنتهي أشهر العدة التي أمرت أن تتربصها استبراء للرحم، ورعاية لحق الزوج وحرمة الزوجية، والقلوب تتغير، والأفكار تتجدد، والغاضب قد يرضى، والثائر قد يهدأ، والكاره قد يحب، وفي ذلك يقول الله عز وجل:)يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا (1)( (الطلاق).
فقد جعل الإسلام للمطلقة طلاقا رجعيا حكم الزوجة ما دامت في العدة إلا في الاستمتاع المطلق، وعلل وجوب الإسكان للمطلقة المدخول بها بعدة أمور: حفظ النسب، وجبر خاطر المطلقة، وحفظ عرضها.
فيجوز بقاء المطلقة رجعيا مع الزوج في دار واحدة، وله إن قصد مراجعتها أن يستمتع بها بعد الطلاق؛ لأن الطلاق الرجعي لا يحرم المطلقة على من طلقها، ويكون استمتاعه بها رجعة وله حينئذ مراجعتها بلا إذنها.
أما الطلاق البائن أو الثلاث: فلا بد من حاجز بين الرجل والمطلقة، فإن كان المسكن متسعا استقلت المرأة بحجرة فيه، ولا يجوز للمطلق أن ينظر إليها ولا أن يقيم معها في تلك الحجرة، وإن كان المسكن ضيقا ليس فيه إلا حجرة واحدة، وجب على الرجل المطلق أن يخرج من المسكن، وتبقى المطلقة فيه وقت الطلاق، وهذا واجب شرعا؛ لئلا تقع الخلوة بالأجنبية.
ولا عبرة بالعرف القائم الآن من خروج المطلقة من بيت الزوجية, فهو عرف مصادم للنص القرآني السابق: )لا تخرجوهن من بيوتهن( (الطلاق: 1).
ولكن يعد ضيق المنزل وفسق الزوج عذرا يجيز في رأي الحنفية للمطلقة أو المتوفى عنها زوجها الخروج من البيت، وتعيين الموضع الذي تنتقل إليه في عدة الطلاق إلى الزوج، وأما في عدة الوفاة فالتعيين يكون إليها؛ لأنها هي صاحبة الرأي المطلق في أمر السكنى، حتى إن أجرة المنزل - إن كان بأجر - تكون عليها[7].
ونخلص من هذا إلى أن الإسلام لا يستسهل أمر الطلاق وهدم البيوت، وقد أحاطه بقيود ومحاذير تمنع وقوعه قدر الطاقة, وإن في تسليم بعض الدول - خاصة المسيحية في الوقت الحاضر - واعترافهم بإباحة الطلاق في بعض الأحيان أكبر دليل على ملاءمة التشريع الإسلامي لمصلحة البشر، وقد شهدت بذلك التجربة الواقعية.
فلقد أدركت بعض الدول الغربية الأمر - أمر هذه الضرورات الملجئة للطلاق - فيسرت الحصول عليه، وكانت آخر هذه الدول إيطاليا، حيث أباحته عام 1971م، فأخذت أوربا اليوم ما عابته على الإسلام بالأمس! ويكفي أن نعلم أنه ما إن أقر الطلاق في إيطاليا حتى قدم إلى المحاكم أكثر من مليون طلب طلاق، وعلينا أن نتصور حياة مليون أسرة كانت تعيش حياة الشقاء والنكد داخل البيت، يفر منها الزوجان إلى العلاقات غير الشرعية؛ ليقوم بذلك نظام غير شرعي هو نظام الخليلات، وهو ما تعاني منه المجتمعات الأوربية[8].
وإن اتباع غير المسلمين لشريعة الإسلام - الموافقة للفطرة والعقل وطبيعة البشر - يعد بحق إظهارا لدين الله - عز وجل - كما وعد سبحانه فقال: )هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون (9)( (الصف).
ثانيا. إيقاع الطلاق بكلمة واحدة يدل على عظمة هذه الكلمة وخطورتها في الإسلام وهذا يجعل المسلم يفكر طويلا قبل التلفظ بها:
إنه ليتملكنا العجب حين نسمع مثل هذه الدعاوي والأوهام التي تصور الإسلام نظاما قاسيا مستخفا بالحياة الأسريةيهدمها ويهدد استقرارها بمجرد كلمة، وهي الطلاق.
والحقيقة أن كلمة الطلاق ليست إجراء مفاجئا أو صاعقيا كما يظنون، وإنما هي إجراء مرحلي يتم على مراحل ثلاث، وذلك بمثابة تجربة لاستعماله، واختبار لجدواه، هل يفيد أو لا، كأي دواء يتناوله المريض يحاول به الشفاء، فلم يحكم الإسلام بهدم الحياة الزوجية مرة واحدة من أول تجربة، ولم يجعل أول طلاق بائنا لا رجعة فيه، بل جعله على ثلاث مرات، يملك الزوج بعد كل من الأولى والثانية الرجعة، ولا تحل له بعد الثالثة إلا بعد زواجها بشخص آخر زواجا صحيحا شرعيا وانفصالها عنه برغبتها أو وفاته.
ثم إن الإسلام شرع للرجل حين يطلق الطلقة الأولى والثانية أن يمسك المرأة في البيت لتعتد، وتكون إذ ذاك على مقربة منه؛ لعله يفكر في مراجعتها بعد أن ذاق ألم الفرقة الجسدية والروحية.
وقد كره الإسلام للرجل أن يجمع المرات الثلاث في مرة واحدة تعجلا لانفصام الرابطة، وهو ما حمل سيدنا عمر - رضي الله عنه - على أن يؤاخذ به الناس عقابا لهم على أمر تعجلوا فيه وقد جعل الله لهم فيه أناة, قال تعالى: )الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون (229)( (البقرة)، ثم قال بعدها: )فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون (230)( (البقرة)، وذلك من حرص الإسلام على استقرار الحياة الأسرية[9].
ثم إن الطلاق - بمراحله ومراته سالفة الذكر - ليس إجراء وحيدا أبتر في هذا الصدد، بل هو مرحلة أخيرة في سلسلة طويلة من التدابير الوقائية التي وضعها الإسلام لحماية النظام الأسري وضمان استقراره، والحيلولة دون اللجوء إلى الانفصال والافتراق، وهذه التدابير يمكننا تركيزها في مرحلتين:
1. مرحلة ما قبل الزواج:
تمثلت أهم ضمانات استقرار الأسرة وعدم اللجوء إلى الانفصال في التوجيه إلى حسن الاختيار، وتوافر الكفاءة والتلاؤم بين طرفي العلاقة الزوجية، وفي هذا السياق يقول النبي صلى الله عليه وسلم:«تخيروا لنطفكم، وأنكحوا الأكفاء وانكحوا إليهم».[10] ويقول لأولياء النساء: «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض».[11] وقال للمغيرة بن شعبة حين خطب امرأة: «انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما».[12] ووضع ضوابط عامة للاختيار فقال: «تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك»[13].
والنصوص في ترشيد الاختيار كثيرة، والضوابط والتوجيهات متعددة، إلا أن ذلك كله - على أهميته - قد لا يضمن الاستقرار في السعادة بين الزوجين، فربما قصر أحدهما في الأخذ بما تقدم، أو ربما طرأ في حياتهما ما يثير القلاقل والشقاق كمرض أو عجز أو غير ذلك، وربما كان ذلك بسبب عناصر خارجة عن الزوجين، كالأهل والجيران وما إلى ذلك، وربما كان سبب ذلك انصراف القلب أو تغيره.
وهنا تبرز المرحلة الثانية من التدابير الاحترازية لمنع الانفصال.
2. مرحلة ما قبل الطلاق:
وهي مرحلة تأزم العلاقة الزوجية، وهنا ينصح الزوجان بالصبر والمعاشرة بالمعروف قال عز وجل: )فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا (34) وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا (35)( (النساء).
وأخيرا, وإن لم تفلح كل هذه التدابير والإجراءات الوقائية لمنع الانفصال والفراق فلا مفر من الطلاق - بمراحله الثلاث السابق ذكرها - ليبدأ كل من الطرفين حياة جديدة بقلب جديد وأمل جديد، قال تعالى: )وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما (130)( (النساء)[14].
ومما نرد به على المرجفين المهولين لشأن كلمة الطلاق وحدتها، أن كلمة الطلاق ليست نافذة إلا بعد شروط وأحوال خاصة للمطلق والمطلقة وصيغة الطلاق، وكل هذا يقيدها ويحجمها.
وهذا من مظاهر حرص الإسلام على استقرار الحياة الأسرية وعدم انتقاض ميثاقها لأدنى ملابسة، فإن الإسلام قد أحاط الأسرة بسياج منيع يصونها من التفكك والانهيار، ووضع لإنهاء العلاقة الزوجية نظاما محكما وشروطا دقيقة تحصره في أضيق نطاق.
فقد اشترط الإسلام في المطلق أن يكون عاقلا, فلا يصح طلاق المجنون أو المعتوه أو المدهوش الذاهل أو النائم أو المغمى عليه أو السكران، كل هذا بإتفاق جمهور العلماء, كذلك اشترط فيه أن يكون مختارا قاصدا للفظ الطلاق, فلا يقع طلاق المخطئ أو المكره, قال النبي صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل».[15] وقال صلى الله عليه وسلم: «لا طلاق ولا عتاق في إغلاق».[16] [17] وقال صلى الله عليه وسلم:«إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»[18] [19].
أما بالنسبة للمطلقة فإن ثمة أحوالا كثيرة يكون فيها الطلاق بدعيا، وهو حرام يأثم صاحبه مع اتفاق جمهور الفقهاء على وقوعه، ومن هذه الأحوال: أن يطلقها مرتين أو ثلاثا في طهر واحد معا أو متفرقات، أو يطلقها في الحيض أو النفاس، أو في طهر جامعها فيه أو في الحيض الذي قبله[20].
ويسوق لنا د. محمد بلتاجي العلة من تحريم الطلاق أو تبديعه في هذه الحالات قائلا: "لكن، ما سبب التحريم في هذه الحالات؟
يذكر الفقهاء أن الشريعة تهدف إلى تقليل فرص الطلاق والتيقن من حقيقة أسبابه وعدم الإضرار بالمرأة؛ لأن الحيض ظرف طارئ قد يؤدي إلى نفور الزوج من زوجه، وقد تحمله فيه حالتها العصبية المضطربة - في كثير من النساء - على أن تستفز غضبه على نحو ما، فيجتمع إلى ذلك النفور المؤقت عنده من الحيض، فيسارع إلى الطلاق متأثرا بذلك مع عدم وجود أسباب أصلية دائمة له، إنما هو تأثير الظروف المؤقتة، فاتجه الشارع إلى تحريم الطلاق عندئذ؛ كي يحصل اليقين عند إيقاعه بأنه لم يكن صادرا عن هذه الظروف العرضية التي قد تقترن بالحيض.
أما في الطهر الذي جامعها فيه فإنه يكون متأثرا بشعور مؤقت من فتور الرغبة فيها بعد الجماع، أما الطهر الذي لم يجامعها فيه فإنه يكون في حال اشتياق ورغبة عادة، فإذا أوقع الطلاق فيه لم يكن متأثرا بشعور مؤقت من فتور الرغبة.
أما في الطهر الذي سبقه حيض طلقها فيه,فقد يكون حينئذ في حال ما تزال متأثرة بالغضب الذي أدى إلى إيقاعه الطلاق في الحيض، أما انتظار أن تحيض بعد ذلك ثم تطهر، فهو يباعد بينه وبين حال الغضب، فلعله ينصرف فيه.
وحاصل ذلك أن الشريعة تريد بهذا التحريم تنحية العوامل الطارئة العرضية التي قد تدعو إلى إيقاع الطلاق فيها، بحيث تبقى الظروف الأصلية الداعية على وجه العموم إلى استبقاء علاقة الزوجية، مما يقلل ظروف إيقاع الطلاق، ويعطي الثقة بأن إيقاعه يصدر عن رغبة أصلية فيه"[21].
وأما صيغة الطلاق فقد اشترط فيها القطع أو الظن الغالب بحصول اللفظ وفهم معناه، كما اشترط فيها وقوع الطلاق باللفظ، كما يقع بما يقوم مقامه؛ كالكتابة، أو بالإشارة المفهمة من الأخرس[22].
وبعد كل هذا كلف الشرع المطلق بتكاليف متعددة تجعله يفكر قبل الإقدام على الطلاق طويلا، فقد كلفه بأعباء مالية متعددة، منها: مؤخر الصداق، نفقة العدة، حضانة الأولاد، المتعة، واستحب له كذلك الإشهاد على الطلاق ليكون هذا الإشهاد صادا للزوج عن الإقدام على الطلاق والتهاون به، وقد قال بوجوب هذا الإشهاد بعض الصحابة كعمران بن الحصين رضي الله عنه.
أفيعقل - بعد كل هذه الشروط والتكاليف - أن يظن بالإسلام أنه يتعجل هدم الحياة الزوجية وتفريق شمل أطرافها؟!
كلمة الطلاق نموذج لحسم الإسلام في علاج الأزمات الاجتماعية بإنهاء التجربة الزوجية التي يثبت فشلها ولا تفلح معها كل محاولات الإصلاح والتقريب:
فإذا استوفيت كل الإجراءات، وأغلقت كل الأبواب، والتزمت كل القيود والشروط فما الداعي إلى إبقاء هذا الرباط؟! وما الضرورة في استمرار هذه التجربة الزوجية الفاشلة؟!
إنها لشجاعة اجتماعية عظيمة من الإسلام أن يفصل الزوجين بهذه الكلمة النهائية الحاسمة، وهي شجاعة لم تصل إليها المذاهب المخالفة؛ إذ إن المسيحية الكاثولوكية تستخدم في حالات الضرورة نظاما اسمه "التفريق الجسدي"، تظل فيه المرأة بعيدة عن زوجها، وفي الوقت نفسه لا يجوز لها أن تتزوج مهما طالت المدة، وذلك كله تفاديا لإيقاع الطلاق الذي لا يقولون بجوازه، فالتفريق الجسدي حياة زوجية معلقة ليس للمرأة فيها من حقوق لدى الرجل، وليس لها من حق في أن تتزوج غيره, ففرق كبير بين الطلاق عندنا وبين التفريق الجسدي عندهم[23].
لقد ضيق الإسلام على الزوج النطاق في مسألة الطلاق؛ حتى يحترس ويتحفظ ويتعود ضبط لسانه ورعاية حرمة الحياة الزوجية, قال ابن كثير في قوله تعالى: )ولا تتخذوا آيات الله هزوا( (البقرة: ٢٣١)، نزل فيمن يطلق ويقول: كنت لاعبا[24].
فلا عذر للهازل واللاعب, فالأمر جد، واللفظ لا يتلعب به, قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاث جدهن جد وهزلـهن جد: النكاح والطلاق والرجعة»[25].
وهكذا تكون كلمة الطلاق رادعا للمتساهلين المتلاعبين، وداعيا إلى الابتعاد عن هذه اللفظة إلا بحقها.
ثالثا. تشريع طلاق الغضبان لا يخضع لأهواء الناس:
إن عدم وقوع طلاق الغضبان ليس فتوى مستحدثة - كما يدعي بعضهم - بل ذلك وارد في حديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو قوله: «لا طلاق ولا عتاق في إغلاق»[26].
وإن أهلية الطلاق لا تتم إلا بالعقل والبلوغ والاختيار، وفي هذا يذكر الترمذي أن أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم أن طلاق المعتوه المغلوب على عقله لا يجوز، إلا أن يكون معتوها يفيق أحيانا فيطلق في حالة إفاقته[27].
فلا بد كي يقع الطلاق كما يذكر العلماء من استيفاء شروط وانتفاء موانع، فأما الشروط الواجب تحققها فهي بالنسبة للزوج: أن يكون مكلفا مختارا؛ أي: عاقلا بالغا مختارا، وأما الموانع الواجب اختفاؤها بالنسبة للزوج فهي: غياب العقل، الإكراه، الخطأ.
ونحن هنا نركز على شرط العقل والمقصود به: أن يكون الإنسان في كامل وعيه وتمام إدراكه؛ لذلك لا يقع طلاق الساهي ولا المخطئ ولا السكران ولا الناسي، وكذلك الغضبان لا يقع طلاقه؛ لأنه في حكم فاقد شرط العقل أو من غاب عقله، وذلك إذا بلغ منه الغضب مبلغا كبيرا، وتمكن منه وتحكم بحيث أفقده رشده وصوابه.
وفي تفسير حديث: "لا طلاق ولا عتاق في إغلاق" أقوال، فقد فسره الإمام أحمد بن حنبل بالغضب، وفسره غيره بالإكراه، وفسر أيضا بالجنون، وقيل: هو نهي عن إيقاع الطلاق الثلاث دفعة واحدة؛ فيغلق عليه الطلاق حتى لا يبقى منه شيء.
وذكر ابن تيمية كما حكاه ابن القيم في "زاد المعاد" حقيقة الإغلاق، وهو أن يغلق على الرجل قلبه فلا يقصد الكلام، أو لا يعلم به كأنه انغلق عليه قصده وإرادته، قال: ويدخل في ذلك طلاق المكره والمجنون، ومن زال عقله بسكر أو غضب، وكل من لا قصد له، ولا معرفة له بما قال[28].
إن الفاصل بين وقوع الطلاق وعدم وقوعه ملك الإرادة والوعي، فالغاضب مفتي نفسه، "فإن الغضبان الذي لا يتصور ما يقول ولا يدري ما يصدر منه لا يقع طلاقه؛ لأنه مسلوب الإرادة"[29].
والغضب عند العلماء على ثلاثة أنواع:
1. ما يزيل العقل، فلا يشعر صاحبه بما قال، وهذا لا يقع طلاقه بلا نزاع.
2. ما يكون في بدايته، بحيث لا يمنع صاحبه من تصور ما يقول وقصده، فهذا يقع طلاقه بلا نزاع.
3. أن يستحكم ويشتد به، فلا يزيل عقله بالكلية، ولكنه يحول بينه وبين نيته؛ بحيث يندم على ما فرط منه إذا زال، فهذا محل نظر، وعدم الوقوع في هذه الحالة له وجه قوي من الصحة[30].
ولكن د. محمد بلتاجي له رأي آخر في هذا الوجه الثالث والأخير، فإنه إذا كان لا يخالف في الحالة الأولى والثانية التي لا نزاع فيهما بين العلماء، إلا أنه في الحالة الثالثة - التي وقع فيها النزاع - ويميل الكثير من العلماء فيها إلى عدم وقوع الطلاق - يرى أن الطلاق فيها يقع. يقول د. بلتاجي: "وأيضا فإننا نختار - من مجموع ما قيل في الغضبان - أنه لا يقع طلاقه إذا وصل به الغضب إلى حال من الهذيان لا يدري فيها ما يقول أو يفعل، ونرى أن هذا يكون في حال تقاس على الجنون أو فقدان العقل بنحو ما، ونرى أن هذا تأويل ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا طلاق ولا عتاق في إغلاق».[31] يعني: انغلاق العقل عن التفكير الطبيعي السليم لخلل طرأ عليه فأغلقه.
ونرى وقوع الطلاق في كل حالة أخرى من الغضب غيرها، سواء أكان الغضب خفيفا أم شديدا، فما دام لم يغلق صاحبه عن إدراك ما يفعل ويقول، ولم يحل بينه وبين قصده الواعي - فهو مسئول عما يقول ويفعل"[32].
أما من يحاول الكذب على العلماء وخداعهم بادعائه أنه كان شديد الغضب مما أفقده الوعي، فإن هذا إنما يخدع نفسه، وإن كذب على الناس فهل يكذب على الله, فالأمر في النهاية يعود إلى ضميره وتقواه, يقول الشيخ عطية صقر معلقا على مثل ذلك: "ويحاول كثيرون من الذين تصدر منهم عبارات الطلاق أن يقولوا لمن يستفتونه: إنهم كانوا في غضب شديد، يريدون بذلك الحكم بعدم وقوع الطلاق، لكن الموضوع في حقيقته مداره على التدين والخوف من الله، فإن الذي يستطيع أن يحدد درجة غضبه هو صاحب القضية، لكن المفتي يحكم بظاهر القول وبإقرار السائل، ولا يعلم باطن الأمر وحقيقته إلا الله سبحانه"[33].
وهذا هو الذي كنا نعنيه بقولنا: "الغاضب مفتي نفسه"؛ لأنه أدرى بحاله، والمفتي إنما يفتي على حسب ما قيل له, وعلى هذا المعنى يؤكد د. بلتاجي, إلا أنه يستدرك فسيستثني من قامت القرائن على كذبه، فلا يلتفت إلى ظاهر قوله، وقد تيقن أن الباطن بخلافه.
يقول د. بلتاجي: "ونرى أيضا أن يصدق الرجل بيمينه إذا ادعى حالة عدم وقوع الطلاق، إلا إذا قامت الدلائل القوية من شهود الحال على أنه يكذب في ادعائه وأنه كان مفيقا مدركا لما يقول قاصدا له"[34].
التشريع الإسلامي تنزيل من حكيم خبير لا يخضع لأهواء الناس:
لا بد أن يخضع الناس لما جاء به الشرع الحنيف راضين مستسلمين، وإن خالف أهواءهم، وأن يكونوا على يقين بأنه الخير والصلاح لهم في عاجلهم وآجلهم، قال عز وجل: )إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون (51)( (النور)، وقال عز وجل: )وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا (36)( (الأحزاب).
هذا هو موقف المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله, إذعان بلا تردد، وطاعة بلا تلكؤ, ذلك أن عقد الإيمان بالله ربا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - رسولا، وبالقرآن إماما، يقتضي ويوجب ويلزم الرضا بما رضيه الله ورسوله والالتزام بما ألزما به، وإلا كان الإيمان لفظا بلا معنى، ودعوى بلا حقيقة، فموقف المسلم من القرآن والسنة أو من الشرع الحنيف، موقف الإذعان والتسليم لكل ما جاء فيه، فهو الهادي إلى أقوم سبيل، والداعي إلى كل هدى ورشد، والمحذر من كل ضلال وغي[35].
فالشرع الحنيف إنما جاء ليضبط بهدايته سيرة الحياة، ويحكمها بما أنزل الله من الهدى ودين الحق، ويهدي بنوره البشرية للتي هي أقوم، ويخرج الناس من الظلمات إلى النور، قال تعالى: )إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا (9)( (الإسراء).
وتسليم المسلم ورضاه بما شرع الله يجب أن يكون نابعا من الإيمان بأن الدين - الذي أكرمنا الله به - دين كامل، وأن الشريعة التي ألزمنا بالاحتكام إليها شريعة جامعة، فالواجب على كل ذي عقل - كما نبه الإمام الشاطبي - النظر إلى الشريعة بعين الكمال لا بعين النقصان، وأن يعتبرها اعتبارا كليا في العبادات والعادات، ولا يخرج عنها ألبتة؛ لأن الخروج عنها تيه وضلال، ورمي في عماية، كيف وقد ثبت كمالها وتمامها؟! وهو الأمر الذي أغفله المبتدعون والمنحرفون، فدخل عليهم بسبب ذلك - كما يقول الشاطبي - الاستدراك على الشرع، وإليه مال من كان يكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقال له ذلك، ويحذر مما في الكذب من الوعيد، فيقول: لم أكذب عليه، وإنما كذبت له".
فمما لا شك فيه أن هذه الشريعة من عند الله - عز وجل - فكمالها مستمد من كمال من أنزلها، وقد قال تعالى: )اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم (3)( (المائدة). ومنزل هذه الشريعة هو خالق هذا الإنسان، فهو يعلم ما يحتاج إليه الإنسان في حياته المادية والمعنوية، الفردية والاجتماعية، الدنيوية والأخروية: )ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير (14)( (الملك).
وهو - مع كل ما يحتاج إليه الإنسان ويزكيه ويرقى به ويسعده في أولاه وأخراه - أبر به من نفسه وأرحم به من أبويه، وكيف لا، وهو الذي أنشأه من العدم، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، وحاطه برعايته في كل أطوار حياته؟
ثم إن منزل هذه الشريعة هو خالق الكون الفسيح من حولنا، ومدبر أمره على أحكم نظام، وأروع قانون، أحسن كل شيء خلقه، وقدر كل شيء فيه تقديرا، فما ترى في خلق الرحمن من تفاوت: )صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون (88)( (النمل)، )لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون (40)( (يس).
وإذا كان هذا شأن قوانين الله الكونية: الدقة والتوازن والروعة والإحكام فكيف تتخلف هذه المعاني في قوانينه الشرعية؟! كيف يحكم ويتقن في عالم الخلق، ولا يحكم ويتقن في عالم الأمر؟! تعالى عما يقول الجاهلون بمقامه علوا كبيرا.
شريعة الله كاملة في كل ما أمرت به أو نهت عنه، أو أذنت به، أو دعت إليه، من كل ما يتوجه الطلب إليه أو الكف عنه، اعتقادا وعملا.
هذه قضية كلية يجب الإيمان بها وعدم التلجلج فيها، ومن توقف يوما في جزئية من جزئيات الأحكام، لم يستبن له وجهها، ولم يتضح له حكمتها، فلا يجوز له أن يتهم الشريعة بالقصور، بل يتهم نفسه بالعجز عن إدراك الحقيقة، على نحو ما قال أبو الطيب:
وكم من عائب قولا صحيحا
وآفته من الفهم السقيم
ولكن تأخذ الأذهان منه
على قدر القرائح والفهوم
وكم رأينا في عصرنا من أناس تطاولوا على الشريعة، وتعالموا على شارعها من دعاة التنصير، وأقطاب الاستشراق، ومن سار في ركابهم ممن يتسمون بأسماء المسلمين، فإذا الواقع المعاصر بتجاربه ونوازله وقوارعه يثبت عدل الشريعة وسموها، وسبقها بأروع المبادئ، وأكمل القواعد، وأمثل الأحكام التي لا تصلح الحياة ولا الإنسانية إلا بها.
عابوا على الشريعة الطلاق، واضطرتهم الحياة ووقائعها إلى إباحته - بل الإسراف والتوسع في هذه الإباحة - بالرغم من تحريم ديانتهم للطلاق وعزوهم إلى الإنجيل أنه قال: "فالذي جمعه الله لا يفرقه إنسان". (متى 19: 6).
وقد فرق الإنسان عندهم ما أمر الله بجمعه، أما عندنا فإن الله هو الذي أمر بالجمع، وهو الذي أذن بالتفريق، فكلاهما جزء من حكمه وشرعه سبحانه.
وعابوا على الشريعة تعدد الزوجات، وها هم يعددون النساء، ولكن بغير إذن من الله، ولا رضا من شريعته، فهم يرفضونها حليلة، ويعاشرونها خليلة,فالتعدد قائم، ولكنه تعدد لا أخلاقي ولا إنساني، لا التزام فيه بحق لزوجة تعاشر، ولا بحق طفل يولد منها طوعا أو كرها.
وعلماء الإسلام ليس لهم حق التشريع من عند أنفسهم، وإنما يجتهدون في حدود النص لاستنباط الأحكام منه، ولا يملكون صكوك الغفران كما هو الحال عند غيرهم، والحط من مكانتهم هدف خبيث لأعداء الإسلام.
لا خلاف بين المسلمين في أن مصدر جميع الأحكام التشريعية من أوامر ونواه هو الله تعالى، لا يشاركه فيها أحد من الناس فيما وضع من مبادئ وأصول وتشريعات مفصلة محدودة، وطريق التعرف على ما أنزل الله في قرآنه أو أوحى به إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي ذلك ضمان لحرية الإنسان والحفاظ على كرامته ومصالحه، وعدم استبداد أحد به, أما إعطاء سلطة التشريع والأمر لأحد من الناس فهو إشراك في ربوبية الله، وطريق يؤدي إلى الاستبداد والطغيان والظلم والتعسف، وإهدار حرية الإنسان، والإضرار بمصالحه الخاصة التي لا تصطدم مع المصالح العامة.
وقد تضافرت النصوص القرآنية الدالة على استقلال الله بهذه السلطة فيما شرع من أحكام مثل قوله تعالى: )ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون (40)( (يوسف)، وقول الله عز وجل: )قل إن الأمر كله لله( (آل عمران: ١٥٤)، وقوله تعالى: )ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (44)( (المائدة)، وقوله تعالى: )وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون (48)( (المائدة).
ولكن ربما قيل: كيف ذلك مع أن أكثر الأحكام النظامية وضعها بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - الفقهاء والخلفاء والأمراء، فلم يحط الإسلام في بدء نشأته بكل ما يلزم البشر، من القوانين والأحكام؟ فنقول: إن جميع ما وضعه الفقهاء والخلفاء والأمراء من الحكام، إنما بنوه على ما أباح لهم الشرع الشريف من الاجتهاد والقياس، كما قدروه واعتبروه بالأحكام العامة، التي قررها لهم الشرع[37].
فالناس - وخاصة العلماء منهم - وكلاء عن الله في التبليغ وتقرير وتنفيذ أحكامه ورعاية تطبيقها وفهم مدلولاتها، عن طريق سلطة الاجتهاد فيما تدل عليه أو تهدف إليه من غايات أو تحد من حدود يلزم السير في نطاقها وتنظيم الحياة في محورها[38].
فمصدر الأحكام في الإسلام واحد وهو الوحي الإلهي, وما على الفقهاء والعلماء إلا الاجتهاد في استخلاص الأحكام من أدلتها الشرعية، هذه هي وظيفتهم فقط، وليس إنشاء أحكام من عند أنفسهم أو تبعا لأهوائهم.
وقد صدق الأستاذ السنهوري حيث قال: "إن القول في دين الله، وفي شرائع الأحكام بمجرد استحسان العقل، وما يقدره العقل من المصلحة، من غير استناد إلى دليل، لا يكون اجتهادا فقهيا، وما هو إلا قول بالهوى والتشهي,وما كان اجتهاد السلف الصالح إلا فيما بين أيديهم من نصوص القرآن والسنة[39].
فلا بد أن يكون المجتهد - أولا وقبل كل شيء - كامل العقل والدين؛ لأنه أمين في تبليغ مراد الشرع إلى الناس, وعليه بعد ذلك أن يكون عالما باللغة وطرق دلالتها على المعاني، ولا يكون ذلك إلا لمن زاول علومها المختلفة، واطلع على كثير من آثار فصحائها إلى الحد الذي يميز به بين الخاص والعام، والحقيقة والمجاز، والمحكم والمتشابه، وغير ذلك مما تتوقف على معرفته القدرة على الاستنباط.
وأيضا يكون عالما بنصوص القرآن والسنة، وما جاء فيهما من أحكام، وما نسخ منهما وما لم ينسخ، مع ربط المجمل ببيانه والمطلق بقيده والعام بمخصصه.
وكذلك أن يكون عالما بمقاصد الشارع وأحوال الناس وما جرى عليه عرفهم وما فيه صلاح أو فساد، والقدرة على معرفة علل الأحكام الملائمة لمقاصد الشارع والمحققة لمصالح العباد المعتبرة[40].
وجماع الأمر أنه لا بد أن يكون المجتهد عالما بنصوص الشريعة مالكا لأدوات استنباط الأحكام منها, ذا خبرة وملكة كونتها فيه الدربة وطول المران، على تقوى وورع غير أننا ننبه هنا إلى أمر هام جدا وهو أنه لا اجتهاد مع النص حتى لا يظن محترفو التشويه ومنظرو التشكيك، أنه يجوز للمجتهد أن يجتهد مع النص، والحق أنه إنما يجتهد حول النص، وذلك كله يكون في حدود النص الظني الدلالة، أما النص القطعي فلا اجتهاد معه.
فالفقيه يستفرغ وسعه وطاقته في استخراج الأحكام الشرعية من أدلتها فيما لا دليل قطعي فيه، ويستفرغ وسعه كذلك في إنزال ما توصل إليه من أحكام على الوقائع على درجة يلزم المكلف أن يعمل به أو لا يلزمه.
يقول د. يوسف القرضاوي: وبهذا تحددت "المرجعية العليا" للإسلام؛ أي: في مصدريه القرآن والسنة، فليست هي لمجمع من المجامع الدينية أو العلمية، كما عرف ذلك عند النصارى ومجامعهم الكنسية المقدسة.
وليست هذه المرجعية لرئيس ديني، مهما علا كعبه في العلم والتقوى, فليس لدى المسلمين "بابا" يوصف بالقداسة والعصمة، كما عند غيرهم.
وليست هذه المرجعية لمدرسة أو مذهب أو طريقة، قلدها مقلدون في مجال الاعتقاد والفكر أو في مجال الفقه والتشريع، أو في مجال التربية والسلوك، فما وجد من ذلك في تاريخ الإسلام وتراثه، إنما هو اجتهادات بشر غير معصومين في فهم الإسلام والعمل به، يؤخذ منهم ويرد عليهم، من أصاب منهم فله أجران، ومن أخطأ فله أجر، ما دام هذا الاجتهاد صادرا من أهله في محله مصحوبا بالنية الصالحة.
ثم يعود الشيخ القرضاوي فيؤكد على أنه إذا كان اجتهاد المجتهدين غير معصوم من الخطأ، إلا أنه ضروري ولا غنى عنه؛ لأنهم مفاتيح لتوضيح الحق وتبيينه، أما عمل "العقل الإسلامي" في تفسير القرآن وشرح الحديث واستنباط الأحكام، فلا عصمة له في مفرداته وجزئياته، ولكنه - في مجموعه - ضروري لفتح المغاليق، وتبين الطريق، وترشيد الفهم، وتسديد الاستنباط والاجتهاد، حتى لا تزل الأقدام وتضل الأفهام[41].
ومن هنا يجب علينا أن نعلم مكانة العلماء في الإسلام، فهم أهل العلم والمعرفة ورجاحة العقل والعدالة والتقوى والمروءة، وهم المؤمنون بالله، أهل خشيته والعارفون بمدارك الأحكام الشرعية وأقسامها وطرق إثباتها ووجوه دلالتها على مدلولاتها[42].
فإذا كانت هذه هي مكانة العلماء في الإسلام، فكيف يصدق عاقل أنهم قد يبتدعون في دين الله ما ليس فيه، أو أنهم قد يحلون ما حرم الله، أو يحرمون ما أحله تبعا لأهوائهم الشخصية؟ لا شك أن من يزعم ذلك إنما يريد أن ينال من دين الله وشريعته الغراء، ولن يمكنه الله من ذلك أبدا.
فكثيرا ما أراد أعداء الإسلام النيل من علماء الإسلام, ولكن هلك أعداء الإسلام وبقي الإسلام وعلماؤه أبد الدهر شامخين.
رابعا. الزيادة السكانية ليست خطرا رهيبا كما يصور العاجزون، بل هي ثروة بشرية مهمة لو أحسن استغلالها والإفادة منها:
إن الزيادة السكانية ليست خطرا رهيبا كما يصور العاجزون، بل هي ثروة بشرية مهمة لو أحسن استغلالها والإفادة منها.
وزيادة النسل أمر دعت إليه الشرائع السماوية لما فيه من خير للبشرية، ففي التوراة: "فعلم أونان أن النسل لا يكون له، فكان إذ دخل على امرأة أخيه أنه أفسد على الأرض، لكي لا يعطي نسلا لأخيه. فقبح في عيني الرب ما فعله، فأماته أيضا". (التكوين 38: 9، 10)، وجاء على لسان سليمان الحكيم: "كسهام بيد جبار، هكذا أبناء الشبيبة. طوبى للذي ملأ جعبته منهم". (المزامير 127: 4، 5)، وفي سفر التكوين: "وباركهم الله وقال لهم: أثمروا واكثروا واملأوا الأرض". (التكوين 1: 28).
والمسيحية أيضا تشجعه بناء على ما ورد في العهد القديم الذي يعتمدون عليه، والكنيسة الكاثوليكية بالذات تحرم تحديده بشدة وقد أصدرت عدة قرارات بهذا الشأن.
أما الإسلام فقد كان له موقف قوي من تشجيع التناسل ورعايته, فقد حث الإسلام على الزواج، وحث على الإكثار من النسل، ونهى عن الحد منه، وكره الطلاق إلا ما اضطرت إليه الحاجة.
والكثير من الدول الحديثة تشجع على زيادة النسل وتحض عليه رعاياها وتقدم لهم الجوائز والمنح على ذلك كاليابان والصين وروسيا - في أواسط القرن العشرين - بالإضافة إلى عدد من دول أوربا الغربية المهمة[43].
والحقيقة أن عدد السكان - على أية حال - هو ثروة قومية مهمة ينبغي الحرص على استغلالها والإفادة منها لدفع عجلة التنمية، وذلك بزيادة فرص الاستثمار، وإنشاء المشروعات الاقتصادية الضخمة التي تستوعب العمالة الضخمة في بلاد المسلمين، وتحولها إلى خطوط إنتاج فتصبح الزيادة السكانية مصدرا للثروة والانتعاش الاقتصادي.
ولنا في الصين والهند أسوة في هذا المجال حيث استفادتا من عدد السكان الضخم في إقامة المشاريع العملاقة, وتشغيل الأيدي العاملة وهو ما عاد على الأحول الاقتصادية والاجتماعية في هذه البلاد بالرخاء والوفرة والانتعاش.
وكيف تهدد الزيادة السكانية بالانفجار السكاني ومعظم السكان في مصر - مثلا - يعيشون على أقل من 10% فقط من مساحة أرض مصر، وبلد كالسودان لو أحسن استغلال أراضيها والثروة البشرية بها في الزراعة لكفت الدول العربية جميعا من القمح سنويا دون الحاجة إلى زراعة أرض أخرى، أو استيراد قمح من أحد.
وعليه، فلا دخل لإباحة الطلاق واستبدال الزوجات في مشكلة الانفجار السكاني أو الأزمات الاقتصادية، وإنما المشكلة الحقيقية تكمن في عقول البشر التي لا تحسن أن تستغل ما تحت أيديها من موارد، وما وهبها الله من إمكانات.
الخلاصة:
· الطلاق لفظ من ألفاظ الجاهلية كانوا يستعملونه في الفرقة بين الزوجين فلما جاء الإسلام أقر استعماله، ووضع له الأحكام والضوابط، وحصره في أضيق الحدود حرصا على بقاء العلاقة الزوجية ودوامها,فهو إذن ليس بدعة إسلامية، بل سبقت إليه أمم أخرى.
· أباح الإسلام الطلاق إذا دعت إليه الضرورة، أما حيث لا ضرورة، فهو أبغض الحلال إلى الله، وقد رأى الحنفية تحريم الطلاق بلا سبب.
· التلفظ بالطلاق لا يهدم العلاقة الزوجية مرة واحدة؛ بل هو إجراء مرحلي يتم على ثلاث مراحل، يسبقها مجموعة من التدابير الوقائية وضعها الإسلام لحماية الحياة الزوجية.
· وإيقاع الطلاق بكلمة يدل على أهمية الكلمة في الإسلام وخطورتها، فإنه كما كانت الكلمة سببا في الدخول في الإسلام وسببا للخروج منه، وسببا في العتق وسببا في العقد والفسخ... إلخ، كانت سببا أيضا في الطلاق؛ حتى يحذر الناس الكلام بدون داع، خاصة في الأمور الجادة.
· إن عدم وقوع طلاق الغضبان ليس فتوى تعطي لكل من يدعي أنه طلق في أثناء الغضب، بل لا بد من مراعاة حال المستفتي، والحد الفاصل في وقوع طلاق الغضبان وعدم وقوعه ملك الإرادة والوعي، فالغاضب مفتي نفسه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا طلاق ولا عتاق في إغلاق»[44].
· علماء الإسلام ليس لهم حق التشريع، وإنما يجتهدون وفق النصوص الشرعية، ووفق قواعد الاجتهاد، ولا يجوز لأحدهم أن يحكم هواه دون برهان.
· زيادة النسل أمر دعت إليه الشرائع السماوية السابقة على الإسلام، وجاء الإسلام وحض عليه، والزيادة السكانية المترتبة على زيادة النسل ليست خطرا يهدد المجتمع، بل هي ثروة بشرية مهمة لو تم استغلالها استغلالا سليما كما فعلت بعض الدول كالصين واليابان وغيرها.
(*) أحكام تصرفات المرأة في الشريعة الإسلامية، د. كوثر كامل، دار النهضة العربية، القاهرة، ط1، 2005م. إنسانية المرأة بين الإسلام والأديان الأخرى، علاء أبو بكر، مركز التنوير الإسلامي، القاهرة، ط1، 2005م. تغييب الإسلام الحق، محمود توفيق محمد سعد، مكتبة وهبة، القاهرة، 1416هـ/ 1996م.
[1]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، ومن حديث ثوبان رضي الله عنه (22433)، وابن ماجه في سننه، كتاب الطلاق، باب كراهية الخلع للمرأة (2055)، وصححه الألباني في الإرواء (2035).
[2]. إنسانية المرأة بين الإسلام والأديان الأخرى، علاء أبو بكر، مركز التنوير الإسلامي، القاهرة، ط1، 2005م، ص360: 362. وانظر: الزواج والطلاق والتعدد بين الأديان والقوانين ودعاة التحرير، زكي علي أبو غضة، طبعة خاصة، ط1، 1425هـ/2004م، ص115: 117.
[3]. إنسانية المرأة بين الإسلام والأديان الأخرى، علاء أبو بكر، مركز التنوير الإسلامي، القاهرة، ط1، 2005م، ص362: 369 بتصرف.
[4]. الزواج والطلاق والتعدد بين الأديان والقوانين ودعاة التحرير، زكي علي أبو غضة، طبعة خاصة، ط1، 1425هـ/2004م، ص118: 121 بتصرف يسير.
[5]. إنسانية المرأة بين الإسلام والأديان الأخرى، علاء أبو بكر، مركز التنوير الإسلامي، القاهرة، ط1، 2005م، ص358: 368 بتصرف.
[6]. إنسانية المرأة بين الإسلام والأديان الأخرى، علاء أبو بكر، مركز التنوير الإسلامي، القاهرة، ط1، 2005م، ص369: 371.
[7]. الفقه الإسلامي وأدلته، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط3، 1409هـ/2003م، ج7، ص657 بتصرف يسير.
[8]. الإسلام في قفص الاتهام، د. شوقي أبو خليل، دار الفكر، دمشق، ط6، 1998م، ص231، 232 بتصرف.
[9]. موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام، عطية صقر، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1424هـ/2003م، ج6، ص264، 265.
[10]. صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب النكاح، باب الأكفاء (1986)، والبيهقي في سننه الكبرى، كتاب النكاح، باب اعتبار الكفاءة (13536)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1067).
[11]. حسن: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب النكاح، باب الأكفاء (1967)، والترمذي في سننه، كتاب النكاح، باب إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه (1084)، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي (1084).
[12]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الكوفيين، حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه (18179)، وابن ماجه في سننه، كتاب النكاح، باب النظر إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها (1866)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (96).
[13]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب الأكفاء في الدين (4802)، ومسلم في صحيحه، كتاب الرضاع، باب استحباب نكاح ذات الدين (3708).
[14]. الموسوعة الفقهية الكويتية، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت، ط، دار الصفوة، مصر، ط4، 1414هـ/1993م، ج29، ص9، 10.
[15]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث السيدة عائشة رضي الله عنها (24738)، وأبو داود في سننه، كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حدا (4405)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود (4403).
[16]. الإغلاق: الغضب.
[17]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث السيدة عائشة رضي الله عنها (26403)، وابن ماجه في سننه، كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي (2046)، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه (2046).
[18]. صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي (2045)، والطبراني في المعجم الأوسط، من بقية من أول اسمه ميم من اسمه موسى (8273)، وصححه الألباني في الجامع الصغير وزيادته (2717).
[19]. الموسوعة الفقهية الكويتية، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت، ط، دار الصفوة، مصر، ط4، 1414هـ/1993م، ج29، ص14: 25.
[20]. الموسوعة الفقهية الكويتية، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت، ط، دار الصفوة، مصر، ط4، 1414هـ/1993م، ص33: 36.
[21]. في أحكام الأسرة: دراسة مقارنة، د. محمد بلتاجي، مكتبة الشباب، القاهرة، ط2، 1983م، ص497.
[22]. الموسوعة الفقهية الكويتية، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت، ط، دار الصفوة، مصر، ط4، 1414هـ/1993م، ج29، ص23.
[23]. موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام، عطية صقر، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1424هـ/2003م، ج6، ص265 بتصرف يسير.
[24]. موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام، عطية صقر، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1424هـ/2003م،،ج6، ص269.
[25]. حسن: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الطلاق، باب من طلق أو نكح أو راجع لاعبا (2039)، وأبو داود في سننه، كتاب الطلاق، باب الطلاق على الهزل (2196)، وحسنه الألباني في الإرواء (2061).
[26]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث السيدة عائشة رضي الله عنها (26403)، وابن ماجه في سننه، كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي (2046)، وحسنه الألباني في الجامع الصغير وذيادته (13482).
[27]. تحفة الأحوذي (شرح جامع الترمذي)، المباركفوري، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1410هـ/ 1990م، ج4، ص311.
[28]. زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن القيم الجوزية، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، وعبد القادر الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1985م، ج5، ص215.
[29]. فقه السنة، الشيخ سيد سابق، دار الفتح للإعلام العربي، مصر، ط2، 1419هـ/1999م، ج3، ص12.
[30]. موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام، عطية صقر، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1424هـ/2003م، ج6، ص274 بتصرف يسير.
[31]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث السيدة عائشة رضي الله عنها (26403)، وابن ماجه في سننه، كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي (2046)، وحسنه الألباني في الجامع الصغير وذيادته (13482).
[32]. في أحكام الأسرة: دراسة مقارنة، د. محمد بلتاجي، مكتبة الشباب، القاهرة، ط2، 1983م، ص511.
[33]. موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام، عطية صقر، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1424هـ/2003م، ج6، ص274.
[34]. في أحكام الأسرة: دراسة مقارنة، د. محمد بلتاجي، مكتبة الشباب، القاهرة، ط2، 1983م، ص511.
[35]. المرجعية العليا في الإسلام للقرآن والسنة، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 1422هـ/ 2001م، ص21 بتصرف.
[36]. المرجعية العليا في الإسلام للقرآن والسنة، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 1422هـ/ 2001م، ص183: 185 بتصرف يسير.
[37]. الإسلام دين الفطرة والحرية، عبد العزيز جاويش، دار الهلال، مصر، د. ت، ص39.
[38]. انظر: نظام الإسلام، د. وهبة الزحيلي، دار قتيبة، بيروت، ط2، 1413هـ/ 1993م، ص159، 160.
[39]. أصول التشريع الإسلامي، علي حسب الله، طبعة خاصة بطلاب كلية دار العلوم، جامعة القاهرة، ص324 وما بعدها.
[40]. أصول التشريع الإسلامي، علي حسب الله، طبعة خاصة بطلاب كلية دار العلوم، جامعة القاهرة، ص82. وانظر: الاجتهاد في الإسلام: تحرير وتنوير، د. طه حبيشي، مكتبة رشوان، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2005م، ص21: 40. أصول الفقه الإسلامي، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر المعاصر، بيروت، دار الفكر، دمشق، ط1، 1417هـ/ 1996م، ج2، ص1043 وما بعدها.
[41]. مدخل لمعرفة الإسلام، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط3، 1422هـ/ 2001م، ص293 بتصرف.
[42]. نظام الإسلام، د. وهبة الزحيلي، دار قتيبة، بيروت، ط2، 1413هـ/ 1993م، ص161.
[43]. موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام، عطية صقر، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1424هـ/2003م, ج4, ص26: 28.
[44]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث السيدة عائشة رضي الله عنها (26403)، وابن ماجه في سننه، كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي (2046)، وحسنه الألباني في الجامع الصغير وزيادته (13482).
open
online black women white men
husbands who cheat
open my boyfriend cheated on me with a guy
why do wife cheat on husband
website reasons why married men cheat
husband cheat
online online affair