دعوى أن الإسلام يبيح البغاء للإماء ويحضهن عليه ما دمن غير مكرهات (*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتقولين أن الإسلام يجيز للسيد أن يدفع أمته إلى العمل في الدعارة، وذلك في قوله عز وجل: )ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم (33)( (النور)، ويستدلون بذلك على أن الإسلام أجاز البغاء للأمة مادامت غير مكرهة عليه، ثم أخبر أنه يغفر للسيد الذي يكره أمته على الدعارة بقوله عز وجل: )ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم (33)(، وكان الأولى في ظنهم أن يقال: شديد العقاب، ويتساءلون ألا يعد هذا تصريحا واضحا من الإسلام بقبول الفاحشة والتراخي في شأنها؟!
وجوه إبطال الشبهة:
1) البغاء: هو الزنا بأجرة أو العمل في الدعارة، وقد كان منتشرا في بعض المجتمعات السابقة على الإسلام وما يزال موجودا في كثير من دول العالم المعاصر، وإن اختلفت صوره.
2) الإسلام - دين العفة والطهارة - حرم الزنا والبغاء (للحرائر والإماء)؛ محاربة للفحشاء والفجور.
3) إن تحريم إكراه الإماء على البغاء، ليس إقرارا للبغاء بغير إكراه؛ فالشرط في قوله عز وجل: )إن أردن تحصنا( خرج مخرج الغالب؛ لأن إرادة التحصن هي الأصل عند الإماء المؤمنات؛ إذ كلهن يبغين العفاف.
4) الرحمة والغفران في قوله عز وجل: )ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم (33)( عائدتان على الإماء المستكرهات،لا على السادة المكرهين لهن.
التفصيل:
أولا. البغاء: هو الزنا بأجرة أو العمل في الدعارة، وقد كان منتشرا في بعض المجتمعات السابقة على الإسلام، ولا يزال موجودا في كثير من دول العالم، وإن اختلفت صوره:
البغاء مصدر باغت، وباغت الجارية إذا تعاطت الزنا بالأجر حرفة بها، واشتقاق صيغة المفاعلة فيها للمبالغة والتكرار، وتسمى المرأة المحترفة له بغيا بوزن فعول بمعنى فاعل.
وقد كان هذا البغاء مشروعا في الشرائع السالفة، فقد جاء في سفر التكوين: "فخلعت عنها ثياب ترملها، وتغطت ببرقع وتلففت، وجلست في مدخل عينايم التي على طريق تمنة، لأنها رأت أن شيلة قد كبر وهي لم تعط له زوجة. فنظرها يهوذا وحسبها زانية، لأنها كانت قد غطت وجهها. فمال إليها على الطريق وقال: هاتي أدخل عليك. لأنه لم يعلم أنها كنته. فقالت: ماذا تعطيني لكي تدخل علي؟ فقال: إني أرسل جدي معزى من الغنم. فقالت: هل تعطيني رهنا حتى ترسله؟ فقال: ما الرهن الذي أعطيك؟ فقالت: خاتمك وعصابتك وعصاك التي في يدك. فأعطاها ودخل عليها، فحبلت منه. (سفر التكوين 38: 14 - 18).
وقد كان في المدينة إماء بغايا، منهن ست إماء لعبد الله بن أبي بن سلول، وهن: معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وقتيلة، وكان يكرههن على البغاء بعد الإسلام. قال ابن العربي: جاء عن مالك عن الزهري: أن رجلا من أسرى قريش في يوم بدر قد جعل عند عبد الله بن أبي، وكان هذا الأسير يريد معاذة على نفسها، وكانت تمتنع منه لأنها أسلمت، وكان عبد الله بن أبي يضربها على امتناعها منه رجاء أن تحمل منه (أي من الأسير القرشي) فيطلب فداء ولده. أي فداء رقه من ابن أبي. ولعل هذا الأسير كان موسرا له مال بمكة، وكان الزاني بالأمة يفتدي ولده بمائة من الإبل، يدفعها لسيد الأمة، وأنها شكته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية.
وقالوا: إن عبدالله بن أبي كان قد أعد معاذة لإكرام ضيوفه، فإذا نزل عليه ضيف أرسلها إليه ليواقعها إرادة الكرامة له، فأقبلت معاذة إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فشكت ذلك إليه، فذكر أبو بكر - رضي الله عنه - ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر - رضي الله عنه - بقبضها، فصاح عبدالله بن أبي: من يعذرنا من محمد، يغلبنا على مماليكنا؛ فأنزل الله هذه الآية، وذلك قبل أن يتظاهر عبدالله بن أبي بالإسلام. وجميع الآثار متضافرة على أن هذه الآية كان بها تحريم البغاء على المسلمين والمسلمات المالكات أمر أنفسهن.
وكان بمكة تسع بغايا شهيرات يجعلن على بيوتهن رايات مثل رايات البيطار ليعرفهن الرجال، وهن كما ذكر الواحدي: أم مهزول جارية السائب المخزومي، وأم غليظ جارية صفوان بن أمية، وحية القبطية جارية العاصي بن وائل، ومزنة جارية مالك بن عميلة بن السباق، وجلالة جارية سهيل بن عمرة، وأم سويد جارية هشام بن ربيعة، وقرينة جارية هلال بن أنس. وكانت بيوتهن تسمى - في الجاهلية - المواخير([1]).
ولم يعلم أن واحدة من هؤلاء اللاتي كن بمكة أسلمت، وأما اللائي كن بالمدينة، فقد أسلمت منهن معاذة ومسيكة وأميمة، ولم يعلم أسماء الثلاث الأخر في الصحابة؛ فلعلهن هلكن قبل أن يسلمن.
والبغاء في الجاهلية كان معدودا من أصناف النكاح؛ ففي الصحيح من حديث عائشة: «أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء:
1. نكاح كنكاح الناس اليوم: يخطب الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها.
2. نكاح آخر: كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه،([2]) ويعتزلها زوجها، ولا يمسها حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب. وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح يسمى: نكاح الاستبضاع.
3. ونكاح آخر: يجتمع فيه الرهط ما دون العشرة، فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت ومرت عليها الليالي بعد أن تضع، أرسلت إليهم؛ فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت؛ فهو ابنك يا فلان، وتسمي من أحبت باسمه، فيلحق به ولدها، ولا يستطيع أن يمتنع منه الرجل.
4. ونكاح رابع: يجتمع الناس فيه فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها، وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن الرايات تكون علما، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت جمعوا لها، ودعوا لهم القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون؛ فالتاط به ودعي ابنه، فلما بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم»([3]).
فكان البغاء في الحرائر باختيارهن إياه للارتزاق، وكانت عناق صاحبة مرثد بن أبي مرثد التي نزل فيها قوله: )الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة( (النور:3) منهن، وكان في الإماء من يلزمهن سادتهن عليه؛ لاكتساب أجور بغائهن كما كانوا يتخذون بعضهن للاكتساب، وكانوا يسمون أجرهن مهرا، كما جاء في حديث ابن مسعود أن رسول الله: «نهي عن مهر البغي». ([4]) ولأجل هذا اقتصرت الآية على ذكر الفتيات: جمع فتاة بمعنى الأمة، كما قالوا للعبد: غلام([5]).
وما زال البغاء موجودا في عصرنا الحاضر في معظم دول الغرب، وإن اتخذ صورا شتى؛ فالأصل عندهم الإباحية، وشعارهم الذي يعلنونه دون حياء "الجنس كالماء والهواء ضرورة لا بد منها للإنسان"، وهم يقصدون الفاحشة واللقاء الجنسي المحرم، بل يوجد في كثير من الدول بيوت مرخصة للدعارة، والقانون لا يعاقب إلا البيوت غير المرخصة فقط، وقد ظهر منه نوع جديد في بعض الدول التي تدعي التحضر، وهو ما يقال له: " البغاء المتغازل " ما بين علاقات وهدايا يقدمها الرجل للمرأة.
والسؤال الذي يطرح نفسه - هل أباح الإسلام ذلك وأقره؟ أو ما هو موقف الإسلام تجاه هذه القضية؟ الجواب فيما يأتي من وجوه.
ثانيا. الإسلام دين العفة والطهارة، حرم الزنا والبغاء - على الحرائر والإماء - ضمن خطته للقضاء على الفجور ومحاربة الفحشاء:
يوضح لنا الشيخ" سيد قطب " مدى حرص الإسلام على نظافة المجتمع من الفساد والفجور في تعليقه على هذه الآية؛ فيقول - رحمه الله -: " وأخطر من وجود الرقيق في الجماعة، احتراف بعض الرقيق للبغاء. وكان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة؛ أرسلها تزني، وجعل عليها ضريبة يأخذها منها، وهذا هو البغاء في صورته التي ما تزال معروفة حتى اليوم - فلما أراد الإسلام تطهير البيئة الإسلامية؛ حرم الزنا بصفة عامة، وخص هذه الحالة بنص خاص: )ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم (33)( (النور).
فنهى الذين يكرهون فتياتهم على هذا المنكر، ووبخهم على ابتغاء عرض الحياة الدنيا من هذا الوجه الخبيث، ووعد المكرهات بالمغفرة والرحمة بعد الإكراه الذي لا يد لهن فيه.
قال السدى: أنزلت هذه الآية الكريمة في عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين، وكانت له جارية تدعى معاذة، وكان إذا نزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها إرادة الثواب منه والكرامة له، فأقبلت الجارية إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فشكت إليه ذلك؛ فذكره أبو بكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فأمره بقبضها؛ فصاح عبد الله بن أبي: من يعذرنا من محمد؟ يغلبنا على مملوكتنا!؛ فأنزل الله فيهم هذا.
هذا النهي عن إكراه الفتيات على البغاء - وهن يردن العفة - ابتغاء المال الرخيص كان جزءا من خطة القرآن في تطهير البيئة الإسلامية وإغلاق السبل القذرة للتصريف الجنسي، ذلك أن وجود البغاء يغري كثيرين لسهولته؛ ولو لم يجدوه لانصرفوا إلى طلب هذه المتعة في محلها الكريم النظيف.
ولا عبرة بما يقال من أن البغاء صمام أمن يحمي البيوت الشريفة؛ لأنه لا سبيل إلى مواجهة الحاجة الفطرية إلا بهذا العلاج القذر عند تعذر الزواج، أو تهجم الذئاب المسعورة على الأعراض المصونة، إن لم تجد هذا الكلأ المباح!
إن في التفكير على هذا النحو قلبا للأسباب والنتائج؛ فالميل الجنسي يجب أن يظل نظيفا بريئا موجها إلى إمداد الحياة بالأجيال الجديدة، وعلى الجماعات أن تصلح نظمها الاقتصادية؛ بحيث يكون كل فرد فيها في مستوى يسمح له بالحياة المعقولة والزواج، فإن وجدت بعد ذلك حالات شاذة؛ عولجت هذه الحالات علاجا خاصا.. وبذلك لا تحتاج إلى البغاء، وإلى إقامة مقاذر إنسانية، يمر بها كل من يريد أن يتخفف من أعباء الجنس، فيلقي فيها بالفضلات، تحت سمع الجماعة وبصرها!
إن النظم الاقتصادية هي التي يجب أن تعالج، بحيث لا تخرج مثل هذا النتن، ولايكون فسادها حجة على ضرورة وجود المقاذر العامة في صور آدمية ذليلة، وهذا ما يصنعه الإسلام بنظامه المتكامل النظيف العفيف، الذي يصل الأرض بالسماء، ويرفع البشرية إلى الأفق المشرق الوضيء، المستمد من نور الله([6]).
لقد حارب الإسلام الفاحشة وعمل على ردعها والقضاء عليها، وفيما يخص الإماء عمل سد طريق البغاء والفجور أمامهن، سواء كان عن رغبة منهن، أو بإكراهن عليه، فنهى السادة عن إكراه فتياتهم على البغاء ابتغاء عرض زائل من الحياة الدنيا، فقال: )ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا( (النور: ٣٣)، وقرر حدا وعقابا على الإماء اللاتي يملن إلى الفجور والفاحشة ويرغبن فيه دون إكراه من أسيادهن، فجعل عليهن نصف ما على المحصنات الحرائر من العذاب فقال تعالى: )فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب( (النساء:٢٥).
وفي مقابل هذه الخطة التي وضعها القرآن لمنع البغاء الذي قد يمارسه الإماء - مكرهات عليه أو راغبات فيه فتح الطريق أمام هذه الفئة لتحقيق مطالب النفس وغرائز الطبيعة عن الطريق السوي الشريف، وذلك بأن:
· يزوجن أسيادهن، وفي ذلك يقول عز وجل: )وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم( (النور: ٣٢). وأباح لمن لم يستطع أن يتزوج حرة، أن يتزوج أمة من الإماء المحصنات: )ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف( (النساء: ٢٥).
· أن يتمتع بهن السيد نفسه، وذلك على ثلاثة وجوه:
o أن يتمتع بها السيد على أنها ملك اليمين، وهو قيد من قيود الزواج.
o أن يعتقها ثم يتزوجها ويعتبر العتق صداقها.
o أن يعتقها ثم يتزوجها على صداق جديد.
ثالثا. إن تحريم إكراه الإماء على البغاء ليس إقرارا للبغاء بغير إكراه:
والشرط في قوله عز وجل: )إن أردن تحصنا( (النور:33) لا يراد به عدم النهي عن الإكراه على البغاء إذا انتفت إرادتهن التحصن، بل كان الشرط خرج مخرج الغالب؛ لأن إرادة التحصن هي غالب أحوال الإماء المؤمنات؛ إذ كلهن يحببن التعفف، أو لأن القصة التي كانت سبب نزول الآية كانت معها إرادة التحصن، وقد تكون الآية توطئة لتحريم البغاء تحريما مطلقا.
ولا ريب أن الخطاب بقوله عز وجل: )ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء( (النور:33) موجه إلى المسلمين، فإن كانت قصة أمة ابن أبي حدثت بعد أن أظهر سيدها الإسلام كان هو سبب النزول؛ فشمله العموم لا محالة، وإن كانت حدثت قبل أن يظهر الإسلام؛ فهو سبب ولا يشمله الحكم؛ لأنه لم يكن من المسلمين يومئذ، وإنما كان تذمر أمته منه داعيا إلى نهي المسلمين عن إكراه فتياتهم على البغاء، وأيا ما كان، فالفتيات مسلمات؛ لأن المشركات لا يخاطبن بفروع الشريعة.
وقد كان إظهار عبد الله بن أبي الإسلام في أثناء السنة الثانية من الهجرة بيد أنه تردد زمنا في الإسلام، ولما رأى قومه دخلوا في الإسلام؛ دخل فيه كارها مصرا على النفاق، ويظهر أن قصة أمته حدثت في مدة صراحة كفره؛ لما ورد عن الزهري، من قول ابن أبي حين نزلت: من يعذرنا من محمد؛ يغلبنا على مماليكنا، ونزول سورة النور كان في حدود السنة الثانية، فلا شك أن البغاء الذي هو من عمل الجاهلية استمر زمنا بعد الهجرة بنحو سنة.
ولا شك أن البغاء يمت إلى الزنا بشبه لما فيه من تعريض الأنساب للاختلاط، وإن كان لا يبلغ مبلغ الزنا في خرم كلية حفظ النسب من حيث كان الزنا سرا، لا يطلع عليه إلا من اقترفه، وكان البغاء علنا، وكانوا يرجعون في إلحاق الأبناء الذين تلدهم البغايا بآبائهم إلى إقرار البغي بأن الحمل ممن تعينه. واصطلحوا على الأخذ بذلك في النسب؛ فكان شبيها بالاستلحاق على أنه قد يكون من البغايا من لا ضبط لها في هذا الشأن؛ فيقضى الأمر إلى عدم التحاق الولد بأحد.
ولا شك في أن الزنا كان محرما تحريما شديدا على المسلم من مبدأ ظهور الإسلام، وكانت عقوبته فرضت في حدود السنة الأولى بعد الهجرة بنزول سورة النور. وقد أثبتت عائشة أن الإسلام هدم أنكحة الجاهلية الثلاثة وأبقى النكاح المعروف، ولكنها لم تعين ضبط زمان ذلك الهدم.
ولا يعقل أن يكون البغاء محرما قبل نزول هذه الآية؛ إذ لم يعرف قبلها شيء في الكتاب والسنة يدل على تحريم البغاء؛ ولأنه لو كان كذلك لم يتصور حدوث تلك الحوادث التي كانت سبب نزول الآية؛ إذ لا سبيل إلى الإقدام على محرم بين المسلمين أمثالهم.
ولذلك فالآية نزلت توطئة لإبطاله كما نزل قوله عز وجل: )يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى( (النساء:43) توطئة لتحريم الخمر ألبتة. وهو الذي جرى عليه المفسرون مثل: الزمخشري وفخر الدين الرازي بظاهر عباراتهم دون صراحة، بل بما تأولوا به معاني الآية؛ إذ تأولوا قوله: )إن أردن تحصنا( بأن الشرط لا يراد به عدم النهي عن الإكراه على البغاء إذا انتفت إراداتهن التحصن، بل كان الشرط خرج مخرج الغالب؛ لأن إرادة التحصن: هي غالب أحوال الإماء المؤمنات؛ إذ كلهن يحببن التعفف؛ أو لأن القصة التي كانت سبب نزول الآية كانت معها إرادة التحصن.
والداعي إلى ذكر القيد تشنيع حالة البغاء في الإسلام بأنه عن إكراه وعن منع من التحصن؛ ففي ذكر القيدين إيماء إلى حكمة تحريمه وفساده وخباثة الاكتساب به.
وذكر: )إن أردن تحصنا( لحالة الإكراه؛ إذ إكراههم إياهن لا يتصور إلا وهن يأبين، وغالب الإباء أن يكون عن إرادة التحصن، هذا تأويل الجمهور، ورجعوا في الحامل على التأويل إلى حصول إجماع الأمة على حرمة البغاء، سواء كان الإجماع لهذه الآية أو بدليل آخر انعقد الإجماع على مقتضاه، فلا نزاع في الإجماع على تحريم البغاء، ولكن النظر في تحريمه - هل كان بهذه الآية؟
ونحن نقول: إن ذكر الإكراه جرى على النظر لحال القضية التي كانت سبب النزول، والذي يظهر من الكلام ذهاب بعض العلماء إلى اعتبار الشرط في الآية دليلا على تحريم الإكراه على البغاء بقيد إرادة الإماء التحصن.
فقد تكون الآية توطئة لتحريم البغاء تحريما باتا، فحرم على المسلمين أن يكرهوا إماءهم على البغاء؛ لأن الإماء المسلمات يكرهن ذلك ولا فائدة لهن فيه، ثم لم يلبث أن حرم تحريما مطلقا؛ كما دل عليه حديث أبي مسعود الأنصاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن مهر البغي، فإن النهي عن أكله يقتضي إبطال البغاء.
وقد يكون هذا الاحتمال معضودا بقوله - عز وجل - وبعده: )ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم (33)( (النور) كما يأتي. وقوله: )لتبتغوا عرض الحياة الدنيا( (النور: ٣٣) متعلق بـ" تكرهوا، أي لاتكرهوهن لهذه العلة. ذكر هذه العلة لزيادة التبشيع كذكر: )إن أردن تحصنا(. و )عرض الحياة( هو الأجر الذي يكتسبه الموالي من إمائهم وهو ما يسمى بالمهر أيضا([7]).
رابعا. الرحمة والغفران في قوله: )فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم (33)( (النور) عائدتان على الإماء المستكرهات،لا على السادة المكرهين لهن:
وأما قوله تعالى: )فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم (33)( (النور) يعود على الإماء المستكرهات، وليس على السادة المكرهين لهن. ويوضح هذا الكلام " الطاهر بن عاشور" فيقول: وأما قوله: )ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم (33)( (النور) فهو صريح في أنه حكم متعلق بالمستقبل؛ لأنه مضارع في حيز الشرط، وهو صريح في أنه عفو عن إكراه.
والذي يشتمل عليه هذا الخبر جانبان: جانب المكرهين وجانب المكرهات، فأما جانب المكرهين فلا يخطر بالبال أن الله غفور رحيم لهم؛ بعد أن نهاهم عن الإكراه؛ إذ ليس لمثل هذا التبشير نظير في القرآن.
وأما الإماء المكرهات: فإن الله لهن غفور رحيم. وقد قرأ بهذا المقدر عبدالله بن مسعود وابن عباس فيما جاء عنهما، وعن الحسن أنه كان يقول "غفور رحيم لهن" وجعلوا فائدة هذا الخبر أن الله عذر المكرهات لأجل الإكراه، وأنه من قبيل قوله: )فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم (173)( (البقرة) وعلى هذا فهو تعريض بالوعيد للذين يكرهون الإماء على البغاء.
وقوله: )فإن الله غفور رحيم (192)( (البقرة) دليل جواب الشرط، إذ حذف الجواب إيجازا، واستغنى عن ذكره بذكر علته التي تشمله وغيره. والتقدير: فلا إثم عليهن، فإن الله غفور رحيم لأمثالهن ممن أكره على فعل جريمة،والفاء رابطة الجواب، وحرف (إن) في هذا المقام يفيد التعليل، ويغني غناء لام التعليل([8]).
ومعلوم أن حرية الاعتقاد والتصرف من ركائز الإيمان، ومن ثم فالإكراه له ما يناسبه من سماحة الإسلام ورحمته بالمكره.
ومن الأوليات المسلمة أن العقائد لا تتكون في نفوس العقلاء بالقوة والقهر، ولكن لها وسائل معروفة لاتلتمس إلا بها، فمنها البرهان العقلي، والشعر والخطابة، ولكل من هذه الأنواع تأثير في نفوس الناس، بمقدار ما فيهم من العقول والتجارب والذكاء والتحصيل.
فالإسلام الذي هو دين الفطرة ومجموع الكمالات القدسية والآداب الإلهية - ليس بذلك الذي يتذرع إليه بالقسوة والغلظة، ويروج في العالم بالسيوف والنيران([9])، ومن ثم فالإكراه له ما يناسبه من سماحة الإسلام ورحمته بالمكره، وهذا ما تؤكده النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، قال عز وجل: )إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان( (النحل:106). يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه». ([10]) إذ كيف سيحاسبه الإسلام ويؤاخذه على فعل فعله رغما عن أنفه، لم يرد أن يفعله فاقتضت حكمة الإسلام ورحمته أن تخفف عنه؛ ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للصحابي الذي أكره على سب النبي صلى الله عليه وسلم: «وإن عادوا فعد»([11]).
فما أرحم الإسلام، وعليه فتقولهم هذا على الإسلام - دليل جهلهم الفاضح، وصدق من قال:
وفي الصمت ستر للغبي، وإنما
طبيعة حال المرء أن يتكلما
وليس هذا علو صوت وكلاما في غير موضعه، فمن يقول بأن قوله عز وجل: )فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم (33)( (النور) دعوة للفاحشة؛ لأن فيها المغفرة والرحمة لمن يرتكب الفاحشة، فهذا جهل فاضح؛ لأن هذه الآية نزلت في عبد الله بن أبي الذي كان يكره جواريه على الزنا.
وإذا كانت الفتاة - الجارية - لا تريد التحصن؛ فلا يتصور أن يقال للسيد لا تكرهها؛ لأن الإكراه لا يتصور في حقها وهي مريدة للزنا، فهذا أمر في سادة وفتيات حالهن هذه. وإلى هذا المعنى أشار ابن العربي فقال: إنما ذكر الله تعالى إرادة التحصن من المرأة؛ لأن ذلك هو الذي يصور الإكراه، فأما إذا كانت هي راغبة في الزنا، لم يتصور إكراه.
وقوله عز وجل: )ومن يكرههن( أي يقهرهن )فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم (33)( (النور) غفور لهن، رحيم بهن، وقرأ ابن مسعود وجابر بن عبد الله وابن جبير "لهن غفور "بزيادة لهن"([12]).
ومما سبق يتضح لنا أن تحريم إكراه الإماء على البغاء ليس إقرارا للبغاء بغير إكراه، ولذلك فإن الإسلام منع الإكراه فقال عز وجل: )ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا(، وكذلك فإنه كما حرم الفاحشة والبغاء على الحرة، حرمه على الأمة )فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب(. وبهذا سد على الإماء طريق البغاء والفجور؛ ذلك لأن الإسلام جاء على مجتمع كان البغاء فيه مصدرا من مصادر الدخل عندهم، وهو حرفة من لا حرفة له، والمجتمع يعترف به كمهنة، ويعطي كل سيد من ساداته الحق في شراء البغايا وفرض مال عليهن بقدر ما يراه يناسبه، فلما مالت قلوب هؤلاء البغايا إلى الإسلام فأردن التوبة وأحببن الخير عما كن يفعلنه، غضب سادتهن، وأكرهوهن على مزاولة هذا الفساد، فنهى الإسلام هؤلاء السادة عن فعل ما فعلوا، فليس من شيم الرجال وشهامتهم فعل ذلك.
فالنهي عن أن يكره الإنسان غيره على شرب الخمر، لا يعني أنه يحل لمن اشتهاها أن يشربها، والزنا فاحشة حرمها الإسلام ولم يرضها فقال: )ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا (32)( (الإسراء) فلما حرمه حرم كل الوسائل إليه، ومنها الإكراه عليه.
الخلاصة:
· أن لفظة الفتيات الواردة في الآية تعني الإماء، وتحريم إكراه الإماء على البغاء ليس إقرارا للبغاء بغير إكراه، بل الإسلام حرم الفاحشة على الحرة والأمة، ومنع حتى من الاقتراب منه، قال عز وجل: )ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا (32)( (الإسراء) فلما حرمه حرم كل الوسائل المؤدية إليه، ومنها الإكراه عليه.
· حرية الاعتقاد والتصرف من ركائز الإيمان، ومن ثم فالإكراه له ما يناسبه من سماحة الإسلام ورحمته بالمكره، وهذا ما تؤكده النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة، فقال عز وجل: )فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم (33)( أي غفور لهن، رحيم بهن؛ فالمغفرة والرحمة راجعة عليهن، ولم ترجع على من أكرههن كما يدعي الجاهلون.
· إن الإسلام حارب الفاحشة وقضى على البغاء والفجور، وسد على الإماء طريق البغاء والفجور - رغبة أو كراهة منهن بكل معنى الكلمة - وحفظ لهن حقوقهن الفطرية، وذلك بطرق شريفة؛ فإما أن: يزوجهن سادتهن بالرجل المناسب، وإما أن يتمتع بها السيد على أنها ملك اليمين وهو قيد من قيود الزواج، أو يعتقها ثم يتزوجها ويعتبر العتق صداقها، أو أن يعتقها ثم يتزوجها على صداق جديد. و المحصلة في كل هذه الطرائق واحدة وهي زواجهن بسادتهن؛ وهذا ما قصد إليه الإسلام قصدا في منظومته المتكاملة؛ للحفاظ على المرأة وصونها وإعزازها وعلو شأنها، ومنع النيل من كرامتها وإنسانيتها (حرة كانت أو أمة).
· لقد محا الإسلام النعرات الجنسية في جميع الميادين، وربط أتباعه بمثله العليا وقيمه السامية، ووضع لهم الحدود والقيود لينشأ بذلك مجتمع طاهر نقي،يواجه تحديات الجاهلية وما كانوا عليه من قذارات وأوساخ. فكيف يقال بأنه دعا إلى الدعارة وشجعها حين نهى عن إكراه الإماء على البغاء مع إرادتهن التحصن، وجعل لمن تفعل الفاحشة منهن نصف ما على المحصنات من العذاب؟! إن هذا ناتج عن ترتيب المدعين سوء الظن، وسوء احتمالاتهم وجهلهم بما ليس لهم به علم، وهو جدير أن يوقعهم في هذه الشناعات، ولو كانوا خبيرين بما يتحدثوا فيه، لما تلمظوا بذكر ما ادعوه، ولو مات الجاهل لاستراح الناس، ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا. فالإسلام دين العفة والطهارة، حارب كل ما يشين المجتمع من قذارات ومنه النهي عن البغاء.
(*) الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة، أبو الأعلى المودودي، ترجمة: خليل الحامدي، دار القلم، الكويت، ط4، 1980م. افتراءات على الإسلام والمسلمين، د. أمير عبد العزيز، دار السلام، القاهرة، ط1، 1422هـ/ 2002م. المرأة بين الفقه والقانون، د. مصطفى السباعي، المكتب الإسلامي، بيروت، دمشق، ط6، 1404هـ/ 1984م.
[1]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس، المجلد9، ج18، ص223،222.
[2]. استبضعي منه: تطلب منه أن يجامعها.
[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب من قال: لا نكاح إلا بولي (4834).
[4]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الطلاق، باب مهر البغي والنكاح الفاسد (5031)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب المساقاة، باب تحريم ثمن الكلب وحلوان الكاهن ومهر البغي (4094) بلفظ: شر الكسب مهر البغي.
[5]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس، ص223، 234 بتصرف يسير.
[6]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج4، ص2517،2516.
[7]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس، مج9، ج18، ص225: 227 بتصرف يسير.
[8]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس، ص227.
[9]. الإسلام دين الفطرة والحرية، عبد العزيز جاويش، دار الهلال، القاهرة، د.ت، ص123 بتصرف.
[10]. صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، كتاب الطلاق، باب ما قالوا في الرجل يحلف على الشيء بالطلاق فينسى فيفعله أو العتاق (19051)، وابن ماجه في سننه، كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي (2043)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه (2043).
[11]. صحيح: أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب التفسير، تفسير سورة النحل (3362)، والبيهقي في سننه الكبرى، كتاب المرتد، باب المكره على الردة، قال جل ثناؤه: من كفر بالله من بعد إيمانه (16673)، وصححه الحاكم في مستدركه، وافقه الذهبي في التلخيص.
[12]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج12، ص255.
open
online black women white men
read here
website why women cheat on men