الطعن في أحكام الزواج في الإسلام
مضمون الشبهة:
يطعن بعض أدعياء تحرير المرأة في أحكام الزواج في الإسلام؛ إذ إنها في زعمهم:
· سلبت المرأة حقها في اختيار زوجها؛ ويستدلون على ذلك بسلطة الولي الجبرية على المرأة، والتي تمنعها من أن تمارس حريتها في اختيار شريك حياتها.
· قصرت الغاية من الزواج على مجرد الاستمتاع الجنسي؛ ودليلهم على ذلك تعريف فقهاء المسلمين للزواج بأنه: عقد يملك به الرجل بضع[1] المرأة.
· أباحت نكاح المتعة؛ مستدلين بقوله عز وجل: )فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن( (النساء: ٢٤)، وبما جاء في السنة من قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «كنا نغزو مع رسول الله، وليس معنا نساء، فقلنا: ألا نختصي؟ فنهانا عن ذلك، فرخص لنا بعد ذلك أن نتزوج المرأة بالثوب»،[2] وبما ورد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - من أنه كان يفتي بنكاح المتعة.
· سمحت للرجل أن يتزوج الكتابية، ولم تعط المرأة الحق في التزوج من كتابي، مؤيدين كلامهم بقوله عز وجل: )اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين( (المائدة: ٥).
ويرمون من وراء ذلك إلى التشكيك في صحة أحكام الزواج في الإسلام، والطعن في إنصافها للمرأة.
وجوه إبطال الشبهة:
1) إن الإسلام - بأحكامه - أعطى المرأة حرية اختيار زوجها حين أوقف نفاذ عقد الزواج على اجتماع إرادتين: إرادة الزوج، وإرادة الزوجة. وأكد النبي - صلى الله عليه وسلم - على تلك الحرية في أحاديث عدة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: «الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها»[3].
2) إن الإسلام حين جعل ولي المرأة شريكا في اختيار زوجها قصد - أول ما قصد - ألا تضع المرأة نفسها في غير كفء، ولم يقصد حجرا عليها، ولما كان معيار القبول أمرين هما: الدين والميل القلبي، وكان الثاني: وقفا على الزوجة، كان أحرى بالولي أن يتولى الأمر الأول، لا سيما والأمر يحتاج عاقلا حكيما يزن الأمور بميزان بعيد عن العواطف, أضف إلى ذلك ما في وجود الولي من صون للمرأة عن مباشرة عقد النكاح بنفسها، وحفظ ماء وجهها، وتنزيهها عما قد يمس حياءها.
3) جعل القرآن والسنة النكاح وسيلة لغاية عظمى, هي السكن والمودة والرحمة التي تولد المجتمع الصالح، وتحفظ النوع البشري نقيا طهورا.
4) فقهاء الإسلام لم يقصروا الزواج على إباحة الجنس فقط كما يدعي الطاعنون، وإذا كان بعض الفقهاء قد ذكر عبارة "تملك البضع", فذلك إشارة إلى أهم ما يميز النكاح عن غيره من سائر العقود والمعاملات.
5) إن آية سورة النساء: )فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن( (النساء:24) التي استدل بها الطاعنون على صحة زواج المتعة، أسيء فهمها، فضلا عن اقتطاعها من السياق الكلي للآيات بغرض تفسيرها تفسيرا يخدم أغراضهم.
6) لم يفتح الإسلام الباب على مصراعيه بشأن الزواج من الكتابيات، وإنما قيد هذا الزواج بمجموعة من القيود التي تحكم هذا الزواج وتضبطه بما يتوافق مع نهج الإسلام وأحكامه في الحفاظ على هوية الشخصية المسلمة.
7) إباحة الإسلام زواج المسلم بكتابية من أنصع الأدلة على اعتدال هذا الدين وتوازنه، كما أن منعه زواج المرأة المسلمة من غير المسلم فيه غاية التكريم والحفاظ على المرأة المسلمة.
التفصيل:
أولا. الإسلام هو أول نظام متكامل يكفل حقوق المرأة، ويضمن حريتها في اختيار الزوج:
إن الإسلام - بأحكامه - يعد أول نظام متكامل يكفل للمرأة حقوقها، ويضمن لها حريتها على كافة مستويات المعيشة: العقدي، والسياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، هذه الحرية من أولى الحقوق التي أكسبها الإسلام للمرأة.
ولكن ثمة سؤال يفرض نفسه: ماذا تعني هذه الحرية؟! وهل للذكورة أو الأنوثة دخل في تحديد معاييرها، وقصرها على صنف دون آخر؟!
وللإجابة على هذا السؤال نقول: إن الحرية على نوعين:
· الحرية الداخلية: أي: القدرة على تحكم الإنسان في ذاته، والتحرر من قوانين بشريته، ومن ذلك ما قد يملك الإنسان القدرة على التحكم فيه، ومنه ما لا يملك ذلك منه - وهذا الجانب لا يهمنا في هذا المقام -.
· الحرية الخارجية: وهي مدى المرونة التي يتمتع بها الإنسان في التعامل مع العالم المحيط به، من حيث سائر الأنظمة والأنشطة التي تتجلى فيه - وهذا ما نحن بصدد الحديث عنه -.
ولا يفوتنا أن نركز على أن ذكورة الرجل أو أنوثة المرأة لا تدخل بشكل من الأشكال في معايير الحرية بنوعيها؛ فمعلوم أن علاقة الإنسان بالحرية الداخلية مع ذاته وعلاقته بالحرية الخارجية مع مجتمعه، تنطبق على كل من الرجل والمرأة على السواء؛ فلا دخل للذكورة بحد ذاتها، أو الأنوثة بحد ذاتها في جوهر الحرية أو نسبة تمتع الإنسان بها.
وكما أن الإنسان لا يملك التحرر من قوانين بشريته، لا يضبط حريته في علاقاته الاجتماعية إلا بما تقتضيه حماية حريات الآخرين، ورعاية مصالحهم المشروعة، ومما لا شك فيه أن الرجل والمرأة في ذلك سواء.
وعجيب حقا أن يتهم الإسلام بهضم حرية المرأة في اختيار زوجها، وهو الدين الذي أنقذها مما كانت تعانيه من كونها مجرد سقط متاع، تباع وتشترى في الأسواق عند اليونانيين، إلى حسابها في عداد الماشية المملوكة عند البابليين، إلى اعتبارها لعنة؛ لأنها المسئولة الأولى عن خطيئة آدم - عليه السلام - عند اليهود، إلى رؤيتها مدخلا للشيطان عند المسيحيين، وليس هذا فحسب، بل اعتبرت مصدرا للعار والفضيحة عند العرب الجاهليين، ومن ثم كان الوأد[6] في التراب هو العقيدة السائدة عندهم.
وعجيب أن يتهم الإسلام وأحكامه الخاصة بالزواج بأنه يسيء إلى المرأة، وهو الذي أحلها المكانة اللائقة بها في كل المجالات، ومنها:
1. المجال الإنساني: فاعترف بإنسانيتها كاملة كالرجل، وهذا ما كان محل شك أو إنكار عند أكثر الأمم المتمدنة سابقا.
2. المجال الاجتماعي: فقد فتح أمامها مجال التعلم وأسبغ عليها مكانة اجتماعية كريمة في مختلف مراحل حياتها منذ طفولتها حتى نهاية حياتها، بل إن هذه الكرامة تنمو كلما تقدمت في العمر: من طفلة إلى زوجة إلى أم، حيث تكون في سن الشيخوخة التي تحتاج معها إلى مزيد من الحب والحنو والإكرام.
3. المجال الحقوقي: فقد أعطاها الأهلية المالية الكاملة في جميع التصرفات حين تبلغ سن الرشد، ولم يجعل لأحد عليها ولاية من أب أو زوج أو رب أسرة.
على أن الإسلام حين كفل للمرأة الحقوق سالفة الذكر - والتي حرمها غيره منها - كان أكثر موضوعية من أولئك الجاهليين، فهو حين يسوي بين المولود الذكر والأنثى - مثلا - تكون هذه التسوية؛ نظرا لاشتراك الرجل والمرأة في القيام بكل أعباء الحياة عامة وخاصة، وإلى أن حاجة الأمة لها ليست بأقل من حاجتها إلى الرجل؛ لذا جاء القرآن متهكما بعقول أناس يحتقرون وليدا لا لشيء إلا لكونه أنثى، ويميزون بين اثنين ما زالا في المهد لـما يدر طيبهما من خبيثهما، قال عز وجل: )يتوارى من القوم من سوء ما بشر به( (النحل: 59).
وهنا نتساءل: أمن المنطقي أن ينصف الإسلام المرأة في المهد، ثم يهدر حقها عند الزواج؟!
أيمنحها حق الحياة المادية، ثم يسلبها الحياة المعنوية في أخص خصوصياتها، وهو اختيارها للزوج؟!
ويستوقفنا في هذا الصدد - وفي ظل هذه التساؤلات التي تحتاج إجابة صادقة - ما أورده د. على يوسف السبكي تحت عنوان "حق المرأة في اختيار زوجها" قائلا: عند الحديث عن الاختيار للزوج يلاحظ أن كثيرا من الكتابات في هذا الموضوع يشعر ظاهرها أن الرجل هو الذي يقوم باختيار المرأة، وهذا الظاهر ربما أوقع في الذهن أن حق الاختيار خاص بالرجل وقاصر عليه، وأما المرأة فلا حق لها فيه، وحسبها أن يقع عليها اختيار الرجل، وتحظى بقبوله ورضاه.
والحق أن الإسلام الذي أنصف المرأة، وأعلى من شأنها، ومنحها كافة الحقوق اللائقة بها، أثبت لها هذا الحق ــ حق اختيار الزوج ــ كما أثبته للرجل؛ لأن هذا الحق يتصل بإنسانيتها وكرامتها، فكانت والرجل فيه سواء.
وأما ما شاع على الألسنة أو جرت به الأقلام من أن الرجل هو الذي يختار المرأة زوجة، فذلك راجع إلى تغليب العرف، إذ الغالب عرفا أن خدر المرأة وحياءها يمنعانها من التصريح، وإبداء الرغبة في الزواج من شخص ما، ولكن ليس في الشريعة الإسلامية ما يمنع المرأة من مزاولة هذا الحق, سواء كان ذلك بصورة إيجابية مباشرة بأن تكون هي المبادرة بإعلان رغبتها، وعرض نفسها على الرجل، أم بصورة سلبية ضمنية بأن تبدي رأيها في من يختارها بقبول ذلك الاختيار أو رفضه.
ففي الصورة الأولى - الاختيار المباشر - نجد النصوص الصريحة تعطي هذا الحق للمرأة, فقد أفرد البخاري في صحيحه بابا تحت عنوان "عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح"، روى فيه عن ثابت البناني قال: «كنت عند أنس وعنده ابنة له، فقال أنس: جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعرض عليه نفسها، قالت: يا رسول الله، ألك بي حاجة؟ فقالت بنت أنس: ما أقل حياءها، واسوأتاه، قال: هي خير منك، رغبت في النبي - صلى الله عليه وسلم - فعرضت عليه نفسها»[10].
قال ابن حجر: في الحديث جواز عرض المرأة نفسها على الرجل، وتعريفه رغبتها فيه، وأن لا غضاضة عليها في ذلك.
والمرأة وإن كانت صاحبة حق شرعي في المبادأة في اختيار زوجها، إلا أنها في الغالب لا تمارس هذا الحق لاعتبارات منها:
· حياؤها الذي يمنعها من ذلك، إذ ربما شعرت أن المبادأة تجعلها غير مرغوبة، وهي تحرص على أن تكون مرغوبة.
· أن حقها في الاختيار محفوظ برفضها أو قبولها لمن اختارها.
· أن الرجل يحبذ أن يكون البادئ، وينفر من أن يبدأ بالاختيار.
· أن بداءة الرجل هي الأمر المألوف، إذ حتى لو بدأت المرأة بالتعبير عن رغبتها، فلا بد - كي يتم الزواج - أن يأتي الرجل طالبا لها من أهلها.
أما الصورة الثانية - الاختيار السلبي الضمني - فهي الأكثر شيوعا، وذلك بأن أعطى الإسلام للمرأة كامل الحق، ومطلق الحرية في أن تقبل أو ترفض من تقدم لخطبتها، وهنا تكون المرأة هي صاحبة الكلمة الأخيرة، وإن كان الرجل هو صاحب الكلمة الأولى في الاختيار.
ولم يقف الإسلام بالمرأة عند هاتين الصورتين من صور الاختيار، بل وقف صراحة على ما تنظر إليه المرأة من الرجل وقفة لا تقل عن تلك التي وقفها مع الرجل الخاطب، وبنظرة سريعة في كتب العلماء والمصنفين المسلمين في الفقه وأدب التربية نقف على تلك الحقيقة؛ فتحت عنوان "أدب النظر إلى المخطوبة" نجد ما نصه: "الشريعة الإسلامية أجازت للخاطب أن ينظر إلى المخطوبة، كما أجازت للمخطوبة أن تنظر إلى خاطبها؛ ليكون كل من الاثنين على بينة من الأمر في اختيار شريك الحياة، والأصل في ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للمغيرة بن شعبة: «انظر إليها؛ فإنه أحرى أن يؤدم بينكما».[12] أي: هذا النظر أدعى لدوام المحبة والألفة".
وإذا كان العنوان السابق خاصا بنظر الخاطب إلى المخطوبة، فقد عممه التفصيل المذكور تحته وبين أن للمرأة ما للرجل في هذا النظر؛ لاتحاد المقصود من نظره بالمراد من نظرها، وهو دوام الألفة، ولدينا عناوين خصت بالذكر حق المرأة في ذلك؛ منها: "ما يتصل بنظر المرأة عند الخطبة".
وتحت هذا العنوان يقول د. محمد بلتاجي: "إن ذلك فيما نرى - نظرة المرأة للخاطب - أمر واجب، وحينئذ عليها أن تستفتي قلبها وتطلب العون من ربها أن يهديها الرأي الرشيد في هذا الأمر الخطير، ولتسترشد بآراء بعض المقربين إليها الحريصين على مصلحتها، ثم لترى رأيها، وليكن رائدها في ذلك كله إرضاء هوى النفس في نطاق أوامر الله ونواهيه، ومن ثم عليها أن تقدر الشكل العام والتكوين الجسدي قدره، من حيث ما يتوافق مع ميولها ورغباتها، وأما ما تنظر إليه من الرجل فهو - على وجه العموم - ما يدعوها إلى الموافقة على خطبته أو رفضها مما تراعيه هي من اعتبارات خاصة بها".
إن الإسلام بتلك الاعتبارات بالغة الدقة في مراعاة مشاعر الأنثى؛ يحتم على كل ذي بصر أن يربأ به عن مظنة إهداره حق الزوجة في حرية اختيار زوجها؛ وهو الذي وقف على أدق التفاصيل الإنسانية، وقسم للمرأة قسما وللرجل قسما؛ فهم في البشرية سواء، وأنصفها بعد قسمة ضيزى[15] قسمها الجاهليون، وهكذا جاء الإسلام ينسم على حياة المرأة هذه النسمات الرخية في أهم مجالات الحياة الإنسانية، ويرفع النظرة إليها؛ فيقرر أنها والرجل نفس واحدة من خلقة بارئها.
هذا ولم تطلب المرأة شيئا من هذا ولا كانت تعرفه، ولم يطلب الرجل شيئا من هذا ولا كان يتصوره؛ إنما هي الكرامة التي أفاضها الله من رحمته للجنسين جميعا على الحياة الإنسانية جمعاء.
ثانيا. مقصد الإسلام من اشتراط ولي للمرأة في عقد الزواج,هو تحقيق مصلحة المرأة وصيانتها:
إن الإسلام حين أعطى المرأة حرية اختيار زوجها خط القاعدة العريضة التي تنتظم هذه الحرية في إطارها، تلك القاعدة هي شرط "الدين والخلق"، فمتى تحقق هذا الشرط سقط ما عداه من شروط تعارف عليها المجتمع الجاهلي، من مظاهر سطحية تقف عند النسب والجاه والوجاهة والمال... وغير ذلك، وكلها قشور لا ينبغي أن يعول عليها في قيام علاقة الزواج، ومعلوم أن الزواج أحد أهم ثلاثة أحداث في حياة الإنسان وهي: الولادة والزواج والموت، والولادة والموت يحدثان دون إرادة منا، أما الزواج فقراره مرتبط بإرادتنا، ولا شك أن أهم القرارات المتعلقة بالزواج هي اختيار الزوج.
والاختيار الناجح للزوج سبب في العشرة الصالحة، التي يقطع بها الزوجان رحلة الحياة بهدوء واطمئنان, فمتى كان الاختيار سليما أقيم البيت على أساس وطيد، فتملؤه السعادة، وتغمره المودة، أما إذا أسأنا الاختيار كان الفشل والشقاء.
ومسألة اختيار الأزواج من المسائل الصعبة المعقدة في عصرنا، وذلك نتيجة لاختلاط الأمور على الناس؛ بسبب سيطرة الجاهلية على المجتمع في تصوراته وفكره وأخلاقه وتشريعه.
والتشريع الإسلامي قد أعطى للفتاة حرية قبول الزوج أو رفضه، ويجب على المرأة أن تختار الزوج الذي ترى فيه صلاحا وتدينا؛ فإن ذلك فيه ضمان لمستقبل حياتها معه، فالشاب المتدين يلتزم في سلوكه بما يرضي الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - إن أحب أو كره؛ فيعاشر بالمعروف أو يفارق بإحسان.
لذا يحسن تجنب الخضوع لحكم الهوى، والنزوات العابرة، إذ لما كان الزواج من الأمور الخطيرة في آثاره، وكان التوفيق فيه سبب في سعادة الدارين، اقتضى ذلك أن يتم الإقدام عليه بحكمة وروية... وقد ركز النبي - صلى الله عليه وسلم - على من تميز بالدين والخلق، قال صلى الله عليه وسلم: «إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير", قالوا: يا رسول الله، وإن كان فيه؟[17] قال: إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه (ثلاث مرات)»[18].
ووجه الاستدلال بالحديث ما تضمنه من أمره - صلى الله عليه وسلم - الأولياء بتزويج من خطب إليهم، فرضوا دينه وخلقه، ولم يذكر لهم - صلى الله عليه وسلم - سوى الدين والخلق، ثم حذرهم من نتائج مخالفة أمره - صلى الله عليه وسلم - بالامتناع عن تزويج صاحب الدين والخلق، بحثا عما سواهما من النسب والمال وشرف المهنة، فبين لهم أن العاقبة وخيمة: وهي وقوع الفتنة والفساد الكبير في الأرض التي تقع فيها مخالفة إرشاداته - صلى الله عليه وسلم - وهو الناصح لأمته الرحيم بهم.
وقد كان من عادات الناس في الجاهلية أن يجعلوا من المظاهر المادية في الرجل أو المرأة الأسس الرئيسية في الاختيار، لكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد هدى إلى الركيزة الأساسية في اختيار المرأة للرجل، وكان ذلك بالمفاضلة بين رجلين أحدهما تظهر عليه علامات اليسر المادي والمكانة الاجتماعية، وأما الثاني فقد خلا حاله منهما، لكنه قد تزين بالإيمان والتقوى، فعدل أمة من الآخر.
ولو أخذت الزوجات بذلك الأساس؛ لكانت الغاية المثلى التي قصد الشرع إليها قصدا، لكنهن - وساعدهن في ذلك أولياؤهن - انقسمن فريقين لم يخرج عنهما إلا الخاصة، وقليل ما هم:
الأول: بدل ما أوصاه الشرع به وابتدع شروطا جاهلية من حسب ونسب ووجاهة، فما نفعته شروطه وما أغنت عنه شيئا.
الثاني: أغفل هذا الجانب ولم يقف من الشروط على شرعي ولا عرفي، ولم يدقق في الزوج المتقدم، فكان الفساد، ولات حين مناص.
وكثيرا ما تطالعنا الأحداث المعاصرة بوقائع تهاونت فيها الزوجة وأهلها في الاستيثاق من شأن الزوج، ثم إذا بهم ــ بعد إتمام الزواج والدخول - يكتشفون أنه غرر بهم في معظم شئونه,وهنا يجب أن نذكر كلمة السلف المأثورة عن أم المؤمنين أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما -: «النكاح رق، فلينظر أحدكم أين يضع كريمته».
وكما يقول الغزالي: فإن من زوج ابنته رجلا ضعيف الدين، أو ظالما، أو فاسقا، أو مبتدعا، أو شارب خمر، فقد تعرض لسخط الله لما قطع من رحمها، وأساء الاختيار لها، والغزالي هنا يشير إلى قول بعض السلف: "من زوج كريمته من فاسق فقد قطع رحمها", ونستطيع أن نقيس بقية أدواء العصر على ما مثل به الغزالي.
أما حين يستوثق ولي الأمر من دين الخاطب وخلقه وسائر أحواله الموافقة لحال الزوجة، فحينئذ تنبغي إجابة طلبه كما قال صلى الله عليه وسلم: «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض».
ولا ينبغي لولي الأمر حينئذ أن يرد الخاطب إذا وافقت المخطوبة، ولو كان يقصد انتظار أن يتقدم إليها من هو أكثر منه مالا وأعز نفرا.
وبناء على هذا، لم تخرج القاعدة العريضة التي خطها الإسلام على حرية المرأة ولم تنقص منها شيئا، وهي قاعدة مقررة تستخدمها المرأة كيفما شاءت، لكنها حين عولت على شرط "الدين والخلق" لم تقصد الحجر على تلك الحرية، بل أرادت توجيهها نحو تحقيق المصلحة والمقاصد العليا من الميثاق الذي أخذته النساء من الرجال بالزواج.
وإلحاحا منا على إثبات وتوكيد ما منحه الإسلام للزوجة من حرية اختيار زوجها نعرض في هذا المقام جملة من الأحاديث التي أوردها صاحب "تحرير المرأة في عصر الرسالة" مصدرا لها بـ "حرية المرأة في اختيار الزوج" كأول بند تحت عنوان "أمور ينبغي مراعاتها في عقد الزواج"، وهذه الأحاديث في جملتها تحمل أمرا صريحا منه - صلى الله عليه وسلم - أو تورد قصة حين حدثت، فكان رد فعله - صلى الله عليه وسلم - مجسدا لما ينبغي أن يستن به أتباعه، وإليكم هذه الأحاديث:
· عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن, قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت».
· «عن خنساء بنت جذام الأنصارية - رضي الله عنها -: أن أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك، فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرد نكاحه».
· عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن جارية بكرا أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم».
· «عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه حين هلك عثمان بن مظعون ترك ابنة له، قال ابن عمر: فزوجنيها خالي قدامة، وهو عمها، ولم يشاورها، وذلك بعدما هلك أبوها، فكرهت نكاحه، وأحبت الجارية أن يزوجها المغيرة بن شعبة، فزوجها إياه».
وهذه الأحاديث - وما يماثلها - صريحة في إيجاب موافقة المرأة علي الزواج... وحاصل هذا كله أنه لا بد أن تجتمع إرادتان في عقد زواج المرأة البالغة العاقلة - مهما يكن مقدار الرشد عندها - وهما: إرادة من ناحية الزوج، وإرادة من ناحية الزوجة؛ أما الإرادة الأولى: فإذا كان الرجل عاقلا بالغا، فلا ولاية لأحد عليه، وأما الإرادة الثانية - من ناحية الزوجة -: فتكون من مجموع حقين في ناحيتها: يتصل الأول بها، والثاني بوليها، ولكن كيف يتم التوفيق بين هذين الحقين عند العقد؟
نقول: إنها إما أن تكون ثيبا عاقلة بالغة، أو بكرا عاقلة بالغة، فإن كانت ثيبا فلفظ «أحق» في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الثيب أحق بنفسها من وليها». يدل على المشاركة، ومعناه: أن لها في نفسها في النكاح حقا ولوليها حقا، وحقها آكد من حقه، فإنه لو أراد أن يزوجها كفؤا رضيه هو ورفضته هي وامتنعت لم تجبر، ولو أرادت أن تتزوج كفؤا فامتنع وليها أجبر على تزويجها، فإن أصر على الرفض والامتناع؛ زوجها القاضي، وهذا دليل على تأكيد حقها ورجحانه.
أما البكر البالغة العاقلة التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولا تنكح البكر حتى تستأذن», ففيها خلاف لو زوجها الأب أو الجد، أما إذا كان الولي غيرهما من الأولياء؛ وجب استئذانها ولم يصح تزويجها قبله، وإنما أجيز للولي إن كان أبا أو جدا؛ لأن المعول في ذلك المصلحة العامة للزوجة, وهو لذلك أمس وأدرى منها في الأعم الأغلب.
ومن يطالع شروط الكفاءة في عقد النكاح يلحظ تعددا ملحوظا فيها، على أننا نلمح ربطا - تجدر الإشارة إليه - بين القاعدة العريضة التي أرساها الإسلام في هذا الشأن وبين تصدر شرط الدين لشروط الكفاءة في النكاح، يشفع لهذا الربط قول ابن حجر: وقد جزم بأن اعتبار الكفاءة مختص بالدين.
وإذا كانت بقية الشروط محل نظر بشكل أو بآخر من الزوجة أو وليها؛ فإن الوقوف عند هذا الشرط - الدين والخلق - واجب أولا من باب أولى وأحرى، وهو جماع الأمر كما قرر الحسن البصري إذ قال: "زوجها من تقي؛ إن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها".
وهكذا يتضح لنا أن الغاية العليا في مجمل الشروط والأعراف التي سنها الإسلام وارتضاها في الزواج قصدت - أول ما قصدت - مصلحة المرأة، وصونها عما قد تقع فيه من تدليس أو غرر، وما اشتراط الولي في العقد - إذ لا نكاح إلا بولي - إلا تحقيق لتلك المصلحة وتحر لاختيار الأنسب، لا حجرا وإهدارا لحرية المرأة في اختيار زوجها، تلك الحرية التي عمد الإسلام إلى كل حاجز - يظن فيه شبهة إعاقتها - فهدمه بمعوله.
أما السر من اشتراط الولاية في النكاح كما قال الشافعي: "كيلا تضع المرأة نفسها في غير كفء"، وإذا علمنا أن الكفاءة ترتكز على أصلين هما: "الدين مع الميل القلبي والعاطفة لدى الزوجة", تساءلنا: من الذي يزن الدين ويقدر الخلق في الرجل؟ ومن يحس بالميل وتتحرك في جوانحه العاطفة؟
والجواب سهل ميسور؛ فإن تقدير الدين والسلوك لا يكون إلا من عاقل حكيم يزن الأمور بميزان العقل البعيد عن تأثير العواطف، وذلك أحرى بالرجال وهم أحرى به، والإحساس الداخلي المعتبر وقف على شريكة الحياة، وهي الزوجة، وليس للأولياء فيه أدنى حظ ولا أقل نصيب، وإن كان لها هي أيضا بعض الاشتراك في تقدير الناحية الدينية في الرجل، فإن الحظ الأوفر في موضوع الإحساس الداخلي لها هي فقط، إن لم يكن لها الحظ كله، وهذا حق يجب أن يحترم ويقدس، ولكن الحقوق دائما محدودة بحدود وضوابط، ولها مدى معلوم ومجال معين، ليكون من ورائها النفع لصاحب الحق وللمجتمع بأسره.
والمرأة بطبعها - وهذا تكوين ليس لها فيه اختيار - حادة المزاج قوية العاطفة، أو - بمعني أخف - هي رقيقة الشعور سريعة التأثر، تنقاد بسهولة ويسر إلى الفكرة قبل أن تدقق النظر فيها، وبخاصة ما كان منها متصلا بالقلب والعاطفة، فهي تميل أكثر ما تميل إلى النواحي التي تتطلبها الطبيعة وتقتضيها الأنوثة.
وقد يطغى هذا الميل على النواحي الأدبية الأخرى، وهذه حقيقة نفسية وبيولوجية لا مراء فيها، والأحداث تؤيدها كل يوم, بل كل ساعة ولحظة، وذلك الحكم هو للغالبية وقد توجد معه استثناءات.
ومما أثر من ذلك في الأدب العربي حكاية "بنت الضيزن الغساني" التي أحبت من هجم على ملك أبيها ودلته على الطريق التي يستطيع بها الاستيلاء على الحصن، فقد باعت شرف أبيها وملكه بحبها لعدوه وبنزوتها الجامحة التي توارت معها القيم الأدبية.
بل إن المرأة لو تركت وشأنها تقترن بمن تحب؛ لسلكت كل طريقة للوصول إلى غايتها، كالتي أرادت أن تتزوج ابن عمها فاحتالت على أبيها ليرضى به بعد الرفض، وادعت ما جعله يخضع للأمر الواقع.
فلو تركت المرأة لتختار وحدها؛ لجعلت الرجولة هي مقياس الكفاءة في الرجل.
على أن الفقهاء يرون في ولي المرأة في النكاح فائدتين تتحققان لصالح المرأة وهما:
1. أن لا تظهر بمباشرتها بنفسها عقد النكاح، وتحقيق الشهود منها أمام جمع الناس بمظهر التائقة إلى النكاح الطالبة له على نحو صريح، فقيام الولي بذلك عنها مظهر من مظاهر إكرام الشريعة لها، وإعزازها وتقديرها لما ينبغي نحوها من واجب حمايتها من أي موقف يمس حياءها وعزتها.
وبداهة أنه لا يجادل عاقل في أن المرأة تطلب النكاح وتسعى إليه في حقيقتها، بيد أن ظهورها بذلك وإعلانها له على الملأ يغض من قيمتها، ويمحو الحياء الطبيعي الذي تطلب الشريعة أن تتحلى به المرأة دائما، لأنه من أخلاق الإسلام.
ومن الذي قال إن كل رغبة للإنسان يجب أن تظهر للملأ في صورة جلية؟ فموقف الإكرام يقتضي الولي، بخاصة وأن المرأة لن تضار منه.
2. أن المرأة تتجه في الغالب - بفطرتها - إلى تحكيم عاطفتها في مثل هذه الأمور، ولهذا قد تكون سريعة الاغترار بمن يعرض عليها حبه ورغبته فيها، ومهمة الولي هنا أن يقوم بدور الفاحص المتحقق من حقيقة أحوال الرجل وظروفه، ومن ثم يجب أن تعلم المرأة ذلك سلفا؛ حتى لا تغيب قضية زواجها واختيارها عن الولي الفاحص.
ويضاف إلى هذين الاعتبارين اعتبار آخر خاص بأولياء المرأة وأسرتها، وهو مما يسوغ - في قوة - أن يكون لهم شأن معتبر في تزويجها، أنه تلحقهم معرة سوء الاختيار أو تبعاته - ماديا ونفسيا ـ؛ لأن زوج ابنتهم أو أختهم يضاف إلى أسرتهم ضرورة بمجرد العقد، ويكون لأسرته الجديدة عليهم حقوق في صلة الرحم والكفالة وغيرهما، فسوغ ذلك - إلى جانب الاعتبارين السابقين - أن يكون لهم شأن معتبر مؤثر في عقد الزواج.
وهب أن فتاة ما عاقلة بالغة - على قدر ما من الرشد - اغترت بكلام رجل وتظاهره، فسارعت إلى الزواج منه دون ولي، ثم ظهر أنه قواد، أو فاسق، أو ملحد، أو خائن لوطنه أو دينه، أو حاول دفعها إلى احتراف الفساد - وهذا يحدث أحيانا كما هو معروف مسجل - وسواء رضيت هي بذلك حين تبين الأمر أو لم ترض؛ ألا تلحق أسرتها وأولياءها معرة هذا الزواج؟ بل إن الأمر لا يقتصر على مجرد المعرة والذلة النفسية بين الناس، بل يتجاوز ذلك إلى أضرار واقعية تلحق بهم مثل: امتناع الناس عن خطبة أخواتها وقريباتها، وغيره من الأضرار الفادحة.
من هنا يكون لرأي العقل الرصين - المجرد عن التأثر العاطفي عند المرأة نفسها - اعتبار كبير في الاستيثاق والفحص والتحقق والمراجعة، بحيث لا ينبغي إهماله.
ومن هنا، فليست قضية "ولي الزوجة" في الشريعة الإسلامية لمجرد الحجر على المرأة، والاستبداد بها وبكل أمرها كما يصور بعض دعاة ما يزعمونه تقدما وحضارة، إنما الأمر في الحقيقة يجاوز هذا الفهم الضيق الخاطئ إلى منافع متعددة كبيرة معتبرة: بالنسبة للمرأة وأهلها معا.
هذه المنافع وتلك المصالح هي ما عنينا سابقا بالتنويه عنها، وإن كان الواقع يشهد كل يوم بشاهد عملي يثري كم المنافع التي تتحصلها المرأة في ظل ولاية شريك يختار معها قرين حياتها ورفيق رحلتها، تلك القرائن الدالة إن دلت على شيء، فإنما تعضد ما نحن بصدده من أن الولي ما جاء لحجر، ولا لإهدار حرية.
وإذا كان إذن الولى للمرأة بين الوجوب والندب، فمن بر الوالدين أن يشاورا وأن يطاعا في المعروف وبخاصة في أمر يهمهما، وإن وجوب إذن الولي أو ندبه فيه رعاية للفتاة من إنسان صاحب خبرة يكون بجانبها ساعة تأسيس أسرة جديدة صغيرة متفرعة عن الأسرة الكبيرة، والرعاية لا تعني إلغاء إرادة الفتاة واختيارها، وإنما تعني المشورة والترشيد.
ومما يؤسف له أنه مما شاع في كثير من المجتمعات: اعتبار الولي صاحب الكلمة الأولى والأخيرة، ولا قيمة لرغبة الفتاة، فهي - غالبا - تعتبر إنسانا قاصرا ناقص العقل والدين، فكيف تعطى حق الاختيار؟!
ومضت قرون طويلة لا يقيم الناس فيها وزنا لإرادة الفتاة، ومضى الآباء يزوجون بناتهم حسب مقاييسهم هم وأمزجتهم هم.
ومن نافلة القول أن نؤكد كون تلك المجتمعات خارجة عن الإطار العريض الذي نهجه الشرع، ولا يقدح في الشرع ذاته خروج بعض من شرع لهم عليه ومحيدهم عنه، وصدق الرصافي إذ يقول:
يقولون في الإسلام ظلما بأنه
يصد ذويه عن طريق التقدم
فإن كان ذا حقا، فكيف تقدمت
أوائله في عهدها المتقدم
وإن كان ذنب المسلم اليوم جهله
فماذا على الإسلام من جهل مسلم
وبهذا يتبين لنا أهمية الدور المنوط بالولي في مسألة الاختيار والإرشاد، وكيفية التوفيق بين أهمية هذا الدور وموجب الحرية التي كفلها الإسلام للمرأة ضمن منظومة استقلاليتها في كافة الحقوق.
ثالثا. "تملك البضع" إشارة إلى أهم ما يميز عقد النكاح عن غيره من سائر العقود والمعاملات:
إن الفقهاء هم أقدر الناس على فهم الكتاب والسنة، وهم أدرى الناس بمقاصد الشريعة وأسرارها، ودائما نجدهم في آرائهم لا ينشدون غير روح الشريعة الغراء مطلبا، وفي هذا الصدد نجد نصوصهم كثيرة وصريحة في بيان مقاصد الزواج في الإسلام وأهدافه، ولكنهم تناولوها في مواضع خاصة غير مواضع التعريف، وهل من المعقول - وهم الراسخة أقدامهم في العلم - أن تغيب عنهم الآيات و الأحاديث التي يعلمها العامة، والتي تعدد المعاني السامية للنكاح وغاياته في الإسلام؟! ولكن المغالطين دائما يزيفون الحقائق للنيل من عظمة التراث الفقهي الإسلامي، الذي لا نظير له في أمة من الأمم، والذي هو مصدر فخر ومجد لهذه الأمة.
وحتى نتبين الأمر جليا في هذا الشأن نستعرض ما كتبه د. محمد بلتاجي في هذا الموضوع، إذ يقول: يستخدم لفظ "النكاح" ولفظ "الزواج" - وما يشتق منهما - في معنى الجمع بين الرجل والمرأة بصورة مشروعة، وفيما يتصل باللفظ الأول - النكاح - فإنه يستخدم في اللغة أصلا بمعنى "الضم"، ويخصص الشرع استخدامه هذا في الوطء خاصة؛ لوجود مطلق المعنى العام فيه، كما خصص معاني ألفاظ أخرى مثل "الصلاة"، وهي لغة: الدعاء، ثم يخصص الشرع معناها إلى: دعاء مميز في كيفيات خاصة، ومثل لفظ "الحج"، فمعناه اللغوي العام: مطلق القصد، ثم يخصصه الشرع إلى: قصد البيت الحرام خاصة في زمن خاص على نحو معين.
كما يستخدم لفظ "النكاح" في الشرع أيضا في معنى "عقد التزويج"؛ لأنه سبب المعنى الشرعي الذي خصص مطلق الضم؛ ولأن هذا اللفظ يطلق شرعا في معنى "الوطء" وفي معنى "العقد المبيح له"؛ فقد اختلف الفقهاء في تحديد أيهما هو المعنى الأصلي الشرعي لهذا اللفظ، فقيل: هو مشترك بين الوطء والعقد, وقيل: هو حقيقة في العقد ويستخدم مجازا في الوطء.,وقيل بعكس ذلك.
وما دام هناك اتفاق على استخدامه في المعنيين فلن نتوقف طويلا عند هذا الخلاف.
وفيما يتصل بتحديد معناه المراد في كل نص من نصوص القرآن والسنة - وهو ما تكون له فائدة عملية - فإن سياق كل نص يحمل شواهد على المعنى المراد فيه، وقد قال بعض العلماء: ليس في القرآن الكريم لفظ "نكاح" بمعنى الوطء إلا قوله تعالى: )فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره( (البقرة: ٢٣٠)، والسنة هي التي بينت هذا المعنى.
ومن يراجع النصوص العربية المستشهد بها يجد كافة المعاني السابقة لكلمة النكاح، ففي معنى "مطلق الضم" قول الشاعر:
ضممت إلى صدري معطر صدرها
كما نكحت أم الغلام صبيها
أي: ضمته إلى صدرها.
وفي معني "الوطء" ما روى أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كانت اليهود إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوهن ولم يشاربوهن ولم يجامعوهن في البيوت,فسألوا نبي الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فأنزل الله عز وجل: )ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين (222)( (البقرة)، فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يؤاكلوهن ويشاربوهن ويجامعوهن في البيوت، وأن يصنعوا بهن كل شيء ما خلا الجماع, قال صلى الله عليه وسلم: «يحل للرجل من امرأته الحائض كل شيء إلا النكاح».
وقول الشاعر:
ومن أيم قد أنكحتها رماحنا
وأخرى على خال وعم تلهف
وفي معنى "العقد" قول الأعشى:
ولا تقربن جارة إن سرها
عليل حرام فانكحن أو تأبدا
وفيما يتصل باللفظ الثاني - وهو الزواج - فإنه يستخدم في اللغة بمعنى: الاقتران والمخالطة، ومنه قوله عز وجل: )وإذا النفوس زوجت( (التكوير: 7)، يعني: اقترنت, وفي اصطلاح الفقهاء يخصص هذا المعنى إلى: اقتران الرجل بالمرأة في صورة شرعية، ويعرفه بعض الفقهاء بأنه: عقد وضعه الشارع لحل تمتع طرفيه كل منهما بالآخر بشروط خاصة بينتها النصوص.
ومن الإنصاف أن نقرر أن تعريف كثير من الفقهاء للزواج لم يجل حقيقة مقصد التشريع الإسلامي منه بصورة متكاملة واضحة، مما أوهم بعض قراء تعريفاتهم هذه بأن هذا التشريع لا يهتم من علاقة الزوجية إلا بالاستمتاع الجسدي. وهو غير صحيح كما سنرى.
فابن عابدين مثلا - وهو إمام الحنفية في عصره - يعرفه بأنه: عقد يفيد ملك المتعة، أي: حل استمتاع الرجل بامرأة لم يمنع من نكاحها مانع شرعي، ثم يشير إلى أن الحق في التمتع للرجل لا للمرأة - كما ذكره السيد أبو السعود في حواشي مسكين - ويفرع على ذلك أمورا، ثم يعقب عليها بأن الظاهر أن من أحكام النكاح: حل استمتاع كل منهما بالآخر، وإن لم يكن على الرجل قضاء وطؤها بعد ما فعل ذلك مرة، وإن وجب عليه ذلك ديانة أحيانا، وعلى هذا النحو يستطرد في شرح التعريف وما يترتب عليه.
والحق أن من يراجع نصوص القرآن والسنة في التعريف بالزواج فسيجد في وضوح أنها تصدر عن روح تسمو على هذا التحديد الفقهي بدرجات كثيرة.
ونعتقد أن غلبة روح التحديد المنطقي الجاف للحقوق القضائية، والتأثر بثقافة العصر الخاصة، والالتزام بما قرره كبار فقهاء المذهب، كانت جميعها وراء هذا التحديد وما يماثله، ذلك أن العلاقة الزوجية - كما نجدها في نصوص القرآن والسنة - ترجع إلى أمور في المودة والرحمة وحسن العشرة بين الزوجين، يعسر تحديد الحدود فيها بصورة جافة صارمة منصوص عليها في تعريف جامع مانع، وأيضا فإن وجهة النظر الخاصة تختلف في تفسير النصوص الدينية إلى حد ما.
وكمثال على ذلك فإننا نعتقد أن كثيرا من العلماء لا يوافقون على أن يكون من معنى "الإمساك بمعروف" المأمور به في القرآن الكريم أن لا يكون للمرأة حق طلب الإعفاف الجسدي قضاء لعشرات السنين بعد أن فعل الزوج ذلك مرة، كيف وقد وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الفرقة بالخلع[36] فيما هو دون ذلك من عدم تقبل الزوجة من ناحية العاطفة لزوجها، وخوفها بسبب ذلك من أن لا تقيم حدود الله فيه؟
والحق أننا حين نقرأ كثيرا من هذه التعريفات الفقهية التي نتكلم عنها نلاحظ أنها تحتاج إلى النص على أمور أخرى غير مجرد حل الاستمتاع هي من مقاصد الزواج في الإسلام، ولعل هذا هو ما صدر عن الشيخ الجليل محمد أبو زهرة حين قال عند تعريف الزواج: وإذا كانت تعريفات الفقهاء لا تكشف عن المقصود من هذا العقد في نظر الشارع الإسلامي، فإنه يجب تعريفه بتعريف كاشف عن حقيقته والمقصود منه عند هذا الشارع الحكيم، ولعل التعريف الموضح لذلك أن نقول: إنه عقد يفيد حل العشرة بين الرجل والمرأة وتعاونهما، ويحدد ما لكليهما من حقوق وما عليه من واجبات.
والحقوق والواجبات التي تستفاد من هذا التعريف هي من عمل الشارع لا تخضع لما يشترطه العاقدان إلا في حدود ما سمح الشارع بأن يشترط العاقدان فيه.
ويجب أن ننبه أيضا على أن هذه الملاحظة لم تغب عن كثير من فقهائنا الأقدمين، فالسرخسي مثلا - وهو أيضا حنفي - عندما يتكلم عن تعريف النكاح يراعي أن في عقده معنى الضم، وهو المعنى الأصلي كما سبق؛ لأن كلا من الزوجين ينضم بالعقد إلى الآخر، ويكونان كشخص واحد في القيام بمصالح المعيشة، ثم ينص على أن هذا العقد تتعلق به أنواع من المصالح الدينية والدنيوية منها: حفظ النساء والقيام عليهن، والإنفاق والرعاية، وصيانة النفس عن الزنا، وتعمير الأرض بعباد الله الذي لا يكون إلا بالتناسل, وقد جعل طريقه الوطء الذي يبيحه العقد فيؤدي إلى المصالح السابقة، وما يتصل بها من رعاية الأولاد والسكن إلى أسرة، والبعد عن التغالب في النساء الذي يؤدي إلى الفساد وضياع الأنساب، وما يتصل بذلك كله من المودة والرحمة وكافة المصالح الدينية والدنيوية، فليس حل الاستمتاع إذن إلا طريقا ووسيلة لذلك كله، وليس هو المقصود الأساسي لذاته من النكاح، ولم تغب هذه الملاحظة أيضا عن كثير من المفسرين القدماء؛ لأن قوله عز وجل: )ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (21)( (الروم) يتضمن ذلك.
بل إننا نعتقد أيضا - والحديث للدكتور محمد بلتاجي - أن هذا المعنى المقصود من النكاح في الإسلام لم يخف على الفقهاء الذين عرفوه بأنه: حل الاستمتاع، لكن تقسيمهم الأمور الدينية إلى حقوق قضائية وواجبات ديانة, دفع بهم إلى تحديد منطقي للحدود القضائية صرفوا النظر فيه - شيئا ما - عما يجب ديانة، وهذا إلى جانب ما ذكرناه فيما سبق.
وفي ضوء هذا كله يجب أن نقرأ ما كتبه قاسم أمين عن تعريف بعض الفقهاء للزواج، حيث يقول: "رأيت في كتب الفقهاء أنهم يعرفون الزواج بأنه" عقد يملك به الرجل بضع المرأة"، وما وجدت فيها كلمة واحدة تشير إلى أن بين الزوج والزوجة شيئا آخر غير التمتع بقضاء الشهوة الجسمانية، وكلها خالية من الإشارة إلى الواجبات التي هي أعظم ما يطلبه شخصان مهذبان كل منهما من الآخر.
وقد رأيت في القرآن الشريف كلاما ينطبق على الزواج ويصح أن يكون تعريفا له، ولا أعلم أن شريعة من شرائع الأمم التي وصلت إلى أقصى درجات التمدن جاءت بأحسن منه، قال الله عز وجل: )ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة( (الروم: 21)، والذي يقارن بين التعريف الأول الذي فاض من علم الفقهاء علينا، والتعريف الثاني الذي نزل من عند الله، يرى بنفسه إلى أي درجة وصل انحطاط المرأة في رأي فقهائنا، وسرى منهم إلى عامة المسلمين", ثم يتكلم قاسم أمين عن "النظام الجميل" الذي شرعه الله في الزواج، وجعل أساسه المودة والرحمة بين الزوجين، وكيف صار عند الفقهاء إلى مجرد الاستمتاع، ويستطرد من ذلك إلى أن جمهور المسلمين في عصره لما غفلوا عن معنى الزواج الشرعي ــ كما هو في نصوص القرآن والسنة ــ أصبحوا يقدمون على إتمام العقد قبل أن يرى كل من الزوجين صاحبه، مع ما في ذلك من مخالفة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما». ويرى أن ذلك كان نتيجة لإهمال معاني المودة والرحمة والسكن - التي شرع الله النكاح من أجل تحققها - والنظر إلى الزواج على أنه مجرد الاستمتاع وقضاء الوطر.
وملاحظات قاسم أمين هنا في جوهرها صحيحة، وقد قررنا فيما سبق ما بدا لنا في تعليلها، ونبهنا على أن ذلك لم يصدر عن غفلة الفقهاء عن معاني المودة والرحمة والسكن الواردة نصا في القرآن الكريم، وفيما آزره من نصوص السنة المتعددة، إنما الأمر كان اتجاها إلى التعريف بالمنضبط قضاء، وترك هذه الأمور الثابتة للضمير الديني.
أما غفلة عامة الناس في عصره - وفيما سبقه من عصور - عن النظر الموجه إليه في السنة عند إرادة الخطبة, فما نظن أن فقهاء الشريعة مسئولون عنه، إنما الجهل بأحكام هذه الشريعة وتعصب بعض الرجال فيما يخالفها هو المسئول عن ذلك, أما كتب كافة الفقهاء المعتبرين فهي تتضمن حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السابق - وما يماثله - في التوجيه إلى النظر عند إرادة الخطبة، وما نظن قاسم أمين قد نقله إلا من أبواب النكاح في كتب هؤلاء الفقهاء.
ومما لا شك فيه أن قاسم أمين قد قرأ في كتب الفقهاء الكثير من الأمور التي تتبع حسن العشرة والإمساك بالمعروف بين الزوجين، وتوجيه الإسلام إلى الفرقة بالخلع وغيره بعد فشل التحكيم، فلئن كان جمع كبير من الفقهاء قد اتجه في تعريف النكاح إلى النص على حل الاستمتاع البدني خاصة, فقد كانت بقية معانى الزواج الشرعية في أذهانهم - كما مر بالنسبة للسرخسي -، كما أن تطبيق أصول مذاهبهم في فروع كثيرة من كتب النكاح والطلاق والتفريق تقطع بأنهم لم ينظروا قط في هذه الفروع إلى أنه لا شيء في الزواج سوى حل استمتاع الرجل بالمرأة، فكثير من فروعهم صدر عن روح يطبق قوله عز وجل: )الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان( (البقرة: ٢٢٩).
ومن أظهر الأدلة على ذلك أنهم يذكرون - فيما يتلو صفحات تعريف النكاح مباشرة - أن النكاح حرام على من يتيقن الإضرار بالمرأة لعجزه عن مطالبه، ولم يكن في حالة يخشى فيها على نفسه من الزنا، فدل هذا على أن حسن العشرة والمودة والرحمة والإمساك بمعروف كانت في اعتبارهم دائما وهم يجتهدون في الفروع، وإن لم ينصوا عليها صراحة في التعريف.
وإذا كان الأمر كذلك، فإننا نأخذ على قاسم أمين شيئا من الشطط في بعض كلامه عن الفقهاء فى ملاحظته هذه - وإن كانت في جوهرها صحيحة كما سبق - وذلك مثل تعريضه بفضل علم علمائنا الواسع وشناعة تعريفهم وسقوط معنى الزواج على أيديهم، مما ورد في كلامه؛ لأن علمهم - وقد كان غزيرا واسعا حقيقة - لم يغفل ما تنبه إليه من معاني المودة والرحمة والسكن، كيف وقد نص عليه في القرآن الذي هو عمدتهم وأول مصادرهم؟ وأيضا فهم لم يقصدوا إهدار كرامة المرأة، إنما قصدوا إلى نوع من التحديد الفقهي المنضبط في التعريف، أما الحديث عن شناعة التعريف فلو نظرنا للأمر نظرة مجردة منصفة لما وجدنا فيه شناعة، إلا إذا كان منطق الحياة في أعمق صلاتها شنيعا، أو ليس يتلو هذا العقد فعلا الاستمتاع الجسدي؟ بل أليس أنصار المرأة هم أول المطالبين بالتفريق بين الزوجين إذا عجز الزوج عن الاستمتاع وتأكد عجزه؟ وهل تستقيم حياة زوجية سوية بدون هذا الاستمتاع الذي نصوا عليه؟ فأين الشناعة - والمبالغة في وصفها ومهاجمتها - إن كنا منصفين؟
كما أننا نأخذ على قاسم أمين أيضا أن أول كلامه الذي نقلناه يوهم بأن كافة الفقهاء يعرفون الزواج بأنه "عقد يملك به الرجل بضع المرأة"، وليس الأمر حقا على هذا النحو، إنما هم قد استخدموا صيغا متعددة للتعبير عن إباحة التمتع أو تملكه، أوليس الأمر حقا كذلك؟
ويجب أن نضع في اعتبارنا - إضافة لكل ما سبق - أنهم في النص على ذلك صراحة قد صدروا عن روح إسلامي خالص يستبشع الزنا، وكل استمتاع جسدي بغير الطريق المشروع، فلأهمية ما يترتب على العقد من إباحة للاستمتاع بالجسد تعتبر استثناء من عموم حرمة بقية الأبدان - وهو الحكم الأصلي المستحب فيها - فإنهم قد نصوا على ذلك، وتعددت صيغهم المستعملة في التعبير عنه ولم يتوقفوا جميعا عند لفظ "تملك الرجل بضع المرأة" كما أورده قاسم أمين في عبارة موهمة.
ومهما يكن من أمر، فهذا ما نجده في تعريفات الفقهاء، وهذا هو تأويله كما نفهمه بمنطق الإنصاف والتقدير والتأمل، والنظر إلى طبيعة الأمور دونما تحامل أو ضجيج، لأنه يجب أن نضع في اعتبارنا دائما أن هؤلاء الفقهاء هم الذين قدموا لنا ثروة هائلة من الفكر الفقهي الشامخ المستوعب من أعلى نمط، وهم الذين نقلوا إلينا التشريعات الإسلامية مقررة معللة في استدلال وحجاج عقليين، وقل أن تجد في تراث أمة من الأمم الأخرى ما يقارب هذا الذي تركوه لنا في كتبهم، على أنه ليس معنى هذا التقدير أننا نقدس تعريفاتهم وألفاظهم ونتعبد بها، فقد سبق أن قدمنا وجهة نظرنا في تعريفهم للنكاح، وهم الذين كانوا يسجلون دائما أن اجتهادهم هو ما قدروا عليه، وهو قابل للنظر والمراجعة والتعديل، وليس اجتهادهم خالدا إلى الأبد, وبهذه الروح ننظر إليه كما تعلمنا منهم.
ولعل في التعريف الذي نقلناه عن الشيخ محمد أبي زهرة فيما سبق ما يكشف عن حقيقة الزواج الإسلامي بأعم وأوضح مما نص عليه الفقهاء السابقون، ويمكن أن نضيف إليه ".... وتعاونهما بطرق المودة والرحمة المشروعة"؛ وذلك لأن الله - عز وجل - قد نص على المودة والرحمة في آية سورة الروم السابقة، فيما يشبه أن يكون تعريفا قرآنيا للزواج الذي جعله الله من آياته التي ساقها لبيان قدرته وفضله، فحسن أن ننص عليهما فيما نختار من تعريف، وأيضا فإن صورة الزواج الإسلامي البالغة حد الرفعة والسمو تكتمل بالنص عليهما، كي لا يتوهم متوهم أن علاقة الزواج في الإسلام قاصرة على إشباع الغريزة بطريق مشروع, إذا ما طالع شيئا من تعريفات الفقهاء الأقدمين,دون أن يضع في اعتباره كل ما عرضنا له في الصفحات السابقة عن نصوص تعريفاتهم.
رابعا. القرآن والسنة لم يجعلا الزواج غاية,ولكنه وسيلة إلى غاية,تلك الغاية هي: السكن والمودة والرحمة وحفظ النوع:
قبل الحديث عن المقاصد الحقيقية للزواج في الإسلام يجدر بنا أن نتأمل قوله تعالى: )ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (21)( (الروم)، أي أن العلاقة بين الزوجين ينبغي أن تقوم على المودة والرحمة؛ ليتمكن كلاهما من تحقيق المقاصد الاجتماعية المنوطة بهذا الزواج، فلا فائدة من الزواج إن لم يكن ملاذا يأوي فيه الزوجان معا إلى سكن، يطرحان عنده عبء الصراع العنيف في الحياة الخارجية إلى حين، وخير الزواج ما استطاع أن يدبر للإنسان سكن يثوب إلى ظلاله كلما ألجأته المتاعب والشواغل، وإنه ليعيش من الدنيا في جحيم موصول العذاب إن لم يكن له فيها ذلك السكن الأمين وذلك الملجأ الحصين، ففي الزواج يجد الإنسان راحته الحقيقية وينعم بالسعادة والهناء، نتيجة ما يشيع في جنبات البيت المسلم الوادع من تبادل عواطف الحنان والبر والوفاء، وإذا كان الوضع الإلهي للإنسان في هذه الحياة وقيامه بمهمته التي وكلت إليه فيها، يقضي بتنظيم الفطرة الخاصة بالزواج سموا به عن مراتع الحيوانية في تلبية هذه الفطرة.
وانطلاقا مما سبق، نستطيع أن نجمل مقاصد الزواج في الإسلام على النحو الآتي:
1. التناسل:
إن الإنسان مطبوع على حب البقاء، وإذا كان لا سبيل إلى بقائه بذاته، وكان يؤمن بذلك من مشاهداته وصنيع الله في آبائه وأجداده، وسائر الأحياء، فإنه يرى أن سبيله إلى البقاء إنما هو النسل المعروف نسبته إليه، يراه امتدادا في بقائه، واستمرارا لذكراه، وخلودا لحياته.
ومن هنا كان الزواج أمرا لا بد منه لحصول الإنسان على ما طبع عليه من محبة استمرار وجوده، الذي يراه في نسله من بنين وحفدة.
ولعل من أوضح ما يملأ النفس بهذا الجانب الذي يدعو الإنسان إلى الزواج، وتنظيم فطرته به قوله عز وجل: )والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون (72)( (النحل)، وحسبنا في ذلك أن الله - عز وجل - نظم الأزواج وما يمنحنا منهن من بنين وحفدة مع رزق الطيبات في عقد واحد، وهو صنيع يشعرنا بأن الحاجة إلى الأزواج وثمرة الأزواج والتفضل بتنظيم الزواج، كل ذلك ليست حاجتنا إليه بأقل من حاجتنا في حفظ حياتنا، والتمتع بلذات الحياة، ومن حاجتنا إلى طيبات الرزق التي تحفظ كياننا، وتقينا التعرض للضعف والانحلال، وإذا كان الإنسان محتاجا في بقائه إلى أبنائه وأحفاده, وكان الزواج وحده هو السبيل إليهم، فهو في راحته القلبية، وسكنه إلى القلب الذي يحنو عليه ويشاركه السراء والضراء أشد حاجة إلى هؤلاء الأحفاد الذين لاينعم بهم إلا مع سكون القلب، واطمئنان النفس، وراحة الضمير، وإلى ذلك يشير قوله عز وجل: )ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (21)( (الروم).
ولعل كل ذلك الذي نقرره في ثمرات الزواج من جانبي البقاء والمودة، هو قرة العين التي أطلق الله لسان عباده المقربين بدعائهم إياه )والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين( (الفرقان: 74).
وفي دعاء زكريا - عليه السلام - لربه مايجدر بالإنسان الكامل أن يقف عنده, وأن يتذوقه؛ حتى يملك عليه نفسه، وحتى يؤمن بما آمن به المقربون من محبة الولد والحرص على طلبه والحصول عليه )قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا (4) وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا (5) يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا (6)( (مريم)، وإذا كان الإنجاب هو الأصل وله وضع النكاح: والمقصود إبقاء النسل، وأن لا يخلو العالم عن جنس الإنس، فإن الشهوة إنما خلقت باعثة مستحثة.
والقدرة الإلهية غير قاصرة عن اختراع الأشخاص ابتداء من غير حراثة وازدواج؛ ولكن الحكمة اقتضت ترتيب المسببات على الأسباب مع الاستغناء عنها إظهارا للقدرة، وإتماما لعجائب الصنعة، وتحقيقا لما سبقت به المشيئة وحقت به الكلمة وجرى به القلم.
وفي التواصل إلى الولد قربة من أربعة أوجه، هي الأصل في الترغيب فيه عند الأمن من غوائل الشهوة:
الأول: موافقة محبة الله بالسعي في تحصيل الولد لإبقاء جنس الإنسان.
الثاني: طلب محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تكثير من به مباهاته.
الثالث: طلب التبرك بدعاء الولد الصالح بعده.
الرابع: طلب الشفاعة بموت الولد الصغير إذا مات قبله.
ومما يؤكد حرص الإسلام على التناسل عن طريق الزواج لفت نظر المسلمين إليه عند الاتصال الجنسي، كما قال المفسرون في قوله عز وجل: )باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم( (البقرة: 187)، وذلك في معرض كلام عن الاتصال الجنسي للصائمين في أول تشريع الصوم، فقالوا: إن ابتغاء ما كتب الله هو الولد، بمعنى أن يكون الغرض الأساسي من المباشرة هو الولد لا مجرد قضاء الشهوة، كما قال المفسرون في قوله عز وجل: )نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم( (البقرة: 223) أن ما يقدم للنفس هو الولد الناتج عن المباشرة في الموضع الذي ينتج الزرع، وهو المكان الطبيعي للمباشرة الجنسية، يقدم ليكون شفيعا له يوم القيامة.
2. التعاون على البر والتقوى:
ومن حكم الزواج ومقاصده في الإسلام غير ما سبق: التعاون على البر والتقوى وأمور الدنيا ومصاعب الحياة؛ وذلك لأن الزوجة تحمل شطرا من عبء الحياة مع الرجل ليتفرغ هو إلى المهام الأخرى، وبذلك تكون الزوجة من عوامل استقرار الأسرة، فإن تقسيم الكفاح بينهما عون أكيد على سهولة الحياة ويسرها المادي والأدبي، ولعل الزوجة الصالحة هي الحسنة الدنيوية المطلوبة في قوله عز وجل: )ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة( (البقرة: 201).
إن الناس في حاجة إلى الترابط وإلى تقوية أواصر الود بينهم، والزواج من أهم ما يقويها، وكان العرب يقدرون أثر المصاهرة في هذه الناحية، ويعدون من ولدته الزوجة من زوجها البعيد عن قبيلتهم من قبيلتهم، فمن كلامهم المأثور: ابن أخت القوم منهم، وكان لهذا أثره في توطيد دعائم السلم بين القبائل وضمان تعاونها... وكان لزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من بعض الزوجات مثل هذا الغرض للاستعانة به على توطيد دعائم السلم ونشر الدعوة!
3. التحصن من الشيطان:
خلقت الطاقة الجنسية في الإنسان لتحقيق غاية جليلة, هي التناسل والتوالد والتكاثر بغرض استمرار الجنس البشري، وإنما شرع الزواج والأسرة ليكون الزواج أداة، وتكون الأسرة وعاء شرعيا نظيفا ودائما ومستقرا لاستقبال هذه الطاقة وتوظيفها في المحل الصحيح، وتوجيهها الوجهة السليمة.
والإسلام لا ينظر إلى هذه الطاقة بوصفها مجرد أمر واقع، ولكنه يعاملها بالتقدير باعتبارها وسيلة لغاية جليلة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وفي بضع أحدكم صدقة - أي: أن الرجل يثاب على العمل الجنسي الذي يأتيه مع زوجته - قيل: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه فيها وزر؟! فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر».
وإن ذكر اسم الله - عز وجل - قبل بدء الاتصال بين الرجل وزوجته - وهو ما حث النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين على فعله - ليدل دلالة قاطعة على مدى نظافة الجنس في نظر الإسلام، وعلى مدى رغبته في تأصيل هذه النظافة في حس المسلم.
صحيح أن المسلمين يصنعون ذلك من أجل أن يبارك الله النسل المنتظر، لكن اسم الله هو أطهر اسم يرد على خاطر المسلم المؤمن، كما يعني اسم الله في هذا المجال اطمئنان المسلم من أنه قادم على عمل نظيف يستأهل ذكر اسم الله الكريم.
وبالاتصال الجنسي المشروع بين الزوج وزوجته يحصل التحصن من الشيطان، وكسر التوقان، ودفع غوائل الشهوة، وغض البصر، وحفظ الفرج، وإلى هذا أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف الدين, فليتق الله في النصف الباقي».
وقال صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة