ادعاء تناقض القرآن في حكم القتال في الأشهر الحرم (*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المغرضين أن هناك تناقضا في القرآن الكريم في حكم القتال في الأشهر الحرم؛ حيث يبيحه تارة، ويحرمه تارة أخرى، كما يتساءلون: لو كان الإسلام حرم القتال في الأشهر الحرم، فلماذا لم يحرمه طوال العام، وهذا هو الأولى؟
وجها إبطال الشبهة:
1) القتال في الأشهر الحرم لدفع عدوان أو لرد ظلم - مباح ومشروع في الشريعة الإسلامية، وإن كان الأصل فيه التحريم في هذه الأشهر.
2) القتال في الإسلام ضرورة يضطر إليها المسلمون في الدفاع ورد الظلم، وتحريمه لا يتفق مع الطبيعة العدوانية لأعداء الإسلام، الذين يتربصون به الدوائر.
التفصيل:
أولا. حكم القتال في الأشهر الحرم بين الإباحة والتحريم:
الأشهر الحرم هي: رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وهذه الأشهر يحرم فيها القتال، وقد ورث العرب ذلك عن إبراهيم عليه السلام، وجاء الإسلام فأقر تحريم القتال في هذه الأشهر، لكن القتال ينقسم إلى نوعين: قتال للدفاع ورفع الظلم، وقتال هجومي، ولكل نوع منهما حكمه من حيث الحل والحرمة في الأشهر الحرم.
1. حكم القتال الدفاعي (لرد الظلم) في الأشهر الحرم:
أما القتال الدفاعي الذي هو لرد العدوان ودفع الظلم، فهذا جائز من غير خلاف، والأصل فيه: )يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل( (البقرة:217)[1].
وسبب نزول هذه الآية [2] أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث - في رجب من السنة الثانية - عبد الله بن جحش في رهط من المهاجرين، وكتب له كتابا، وأمره ألا ينظر فيه إلا بعد يومين من مسيره، فإذا نظر فيه ووعى ما كلفه الرسول - صلى الله عليه وسلم - به، مضى في تنفيذه غير مستكره أحدا من أصحابه، فسار عبد الله، ثم قرأ الكتاب بعد يومين، فإذا فيه: "امض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصد بها قريشا، وتعلم لنا من أخبارهم"، فقال عبد الله: سمعا وطاعة، وأطلع أصحابه على كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائلا: إنه نهاني أن أستكره أحدا منكم، فمن كان يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق معي، ومن كره ذلك فليرجع، فلم يتخلف منهم أحد، غير أن البعير الذي كان يتعقبه سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان ند منهما فشغلا بطلبه، ومضى عبد الله برفاقه حتى نزل أرض نخلة، فمرت عير قريش، فهاجمها عبد الله ومن معه، فقتلوا عمرو بن الحضرمي، وأسروا اثنين من المشركين، وعادوا بالقافلة والأسيرين إلى المدينة.
والغالب أن هذا القتال وقع في آخر رجب، وهو من الأشهر الحرم، فلما قدمت السرية على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام".[3] وأوقف التصرف في العير والأسيرين، فكان تصرف الصحابي هذا اجتهادا منه بحسب الظروف والمعطيات التي كانت مرتبطة بالسرية، ذلك أنه ارتأى - هو وأصحابه - أنهم إذا تركوا المشركين دخلوا الحرم، فوازنوا بين مفسدة هتك حرمة الشهر الحرام وبين ترك المشركين يدخلون الحرم، وهو اجتهاد أيده القرآن: )قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله( (البقرة: ٢١٧)، أي: أعظم إثما من القتال في الشهر الحرام.
هذا فضلا عن أن هناك من قال بأنهم لم يكونوا يعرفون أن ذلك اليوم من رجب وأعذروا بجهلهم[4].
ووجد المشركون فيما حدث فرصة لاتهام المسلمين بأنهم قد أحلوا ما حرم الله، وأكثروا في ذلك القيل والقال، حتى نزلت هذه الآية حاسمة هذه الأقاويل، ومؤيدة مسلك عبد الله بن جحش تجاه المشركين.
إن هذه الضجة التي افتعلها المشركون لإثارة الريبة في سيرة المجاهدين المسلمين لا مسوغ لها؛ لأن الحقيقة أن المسلمين لم يبدءوا بالعدوان، ولا انتهكوا حرمة الشهر الحرام، بل الذي انتهك كل الحرمات المقدسة هم كفار قريش في محاربة الإسلام وأهله، فقد كان المسلمون مقيمين بالبلد الحرام، حين عذبوا واضطهدوا، وسلبت أموالهم، وصودرت ممتلكاتهم، وتقرر قتل نبيهم، فأين تلك الحرمات المقدسة التي يتحدثون عنها؟ أهكذا عادت قداستها فجأة؟ فأصبح انتهاكها معرة وشناعة؟!
فهذا شأن بعض الناس الذين يحكمون القوانين، ويرفعونها إلى السماء عندما تكون في مصلحتهم، فإذا رأوا هذه المصلحة مهددة بما ينتقضها هدموا القوانين والدساتير جميعا، فالقوانين المرعية عندهم - في الحقيقة - هي مقتضيات هذه المصلحة الخاصة فحسب[5].
وقد أوضح الله - عز وجل - في هذه الآية أن القتال في الشهر الحرام كبير، ولكن الصد عن سبيل الله واضطهاد المسلمين وسلب أموالهم وانتهاك حرمة البيت الحرام أكبر من ذلك، فلن يمنع المشركين شهر حرام ولا بلد حرام عن المضي في سحق المسلمين، حتى لا تقوم لدينهم قائمة، يقول عز وجل: )ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا( (البقرة:217)، فهذا تحذير من الله للمسلمين بأن يتأهبوا دائما للدفاع عن دينهم؛ لأن المشركين لا يراعون فيهم إلا ولا ذمة.
ومن ثم فإن جهاد الدفاع في الأشهر الحرم جائز، بل واجب على رأي جميع الفقهاء، وقد دل على ذلك أيضا قوله تعالى: )الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص( (البقرة:194) فمن اعتدى على المسلمين في الشهر الحرام، وجب على المسلمين دفع هذا العدوان، فليس من المعقول أن يقف المسلمون مكتوفي الأيدي أمام اعتداء غيرهم عليهم بحجة أنهم في الشهر الحرام؛ لأن هذا قد يغري أعداءهم بالاعتداء عليهم، والفساد في الأرض، وهذا ما لا يقبله عقل منصف، ولا منطق سليم.
2. حكم البدء بالقتال (القتال الهجومي) في الأشهر الحرم:
أما القتال الهجومي الذي يكون المسلمون فيه هم البادئون، فقد كان محرما عند العرب قبل الإسلام، وجاء الإسلام فأقر تحريمه، وأبقى لهذه الأشهر حرمتها، يقول تعالى: )إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم( (التوبة:36) [6].
وقد ذكرابن كثير في تفسيره عن جابر قال: «لم يكن رسول الله يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى، أو يغزو حتى إذا حضر ذلك أقام حتى ينسلخ»[7] [8].
وقال - صلى الله عليه وسلم - في خطبته في حجة الوداع: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة،والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان»[9].
ومن هنا فلا يحل للمسلمين البدء بالقتال في الأشهر الحرم إلا إذا بدأهم العدو بالقتال فيها، ولم يستجب لقبول الموادعة فيها".
ومن ثم، فإن الآيات التي تتحدث عن إباحة القتال في الأشهر الحرم إنما تخص القتال من أجل دفع العدو، بينما الآيات التي تحرم القتال فيها فهي خاصة ببدء المسلمين بالقتال. فلا يوجد أي تعارض بين آيات القرآن الكريم فيما يخص القتال في الأشهر الحرم، سواء بالإباحة أو بالتحريم كما يزعم المبطلون؛ لأن التحريم أصل ثابت والإباحة تكون في حالة الدفاع فقط.
ثانيا. القتال في الإسلام ضرورة، وتحريمه لا يتفق مع الطبيعة العدوانية لأعداء الإسلام:
إن أهم ما يميز الإسلام عن غيره من الأديان - هو أنه دين الوسطية: وسط بين المثالية والواقعية، لهذا شرع الحرب ودعا إلى الجهاد باعتباره ضرورة لا يلجأ إليها المسلمون إلا لدفع الظلم عن أنفسهم، يقول عز وجل: )أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير (39)( (الحج).
ولأن القتال في الإسلام ضرورة، فقد قيد الإسلام زمانه ومكانه، فأما زمانه فهو شهور العام ما عدا الأشهر الحرم الأربعة، وأما مكانه فقد حرم الإسلام القتال في مكة بلد الله الحرام.
وكما قيد الإسلام القتال بالزمان والمكان، قيده كذلك بضوابط أخلاقية، ربانية المصدر يجب ألا يتعداها، ويكفي في ذلك قوله عز وجل: )فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم( (البقرة:194). وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤثر السلم على الحرب ما وجد إلى ذلك سبيلا، ولم يقاتل إلا مضطرا، يقول صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس، لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية»[10] [11].
وإذا كانت الحرب حالة طارئة في الإسلام وضرورة لا بد منها، فلا يجوز تحريمها تحريما مطلقا؛ لأن هذا لا يتفق مع الطبيعة العداونية لأعداء الإسلام في كل عصر، الذين يهدفون إلى سحق الإسلام وأهله، ومن ثم فليس من المنطق أن يحرم الإسلام القتال طوال العام بينما يتربص به أعداؤه الدوائر، لهذا أقرت الشريعة الإسلامية قتال العدو لرد عدوانه ودفع شروره، ونصرة المستضعفين من المسلمين، وحماية حدود الإسلام من الباغين، وجعلته سنة ماضية إلى يوم القيامة، بما يتلائم والطبيعة البشرية، إذ لا ينتهي الطمع ونزعة القهر والعدوان في بني البشر، فكان لا بد أن يبقي الجهاد مشروعا إلى يوم الدين؛ حفاظا على دعوة الله وإعلاء لكلمته، ودفاعا عن حرمة المسلمين، فما تركت أمة الجهاد إلا أذلها الله.
وإن نص ميثاق باريس وميثاق الأمم المتحدة على تحريم الحرب، فإنهما ما زالا يقرران مشروعية الحرب التي تدخل فيها دولة دفعا لاعتداء واقع عليها، وهو بأن يدافع كل إنسان عن نفسه[12].
الخلاصة:
· جاء الإسلام والعرب تحرم القتال في الأشهر الحرم كما كان معروفا في ملة إبراهيم عليه السلام، فأبقى الإسلام على ذلك؛ إذ الأصل في الإسلام أن القتال حرام في الأشهر الحرم، إلا إذا كان دفاعا لرد العدوان ورفع الظلم، فيكون جائزا من غير خلاف.
· لا تعارض بين الآيات القرآنية المتعلقة بحكم القتال في الأشهر الحرم، فالآيات التي تحرم القتال فيها خاصة بالقتال الهجومي، أما الآيات التي تجيزه فهي خاصة بالقتال الدفاعي.
· الأصل في علاقة المسلمين مع غيرهم السلام والموادعة، ولكن الحرب ضرورة حتمية يلجأ إليها المسلمون في بعض الأحيان؛ لإعلاء كلمة الله وللدفاع عن حرمة المسلين ونصرة المستضعفين.
· لم يحرم الإسلام القتال مطلقا طوال العام؛ لأن الطبيعة العدوانية لأعداء السلام، توجب أن يباح القتال، بل يفرض، لرد عدوانهم ورفع الظلم.
(*) هل القرآن معصوم؟ عبد الله عبد الفادي. www.islameyyat.com
[1]. الجهاد في الإسلام: دراسة فقهية مقارنة، د. أحمد محمود كريمة، الدار الهندسية، مصر، ط1، 2003م، ص205.
[2]. فقه السيرة، محمد الغزالي، دار الكتب الإسلامية، مصر، 1983م، ص231، 232.
[3]. الروض الأنف، السهيلي، ج3، ص23.
[4]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج3، ص45:40 بتصرف.
[5]. فقه السيرة، محمد الغزالي، دار الكتب الإسلامية، مصر، 1983م، ص212 بتصرف.
[6]. الجهاد في الإسلام: دراسة فقهية مقارنة، د. أحمد محمود كريمة، الدار الهندسية، مصر، ط1، 2003م، ص206.
[7]. إسناده صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند جابر بن عبد الله رضي الله عنه (14623)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، كتاب المغازي والسير، باب الغزو في الشهر الحرام (9937)، وصحح إسناده الأرنؤوط في تعليقات مسند أحمد (14623).
[8]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، المكتبة التوفيقية، القاهرة، ج1،ص314.
[9]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب حجة الوداع (4144)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب القسامة، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال (4477).
[10]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا لم يقاتل أول النهار أخر (2804)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب كراهية تمني لقاء العدو والأمر بالصبر عند اللقاء (4640).
[11]. المعاهدات في الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام، د. محمود إبراهيم الديك، المكتبة الوطنية، مصر، ط2، 1997م، ص25 بتصرف.
[12]. المعاهدات في الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام، د. محمود إبراهيم الديك، المكتبة الوطنية، مصر، ط2، 1997م، ص31:26 بتصرف.
husband cheat
online online affair
read here
website why women cheat on men