مرحبًا بكم فى موقع بيان الإسلام الرد على الافتراءات والشبهات
 بحث متقدم ...   البحث عن

الصفحة الرئيسية

ميثاق الموقع

أخبار الموقع

قضايا الساعة

اسأل خبيراً

خريطة الموقع

من نحن

توهم التعارض بين الأمر بالجهاد في الإسلام وحرية الاعتقاد (*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المغالطين أن ثمة تعارضا بين فرض الإسلام للجهاد وبين إعلانه حرية الاعتقاد، ويتساءلون: كيف يتفق الأمر بقتال المشركين والذين أوتوا الكتاب من أجل إدخالهم في الإسلام وقوله عز وجل: )لا إكراه في الدين( (البقرة:256)؟!!

وجها إبطال الشبهة:

1) الدعوة إلى الإسلام تقوم على النصيحة والتذكير، لا على الأمر القسري، وتتم في نطاق الاختيار واتخاذ القرار، وقد أوجب الإسلام على أتباعه أن يدعوا غيرهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وقرر أنه: )لا إكراه في الدين(.

2) لا تعارض بين حرية الاعتقاد والأمر بالجهاد؛ لأن الإسلام كفل حرية الاعتقاد للجميع، بيد أنه أمر بقتال الأعداء الذين ينصبون العداوة للمسلمين، ويتربصون بهم الدوائر في قوله: )الذين يقاتلونكم(؛ ولذلك نهى الإسلام عن قتل النساء والأطفال والشيوخ، بل ونهى عن قتل رجال الدين من غير المسلمين ما لم يشتركوا في قتال المسلمين، وما داموا منعزلين في معابدهم؛ فلو لم يكن مبدأ حرية الاعتقاد من مبادئ الإسلام، لأمر بقتل رجال الدين في بادئ أمر القتال قبل غيرهم.

التفصيل:

أولا. الدعوة إلى الإسلام تقوم على النصيحة الطوعية، لا على الأمر القسري:

يقول الله - عز وجل - في كتابه الحكيم: )ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا (70)( (الإسراء).

لقد كرم الله الإنسان وميزه عن سائر المخلوقات؛ حيث جهزه بالعقل المميز بين كل من الخير والشر، ثم متعه بالقدرة على الاختيار، ومكنه من اتخاذ قراره وفق رغبته الذاتية، ودون أي قسر خارجي يفقده اختياره.

وهذه الحرية التي نتحدث عنها هي مناط التكليف، الذي هو قائم على دعامة الابتلاء، الذي هو الأساس الذي لا بد منه لاستحقاق المكلف الأجر أو العقاب، ونظرا إلى أن هذا الابتلاء لا يمكن أن يتحقق إلا في مناخ الحرية، أي امتلاك القدرة على الاستجابة أو عدم الاستجابة للتكليف، فليس في الإسلام تكليف يقوم على القسر والجبر[1]؛ ولهذا كانت مهمة الداعي إلى الله في الإسلام: أن يبصر الناس بهوياتهم، وبأنهم مكلفون من قبل الله بأداء مهام محددة في نطاق اليقين والاعتقاد أولا، وفي نطاق التعامل والسلوك ثانيا، ثم يتركهم أحرارا في اتخاذ القرار الذي يشاءون، من حيث الاستجابة وعدمها لهذا التكليف، على أن ينبهوا إلى الجزاء الذي وعد، أو توعد الله به عباده المكلفين؛ وذلك لأنهم لو حملوا قسرا على الالتزام بالتكليفات الاعتقادية أو السلوكية، وسيقوا إليها دون اختيار منهم؛ لسقط معنى الابتلاء في تكليف الله لهم، ولما استحقوا - على ما قد سيقوا إليه - أي مثوبة أو أجر، وهو مناف للنهج الذي أقيم التكليف عليه.

وكأن البيان الإلهي يعلم الدعاة إلى الله - وفي مقدمتهم محمد - صلى الله عليه وسلم - هذه الحقيقة، ويبصرهم بالنهج الذي ينبغي أن يسلكوه في دعوتهم وإرشادهم الناس إلى الحق الذي يجب أن يتبعوه، وفي الآيات الآتي ذكرها أكبر دليل على ذلك، يقول عز وجل: )وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها( (الكهف:29)، وقوله عز وجل: )لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي( (البقرة:256)، ويقول عز وجل: )وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون (121) وانتظروا إنا منتظرون (122)( (هود).

ففي هذه الآيات وغيرها يأمر الله نبيه ومن معه وسائر الدعاة إلى الله بتنبيه الناس إلى التكاليف التي كلفهم الله بها، والجزاء الذي ينتظرهم في العقبى، ولكنه يأمرهم في الوقت ذاته بأن يتركوهم وما يختارون؛ كي لا يتحول الأمر التكليفي إلى قضاء تكويني لا حرية فيه ولا اختيار، فيسقط بذلك الفرق بين خطابه لعباده تفهيما وتكليفا، وحكمه في حق بقية مخلوقاته إلجاء وتكوينا[2].

لقد جاء الإسلام معلنا هذا المبدأ العظيم الكبير: )لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي( (البقرة: ٢٥٦).

وفي هذا المبدأ يتجلى تكريم الله للإنسان، واحترام إرادته وفكره ومشاعره، وترك أمره لنفسه فيما يختص بالهدى والضلال في الاعتقاد، وتحميله تبعة عمله وحساب نفسه، وهذه هي أخص خصائص التحرر الإنساني، التحرر الذي تنكره على الإنسان في القرن العشرين مذاهب معتسفة ونظم مذلة،لا تسمح لهذا الكائن الذي كرمه الله - باختياره لعقيدته - أن ينطوي ضميره على تصور للحياة ونظمها غير ما تمليه عليه الدولة بشتى أجهزتها التوجيهية، وما تمليه عليه بعد ذلك بقوانينها وأوضاعها؛ فإما أن يعتنق مذهب الدولة هذا - وهو يحرمه من الإيمان بإله للكون يصرف هذا الكون - وإما أن يتعرض للموت بشتى الوسائل والأسباب.

إن حرية الاعتقاد هي أول حقوق الإنسان التي يثبت له بها وصف "إنسان"، فالذي يسلب إنسانا حرية الاعتقاد، إنما يسلبه إنسانيته ابتداء،ومع حرية الاعتقاد حرية الدعوة للعقيدة، والأمن من الأذى والفتنة، وإلا فهي حرية بالاسم لا مدلول لها في واقع الحياة.

والتعبير هنا يرد في صورة النفي المطلق: )لا إكراه في الدين(، نفي الجنس كما يقول النحويون، أي: نفي جنس الإكراه، ونفي كونه ابتداء، فهو يستبعده من عالم الوجود والوقوع،وليس مجرد نهي عن مزاولته، والنهي في صورة النفي - والنفي للجنس - أعمق إيقاعا وآكد دلالة[3].

ومن هنا وجب أن تتوقف مهمة الداعي عند حدود التعريف والتذكير والنصح؛ فلا يجوز للداعي أن يتجاوز حدود مهمته إلى درجة الإكراه والإلزام؛ لأن الدعوة إلى الله في مجملها انصياع لأوامر الله عز وجل [4].

فإذا كانت الدعوة تعاونا للانصياع للتكاليف الإلهية؛ فيجب أن لا تخرج في حدودها عما تقتضيه طبيعة التكليف.

وكم أكد البيان الإلهي هذه الحقيقة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكررها بأساليب شتى، من ذلك قوله عز وجل: )فذكر إنما أنت مذكر (21) لست عليهم بمصيطر (22) إلا من تولى وكفر (23) فيعذبه الله العذاب الأكبر (24)( (الغاشية)، وقوله: )فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ( (الشورى:48)، وقوله: )وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب (40)( (الرعد)، وقوله: )فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين (12)( (التغابن).

نلاحظ أن في هذه الآيات ما هو مدني، ونزل بعد مشروعية الجهاد القتالي، ومعنى هذا أن الدعوة لم تتحول في عهد ما من نصح اختياري إلى أمر قسري.

وقد سارت الدعوة إلى الله في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي عهد الصحابة والخلافة الراشدة من بعده على هذا النهج الواضح، واتسمت بهذه الطبيعة، ونسج من ذلك تاريخ مشهود ومقروء، ليس فيه أي غموض أو لبس.

أورد ابن أبي حاتم بسنده عن غلام لعمر بن الخطاب اسمه أسبق، قال: كنت مملوكا نصرانيا لعمر بن الخطاب، فكان يعرض علي الإسلام فآبى، فيقول: )لا إكراه في الدين( (البقرة: 256)، ويقول: يا أسبق لو أسلمت لاستعنا بك على بعض أمور المسلمين[5].

وجاء عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوز لم تسلم: أسلمي أيتها العجوز تسلمي، إن الله بعث محمدا بالحق،قالت: أنا عجوز كبيرة والموت إلي قريب، فقال عمر: اللهم اشهد، وتلا: )لا إكراه في الدين( [6] [7].

ثانيا. لا تعارض بين حرية الاعتقاد في الإسلام وبين الأمر بالجهاد:

لقد سبق القول بأن انتشار الإسلام قام على الدعوة والنصيحة الطوعية، فلم يحدث أن أرغم المسلمون - وهم في أوج انتصاراتهم - غيرهم من الشعوب على اعتناق الإسلام قسرا، وهذا ما نصت عليه الآيات القرآنية مثل قوله عز وجل: )أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين (99)( (يونس).

"فالقرآن هنا صريح في نفي الإكراه في الدين، وصريح في التشديد على حرية الاعتقاد؛ ذلك لأن هذا شيء يخص الإنسان وحده، فواجب المسلمين هو إبلاغ الدعوة إلى جميع الناس، ثم تركهم بعد ذلك لاختيارهم: )فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر( (الكهف:29)"[8].

غير أن شيئا واحدا يشكل على فهم هذا الذي أوضحناه، ويمد غاشية من الغموض والاضطراب عليه، وهو الحديث الذي ذكره ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله»[9].

فكيف يمكن فهم هذا الحديث على ضوء ما علمناه، من أن الدعوة إلى الإسلام يجب أن تتم في نطاق الاختيار وعدم الإكراه؟

لقد تكفل فقهاء الإسلام بحل هذا الإشكال، حيث قرروا أن الآيات التي تدل على الدعوة إلى الإسلام دون إكراه محكمة وليست منسوخة، وكذلك قرروا أن الحديث السابق لا يتعارض مع مبدأ حرية الاعتقاد في الإسلام، فالدعوة الإسلامية لا يجوز أن تقترن بأي إكراه، وإنما كان الأمر بقتل المشركين في قوله: )فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم( (التوبة:5)؛ لوصف الحرابة[10] فيهم، لا بسبب كفرهم، وبه قال الإمام مالك والأوزاعي وجمع كبير من الفقهاء، وقد استدلوا على ذلك بما يأتي:

1. أن قوله عز وجل: )فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم( ليس فيه ما يدل على أن موجب القتال هو الكفر دون غيره؛ لأن هؤلاء المشركين قد اجتمع فيهم الكفر والحرابة معا، فلا يوجد دليل على أن سبب قتلهم هو الكفر فقط.

2. أن قوله - عز وجل - بعد هذه الآية: )وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون (6)( (التوبة)،[11] دليل على أن الحرابة هي سبب قتال المشركين وليس الكفر، إذ لو كانت غاية القتل هي التوبة من الكفر دون غيره، لتناقض ذلك مع الحكم بإجارة المشرك إن هو طلب ذلك، ولتناقض مع الحكم بإيصاله بعد ذلك إلى مأمنه، على الرغم من أنه لا يزال متلبسا بكفره، وعلى الرغم من أنه سيعود إلى المكان والصحب اللذين يتاح له أن يجعل منهما منطلقا إلى كيد جديد ضد المسلمين.

3. أن آية )لا إكراه في الدين( (البقرة:256) محكمة غير منسوخة؛ لأن القول بنسخها يتعارض مع قواعد النسخ وضوابطه المعروفة، ويتعارض كذلك مع نصوص واضحة بينة من القرآن الكريم، مثل قوله عز وجل: )ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة( (التوبة:13)[12].

فقد أعلنت هذه الآية حيثية الأمر بقتل المشركين وأوضحت سبب ذلك، وهو نكثهم الأيمان التي التزموا بها، وخرقهم المعاهدة التي تمت بينهم وبين المسلمين.

وأما ما جرى عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكثير أيضا؛ من ذلك ما جاء عن سعيد بن جبير، قال: جاء رجل إلى علي بن أبي طالب، فقال: إن أراد الرجل منا أن يأتي محمدا بعد انقضاء الأربعة الأشهر، فيسمع كلام الله أو يأتيه بحاجة، قتل؟!. فقال رضي الله عنه: لا، إن الله - عز وجل - يقول: )وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه( (التوبة:6)[13].

وقد جاء عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - قالت: «قدمت أمي وهي مشركة، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله، إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: نعم صلي أمك»[14].

وقد جاء عن عبد الله بن الزبير أنه قال: «قدمت قتيلة بنت عبد العزى على بنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا وثياب وسمن وأقط[15]، فلم تقبل هداياها ولم تدخلها منزلها، فسألت عائشة لها النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فتلا عليها قول الله عز وجل: )لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8)( (الممتحنة)، فأدخلتها عندئذ منزلها، وقبلت هداياها»[16].

لعلنا لن نجد أصرح ولا أبين من هذه الآية التي استشهد بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دلالة على أن المشركين الذين نزلت آية القتال في حقهم، إنما أنزل الله في حقهم تلك الآيات للحرابة التي كانوا يمارسونها، لا للكفر الذي كانوا يتصفون به.

وإنا لنقرأ بعد هذه الآية سلسلة من الآيات المترابطة، كلها تؤكد أن علة الأمر بقتل المشركين حيث وجدوا، إنما هو تفننهم في الكيد للمسلمين والتربص بهم، وعدم مراعاتهم إلا [17] ولا ذمة في حقهم.

وهكذا تتناسق الآيات الناهية عن القسر والإكراه على الدين، والآمرة ببر من لم يمارس أي إساءة إلينا منهم والقسط إليهم، مع الآيات الآمرة بقتلهم وقعود كل مرصد لهم؛ نظرا إلى أنهم بدءوا الخيانة والغدر، ولأنهم لا يرقبون في المؤمنين إلا ولا ذمة، ويسقط القول بنسخ الآيات الثانية الآمرة بالقتال للآيات الأولى الناهية عنه والآمرة ببرهم والقسط إليهم.

تبقى إشكالية نص الحديث ذاته، إذ قالوا: إنه صريح في مقاتلة الناس كلهم، وأن هذه المقاتلة لا تنتهي إلا عند غاية واحدة، هي دخول الناس في الإسلام.

نقول: إن المشكلة نشأت من عدم التنبه إلى الفرق بين كلمتي (أقاتل) و (أقتل) مع أن بينهما فرقا كبيرا لا يخفى على العربي المتأمل.

إن الحديث لو كان نصه هكذا: "أمرت أن أقتل الناس حتى..."؛ لكان مشكلا حقا؛ إذ هو يتناقض عندئذ مع سائر الآيات والأحاديث الكثيرة الأخرى الدالة على النهي عن القسر والإكراه.

أما التعبير بـ (أقاتل) وهي الكلمة التي عبر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما أجمع عليه الرواة، فليس فيها لدى التحقيق ما يناقض النصوص والدلائل التي أطلنا في بيانها، ومن ثم فليس في فهم الكلمة أي إشكال.

وبيان ذلك أن كلمة (أقاتل) على وزن أفاعل تدل على المشاركة، فهي لا تصدق إلا تعبيرا عن مقاومة من طرفين، بل هي لا تصدق إلا تعبيرا عن مقاومة لبادئ سبق إلى قصد القتل؛ فالمقاوم للبادئ هو الذي يسمى مقاتلا، أما البادئ فهو أبعد ما يكون عن أن يسمى مقاتلا، بل هو في الحقيقة يسمى قاتلا بالتوجه والهجوم أو بالفعل والتنفيذ؛ إذ لا ينشأ معنى الاشتراك إلا لدى نهوض الثاني للمقاومة والدفاع.

ألا ترى أنك تقول: لأقاتلن هؤلاء على ممتلكاتي أو على عرضي، فلا يفهم أحد من كلامك هذا إلا أنك عازم العزم على مجابهة العدوان منهم على مالك أو عرضك، فقتلك لهم إنما يأتي بعد توجههم إليك بالعدوان، ومن هنا يتضح أن من الخطأ بمكان أن تعبر من هذا المعنى بقولك: لأقتلن هؤلاء على مالي أو على عرضي.

إذن فما هو معنى الحديث على ضوء هذا الذي أوضحناه؟

معناه: أمرت أن أصد أي عدوان على دعوتي الناس إلى الإيمان بوحدانية الله، ولو لم يتحقق صد العدوان على هذه الدعوة إلا بقتال المعادين والمعتدين، فذلك واجب أمرني الله به ولا محيص عنه. وهذا من قبيل قوله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية: «وإن هم أبوا، فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي»[18] [19].

ولعلك تعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال هذا لبديل بن ورقاء، وهو يدعو قريشا إلى السلم ويحذر قريشا من مواصلة الحرب التي قد أنهكتهم، فما معنى قوله - والحالة هذه - فإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا؟

إن كلامه هذا نص قاطع في الدلالة على أنه - وهو يجنح بهم إلى السلم - سيقابل عدوانهم القتالي بالمثل إن هم أبوا إلا ذلك. فهذا المعنى هو ذاته المقصود بقوله: «أمرت أن أقاتل الناس...»[20].

وقد حكى البيهقي عن الإمام الشافعي قوله: ليس القتال من القتل بسبيل، وقد يحل قتال الرجل ولا يحل قتله.

وقد أطنب ابن دقيق العيد في "شرح العمدة " في الإنكار على من استدل بهذا الحديث على قتل تارك الصلاة، حيث قال: لا يلزم من إباحة المقاتلة إباحة القتل؛ لأن المقاتلة مفاعلة تستلزم وقوع القتال من الجانبين على ذلك.

فإذا كان الاستدلال على قتل تارك الصلاة بهذا الحديث باطلا؛ لأن رسول الله عبر في حقه بكلمة المقاتلة لا القتل، فكيف يصح الاستدلال بالحديث ذاته على قتل من أبى الدخول في الإسلام، مع أن تارك الصلاة عمدا يتحمل عهدة التكليف بمقتضى كونه مسلما كما يتحمل عهدة الإذعان لعقوبات الحدود، أما غير المسلم فلا يتحمل عهدة أي شيء من ذلك؟

إذن فهذا الحديث لا يشكل أي معارضة أو عثرة في الطريق إلى ما قد قررناه وعلمناه من أن الدعوة إلى الإسلام يجب أن تتم في نطاق الاختيار وحرية اتخاذ القرار[21].

ولو لم يكن مبدأ حرية الاعتقاد من مبادئ الإسلام الخالصة، لكان أول شيء يفعله المسلمون عند القتال هو أن يقتلوا رجال الدين من الأحبار والرهبان، ومع ذلك لم يفعل المسلمون، بل نهوا عن ذلك.

وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أن رجال الدين من اليهود والنصارى إذا لم يشتركوا في القتال وكانوا منعزلين في معابدهم، لا يقتلون أثناء الحرب ولا بعدها، واستدلوا بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقتلوا أصحاب الصوامع»[22].

وقد جاء عن أبي بكر الصديق أنه بعث جيوشا إلى الشام، «فخرج يمشي مع يزيد بن أبي سفيان - وكان أمير ربع من تلك الأرباع - فزعموا أن يزيد قال لأبي بكر: إما أن تركب، وإما أن أنزل، فقال أبو بكر: ما أنت بنازل، وما أنا براكب، إني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله، ثم قال له: إنك ستجد قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له، وستجد قوما فحصوا عن أوساط رؤوسهم من الشعر، فاضرب ما فحصوا عنه بالسيف، وإني موصيك بعشر: لا تقتلن امرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما، ولا تقطعن شجرا مثمرا، ولا تخربن عامرا، ولا تعقرن شاة ولا بعيرا إلا لمأكلة، ولا تحرقن نخلا ولا تغرقنه، ولا تغلل، ولا تجبن»[23].

ووجه الدلالة ظاهر في النهي عن قتل الرهبان والقسس المنعزلين، الذين لا رأي ولا تدبير لهم في الحرب.

ومما تجدر الإشارة إليه أن الشريعة الإسلامية قررت قاعدة ذهبية في معاملة الراهب والراهبة: أنهما حران لا يقتلان ولا يؤسران، ويترك لهما قدر الكفاية من الوسائل المعيشية[24].

الخلاصة:

·   لقد كرم الله الإنسان وميزه بالعقل وحرية الاختيار، وجعل هذه الحرية مناط التكليف، ومن ثم كانت مهمة الداعي إلى الإسلام تقف عند حدود التعريف والتذكير والنصح، ولا تتجاوز ذلك إلى درجة الإكراه والإلزام. )فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر( (الكهف:29).

·       يرفض الإسلام رفضا حاسما إكراه أحد على الدخول فيه، )لا إكراه في الدين(، ومنهاجه أن يشرح منهجه، وأن يتلو كتابه، وأن يدع الناس بعد هذا البيان أتم ما يكونون حرية في اعتناقه أو وتركه، قال عز وجل: )فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر( (الكهف:29)، وقال عز وجل: )وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا (105) وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا (106) قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا (107)( (الإسراء)، نعم آمنوا إذا شئتم أو ابقوا على إنكاركم له وكفركم به إذا شئتم، لن يجبركم أحد على اعتناق ما تكرهون.

·       إن الوسيلة الوحيدة للإيمان المنشود - هي المعرفة الحرة والإقناع المجرد والخشوع بعد ذلك لله عن عاطفة جياشة بالصدق )قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا (107) ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا (108) ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا (109)( (الإسراء).

·   من الثابت تاريخيا أن الإسلام ما قام يوما - ولن يقوم أبدا - على إكراه؛إلا أنه قد يجر جرا لقتال لم يشعل ناره، ولكن أتظنه إذا انتصر في هذا القتال وأمكنته الفرصة من وضع الأغلال في أعناق عبدة الأصنام، أتظنه يفعل ذلك ويلزمهم بترك شركهم واعتناق عقيدة التوحيد؟ لا.. يقول الله - عز وجل - لنبيه: )وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله( (التوبة:6)؛ إنه لم يقل له: فإذا سمع كلام الله فمره فليترك دينه الخرافي وليتبع دينك الحق، لا، بل أمر أن أطلق سراحه ورده آمنا إلى وطنه، فإذا أحب أن يدخل في الإسلام بعد، جاءت به قدماه إليك طائعا لا كارها، ولم ذلك الإرجاء والترك؟ )ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون (6)( (التوبة)، فيجب إذا أن يطاولوا حتى يعلموا، فإذا علموا الدين فسوف يدخلونه.

·   في حين كانت الحرب الدينية تفتك بأرجاء العالم، وتعتبر إرادات الناس صفرا، وتعتبر إدخال الناس في دين ما بالعنف والقسر كسبا، في هذه الأوقات العصيبة كان الناس يقرءون من آيات الحرية في كتب الفقه الإسلامي ما يثير دهشتهم.

·   من عناية الإسلام بالحرية وقدرها حق قدرها أن الفقهاء يقولون: إذا وجد صبي غير معروف نسبه مع مسلم و كافر، فقال الكافر: هو ابني، وقال المسلم: هو عبدي، يحكم بحريته وبنوته للكافر؛ وذلك لأنه بهذا الحكم ينال الحرية حالا وسوف ينال الإسلام فيما بعد حينما يكبر ويفهم الدلائل على وجود الله، وعلى بعثة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - بخير الأديان وأكملها.

·   تلك هي أحكام الفقه الإسلامي التي ورثناها نحن عن القرون الوسطى، فماذا يفعل رواد المدنية الحديثة، وما هي الأساليب المتبعة في سرقة عقائد المرضى واللقطاء والسذج؟ إن جاز أن يعاب الإسلام بشيء، وليس معيبا فهو المثالية الغريبة في تقرير حرية الاعتقاد، إذ إنه يتشبث بهذه الحرية المطلقة في عالم مشحون بأنواع الفتن والاضطهاد، وقد أصيب أتباعه بضرر شديد من حدة هذا التعصب، ومع ذلك فإن مبدأ المعاملة بالمثل لم يدخل في سياسته العامة، ولم ينتقص أطراف الحرية الواسعة التي رسمها للدخول فيه[25].

 

 



(*) ردود على أباطيل وشبهات حول الجهاد، عبد الملك البراك، النور للإعلام الإسلامي، الأردن، 1418هـ/ 1997م.

[1]. الجهاد في الإسلام، كيف نفهمه؟ وكيف نمارسه؟ د. محمد سعيد رمضان البوطي، دار الفكر، دمشق، ط2، 1997م، ص37 بتصرف.

[2]. الجهاد في الإسلام، كيف نفهمه؟ وكيف نمارسه؟ د. محمد سعيد رمضان البوطي، دار الفكر، دمشق، ط2، 1997م، 39:37 بتصرف يسير.

[3]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج1، ص291 بتصرف يسير.

[4]. مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، الإمام محمد الخطيب الشربيني، دار إحياء التراث، القاهرة، 4/ 210.

[5]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار المعرفة، بيروت، 1400هـ/ 1980، ج1، ص311.

[6]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ط2، ص280 .

[7]. الاستشراق والجهاد الإسلامي، د. السيد عبد الحليم محمد حسين، دار الطباعة والنشر الإسلامية، مصر، ط1، 2004م، ص200 بتصرف.

[8]. الاستشراق والجهاد الإسلامي، د. السيد عبد الحليم محمد حسين، دار الطباعة والنشر الإسلامية، مصر، ط1، 2004م، ص150.

[9]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب: ) فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ( (التوبة: ٥) (25)، وفي مواضع أخرى من طرق مختلفة، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله (138)، ومن طرق أخرى مختلفة.

[10]. الحرابة: هي خروج طائفة مسلحة في دار الإسلام لإحداث الفوضى، وسفك الدماء، وسلب الأموال، وهتك الأعراض، وإهلاك الحرث والنسل، متحدية بذلك الدين، والأخلاق، والنظام، والقانون، ولا فرق بين أن تكون هذه الطائفة من المسلمين أو الذميين، ما دام ذلك في دار الإسلام، ولهم في الإسلام حد مقرر يقام عليهم إذا انتهكوا الحرمات السابقة.

[11]. استجار بفلان: استغاث به والتجأ إليه، واستجار فلانا: سأله أن يؤمنه ويحفظه.

[12]. نكث العهد أو اليمين أو البيعة: نقضها ونبذها.

[13]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج8، ص76.

[14]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الهبة وفضلها، باب الهدية للمشركين (2477)، ومسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والأولاد والوالدين (2372).

[15]. الأقط: لبن محمض يجمد حتى يستحجر ويطبخ، أو يطبخ به (المعجم الوسيط، ط3، ج1، ص22).

[16]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المدنيين، حديث عبد الله بن الزبير بن العوام رضي الله عنه (16156)، وصححه الحاكم في مستدركه، كتاب التفسير، تفسير سورة الممتحنة (3804)، ووافقه الذهبي في التلخيص.

[17]. الإل: العهد.

[18]. السالفة: مقدم العنق، والمعنى: لأقاتلنهم على أمري حتى أقتل.

[19]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط (2581).

[20]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب: ) فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ( (التوبة:5) (25)، وفي مواضع أخرى من طرق مختلفة، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله (138)، ومن طرق أخرى مختلفة.

[21]. الجهاد في الإسلام، كيف نفهمه؟ وكيف نمارسه؟ د. محمد سعيد رمضان البوطي، دار الفكر، دمشق، ط2، 1997م، ص63:52 بتصرف.

[22]. إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، كتاب السير، باب من ينهى عن قتله في دار الحرب (33132)، وأبو يعلى في مسنده، مسند بن عباس (2650)، وصحح إسناده حسين سليم أسد في تعليقات مسند أبي يعلى (2650).

[23]. أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الجهاد، باب النهي عن قتل النساء والولدان في الغزو (1627)، وعبد الرزاق في المصنف، كتاب الجهاد، باب عقر الشجر بأرض العدو (9375).

[24]. الجهاد في الإسلام، دراسة فقهية مقارنة، د. أحمد محمد كريمة، مطابع الدار الهندسية، مصر، ط1، 1424هـ/2003م، ص285،284.

[25]. سماحة الإسلام، د. عمر عبد العزيز قريشي، المكتبة الذهبية، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص136: 138 بتصرف.

wives that cheat women who want to cheat read here
husbands who cheat women who cheat on husband my boyfriend cheated on me with a guy
my husband cheated my husband almost cheated on me open
my husband cheated married looking to cheat open
online why men have affairs read here
online redirect read here
why wife cheat percentage of women who cheat why women cheat in relationships
read cheat husband click here
مواضيع ذات ارتباط

أضف تعليقا
عنوان التعليق
نص التعليق
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء كاتبيها فقط ولا تعبر عن الموقع
 
 
 
  
المتواجدون الآن
  6465
إجمالي عدد الزوار
  38397309

الرئيسية

من نحن

ميثاق موقع البيان

خريطة موقع البيان

اقتراحات وشكاوي


أخى المسلم: يمكنك الأستفادة بمحتويات موقع بيان الإسلام لأغراض غير تجارية بشرط الإشارة لرابط الموقع