ادعاء أن التيمم مدعاة للمرض ومنافاة لعصمة الشرائع السماوية (*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المشككين أن التيمم يؤدي إلى إصابة الإنسان ببعض الأمراض، وأنه لا يتناسب مع عصمة الشرائع الإلهية، وذلك عند تعليقهم على قوله عز وجل: )وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه( (المائدة: ٦)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين».[1] ويتساءلون: أليست هذه قذارة ومدعاة للمرض لا للصحة؟ وأي عاقل يتصور أن في التراب نظافة وتطهيرا؟! ويرمون من وراء ذلك إلى نفي الحكمة عن التشريعات الإسلامية.
وجوه إبطال الشبهة:
1) التيمم لغة: القصد، واصطلاحا: القصد إلى الصعيد لمسح الوجه واليدين بنية استباحة الصلاة، وهو ثابت بالكتاب والسنة والإجماع.
2) الإسلام يأمر بالنظافة ويحارب التلوث، ويحافظ على صحة الإنسان وسلامته، ويهدم العقائد الباطلة التي تؤمن بأن تقوية الروح توجب إهمال البدن.
3) شرع الله - عز وجل - التيمم للأمة الإسلامية خاصة؛ لطفا بها وتيسيرا عليها، وليجمع لها بين التراب الذي هو مبدأ إيجادها، وبين الماء الذي هو سبب استمرار حياتها.
4) طهارة المظهر بالماء أو التراب سبيل إلى طهارة الجوهر من الخبائث والرذائل.
5) وجوب التسليم بحكمة التعاليم الشرعية - بالنسبة للمؤمنين بها - سواء بانت العلة[2] وراء ذلك أم خفيت.
6) التيمم موجود في أحكام الشريعة اليهودية، فلم لم يعبها أحد بذلك؟!
التفصيل:
أولا. التيمم لغة واصطلاحا، ودليل مشروعيته:
التيمم لغة: القصد. واصطلاحا: القصد إلى الصعيد؛ لمسح الوجه واليدين، بنية استباحة الصلاة ونحوها.
دليل مشروعيته:
ثبتت مشروعية التيمم بالكتاب والسنة، والإجماع.
1. الكتاب: فلقول الله تعالى: )وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا (43)( (النساء).
2. السنة: فلحديث أبي أمامة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «جعلت الأرض كلها لي، ولأمتي مسجدا وطهورا، فأينما أدركت رجلا من أمتي الصلاة، فعنده مسجده، وعنده طهوره» [3].
3. الإجماع: فلأن المسلمين أجمعوا على أن التيمم مشروع، بدلا من الوضوء والغسل في أحوال خاصة [4].
ثانيا. الإسلام هو أول نظام علمي عرفته الإنسانية يأمر بالنظافة، ويحارب التلوث، ويحرص على سلامة الناس وصحتهم: [5]
أطلق الإسلام على الشيء الملوث كلمة النجاسة، واتبع الأسلوب العلمي فحددها في ثلاث عشرة مادة، وهي التي تعرف في عصرنا بالمواد الوسيطة، أو الناقلة للميكروب ومنها: القيح، والدم المسفوح، والبراز، والبول، والقيء، ولعاب الكلب، وجسم الخنزير، وقد أثبت العلم الحديث أن جميع هذه المواد هي وسط صالح لنمو الميكروبات وتكاثرها، وقرر الإسلام أن أية مادة تصيب الإنسان في جسمه أو طعامه أو شرابه أو مكانه، أو تغير لون الطعام أو رائحته أو طعمه، فهذا يدل على وجود ميكروب حي يتفاعل، وبها يكون نجسا في نظر الدين، ملوثا في نظر الطب الحديث.
أوجب الإسلام الطهارة الحسية، وحث على الطهارة المعنوية، وألغى العقائد الباطلة، التي تؤمن أن تقوية الروح توجب إهمال البدن تماما حتى عرف في بعض الأديان الوضعية أو المحرفة ما اصطلح س بـ "القذارة المقدسة" التي عرفتها بعض نظم الرهبنة في كل من المسيحية، والهندوسية، فالرهبان الذين يتجنبون النظافة يشعرون شعورا دينيا أصيلا أن إغفال البدن، بل الإهمال المتعمد لنظافته يقوي العنصر الروحي في الصلاة، مفترضا أنها ستكون صلاة صدق، لهذا تخلصوا من أية نظافة، أو عناية بالبدن، أما الإسلام فقد أوجب الطهارة من كل هذه الأدران، ونجد هذا المزج بين طهارة الروح، وطهارة الجسد في قوله تعالى: )إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين( (البقرة).
ثالثا. شرع الله - عز وجل - التيمم للأمة الإسلامية لطفا بها وتيسيرا عليها، وليجمع لها بين التراب الذي هو مبدأ إيجادها وبين الماء الذي هو سبب استمرار حياتها: [6]
لقد اختص الله - عز وجل - الأمة الإسلامية بالتيمم، وذلك تسهيلا وتيسيرا عليها، فعن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي؛ نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل...» [7].
وقد أباح الله تعالى التيمم إذا وجد سبب من الأسباب الآتية:
· إذا لم يجد المسلم الماء، أو وجد منه ما لا يكفيه للطهارة، ولكن عليه قبل أن يتيمم أن يطلب الماء من رحله أو من رفقته، أو ما قرب منه عادة، فإذا تيقن عدمه، أو كان بعيدا عنه، لا يجب عليه الطلب.
· إذا كان به جراحة أو مرض، وخاف عند استعمال الماء من زيادة المرض، أو تأخر الشفاء، سواء عرف ذلك بالتجربة، أو بإخبار الثقة من الأطباء.
· إذا كان الماء شديد البرودة، وغلب على ظنه حصول ضرر باستعماله، بشرط أن يعجز عن تسخينه ولو بالأجر، أو لا يتيسر له دخول الحمام.
· إذا خاف على نفسه أو عرضه أو ماله أو فوت الرفقة أو حال بينه وبين الماء عدو يخشى منه، سواء كان العدو آدميا أو غيره أو كان مسجونا، أو عجز عن استخراج الماء، وكذلك من خاف إن اغتسل أن يرمى بما هو برئ منه ويتضرر به.
· إذا احتاج إلى الماء حالا أو مآلا، لشربه أو شرب غيره، ولو كان كلبا غير عقور، أو احتاج له لعجن أو طبخ.
· إذا خشي أن يخرج وقت الصلاة باستعمال الماء، وهو قادر على استعماله.
رابعا. طهارة المظهر بالماء أو التراب سبيل إلى طهارة الجوهر من الخبائث والراذائل:
من عظمة الإسلام أنه جعل الطهارة من الحدث والخبث فرضا ليصل المسلم إلى طهارة الجوهر مع طهارة المظهر، فيذكر الإمام الغزالي أن للطهارة مراتب أربعة هي: تطهير الظاهر عن الأحداث والأخباث، ثم تطهير الجوارح عن الجرائم والآثام، ثم تطهير القلب عن الأخلاق المذمومة والرذائل الممقوتة، ثم تطهير السر عما سوى الله - عز وجل - وهي طهارة الأنبياء والصديقين.
والوضوء يعيد للنفس نقاءها من الذنوب والمعاصي التي ترتكبها، ويكون سببا في عودة الروح إلى صفائها مثلما يعود الثوب الأبيض الملوث إلى نقائه بعد غسله، وتنظيفه.
وقد ربط الإسلام أعمال الطهارة بالذكر الذي يطمئن القلب، ويشرح الصدر، ويتضح ذلك من كثير من الأحاديث منها ما يلي:
· كان - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء قال:«اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث» [8].
· وإذا خرج بادر إلى ذكر الله: «غفرانك» [9].
· قوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» [10].
· قوله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها يشاء» [11].
هذا الثواب الجزيل لهذه الأذكار يعتبر غنيمة باردة ينبغي للعاقل أن يشتد حرصه عليها.
الطهارة من علامات الإيمان التي يعرف بها المؤمنون يوم القيامة، فلولاها لكان المؤمنون والكافرون في الهيئة يوم القيامة سواء، ولكن الغسل والوضوء والطهارة والنقاء يبعث في الوجه نورا، وفي اليدين والرجلين ضياء يعرف به الصالحون من الكالحين.
من أكبر الأدلة على صلة الطهارة بطهارة الروح: أن ذلك التطهير لا يقتصر على الأحياء، بل يغسل الميت وجوبا؛ ذلك لأنه قادم على الله تعالى، وهذا يقين لا يخرج عنه مسلم، فمن ثم وجب القدوم عليه في أحسن هيئة، وأنقى طهارة.
خامسا. وجوب التسليم بالأحكام الشرعية وقبولها:
فمن المسلم به أن المسلم قد آمن بأن هذا الدين صحيح، قد جاءه على يد رسول صادق أمين، قامت الدلائل على صدق نبوته من لدن حكيم عليم، اجتمعت البراهين على وحدانيته وربوبيته، فواجب المؤمن أن يأخذه مجملا، كما واحدا، لا أن يجتزئ وينتقي، فما بانت فيه علة الحكم أدركها عقل المؤمن، وما خفيت حكمته مطلقا أو مؤقتا - وظهرت مع مرور الزمن وتقدم العلم والبحث - سلم به هذا العقل المؤمن، واتهم نفسه بالنقص والقصور الذي جبله بارئه عليه، فكما قيل: لو كان الدين بالرأي - أي يتوقف قبول أحكامه على تقييم العقل البشري القاصر لها فقط - لكان مسح أسفل الخف - المباشر لسطح الأرض المتعرض للنجاسات - أولى بالمسح - عند الوضوء - من ظاهره، كما هو وارد في الحكم الشرعي.
فكما هو معروف أن من شأن ميزان الذهب أن يزن، لكن قصارى جهده أن يزن كيلو جراما من الذهب أو أكثر قليلا ربما، لكن ليس في مقدوره بالطبع - إذ لم يصمم لذلك - أن يزن صخرة كبيرة، فكذا العقل البشري، خلقه خالقه محدود الإمكانات لا مطلقها، فليس في وسعه إدراك العلل الخفية أو الظواهر الغيبية، لكن واجبه أن يسلم بها كما وردت في التعاليم الدينية والأحكام الشرعية.
والخلاصة أن العقل البشري - بقصوره المعهود - عليه أن يسلم بصحة أحكام الشرع الحنيف الذي آمن به عن قناعة، أدرك كنه هذه الأحكام وحكمتها، أو قصر عن ذلك، مهتديا في إيمانه وتسليمه وخضوعه بنور الشرع وآدابه التي لا غنى له عنها، فالشرع للعقل كالشمس للمبصر، لا يرى إلا في ضوئها، كما قال الإمام الغزالي.
في هذا الشأن وفصلا في هذه القضية، يقول د. القرضاوي: "نحن المسلمين لا نعاني مشكلة عانتها النصرانية في المجتمع الغربي، وهي مسألة التعارض بين العلم والدين، فقد قامت من أجل ذلك محاكم التفتيش وحرق العلماء، وحدث ما حدث، وليس عندنا شيء من هذا.
فإذا كانت العقلانية هي هذه فنحن كما قلنا دعاة عقلانية، أما إذا كانت العقلانية أن نرفض وحي الله - عز وجل - أو نغلب باستمرار العقل على النص، ولو كان النص قطعي الثبوت قطعي الدلالة، فهذا ليس من العقلانية في شيء؛ لأنه كما يقول الإمام الغزالي: إنه إذا ثبت وجود الله بالعقل، وأثبتنا النبوة بالعقل، وأثبتنا نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأنه لا ينطق عن الهوى، وأن القرآن كتاب من عند الله إذا ثبت ذلك كله بالعقل.. عند ذلك يعزل العقل نفسه، ويتلقى من الوحي.
العقل هو الذي أثبت صدق الرسالة، وصدق الوحي، وصدق القرآن، إذن على هذا العقل أن يعزل نفسه ويتلقى، فما ثبت أنه من الوحي على العقل أن يقول: سمعنا، وأطعنا، وإلا حدث تناقض بين العقل ونفسه.
فما كان قطعي الثبوت والدلالة فعلى العقل أن يسلم له، لا يقول العقل: لماذا نصلي في اليوم خمس مرات؟ ولماذا لم تكن ثلاثا، أو أربعا؟ ولماذا كانت بعض الصلوات ركعتين، وبعضها ثلاثا وبعضها أربعا؟ ولماذا كان الركوع مرة واحدة والسجود مرتين؟ هذه الأشياء لا يستطيع العقل أن يفصل فيها. وقد شبهها الإمام الغزالي بالأدوية التي يصفها الطبيب للمريض، لا يستطيع المريض أن يفهم لماذا يجعل الطبيب هذا الدواء قبل الأكل، وهذا بعد الأكل، وهذا حبة واحدة، وهذا حبتين، فشرح هذا لكل مريض فوق مستواه، والعبادات أشبه بأدوية روحية للإنسان، فعلى الإنسان إذا سلم بمعرفة الطبيب وخبرته، أن يقول: إذا هذا لا يخلو من حكمة، قد يعرف بعضها، وقد يغيب عنه بعض آخر.
لذا نقول: إن العقل الإنساني وحده لا يؤمن أن يترك وحده، وإنما ينبغي أن يؤيد وأن يصان بوحي الله - عز وجل - ليسدد خطاه، ويعصمه من الزلل حتى يستمر في الطريق المستقيم، فالعقل بدون وحي معرض للخطأ والخطل والخطر. هذا ما ينبغي أن يفهم في هذه القضية الكبيرة، قضية العقلانية، بعيدا عن الإفراط والتفريط" [12].
من هذا المنطلق فإن ادعاء عدم معقولية التيمم سخف واجتراء من عقل بشري ناقص، وخوض في ميدان ليس له، وليس بمقدوره التجديف فيه.
ومع هذا فقد حاول بعض العلماء استكناه الحكمة في فريضة التيمم قدر طاقة العقل البشري في تعقل الحكم والعلل، يقول د. صلاح سلطان: "في كثير من أحكام الطهارة ما يصدر عن تسليم لأمر الله دون تردد، وإن غابت الحكمة التي يدركها العقل أسلم القلب بأن هذا هو الحق والخير، فمن لم يجد الماء تيمم، وهي طهارة حقيقية، وإن كان ظاهرها مس التراب والمسح على بعض أعضاء الوضوء دون بعضها، وهي تغني عن الغسل، ولذا لما عرض سيدنا عمار بن ياسر الأمر على عقله في أمر التيمم من الجنابة تقلب فتمرغ في التراب، لكن الأمر كله تعبدي، يعني مطلق التسليم لأمر الله تعالى، وهذا يعبر عن ثقة ويقين وسلامة صدر من وساوس الشيطان أن لا يطبق العبد إلا ما يعقله عقله فقط، ويطمئن إليه فؤاده - كما يوسوس إبليس بذلك أحيانا، ومنه - أي مما يسلم به - أيضا المسح على ظاهر الخفين دون باطنهما، وطهارة ماء دون ماء، والوضوء من ريح الدبر والبول والغائط والمذي والودي، والغسل من نزول المني بشهوة والمني أقل نجاسة من الغائط، لكن هذا يرجع إلى علم الله سبحانه، والمسلم يصل من اليقين العقلي إلى التسليم القلبي، فعن طريق النظر في ملكوت الله - عز وجل - ودقة صنعه، وبديع خلقه، والنظر في آيات القرآن وإعجازه يدرك أن كل حكم ورد بنص صحيح ثبوتا واجب الاعتقاد والعمل به" [13].
أما د. القرضاوي فبعد تأكيده على وجوب التسليم والإذعان والخضوع، بغض النظر عن إدراك علة الحكم من عدمه، فإنه يحاول إبراز بعض المعاني وراء مشروعية التيمم، فيقول: "جرت جماهير العلماء على أن التيمم أمر تعبدي محض لا حكمة له إلا الإذعان والخضوع لأمر الله تعالى، الذي اقتضت حكمته أن يبتلي عباده بالتكاليف، وإن لم يعقلوا معناها، فيقول الرب أمرت وفرضت، ويقول العبد: سمعت وأطعت.
ولكن من المقرر عند الراسخين من علماء الأمة، وحكمائها أن الله تعالى لا يفرض على خلقه شيئا يتعبدهم به إلا لحكمة علمها من علمها، وجهلها من جهلها، فإن من أسمائه الحكيم، ومن حكمته أنه لا يخلق شيئا باطلا، ولا يشرع شيئا عبثا. وهذا معلوم بيقين، ولكن لا ينبغي أن نبالغ في إثبات الحكم للعبادات الشعائرية، التي لم يرد بها نص من كتاب ولا سنة، ونجزم بها كأنها حقائق ثابتة، ولا نتكلف هذا الحكم تكلفا متعسفا إذا لم تكن ظاهرة لنا، ولا نربط الحكم الشرعي بها ربط المعلول بالعلة، بل نعتبرها ثمرات للعبادة لا غايات لها.
وقد تحدث بعض العلماء عن حكم التيمم قديما وحديثا.. ومن أجود ما قيل، ما ذكره الدهلوي في "الحجة البالغة"، حين قال: لما كان من سنة الله في شرائعه أن يسهل عليهم كل ما يستطيعون، وكان أحق أنواع التأثير أن يسقط ما فيه حرج إلى بدل؛ لتطمئن نفوسهم، ولا تختلف الخواطر عليهم، بإهمال ما التزموه غاية الالتزام مرة واحدة، ولا يألفوا ترك الطهارات، أسقط الوضوء والغسل في المرض، والسفر إلى التيمم، ولما كان ذلك كذلك نزل القضاء من الملأ الأعلى بإقامة التيمم مقام الوضوء والغسل.
وأكد الشيخ رشيد رضا أن المتيمم إذا فاته ما في الوضوء، أو الغسل من النظافة، فإنه لا يفوته ما فيه من معنى الطاعة، والامتثال؛ فالتيمم رمز لما في الطهارة المتروكة للضرورة من معنى الطاعة التي هي الأصل في طهارة النفس المقصود من الدين أولا وبالذات، والتي شرعت طهارة البدن لتكون عونا عليها ووسيلة لها" [14].
لعله قد ظهر لنا أن راحة العقل المخلوق في التسليم والإذعان لتعاليم الخالق، ظهرت علتها أم خفيت. كما أن بعض وجوه الحكمة وراء مشروعية التيمم في الإسلام قد تبدت معانيها.
سادسا. التيمم موجود في أحكام التشريع اليهودي المحرف، ولم يعبه أحد:
المعروف أن الله قد خص الأمة المحمدية بفريضة التيمم، فعن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي؛ نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا. فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل...»[15] [16].
لكن نتيجة التحريف الذي أصاب أحكام التشريع اليهودي شرع الحاخامات هذا الأمر لليهود، فقد ورد في كتابهم المقدس - التلمود - جواز استعمال الرمل إذا أعوز الماء [17].
ومع ذلك لم نسمع صارخا يصرخ ولا ناعقا ينعق مولولا مترحما على العقل البشري الذي ذهب ضحية الأحكام الدينية غير المنطقية، وغير المبررة وغير بادية العلة والحكمة، كما ناح النائحون بخصوص فريضة التيمم في القرآن.
كذلك فإن كثيرا من الأديان المحرفة والوضعية تتضمن أحكاما وعادات للرهبنة، والانقطاع عن المباحات ويجافي سلوكها قواعد الطهارة والنظافة، بزعم الزهادة والتقشف، حتى تصير حياتها أقرب إلى القذارة البهيمية، ومع ذلك لا يعيب عليها أحد شيئا من غرائب سلوكياتها، بل تكاد تمتدح بزهدها وتقشفها. مرة أخيرة نتساءل: لم العين على الإسلام وحده؟!
الخلاصة:
· التيمم لغة: القصد. واصطلاحا: القصد إلى الصعيد لمسح الوجه واليدين بنية استباحة الصلاة، وقد ثبتت مشروعيته في الكتاب والسنة، وإجماع الأمة.
· الإسلام هو أول نظام علمي يحث على الطهارة المعنوية، ويوجب الطهارة الجسدية؛ حيث ألغى العقائد الباطلة التي تؤمن أن تقوية الروح توجب إهمال البدن تماما.
· شرع الله تعالى التيمم للأمة الإسلامية خاصة لطفا بها وتيسيرا عليها، حيث يباح التيمم إذا وجد سبب من الأسباب التالية: عدم وجود الماء، الإصابة بمرض أو جراحة، شدة برودة الماء، الخوف على النفس أو العرض أو المال أو مفارقة الرفاق من أجل تحصيل الماء، الاحتياج إلى الماء حالا أو مآلا، الخوف من خروج وقت الصلاة.
· طهارة المظهر سبيل إلى طهارة الجوهر؛ حيث إن للطهارة مراتب أربعة هي: تطهير الظاهر عن الأحداث والأخباث، ثم تطهير الجوارح عن الجرائم والآثام، ثم تطهير القلب عن الأخلاق المذمومة والرذائل الممقوتة، ثم تطهير السر عما سوى الله - عز وجل - وهي طهارة الأنبياء والصديقين.
· الوضوء يعيد للنفس نقاءها من الذنوب والآثام، ويربحها الثواب الجزيل الذي يغنمه المسلم عند قوله الأذكار المرتبطة بالوضوء، والطهارة من علامات الإيمان التي يعرف بها المؤمنون يوم القيامة، وهي ليست خاصة بالأحياء، بل بالأموات أيضا، فالله - عز وجل - يمن على المطهرين بحبه ورعايته.
· العقل البشري الناقص يجب عليه التسليم بالأحكام الشرعية سواء بانت له علتها أم خفيت عليه، وأن يعترف بقصوره عن إدراك ما ليس في وسعه.
· أحكام التشريع اليهودي المحرفة تضمنت التيمم، ولم يعبها أحد بذلك، فلم تثار المعارضات في وجه الإسلام فقط دوما؟!
(*) هل القرآن معصوم؟ عبد الله عبد الفادي، موقع إسلاميات. www.Islameyat.com
[1]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الأنصار، حديث المشايخ عند أبي كعب رضي الله عنه (21408)، والنسائي في المجتبى، كتاب الطهارة، باب الصلوات بتيمم واحد (322)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1667).
[2]. العلة: تطلق في اللغة على المرض، وعلى السبب، وفي اصطلاح الأصوليين: ما أضاف الشارع الحكم إليه، وناطه به، ونصبه علامة عليه، فقوله: ) والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ( (المائدة: ٣٨) جعلت السرقة فيه مناطا لقطع اليد.
[3]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه (22190)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (152).
[4]. فقه السنة، السيد سابق، الفتح للإعلام العربي، القاهرة، ط2، 1419هـ/ 1999م، ج1، ص95.
[5]. المقاصد التربوية للعبادات في الروح والأخلاق والعقل والجسد، د. صلاح الدين سلطان، سلطان للنشر، أمريكا، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص107 وما بعدها.
[6]. فقه السنة، السيد سابق، الفتح للإعلام العربي، القاهرة، ط2، 1419هـ/ 1999م، ج1، ص96: 98 بتصرف.
[7]. أخرجه البخاري في صحيحه، أبواب المساجد، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي في الأرض مسجدا وطهورا" (427)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة (1191).
[8]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الوضوء، باب ما يقول عند الخلاء (142)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب الحيض، باب ما يقول إذا أراد دخول الخلاء (857).
[9]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الطهارة، باب ما يقول الرجل إذا خرج من الخلاء (30)، والترمذي في سننه، أبواب الطهارة، باب ما يقول إذا خرج من الخلاء (7)، وصححه الألباني في الإرواء (52).
[10]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة رضي الله عنه (9408)، وأبو داود في سننه، كتاب الطهارة، باب التسمية على الوضوء (101)، وصححه الألباني في صحيح ابي داود (92).
[11]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب الذكر المستحب عقب الوضوء (576).
[12]. حول قضايا الإسلام والعصر، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1992م، ص128 وما بعدها.
[13]. المقاصد التربوية للعبادات في الروح والأخلاق والعقل والجسد، د. صلاح الدين سلطان، سلطان للنشر، أمريكا، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص13، 14.
[14]. فقه الطهارة، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط3، 2006م، ص255 وما بعدها.
[15]. أخرجه البخاري في صحيحه، أبواب المساجد، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" (427)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، أوائل كتاب المساجد ومواضع الصلاة (1191).
[16]. فقه السنة، السيد سابق، الفتح للإعلام العربي، القاهرة، ط2، 1419هـ/ 1999م، ج1، ص66.
[17]. شبهات المستشرقين حول العبادات في الإسلام، د. ناصر السيد، مركز التنوير الإسلامي، القاهرة، 1426هـ/ 2006م، ص77.
husbands who cheat
open my boyfriend cheated on me with a guy
husband cheat
online online affair