مرحبًا بكم فى موقع بيان الإسلام الرد على الافتراءات والشبهات
 بحث متقدم ...   البحث عن

الصفحة الرئيسية

ميثاق الموقع

أخبار الموقع

قضايا الساعة

اسأل خبيراً

خريطة الموقع

من نحن

دعوى عدم صلاحية تطبيق الشريعة الإسلامية في وجود أقليات غير مسلمة (*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المشككين أن أحكام الشريعة الإسلامية لا يمكن تطبيقها في المجتمعات الإسلامية؛ وذلك لوجود أقليات غير مسلمة بها، ويتساءلون: كيف تطبق أحكام الشريعة الإسلامية على من لا يؤمن بها؟! ألا يعد هذا نقضا لمبدأ الحرية التي ينادي بها الإسلام والمسلمون؟!

وجوه إبطال الشبهة:

1) للشريعة الإسلامية مميزات تؤهلها للتطبيق في كل زمان ومكان، وبالنظر في صفحات التاريخ الإسلامي المشرقة يتأكد لنا هذا المعنى، كما أن الأكثرية لها الحق في حكم نفسها بما تشاء ما لم تجر على الأقلية.

2)  الإسلام دين السماحة، ولا يفرض عقيدته على غيره، يشهد بهذا غير المسلمين قبل المسلمين.

3)  الحكم العلماني ليس حكما مشرقا، بل هو حكم متعصب، يحارب جميع الأديان، وتسوده المذابح والفتن الطائفية.

التفصيل:

أولا. للشريعة الإسلامية مميزات تجعلها صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان:

تحدث د. يوسف القرضاوي عن مميزات الشريعة الإسلامية، وذكر منها:

1.    العدل للناس جميعا:

في ظل شريعة الإسلام ساد العدل، ونعم بخيره الناس جميعا، فقانون الشرع ملزم لكل من جرت عليه أحكام الإسلام، لا يظلم أحدا أو يحابي لأجل دينه، أو طبقته الاجتماعية، أو أسرته، أو غناه أو فقره، أو لونه أو لغته.

ذلك لأن عدل الإسلام هو عدل الله، والله لا يظلم أحدا من عباده، فردا أو جماعة، بل هو الحكم العدل، وقد نزلت آيات خالدة في كتاب الله، تدافع عن يهودي اتهم بجريمة ظلما وهو برئ منها، فندد القرآن بالمتهمين، وهم منتسبون ظاهرا إلى الإسلام، ودافع عن المتهم دفاعا لا نظير له في التاريخ.

·   وذلك في قوله عز وجل: )إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما (105) واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما (106) ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما (107) يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا (108) ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا (109) ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما (110) ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما (111) ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا (112) ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما (113)( (النساء).

 والقضاء الإسلامي من أعدل الأنظمة القضائية في العالم، فهو يعامل الخليفة - أمير المؤمنين - كما يعامل كافة أفراد الشعب، ويجري عليه ما يجري عليهم، وقد يحكم عليه القاضي لخصم هو يهودي أو نصراني، بل هو ما سجله تاريخ القضاء الإسلامي في وقائع شتى تظل غرة في جبين الدهر.

2.    مجتمع مساواة لا يعترف بالفوارق والطبقات:

وفي ظل نظام الإسلام وشريعة الإسلام، سعد الناس بمساواة قانونية واجتماعية، قل أن عرف التاريخ لها مثيلا، فقد أعلن الإسلام المساواة بين البشر جميعا، فهم عبيد لرب واحد، وأبناء لأب واحد، تساووا في المبدأ، وتساووا في المصير، فلا مجال لبغي ولا فخر ولا تمييز.

أبطل الإسلام كل الفوارق التي تميز بين الناس: من الجنس, واللون، واللغة، والنسب، والأرض، والطبقة، والمال والجاه، وربط هذه المساواة بشعائره اليومية والأسبوعية والسنوية؛ ليتأكد للناس أنهم سواسية كأسنان المشط، لا فضل لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى، ولهذا لم يعرف المجتمع الإسلامي التمييز العنصري، أو اللوني، أو الطبقي الذي عرف في مجتمعات أخرى شرقية وغربية.

ولا عجب أن رأينا عمر يقول عن بلال الحبشي: «أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا»؛ يعني بلالا رضي الله عنهم ([1]).

ورأينا المسجد يضم في رحابه كل الأجناس من عرب وعجم، وكل الألوان من بيض وسود، وكل الطبقات من أغنياء وفقراء، دون أدنى تفرقة بين فئة وأخرى.

ورأينا حكم الشريعة يطبق على الجميع، لا يعفى شريف لشرفه، ولا يرهق ضعيف لضعفه، بل قال النبي - قولته المشهورة: «إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»([2]).

قالوا عن الإسلام:

·   ذكر غوستاف لوبون في كتابه "حضارة العرب"، وهي ليست إلا حضارة الإسلام - في ختام حديثه عن نظم العرب المسلمين الاجتماعية -: " أن العرب يتصفون بروح المساواة المطلقة، وفقا لنظمهم السياسية، وأن مبدأ المساواة الذي أعلن في أوربا - قولا لا فعلا - راسخ في طبائع الشرق رسوخا تاما، وأنه لا عهد للمسلمين بتلك الطبقات الاجتماعية التي أدى وجودها إلى أعنف الثورات في الغرب، ولا يزال يؤدي، وأنه ليس من الصعب أن ترى في الشرق خادما زوجا لابنة سيده، وأن ترى أجراء منهم قد أصبحوا من الأعيان".

·   والكتاب الأوربيون الذين بحثوا عن بعد في شئون أولئك الأقوام - وهم الذين لا يعلم الأوربيون من أمورهم سوى القليل - يستخفون بتلك النظم، ويقولون: إنها أدنى من نظمنا كثيرا، ويتمنون قرب الوقت الذي تستولي فيه أوربا الطامعة على تلك البقاع.

وغير ذلك ما يبديه الباحثون المحققون، وإليك مثلا ما جاء في كتاب ثمين، وضعه العالم المتدين مسيو لويله الذي هو ممن أجادوا درس أمور الشرق: "صان المسلمون أنفسهم حتى الآن من مثل خطايا الغرب الهائلة، فيما يمس رفاهية طبقات العمال، وتراهم يحافظون بإخلاص على النظم الباهرة التي يسوي بها الإسلام بين الغني والفقير، والسيد والأجير على العموم، وليس من المبالغة أن يقال إذن: إن الشعب الذي يزعم الأوربيون أنهم يرغبون في إصلاحه هو خير مثال في ذلك الأمر الجوهري".

حتى العبيد الذين أبقى الإسلام عليهم - لاعتبارات معروفة - في أضيق نطاق، كانوا يعتبرون بمثابة أعضاء في الأسرة التي يعيشون فيها. وفي الحديث: «إخوانكم خولكم»؛ ([3]) أي: خدمكم.

·   ويتحدث ول ديورانت في كتابه "قصة الحضارة" عن الرقيق في تاريخ الحضارة الإسلامية، وكيف عمل الإسلام على تضييق دائرة الاسترقاق، وتحسين حال الأرقاء، فقصر الاسترقاق المشروع على من يؤسرون في الحرب من غير المسلمين، وعلى الأبناء الأرقاء أنفسهم.

ثم يقول: "وكان يسمح للعبيد أن يتزوجوا وأن يتعلم أبناؤهم إذا أظهروا قدرا كافيا من النباهة، وإن المرء ليدهش من كثرة أبناء العبيد والجواري الذين كان لهم شأن عظيم في الحياة العقلية والسياسية في العالم الإسلامي، ومن كثرة من أصبحوا منهم ملوكا وأمراء، أمثال محمود الغزنوي والمماليك في مصر".

·   ويقول الأستاذ برنارد لويس: "ولقد نجح الإسلام حيث فشلت المسيحية في مزج الإيمان العميق بالتسامح الديني، الذي لم يشمل فقط غير المسلمين من الأديان الأخرى، بل شمل هذا التسامح حتى الهراطقة([4]) والكفار.

وتعايش مدارس فكرية عدة في التشريع الإسلامي المقدس هو برهان آخر على التسامح، والاعتدال الإسلامي.

ولقد كان الإسلام دائما من الوجهة الاجتماعية ديمقراطيا - أو على الأصح - عادلا، يرفض دائما نظاما كنظام الطوائف في الهند، وامتيازات كامتيازات الطبقة الأرستقراطية في أوربا، وما احتاج الإسلام إلى ثورة دامية لينشر فكرة تكافؤ الفرص، وتقدير المواهب في العالم الإسلامي، فلقد جاءت الفكرة مع بدء الدعوة الإسلامية، وعلى الرغم من أن في سياق تاريخ بعض الدول الإسلامية ميلا لتشكيل طبقة أرستقراطية، إلا أن الفكرة "المساواة" لم تنمح ولم تستبعد من المجتمع الإسلامي في أي وقت من الأوقات.

والنظرة الإسلامية تؤكد دائما سيادة القانون ووجوب انصياع الحكام له، ولقد استطاعت قوة العلماء في العهد العثماني أن تفرض احترام هذا المبدأ الإسلامي.

3.    التكافل الاجتماعي الشامل:

وفي ظل شريعة الإسلام وحكم الإسلام ساد التكافل الاجتماعي الشامل، الذي قام على حراسته إيمان الأفراد المسلمين، وسلطان الدولة المسلمة.

·   تكافل بين أبناء الأسرة والعشيرة، فحمل قويهم ضعيفهم، وقام قادرهم بحق عاجزهم، امتثالا لأمر الله - عز وجل - بصلة الأرحام، وإيتاء ذي القربى حقه، وتحقيقا للمبدأ القرآني: )وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله( (الأنفال: 75).

·       ومن لم يقم بذلك بوازع من ذاته ألزمه القضاء الإسلامي بذلك، وفقا لقانون "النفقات" في الشريعة.

·   وتكافل بين أبناء "الحي" الذي يلزمهم بحكم الجوار أن يتعاونوا ويتضامنوا، ويأخذ بعضهم بيد بعض، وإلا فالإسلام منهم براء، ففي الحديث: «ليس بالمؤمن الذي يبيت شبعانا, وجاره جائع إلى جنبه»([5]).

·   وتكافل بين أبناء القطر أو الإقليم الواحد؛ حيث كانت "الزكاة" تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فريضة من الله.

·   وتكافل أوسع وأكبر، يشمل الأمة الإسلامية كلها، فهي أمة واحدة، يشد بعضها أزر بعض، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم.

لقد رأينا هذا التكافل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث بعث سعاته وعماله إلى كافة القبائل والأقطار التي دخلها الإسلام، وأمرهم أن يأخذوا الزكاة من أغنيائهم ليردوها على فقرائهم، وكان الساعي أو العامل منهم يذهب، فيجمع الزكاة، ثم يتركها في موضعها، فلا يعود إلا بحلسه أو عصاه.

ومن صور هذا التكافل:

·   أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أفاء الله عليه الفيء، كان يتولى قضاء ديون من مات من المسلمين، وليس عنده وفاء، كما يتولى رعاية عياله من بعده إذا لم يكن لهم مال ولا يتركهم ضياعا, وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي من المؤمنين فترك دينا فعلي قضاؤه، ومن ترك مالا فلورثته»([6]).

·   وفي عهد أبي بكر - رضي الله عنه - حين تمردت بعض القبائل على أداء الزكاة قائلين: نصلي ولكن لا نزكي، فأبى أبو بكر إلا أن يقاتلهم كما يقاتل مدعي النبوة وأتباعهم سواء بسواء، قائلا كلمته الخالدة: «والله، لو منعوني عناقا - عنزة صغيرة - كانوا يؤدونها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها».([7]) وأجمع الصحابة معه على قتالهم، حتى أدوا الحقوق إلى أهلها.

ولم تعرف البشرية قبله حاكما، أو رئيسا يجيش الجيوش ويعلن الحرب؛ لينتزع حقوق الفقراء من براثن الأغنياء الأشحاء، بحد السيف وقوة السلاح.

·   وفي عهد عمر - رضي الله عنه - حين اتسعت الفتوح وكثرت الموارد - وسع قاعدة التكافل، ففرض لكل مولود في الإسلام نصيبا، بل شمل هذا التكافل المسلمين وغير المسلمين، كما هو معروف من سيرة الفاروق - رضي الله عنه - فقد أمر أن يفرض لشيخ يهودي عاجز من بيت مال المسلمين ما يصلحه وأهله، وجعل ذلك مبدءا له ولأمثاله من أبناء ملته، وكذلك فرض للمجذومين النصارى الذين مر بهم في طريقه إلى الشام.

4.    التسامح مع المخالفين:

في ظل شريعة الإسلام ربحت البشرية مبدءا أخلاقيا من أعظم المبادئ في العلاقات الإنسانية والدولية، هذا المبدأ هو: التسامح مع المخالفين في الدين.

وهكذا كان المسلمون حتى مع أشد الناس عداوة لهم، وحتى إبان اشتعال الحروب التي تغلب فيها عادة عواطف الغضب والغيظ على عوامل الحكمة والتعقل، يقول المؤرخ والفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون في صدر حديثه عن الفتوح الإسلامية في كتابه "حضارة العرب": "الحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا دينا سمحا مثل دينهم".

لقد احترمت الشريعة عقائد الآخرين، ورفضت الإكراه في الدين رفضا باتا، وأعلن القرآن هذه الحقيقة: )لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي( (البقرة: 256)، وخاطب الله - عز وجل - رسوله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: )أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين (99)( (يونس)؛ ولهذا قرر المؤرخون بكل يقين: أن المسلمين لم يجبروا شعبا ولا فئة من الناس على اعتناق الإسلام بحال، وقد كانوا قرونا عديدة يملكون من القوة والنفوذ ما يغريهم بذلك، لولا سلطان الشريعة فوق رؤوسهم، ووازع الإيمان في صدورهم.

وينقل غوستاف لوبون أيضا عن عدد من المؤرخين الأوربيين ما يثبت هذه الحقيقة التاريخية بكل تأكيد، فيقول: قال روبرتسون في كتابه "تاريخ شارلكن": إن المسلمين وحدهم هم الذين جمعوا بين الغيرة لدينهم، وروح التسامح نحو أتباع الأديان الأخرى، وأنهم مع امتشاقهم الحسام نشرا لدينهم، تركوا من لم يرغبوا فيه أحرارا في التمسك بتعاليمهم الدينية.

وقال ميشود في كتابه "تاريخ الحروب الصليبية": "إن القرآن الذي أمر بالجهاد متسامح نحو أتباع الأديان الأخرى، وقد أعفى البطاركة والرهبان وخدمهم من الضرائب، وحرم محمد قتل الرهبان لعكوفهم على العبادات، ولم يمس عمر بن الخطاب النصارى بسوء حين فتح القدس، في حين ذبح الصليبيون المسلمين، وحرقوا اليهود بلا رحمة وقتما دخلوها".

5.    العلماء الذين يوجهون الملوك والخلفاء:

وفي ظل شريعة الإسلام وحكمه، وجد ذلك الصنف الرائع من العلماء الأقوياء الذين يدعون إلى الله على بصيرة، ويصدعون بالحق في شجاعة، ويرفضون الدنيا في كبرياء، ويرضون بالقليل في قناعة، فكانوا دعاة الحق، وهداة الخير، ومصابيح الهدى، وحراس العدالة، وحماة الشعب، وهداة الملوك والرؤساء.

ولم تكن مكانتهم هذه لأنهم يحتكرون الوساطة بين الله وعباده، ولأنهم يقفون دون أبواب السماء، يصدرون قرارات الحرمان أو صكوك الغفران، كما يفعل رجال الكهنوت في بعض الأديان.

كلا.. وإنما كانت قوتهم ومكانتهم للعلم الذي يحملونه، والهدى الذي يمثلونه، والحق الذي يدعون إليه: )ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين (33)( (فصلت).

ذكر الغزالي في كتاب "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" من إحيائه عن الأصمعي، قال: "دخل عطاء بن أبي رباح على عبد الملك بن مروان، وهو جالس على سريره - عرشه - وحواليه الأشراف من كل بطن، وذلك بمكة في وقت حجه في خلافته، فلما بصر به عبد الملك قام إليه فأجلسه معه على السرير، وقعد بين يديه، وقال: يا أبا محمد، ما حاجتك؟ فقال: "يا أمير المؤمنين، اتق الله في حرم الله، وحرم رسوله، فتعاهده بالعمارة، واتق الله في أولاد المهاجرين والأنصار، فإنك بهم جلست هذا المجلس، واتق الله في أهل الثغور، فإنهم حصن المسلمين، وتفقد أمور المسلمين، فإنك وحدك المسئول عنهم، واتق الله فيمن على بابك، فلا تغفل عنهم، ولا تغلق بابك دونهم".

فقال له عبد الملك: أجل أفعل، ثم نهض وقام، فقبض عليه عبد الملك، فقال: يا أبا محمد، إنما سألتنا حاجة لغيرك وقد قضيناها، فما حاجتك أنت؟ فقال: "ما لي إلى مخلوق حاجة"! ثم خرج. فقال: هذا - وأبيك - الشرف.

هذا الشريف النبيل - الذي أجلسه الخليفة على سريره وقعد هو بين يديه - لم يكن قرشيا، ولا عربيا، ولا زعيم قبيلة، ولا سيدا ورث السيادة من أبيه وجده.

لقد كان مولى من الموالى، ([8]) وصفوه فقالوا: كان أسود، أعور، أفطس، ([9]) أشل، أعرج، بل زادوا على ذلك فقالوا: إن يده كانت قطعت مع ابن الزبير - خصم عبد الملك ومنازعه على الخلافة - أما أبو عطاء فقالوا: كان نوبيا يعمل المكاتل([10])!

وهذه والله إحدى أعاجيب هذا الإسلام العظيم: يرفع العبد المملوك بعلمه ودينه إلى مقام الملوك، ويجلس الأسود الأعرج بفضل إيمانه وفقهه على أسرة الخلفاء، وهم بين يديه قاعدون!

وأرسل سليمان بن عبد الملك إلى أبي حازم، فدعاه فدخل عليه فكان مما سأله: ما تقول فيما نحن فيه؟

قال: أوتعفيني؟

قال: لا بد، فإنها نصيحة تلقيها إلي.

قال: يا أمير المؤمنين، إن آباءك قهروا الناس بالسيف، وأخذوا هذا الملك عنوة من غير مشورة من المسلمين ولا رضائهم، حتى قتلوا منهم مقتلة عظيمة، وقد ارتحلوا، فلو شعرت بما قالوا وما قيل لهم؟!

فقال رجل من جلسائه: بئسما قلت!

قال أبو حازم: إن الله قد أخذ على العلماء الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه.

قال سليمان: وكيف لنا أن نصلح هذا الفساد؟

قال: أن تأخذه من حله، فتضعه في حقه.

قال سليمان: ومن يقدر على ذلك؟!

قال أبو حازم: من يطلب الجنة ويخاف من النار!

وعن سفيان الثوري - رضي الله عنه - قال: أدخلت على أبي جعفر المنصور بمنى، فقال لي: ارفع إلينا حاجتك.

فقلت له: اتق الله، فقد ملأت الأرض ظلما وجورا!

قال: فطأطأ رأسه ثم قال: ارفع إلينا حاجتك.

فقلت: حج عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم - فقال لخازنه: كم أنفقت؟

قال: بضعة عشر درهما، وأرى هنا أموالا لا تطيق الجمال حملها... وخرج.

ولعلماء الإسلام من أمثال هذه المواقف الرائعة ما لا يحصى.

6.    الفرد الحر العزيز:

ولم يقف هذا النصح والتواصي بالحق عند حد العلماء الأقوياء، بل اتسع للفرد العادي من الناس.

ففي ظل شريعة الإسلام ونظام الإسلام، تربى الفرد الحر الكريم، الذي يؤمن بربه، ويعتز بنفسه، ويشعر بكرامته، ويثق بحقه في حياة حرة آمنة عادلة، لا سلطان فيها لغير الحق، ولا سيادة فيها لغير الشرع، ولا امتياز فيها إلا بالتقوى.

كما يرى أن من واجبه النصيحة في الدين، والتواصي بالحق والصبر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, فإذا كانت بعض الفلسفات والأنظمة ترى ذلك حقا للفرد يمكنه التنازل عنه، فهو - بحكم دينه - يراه واجبا لا يجوز التفريط فيه.

إنه الفرد الذي يقول لأمير المؤمنين علانية: "لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بحد سيوفنا" غير هياب([11]) ولا وجل,([12]) وترد المرأة على الخليفة وهو يخطب فوق أعواد المنبر، لا تخاف منه ولا من أعوانه على نفسها أو قومها.

الفرد الذي يقوم لمعاوية وقد أخر العطاء عن الناس حينا، فيقول له وهو على المنبر: "إنه ليس من كدك، ولا من كد أبيك ولا من كد أمك", فلا يملك معاوية إلا أن ينزل فيدخل بيته ويغتسل ليذهب عنه الغضب ثم يعود فيقول: "صدق أبو مسلم - قائل الكلام السابق - إنه ليس من كدي، ([13]) ولا كد أبي، فهلموا إلى عطائكم".

7.    الحاكم الصالح:

وفي ظل نظام الإسلام وجد الحاكم الذي لا يحتجب عن الشعب، ولا يظلمه، ولا يستعلي عليه، بل يشاوره وينزل عند رأيه، ويسوي بين نفسه وبين أصغر واحد من رعاياه.

·   حاكم كأبي بكر - رضي الله عنهم - الذي أعلن سياسته في أول خطبة له بعد خلافته، فكان منها ما يحفظه المسلمون خاصتهم وعامتهم: "إني وليت عليكم ولست بخيركم، إن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسددوني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم".

أبو بكر - رضي الله عنه - الذي قيل له: يا خليفة الله, فخشي من هذه الإضافة إلى الله أن تفهم على غير وجهها، وقال: إنما أنا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم!

·   حاكم كعمر - رضي الله عنه - الفاروق الذي يخطب الناس ويجرؤهم على نقده وتقويمه، فيقول: "أيها الناس، من رأى منكم في اعوجاجا فيقومني", فيقول له أحد الرعية: لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بحد سيوفنا! فيقول عمر رضي الله عنه: "الحمد لله الذي جعل في المسلمين من يقوم اعوجاج عمر بحد سيفه".

·   حاكم كعلي بن أبي طالب الذي قبل معارضة الخوارج له، ما دامت معارضة فكرية سياسية، وإن كان فيها نقد لتصرفه - رضي الله عنهم - ما لم تتحول هذه المعارضة إلى عصيان مسلح يهدد أمن المسلمين ووحدتهم.

سمع علي - رضي الله عنه - أحد الخوارج يقول: "لا حكم إلا لله" - تعريضا بالرد عليه في قبول التحكيم - فقال علي رضي الله عنه: «كلمة حق أريد بها باطل! ثم قال: "لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم معنا، ولا نبدؤكم بقتال»([14]).

وهذا يدل على جواز ما يعرف في عصرنا بـ "التعددية السياسية" فإن أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - لم يعترض على وجود الخوارج، رغم أفكارهم المخالفة، بل أقر بوجودهم في المجتمع المسلم، ما لم يشهروا على الناس سيفا.

8.    حضارة العلم والإيمان:

وفي ظل شريعة الإسلام قامت حضارة زاهرة، جمعت بين العلم والإيمان، وبين الدين والدنيا, كان للعلم في هذه الحضارة مكان بارز، وسلطان مبين، ولم تعرف ما عرفته حضارات أخر من النزاع بين العلم والدين، بل كان كثير من فقهاء الدين علماء مبرزين في علوم الكون والحياة، كما كان كثير من أساطين الطب والفيزياء والرياضيات وغيرها من أكابر علماء الدين، وهل كان ابن رشد وابن خلدون إلا فقيهين وقاضيين من قضاة الشريعة الإسلامية([15]).

9.    شهادة التاريخ بروعة الفترات التي حكم فيها المسلمون بالشريعة:

إن التاريخ الصادق ينبئنا عن فترات مضيئة ما بين حين وآخر، رزق فيها المسلمون بحكام أوفياء لدينهم، صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فحكموا شرع الله، وأقاموا عدله في الأرض، ونفذوا حدوده في القريب والبعيد، ولم يخافوا في الله لومة لائم، فعزوا وسعدوا وانتصروا، وعزت بهم الأمة وسعدت وانتصرت، وكان في هذا العز والسعادة تحت سلطان هؤلاء الحكام الملتزمين بشريعة الله: أنصع برهان على صلاحية هذه الشريعة للخلود، وأن الخير كل الخير في اتباعها، والاعتصام بحبلها، والشر كل الشر في الانحراف عنها، واتباع غير سبيلها.

·   ولعل من أبرز الأمثلة التي تذكر بهذا الصدد في العهد الأموي: سيرة عمر بن عبد العزيز الذي ولي الخلافة بعد أن انحرف الحكم الأموي عن نهج الراشدين، وارتكب كثيرا من المظالم.

فما كان من عمر إلا أن أحيا العمل بالشريعة كلها، فألغى مظاهر الترف والأبهة، ورد المظالم، ومنع الفساد، وعدل في الرعية، وقسم بالسوية، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، فلم تمض ثلاثون شهرا - هي كل مدة خلافته - حتى عم الرخاء والازدهار، وساد الإخاء والاستقرار، وانمحى الفقر من بين الناس.

فعن عمر بن أسيد قال: "إنما ولي عمر بن عبد العزيز ثلاثين شهرا، لا والله ما مات حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم، فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء، فما يبرح حتى يرجع بماله، يتذكر من يضعه فيه فلا يجده، قد أغنى عمر الناس"([16]).

·   وفي العهد العباسي نجد خليفة كهارون الرشيد يبلغ ملكه من السعة والعظمة ما جعله يخاطب السحابة في السماء قائلا: شرقي أو غربي وأمطري حيث شئت، فسيأتيني خراجك!

فإذا تأملنا سيرة هذا الخليفة وجدناه - كما حكى الطبري وغيره من المؤرخين - يغزو عاما، ويحج عاما، ويصاحب العلماء والأولياء ويحاورهم، ويبكي لمواعظهم، "كالفضيل بن عياض"، "وابن السماك"، "والعمري"، ويحافظ على أوقات الصلوات، ويشهد الصبح في أول وقتها، ويكثر من صلاة التطوع، حتى قيل: إنه يصلي في اليوم مائة ركعة، ويقوم بما يجب لمنصب الخلافة من الدين والعدالة.

وقد دافع ابن خلدون عن الرشيد في مقدمته، وكذب أولئك المتخرصين الذين زعموا زورا أنه كان يسكر أو يعاقر الخمر، وقال: حاش لله، ما علمنا عليه من سوء.

ومما استند إليه ابن خلدون: أنه نشأ في أسرة دينية، وبيئة إسلامية خالصة، قال: ولم يكن بينه وبين جده أبي جعفر بعيد زمن، إنما خلفه غلاما، وقد كان أبو جعفر بمكان من العلم والدين قبل الخلافة وبعدها، وهو القائل لمالك حين أشار عليه بتأليف الموطأ: "يا أبا عبد الله، إنه لم يبق على وجه الأرض أعلم مني ومنك، وإني قد شغلتني الخلافة، فضع أنت للناس كتابا ينتفعون به، تجنب فيه رخص ابن عباس، وشدائد ابن عمر، ووطئه للناس توطئة"، قال مالك: فوالله لقد علمني التصنيف يومئذ.

وقد أدركه ابنه المهدي - أبو الرشيد هذا - وهو يتورع عن كسوة الجديد لعياله من بيت المال، ودخل عليه يوما وهو بمجلسه يباشر الخياطين في إرقاع الخلقان([17]) من ثياب عياله، فاستنكف المهدي من ذلك، وقال: يا أمير المؤمنين، علي كسوة العيال عامنا هذا من عطائي، قال له: لك ذلك، ولم يصده عنه، ولا سمح له بالإنفاق من مال المسلمين.

يقول ابن خلدون: فكيف يليق بالرشيد على قرب العهد من هذا الخليفة، وما ربي عليه من أمثال هذه السير في أهل بيته والتخلق بها - أن يعاقر الخمر أو يجاهر بها؟!

وإن فيما كتبه الإمام أبو يوسف في كتابه "الخراج" لهذا الخليفة الجليل - ليهتدي به، ويسير على أحكامه في الشئون المالية، وما وعظه به في مطلع كتابه - لدليلا ناصعا على ما للشريعة وقيمها وأحكامها من مكانة عليا في نفسه، وفي حياته كلها.

والشاهد هنا: أن كل خليفة أو ملك أو سلطان عظيم في تاريخ الإسلام لم تكن عظمته إلا بمقدار صلته بهذه الشريعة الإسلامية، وحسن قيامه عليها.

·   وحسبنا أن نذكر من عظماء السلاطين والأمراء هنا، ممن حقق الله على أيديهم الخير للمسلمين، وكتبهم التاريخ في سجل الخالدين، السلطان نور الدين محمود الملقب بالشهيد، الذي أحيا الله به سنة الراشدين، وأقام به معالم الدين، وقهر بسيفه الصليبيين.

ذكر الحافظ المؤرخ أبو شامة المقدسي في كتابه المسمى "أزهار الروضتين في أخبار الدولتين": أن نور الدين الشهيد لما ولي الحكم، كانت البلاد على أسوأ الأحوال من كل ناحية، ففكر عقلاء الدولة فيما يجب السير عليه في إصلاح شئون البلاد، وارتأوا أن مجرد تنفيذ أحكام الشرع عند ثبوت إجرام المجرمين ثبوتا شرعيا لا يكفي في قمعهم، فلا بد من أخذهم بأحكام قاسية سياسية حتى يستتب الأمن، وتصلح الأحوال، فرجوا العالم الصالح الشيخ عمر الملا الموصلي لما له من المنزلة السامية عند نور الدين قبل توليه الملك لعلمه ودينه، أن يوصل إلى مسامع الملك ذلك الرأي الحصيف - في ظنهم -، فقبل رجاءهم، وكتب إلى نور الدين يوصيه بالضرب على الأيدي الآثمة بأحكام صارمة، بدون انتظار إلى ثبوت إجرامهم ثبوتا شرعيا.

وبعد أن قرأ الملك توصية الشيخ كتب على ظهرها بيده الكريمة ما معناه: "حاشا أن أجازي أحدا بجرم قبل أن يثبت جرمه ثبوتا شرعيا، وحاشا أن أتهاون في عقوبة مجرم ثبت جرمه ثبوتا شرعيا، ولو جريت على ما رسمته التوصية لي لكنت كمن يفضل عقل نفسه على علم الله عز وجل، ولو لم يكن هذا الشرع كافيا في إصلاح شئون العباد لما بعث به خاتم رسله", وأعادها إلى الشيخ.

ولما اطلع الشيخ على هذا التوقيع الملكي الحازم، بكى بكاء مرا وقال: يا للخيبة، كان الواجب علي أن أقول ما قاله الملك! فانقلبت الأوضاع، وانعكس الأمر.

فتاب من توصيته أصدق توبة، وجرى الملك في تسيير الأمور على ما رسمه الشرع حرفا فحرفا فصلحت البلاد، وزال الفساد، في مدة يسيرة، وأصبحت تلك الأصقاع بحيث لو سافرت غادة حسناء وحدها، ومعها أثمن الجواهر والأحجار الكريمة من أقصى البلاد إلى أقصاها، ما حدثت أحدا نفسه أن يمسها بسوء لا في مالها ولا في عرضها.

وقد اكتظت كتب التاريخ بما تم على يد هذا الملك الصالح من الإصلاحات العظيمة، بعد تطهيره أرض الشام ومصر من عدوان أهل الصليب، حتى ألحق بالخلفاء الراشدين بسيرته الرشيدة".

·   ومثل الشهيد "نور الدين محمود" تلميذه وخريجه السلطان "صلاح الدين الأيوبي" الذي حقق الله على يديه النصر على الصليبيين في معركة "حطين" الشهيرة، والذي فتح القدس، واستردها من أيدي الغزاة الأوربيين، بعد أن دامت في أيديهم تسعين عاما.

لقد حرص صلاح الدين على إحياء الأحكام الشرعية والسنة النبوية، بعد أن عاث العبيديون - المسمون بالفاطميين - فسادا في كل شيء، فكانوا يمنعون أهل السنة من قراءة الحديث، حتى اضطر بعض المحدثين إلى مغادرة مصر، وكانوا يكافئون الناس على لعن الصحابة، ويقولون: "من لعن وسب، فله دينار وإردب".. إلى آخر ما ابتدعوا في دين الله، وأفسدوا في دنيا الناس.

أما صلاح الدين، فقد أحيا السنة، حتى إنه اصطحب معه من العلماء من يدرس له صحيح البخاري وهو في المعمعة، وفي قلب الميدان.

ومما يذكر لصلاح الدين - رحمه الله - أن أحد رجاله المتميزين عنده، استعداه يوما على رجل غشه في معاملة، فما كان من السلطان المؤمن إلا أن قال له: "ما عسى أن أصنع لك، وللمسلمين قاض يحكم بينهم؟! والحق الشرعي مبسوط للخاصة والعامة، وأوامره ونواهيه ممتثلة، وإنما أنا عبد الشرع وشحنته، فالحق يقضي لك أو عليك"!

ومعنى عبارة السلطان: أنه ليس إلا منفذا لحكم الشرع كالشحنة - وهو صاحب الشرطة - وأن القضاة مستقلون بالحكم؛ لأنهم يحكمون بالشرع العادل المساوي بين الناس, وبهذا الالتزام والتمسك بالشريعة كتب صلاح الدين في سجل الخالدين، وعظماء التاريخ، وأقر بفضله العدو والصديق([18]).

إن الذين يعارضون تطبيق الشريعة الإسلامية بحجة أن هذا ينافي مبدأ الحرية لغير المسلمين - وهو مبدأ مقرر دوليا وإسلاميا - يناقضون أنفسهم؛ لأنهم نسوا أو تناسوا أمرا أهم وأخطر، وهو أن الإعراض عن الشرع الإسلامي من أجل غير المسلمين - وهم أقلية - يتنافى مع مبدأ حرية المسلمين في العمل بما يوجبه عليهم دينهم - وهم أكثريةـ.

فإذا تعارض حق الأقلية وحق الأكثرية فأيهما نقدم؟

إن منطق الديمقراطية - التي يؤمنون بها ويدعون إليها - أن يقدم حق الأكثرية على حق الأقلية, هذا هو السائد في كل أقطار الدنيا، فليس هناك نظام يرضى عنه كل الناس، فالناس خلقوا متفاوتين مختلفين، ويكفي نظام ما أن ينال قبول الأكثرين ورضاهم, بشرط ألا يحيف على الأقلين ويظلمهم، ويعتدي على حرماتهم، فليس على المسيحيين حرج في التنازل عن حقهم لمواطنيهم المسلمين ليحكموا أنفسهم بدينهم، وينفذوا شريعة ربهم([19])، ما دامت هذه الشريعة تضمن لهم حقوقهم.

ولو لم تفعل الأقلية ذلك لكان معنى هذا أن تفرض هذه الأقلية ديكتاتورية على الأكثرية، وأن يتحكم مثلا عشرة ملايين أو أقل في سبعين مليون أو أكثر، هذا ما لا يقبله منطق ديني ولا علماني.

ثانيا. الإسلام دين السماحة، ولا يفرض عقيدته على غيره:

إن الإسلام يقرر في وضوح مبدأ حرية الاعتقاد، وأنه بعيد بعد السماء عن الأرض من فرض عقيدته على الناس بقوة السلاح، وسفك الدماء، وأنه لا يصادر حرية أحد، ولا يحجر عليه في قول أو فعل كل ما هنالك أنه يتصدى للباطل في أي لون كان، ويكشف عوره، ويبين زيفه ويدعو إلى الحق في أي مجال كان، فيزيل ما حوله من شبهات ويجليه للرأي العام أبلق ناصعا، ثم يترك للناس حرية الإقبال عليه أو الإعراض عنه مع تبشير المؤمنين بحسن المصير، وإنذار الرافضين بسوء المصير.

وسنورد شواهد وبراهين من آيات الكتاب العزيز على تقرير مبدأ حرية الاعتقاد في القرآن الكريم، مع ضوابط لا بد منها تتعلق بهذا المبدأ الحيوي العظيم؛ حتى لا يلتبس الحق بالباطل، ويصير من كفر كمن آمن مبدءا ومصيرا.

ذلك أننا حين نقول إن كتاب الإسلام الأول (القرآن)، أقر مبدأ حرية الاعتقاد، فإن هذا القول صحيح.. صحيح، ولكن هذه الحرية مقصورة على الحياة الدنيا، أما في الآخرة، فإن الحال مختلفة، فلن يجعل الله من كفر كمن آمن، فلكل منهما عند الله جزاء وفاق، ومصير عادل.

ولك أن تقول - وأنت مصيب - إن تقرير مبدأ حرية الاعتقاد في الدنيا، إنما هو بالنظر إلى سلطة الناس بعضهم على بعض، فليس من حق أحد - حاكما كان أو محكوما - أن يجبر أحدا على اعتناق أية عقيدة، فلكل إنسان أن يعتقد ما يحلو له، وليس لأحد عليه سلطة الإجبار، لا بسلاح ولا بغير سلاح من وسائل القهر والقمع والاضطهاد.

كل هذه الوسائل لا يقر الإسلام استعمالها ضد أحد كائنا من كان لتفرض عليه عقيدة وإن كانت عقيدة الإسلام؛ لأن ذلك ينافي مبدأ التكليف الحر النابع من حسن الاقتناع بعد سوق البراهين عليه.

ولأن العقيدة محلها القلوب ووسيلتها الإقناع، والقلوب لا سلطان لأحد عليها إلا لله علام الغيوب، هذه الاعتبارات يقدرها الإسلام حق قدرها، ولذلك كان من أصوله الخالدة عدم الإكراه في الدين.

ومن الضوابط المتعلقة بحرية الاعتقاد في الإسلام بعد التفرقة التي أشرنا إليها بين ذوي الاعتقاد الصحيح، وذوي الاعتقاد الفاسد في الآخرة، بأن لكل منهم جزاء ومصيرا - عند الله - فإن الله - عز وجل - يفرق بينهما في الحياة الدنيا، فيخص ذوي الاعتقاد الصحيح بلطائفه وإحساناته وتوفيقه، ويحييهم حياة طيبة إذا قرنوا صحة اعتقادهم بالعمل الصالح، ثم يدخلهم روضات الجنات هم فيها يحبرون، ويذر ذوي الاعتقاد الفاسد في طغيانهم يعمهون، تقتلهم الأوهام، ويستحوذ عليهم الشيطان، ثم يكونوا حصب([20]) جهنم هم فيها خالدون، ومعلوم أن هذه التفرقة ليست لأحد إلا لله.

على هذه الاسس ينبغي أن يفهم مبدأ حرية الاعتقاد في الإسلام وعليها ندير الحديث في السطور الآتية:

·       من شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر:

إن من أوضح النصوص القرآنية دلالة على حرية الاعتقاد في الإسلام - في إطار الضوابط التي ذكرناها - قول الحق عز وجل: )وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا (29)( (الكهف).

ومن إخلاص النصح والتوجيه القرآني أن في هذه الآية الناطقة بكل وضوح بتقرير مبدأ حرية الاعتقاد بين الإيمان والكفر، لوحت مرة وصرحت أخرى أن الإيمان والكفر ليسا سواء.

أما التلويح؛ فحيث قدمت مشيئة الإيمان لشرفه على مشيئة الكفر لخسته.

وأما التصريح؛ فقد عقبت الحديث عن اختيار الكفر بالتنفير منه؛ حيث ذكرت مصير الكافرين في الحياة الآخرة,حيث أعد الله لهم نارا أحاط بهم سورها إحاطة الظرف بالمظروف، فلا مخرج منها ولا مفر: )كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق (22)( (الحج).

وإن طلبوا الإغاثة من حرها بما يبرد أكبادهم، ويذهب لظى([21]) أحشائهم جاءهم الغوث، ([22]) ولكن بغير ما أرادوا: ماء حار قبيح اللون، إذا وضعوه على أفواههم ليشربوه شوى وجوههم وجلودهم، فإذا وصل إلى أجوافهم قطع أمعاءهم, وضاعف شقاءهم, فبئس هو شرابا، وساء هو رفيقا: )وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم (15)( (محمد). أما الماء العذب الزلال([23]) فهم محرومون منه، وهو محرم عليهم: )ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين (50)( (الأعراف).

وظاهر من سياق آية الكهف أن القرآن حريص كل الحرص - وهو يقرر مبدأ حرية الاعتقاد - أن يؤكد أن هذه الحرية ليست مستوية الطرفين، وفي هذا إخلاص في النصح والتوجيه، وأمانة في البلاغ والإبلاغ، لئلا تكون هذه الحرية المقصورة على الحياة الدنيا سببا في هلاك فريق من العباد، يرون أن الإيمان والكفر سيان في ميزان العدل الإلهي محيا ومماتا, ولكن مع بيان هذه التفرقة بينهما يتحمل كل إنسان نتائج اختياره في الدنيا والآخرة، فمن سعيد بما كسب، وشقي بما اكتسب، وما الله بظلام للعبيد: )من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد (46)( (فصلت)، وهذا هو منتهى العدل والإنصاف([24]).

وقد اتهم الحكم الإسلامي بالتعصب الديني، والحيف على الفئات الأخرى، التي تعيش في ظل دولته وفي كنف سلطانه,وهو اتهام ظالم، ليس له أساس من شريعة الإسلام ولا من تاريخه.

وحسبنا من شريعة الإسلام قول الله عز وجل: )لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8) إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون (9)( (الممتحنة).

والخلط يقع دائما بين الذين نهى الله عن توليهم؛ لأنهم عادوا المسلمين، وآذوهم وأعانوا عليهم، وبين الذين رغب الله في برهم والإقساط إليهم؛ لأنه يحب المقسطين.

وإذا كانت هاتان الآيتان نزلتا في شأن المشركين، كما هو مبين في أسباب نزول السورة - الممتحنة - فإن لأهل الكتاب منزلة خاصة في اعتبار الإسلام، فقد أباح القرآن مؤاكلتهم ومصاهرتهم، أي اعتبر ذبيحتهم حلالا، كذبيحة المسلم على حين حرم ذبيحة الملحد والوثني، وأجاز للمسلم أن يتزوج كتابية عفيفة كما قررت ذلك سورة المائدة، ومعنى هذا أنه أباح للمسلم أن تكون ربة بيته وشريكة حياته، وأم أولاده كتابية، وأن يكون أصهاره وأخوال أولاده وخالاتهم وأجدادهم وجداتهم من أهل الكتاب، وهذا ذروة التسامح.

وقد أطلق الإسلام على اليهود والنصارى الذين يعيشون في كنف دولته اسمين يوحيان بمعان كريمة سامية:

·   اسم "أهل الكتاب" إشارة إلى أنهم في الأصل أصحاب كتاب سماوي، وهذه التسمية لسائر اليهود والنصارى، وإن لم يعيشوا في دار الإسلام.

·   اسم "أهل الذمة" إيماء بأن لهم ذمة الله وذمة رسوله: أي عهد الله، وعهد رسوله ألا يؤذوا ولا تهدر حقوقهم، أو تخدش حرماتهم، وهذا الاسم خاص بالذين يعيشون في ظل سلطان الإسلام.

وفي الحديث الشريف: «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما». ([25]) والمعاهد يشمل من له عهد مؤقت بأمان ونحوه وهو المستأمن، ومن له عهد مؤبد وهو الذي عهده أوثق وأوكد، وهو الذمي.

وفي حديث آخر: «من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفسه، فأنا حجيجه يوم القيامة»([26]).

ولقد شهد بهذه الحقيقة - حقيقة سماحة الإسلام مع ديانات شعوب البلاد التي دخلت في دولة الإسلام - التاريخ والمؤرخون، وغير المسلمين منهم قبل المسلمين, فهذا الفتح الإسلامي هو الذي أنقذ المسيحية الشرقية من الإبادة والزوال، حتى ليمكن أن نقول - دون مبالغة - إن بقاء هذه المسيحية الشرقية حتى الآن إنما هو هبة الإسلام وسماحة الإسلام.

فعمرو بن العاص - رضي الله عنه - هو الذي أمن البطريرك المصري "بنيامين" على حريته، وأعاده إلى شعبه بعد ثلاثة عشر عاما من الهرب والاختفاء عن أعين الرومان,وهو الذي حرر كنائس نصارى مصر وأديرتهم من الاغتصاب الروماني، لا ليجعلها مساجد، وإنما ليردها لأصحابها النصارى يتعبدون فيها بحرية للمرة الأولى في تاريخ النصرانية المصرية, ومع تحرير الأرض والكنائس والأديرة حرر عمرو بن العاص - رضي الله عنه - لأنه مسلم - ضمائر الشعوب التي أدخلتها الفتوحات في دولة الإسلام لأول مرة في تاريخ نصرانية تلك الشعوب, بعد أن كان الرومان يقدمونهم طعاما للنيران والأسود!

شهادات نصرانية على سماحة الإسلام:

وإذا كانت نجاة النصرانية الشرقية من الإبادة الرومانية هي الشاهد المادي الأصدق على حقيقة السماحة الإسلامية، فإن المؤرخين النصارى - من الشرق والغرب، القدماء والمحدثين - قد شهدوا هم أيضا لهذه السماحة الإسلامية.

·   ففي أقدم كتب التاريخ النصرانية حديث عن سماحة عمرو بن العاص - رضي الله عنه - مع نصارى مصر، وكيف أن تحرير الإسلام لهم من قهر الرومان، وهزيمة الاستعمار الروماني بمصر على يد الجيش الإسلامي الفاتح إنما كان انتقاما إلهيا من ظلم الرومان لمصر واضطهادهم لنصارى مصر, ففي تاريخ "يوحنا النقيوسي" وهو معاصر للفتح وشاهد عليه:

"إن الله الذي يصون الحق لم يهمل العالم، وحكم على الظالمين، ولم يرحمهم لتجرئهم عليه، وردهم إلى يد الإسماعيليين (العرب المسلمين)، ثم نهض المسلمون وحازوا كل مدينة في مصر, وكان هرقل حزينا, وبسبب هزيمة الروم الذين كانوا في مدينة مصر، وبأمر الله الذي يأخذ أرواح حكامهم مرض هرقل ومات, وكان عمرو بن العاص - رضي الله عنه - يقوى كل يوم في عمله، ويأخذ الضرائب التي حددها، ولم يأخذ شيئا من مال الكنائس، ولم يرتكب شيئا ما سلبا أو نهبا، وحافظ عليها (الكنائس) طوال الأيام".

إنها شهادة شاهد عيان نصراني على هذه السماحة الإسلامية التي تجسدت على أرض الواقع. ومتى؟ قبل أربعة عشر قرنا من الزمان. وهي سماحة نابعة من الدين الإسلامي، وليست كحقوق المواطنة التي لم تعرفها المجتمعات العلمانية إلا على أنقاض الدين.

وبعدما استقبل عمرو بن العاص - رضي الله عنه - البطريرك القبطي "بنيامين"، وأمنه على نفسه وكنائسه ورعيته وحرية عقيدته، بل وطلب منه أن يدعو له، أخذ "بنيامين" في زيارة كنائسه وفي إعادة افتتاحها، وكان الناس يستقبلونه فرحين، مرددين العبارات التي تشهد على أن هذا الفتح الإسلامي إنما هو عقاب إلهي للرومان جزاء الظلم الذي أوقعوه بالنصارى المصريين.

وعن هذه الحقيقة من حقائق سماحة التحرير الإسلامي لشعوب الشرق يقول الأسقف "يوحنا النقيوسي" في أقدم تاريخ للفتح الإسلامي لمصر, كتبه شاهد عيان: " ودخل الأنبا بنيامين بطريرك المصريين مدينة الإسكندرية، بعد هربه من الروم في العام 13 - أي العام الثالث عشر من تاريخ هروبه - وسار إلى كنائسه، وزارها كلها، وكان كل الناس يقولون: هذا النفي، وانتصار الإسلام، كان بسبب ظلم هرقل الملك، وبسبب اضطهاد الأرثوذكسيين([27]) على يد البابا "كيرس" - البطريرك المعين من قبل الدولة الرومانية في مصر - وهلك الروم لهذا السبب، وساد المسلمون مصر".

ولقد عبر الأنبا "بنيامين" عن الأمان الذي أحلته سماحة الإسلام بمصر على أنقاض القهر والاضطهاد اللذين مارسهما الرومان (النصارى)، ضد نصارى مصر، فقال وهو يخطب في دير "مقاريوس": "لقد وجدت في الإسكندرية زمن النجاة والطمأنينة اللتين كنت أنشدهما بعد الاضطهادات والمظالم التي قام بتمثيلها الظلمة المارقون".

·   أما رجل الدين المسيحي - القبطي - "ميخائيل السرياني" فإنه يقول عن تحرير الفتح الإسلامي للنصرانية المصرية، وعن سماحة الإسلام مع نصارى مصر:

"لم يسمح الإمبراطور الروماني لكنيستنا المونوفيزيقية (القائلة بالطبيعة الواحدة للمسيح) بالظهور، ولم يصغ إلى شكاوى الأساقفة فيما يتعلق بالكنائس التي نهبت، ولهذا فقد انتقم الرب منه، لقد نهب الرومان الأشرار كنائسنا وأديرتنا بقسوة بالغة واتهمونا دون شفقة، ولهذا جاء إلينا أبناء إسماعيل - من الجنوب - لينقذونا من أيدي الرومان، وتركنا العرب نمارس عقائدنا بحرية، وعشنا في الإسلام".

تلك شهادات شهود العيان ورجال الدين النصارى تقول: إن الفتوحات الإسلامية كانت "الإنقاذ" لشعوب تلك البلاد ودينهم من القهر الروماني، وإن سماحة الإسلام كانت آية من آيات الله، انتقم الله بها من مظالم الرومان، حتى لقد اعتبروا مرض هرقل وموته، وزوال الإمبراطورية الشرقية للرومان، و"سيادة الإسلام" في مصر والشرق آية من آيات الله.

·   أما المستشرق الإنجليزي الحجة "سير توماس أرنولد" (1864 - 1930م)، وهو من أبرز من أرخ لانتشار الإسلام في كتابه "الدعوة إلى الإسلام" فإنه يؤكد على حقيقة السماحة الإسلامية فيقول: "إنه من الحق أن نقول: إن غير المسلمين نعموا - بوجه الإجمال - في ظل الحكم الإسلامي بدرجة من التسامح، لا نجد لها معادلا في أوربا قبل الأزمنة الحديثة، وإن دوام الطوائف المسيحية في وسط إسلامي يدل على أن الاضطهادات التي قاست منها بين الحين والآخر على أيدي المتزمتين والمتعصبين، كانت من صنع الظروف المحلية أكثر مما كانت عاقبة مبادئ التعصب وعدم التسامح".

·   بل لقد زحف رهبان النصرانية المصرية من الأديرة والمغارات التي كانوا هاربين فيها من الاضطهاد الروماني, زحفوا للقاء عمرو بن العاص - رضي الله عنه - حتى ليروى أنه خرج للقائه من أديرة وادي النطرون سبعون ألف راهب، بيد كل واحد عكاز، فسلموا عليه، وأنه كتب لهم كتابا (بالأمان) هو عندهم.

·   وفي شهادة قبطية حديثة تأكيد على سماحة الإسلام مع نصارى مصر، في شئون الدين والدنيا جميعا، وفيها يقول "يعقوب نخلة" (1847 - 1905م)، صاحب كتاب "تاريخ الأمة القبطية": "ولما ثبت قدم العرب في مصر، شرع عمرو بن العاص في تطمين خواطر الأهليين واستمالة قلوبهم إليه، واكتساب ثقتهم به، وتقريب سراة القوم وعقلائهم منه، وإجابة طلباتهم.

وأول شيء فعله من هذا القبيل: استدعاء «بنيامين» البطريرك، الذي اختفى من أيام هرقل ملك الروم، فكتب أمانا أرسله إلى جميع الجهات يدعو فيه البطريرك للحضور، ولا خوف عليه ولا تثريب، ولما حضر وذهب لمقابلته ليشكره على هذا الصنيع، أكرمه وأظهر له الولاء، وأقسم له بالأمان على نفسه وعلى رعيته، وعزل البطريرك الذي كان أقامه هرقل، ورد «بنيامين» إلى مركزه الأصلي معززا مكرما, وكان «بنيامين» موصوفا بالعقل والمعرفة والحكمة، حتى سماه بعضهم «بالحكيم».. وقيل: إن عمرا لما تحقق ذلك منه، قربه إليه، وصار يدعوه في بعض الأوقات ويستشيره في الأحوال المهمة المتعلقة بالبلاد وخيرها، وقد حسب النصارى هذا الالتفات منة عظيمة وفضلا جزيلا لعمرو.

واستعان عمرو بفضلاء القبط وعقلائهم في تنظيم حكومة عادلة تضمن راحة الأهالي، فقسم البلاد إلى أقسام، يرأس كلا منها حاكم قبطي ينظر في قضايا الناس ويحكم بينهم، ورتب مجالس ابتدائية واستئنافية مؤلفة من أعضاء ذوي نزاهة واستقامة، وعين نوابا من القبط ومنحهم حق التدخل في القضايا المختصة بالأقباط والحكم فيها بمقتضى شرائعهم الدينية والأهلية، وكانوا بذلك في نوع من الحرية والاستقلال المدني، وهي ميزة كانوا قد جردوا منها في أيام الدولة الرومانية.

وضرب عمرو بن العاص الخراج على البلاد بطريقة عادلة, وجعله على أقساط في آجال معينة، حتى لا يتضايق أهل البلاد.

وبالجملة، فإن النصارى نالوا في أيام عمرو بن العاص راحة لم يروها من أزمان.

هكذا تعلن هذه الشهادة القبطية التي نشرتها في طبعتها الثانية (مؤسسة مار مرقس لدراسة التاريخ)، أن الفتح الإسلامي والسماحة الإسلامية قد حررا الأرض والضمير - والإنسان - فأصبحت حكومة مصر لنصارى مصر لأول مرة في تاريخ النصرانية المصرية، كما صكت السماحة الإسلامية العدل في الاقتصاد والاجتماع، وجعلت الحاكمية لشرائع القبط الدينية والأهلية فيما هو خاص بأحوالهم الدينية التي تركوا فيها وما يدينون.

وحتى يحافظ الأقباط على نعمة هذا التحرير وهذه السماحة الإسلامية، فلقد هبوا عندما عاد الرومان إلى احتلال الإسكندرية سنة 25هـ/646م ـــ في عهد الراشد الثالث عثمان بن عفان - رضي الله عنه - هبوا إلى القتال مع الجيش المسلم ضد الرومان النصارى، وطلبوا من الخليفة إعادة عمرو بن العاص لقيادة المعركة فعاد إلى مصر، واستخلص الإسكندرية ثانية من أيدي الرومان, وبعبارة صاحب كتاب "تاريخ الأمة القبطية":

"فإن المقوقس والقبط تمسكوا بعهدهم مع المسلمين، ودافعوا عن المدينة "الإسكندرية" ما استطاعوا، واجتمعت كلمة القبط والعرب على أن يطلبوا من الخليفة أن يأذن لعمرو بن العاص في العودة إلى مصر لمقاتلة الروم لتدربه على الحرب وهيبته في عين العدو، فأجاب الخليفة طلبهم، وكان القبط يحاربون مع العرب، ويقاتلون الروم خوفا من أن يتمكنوا من البلاد ويأخذونها فيقع الأقباط في يدهم مرة أخرى.

وفي شهادة لمؤرخ نصراني معاصر هو د. جاك تاجر (1336هـ - 1371هـ/1918م - 1952م) يقول: "فإن الأقباط قد استقبلوا العرب كمحررين، بعد أن ضمن لهم العرب - عند دخولهم مصر - الحرية الدينية، وخففوا عنهم الضرائب, ولقد ساعدت الشريعة الإسلامية الأقباط على دخولهم الإسلام وإدماجهم في المجموعة الإسلامية، بفضل إعفائهم من الضرائب, أما الذين ظلوا مخلصين للمسيحية فقد يسر لهم العرب سبل كسب العيش؛ إذ وكلوا لهم أمر الإشراف على دخل الدولة".

وهذه السماحة الإسلامية التي تحدثت عنها هذه الشهادات النصرانية الشرقية، والتي أكدت وتؤكد أن هذه السماحة لم تقف فقط عند "الدين" وإنما امتدت لتترك جهاز الدولة أيضا لأهل البلاد, قد شهد بحقيقتها المستشرق الألماني آدم متز (1869 - 1917م)، عندما قال: "لقد كان النصارى هم الذين يحكمون بلاد الشام، وحتى فترات التوتر الديني والطائفي التي شهدها التاريخ الإسلامي بين المسلمين وغير المسلمين التي ما كان متصورا لهذا التاريخ الطويل أن يخلو منها فإن سماحة الإسلام قد ظلت بريئة منها وذلك بشهادة المؤرخين الثقات من غير المسلمين، والذي يقول واحد منهم وهو المؤرخ الاجتماعي اللبناني: "جورج قرم" عن أسباب هذا التوتر الطائفي الذي كان عابرا كسحب الصيف في سماء ذلك التاريخ الطويل يقول هذا المؤرخ النصراني: "إن فترات التوتر والاضطهاد لغير المسلمين في الحضارة الإسلامية كانت قصيرة يحكمها ثلاثة عوامل:

1.  مزاج الخلفاء الشخصي فأخطر اضطهادين تعرض لهما الذميون وقعا في عهد المتوكل العباسي (206 - 247هـ/ 821 - 861م" الخليفة الميال بطبعه إلى التعصب والقسوة، وفي عهد الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله (375 - 411هـ/985 - 1021م)، الذي غالى في التصرف معهم بشدة.

2.  تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لسواد المسلمين والظلم الذي يمارسه بعض الذميين المعتلين لمناصب إدارية عالية، فلا يعسر أن ندرك صلتهما المباشرة بالاضطهادات التي وقعت في عدد من الأمصار.

3.  مرتبط بفترات التدخل الأجنبي في البلاد الإسلامية، وقيام الحكام الأجانب بإغراء واستدراج الأقليات الدينية غير المسلمة إلى التعاون معهم ضد الأغلبية المسلمة.

إن الحكام الأجانب بمن فيهم الإنجليز لم يحجموا عن استخدام الأقلية القبطية في أغلب الأحيان ليحكموا الشعب ويستنزفوه بالضرائب، وهذه ظاهرة نلاحظها في سوريا أيضا حيث أظهرت أبحاث "جب" (1895 - 1971م)، "بوالياك": كيف أن هيمنة أبناء الأقليات في المجال الاقتصادي أدت إلى إثارة قلاقل دينية خطيرة بين النصارى والمسلمين في دمشق سنة 1860م، وبين الموارنة والدروز في جبال لبنان سنة 1840م وسنة 1860م، ونهايات الحملات الصليبية قد أعقبتها في أماكن عديدة أعمال ثأر وانتقام ضد الأقليات المسيحية، لا سيما الأرمن الذين تعاونوا مع الغازي.

بل إنه كثيرا ما كان موقف أبناء الأقليات أنفسهم من الحكم الإسلامي - حتى عندما كان يعاملهم بأكبر قدر من التسامح - سببا في نشوب قلاقل طائفية, فعلاوة على غلو الموظفين الذميين في الابتزاز، وفي مراعاتهم وتحيزهم إلى حد الصفاقة أحيانا لأبناء دينهم, ما كان يندر أن تصدر منهم استفزازات طائفية بكل معنى الكلمة.

تلك هي السماحة الإسلامية: كما تجلت في القرآن الكريم، وفي البيان النبوي للبلاغ القرآني، وكما تجسدت في المواثيق الدستورية، وفي الحياة العملية، والواقع المعيش للدولة الإسلامية في العهد النبوي والخلافة الراشدة، وعبر تاريخ الإسلام والحضارة الإسلامية، وكما شهدت بها المصادر التي كتبها المؤرخون الثقات من النصارى الشرقيين والغربيين القدماء منهم والمحدثين والمعاصرين، الذين تعمدنا الاعتماد على شهاداتهم - هم وحدهم - دون شهادة المؤرخين المسلمين، وذلك عملا بمنهاج "وشهد شاهد من أهلها" على هذه السماحة الإسلامية التي تفرد بها الإسلام، والتي لا نظير لها خارج إطار الإسلام"([28]).

وحول وضع الأقباط في مصر وحالة تطبيق الشريعة الإسلامية ننقل كلاما للمفكر المسلم المستشار طارق البشري؛ إذ يقول: "من نقاط التماس في العلاقة بين المسلمين والأقباط موضوع المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية، وفي هذه المسألة هناك أمور يجب أن تجلى بدقة ووضوح، فإن تطبيق الشريعة الإسلامية هدف يطمح إليه كثير من المواطنين، وهو هدف تسعى إليه الحركات السياسية الإسلامية، وهو حكم في الدستور، حكم نص أولا على أن دين الدولة هو الإسلام، ثم ارتقى بالنص إلى اعتبار الشريعة الإسلامية مصدرا للتشريع، ثم ارتقى إلى اعتبارها المصدر الرئيسي وحتى الآن لم يجد هذا الحكم مجالا له في التطبيق.

وأن ما يشيع من قلق لدى الأقباط في هذه النقطة يتعين مواجهته من زاويتين، فمن الزاوية الأولى: من حق الأقباط كمواطنين أن يؤمنوا على مركزهم القانوني وحقوقهم ومستقبلهم، وأن تبسط وجهة النظر الإسلامية في ذلك.

وأن تجري التفرقة الدقيقة بين أحكام الشريعة الإسلامية من حيث هي أحكام ثابتة بالقرآن والسنة الصحيحة، وتمثل وضعا إلهيا ثابتا على مدى الزمان، وبين الآراء الفقهية الاجتهادية التي يؤخذ منها ويترك، ويمكن أن تتعدل بمراعاة تغير الزمان والمكان، وهذه النقطة مجال سعي فكري وفقهي دؤوب ومخلص ومثمر، ومن حق الجميع بموجب المواطنة أن يتحاوروا في هذه الأحكام التطبيقية، لنصل إلى الصيغة التي تستوعب كل إيجابيات تاريخنا ومنجزاته، ومن أهم هذه المنجزات إقرار المساواة بين المصريين جميعا.

وبعد الإقرار بهذا الجانب وضمانه، لا تقوم "حجة قبطية" في وجه تطبيق الشريعة الإسلامية، إلا أن تقوم على أساس طائفي ضيق يعلي المصلحة الخاصة على غيرها، وأي دعوة لأي جماعة تتقلص في إطار مصلحة خاصة لها لا تراعي الأوضاع العامة، يتعين أن تواجه بما يمليه الصالح العام، وحق الأغلبية في التقرير مع ضمان المساواة والمشاركة في كل الأحوال.

ويتعين هنا الإشارة إلى أمرين أساسيين:

·   أن مواطنا لا يضمن لمواطن آخر إلا حقه في المساواة والمشاركة، وأن أي مواطن لا يحق له أن يطالب بأكثر من المساواة والمشاركة، أما ما دون ذلك من الأمور التي تتعلق بنظم الحكم والاقتصاد والسياسات, فهي أمور شائعة بين المواطنين.

·   أن المطالبة بالنظام الإسلامي كانت دائما وما تزال تقوم في مواجهة حركة التغريب في المجتمع، وهي لم تقم قط في مواجهة الأقباط.

ويواصل المستشار طارق البشري فيقول: مبلغ علمي أن الأقباط كمواطنين مصريين وككنيسة ومذهب، عانوا من التغريب مثل ما عانى إخوانهم المسلمون، وأن من يرفض النظام القانوني الإسلامي لا يرفضه ترجيحا لنظام قانوني أكثر اتصالا بالبيئة المصرية وأكثر ارتباطا بتاريخ الشعب المصري وتراثه، ولكنه يجري ترجيحا لنظم قانونية وافدة من الغرب، ومع تقرير المساواة وضمانها لا وجه لترجيح نظام وافد بالنسبة للجميع على نظام موروث، عاش في البيئة قرونا وتفاعل مع مكوناتها واستوعب ما استطاع من أعرافها وله اتصال ديني بعقيدة الأغلبية.

وينبغي الحذر من مقولة: إن أمن القبطي وضمان وجوده السياسي والاجتماعي، مرتبط بإضعاف إسلامية المسلم؛ لأن وضع المسألة على هذا النحو - حسبما تؤثر بعض الأقلام العلمانية أن تضعها - لن يفضي إلا إلى خداع عقائدي، ثم إن إضعاف الإسلام في مصر لن يتم لحساب الأقباط، إنما هو يتم في الماضي والحاضر والمستقبل لحساب الحضارة الغربية، التي تكتسح قبطية القبطي، فيما تكتسح من ثوابت هذا البلد.

إن للمسلمين والقبط معا هدفا كبيرا في الدفاع عن ثوابت عقائدهم وجذورها في هذا البلد ضد غوائل([29]) الحضارات الوافدة، وهم يواجهون مخاطر واحدة وعدوا مشتركا واحدا، واجهوه معا في السياسة والاقتصاد، ويواجهونه معا في الفكر والحضارة.

وفي ظني أن بعض العلمانيين ينحون نحوا ضارا عندما يعملون على استغلال وضع غير المسلمين، ويستثمرون قلقهم ليواجهوا بهم الحركات الإسلامية، بدل أن يواجهوا معركتهم الفكرية بأنفسهم، وبدل أن يعملوا من موقع المسئولية إزاء التكوين الشامل للجماعة الوطنية على تنمية أواصر التفاهم بين الفكرية الإسلامية وغير المسلمين؛ فنحن جميعا في مركب واحد، ولن يستطيع فريق منا أن ينفي الآخر، وأن دعم أواصر الجامعة الوطنية مهمة كفاحية يتعين علينا جميعا أن نشارك فيها، وأن ييسر كل فريق على غيره إمكانات توثيقها بدلا من استغلال سلبيات كل فريق للتشنيع عليه وإفساد طريقه لمعالجتها, والوقيعة بين الجماعات الوطنية.

وإن استخراج مبدأ المساواة من الشريعة الإسلامية يكفل ضمانة لا يوفرها ولم يوفرها الفكر العلماني الوافد, بدليل التقلصات التي ما تزال تعاني منها.

ومن جهة أخرى فإن لأقباط مصر - خاصة - أن يروا في فقه الشريعة الإسلامية معنى من معاني قوميتهم، وقد استوعب هذا الفقه عادات وأعرافا وضمها إلى رحابه في المعاملات والعلاقات، وتأثر مثقفو الكنيسة القبطية بصياغات فقه الشريعة على نحو ما نرى في كتابات "ابن العسال" الفقيه القبطي في القرن الثالث عشر الميلادي، وليس أضمن للمساواة وأفعل من أن يرى المسلم في تحقيقها إيفاء منه بواجب لدينه عليه، بدل أن توضع كما لو كانت منافية له.

الإسلام تراث حضاري للمسلمين وغير المسلمين في دار الإسلام:

على أن هنا أمرا له أهميته، ويجب التنبيه عليه، وهو أن الإسلام بالنظر للمسيحيين - العرب بالذات - يعتبر تراثا قوميا وحضاريا لهم، فهم - وإن لم يؤمنوا به دينا - يؤمنون به ثقافة وحضارة، يعتزون بها، ويفخرون بأمجادها وآثارها.

وهذا ما جعل بعض المنصفين من المسيحيين في مصر وفي سوريا وغيرها يقول: "أنا مسيحي دينا، مسلم وطنا وثقافة".

ولا عجب أن رأينا كثيرا من أدباء النصارى يحفظون القرآن كله أو جله، باعتباره كتاب العربية الأكبر، كما كان السياسي المصري المسيحي الشهير "مكرم عبيد"، وكما حكى عن نفسه الكاتب الأديب د. "نظمي لوقا" في مقدمة كتابه القيم "محمد: الرسالة والرسول" ووجدنا كثيرا من هؤلاء الأدباء، يكتبون عن محمد - صلى الله عليه وسلم - رسول المسلمين مقالات وقصائد جيدة بوصفه عندهم أعظم شخصية عربية.

يقول الشاعر الماروني رشيد الخوري:

شغلت قلبي بحب المصطفى وغدت

عروبتي مثلي الأعلى وإيماني

ويقول أمين نخلة: "الإسلام إسلامان: واحد بالديانة، وواحد بالقومية واللغة، ومن لا يمت إلى محمد بعصبية، ولا إلى لغة محمد، وقومية محمد، فهو ضيف ثقيل علينا، غريب الوجه بيننا.

ويا محمد: يمينا بديني ودين ابن مريم, إننا في هذا الحي من العرب نتطلع إليك من شبابيك البيعة، فعقولنا في الإنجيل، وعيوننا في القرآن"!

ولا غرو أن وجدنا أيضا بعض القانونيين المسيحيين يدرسون الفقه الإسلامي ويدافعون عنه، ويعتبرونه تراثا تشريعيا للأمة كلها، مسلمين وغير مسلمين، بل وجدنا من زعماء المسيحيين المعدودين من يدعو إلى تبني النظام الإسلامي في السياسة والحكم والاقتصاد والاجتماع.

من أقوال فارس الخوري عن الإسلام:

 وأبرز مثل لذلك هو الزعيم السوري الشهير فارس بك الخوري، الذي شغل منصب مندوب سوريا في هيئة الأمم، كما شغل منصب رئيس الوزراء مدة من الزمن.

فهذا الأستاذ محمد الفرحاني تلميذه وملازمه وراويته يحكي عنه فيقول: قال لي فارس الخوري: ذات يوم في مجلسه بحضور عدد من زواره ومن بينهم القسيس البروتستانتي "داود متري":

"أنا مسيحي، ولكنني أجاهر بصراحة: إن عندنا النظام الإسلامي، وبما أن الدول العربية المتحدة (كان ذلك في عهد الوحدة المصرية السورية واتحادهما مع اليمن)، بأكثريتها الساحقة مسلمة، فليس هناك ما يمنعها من تطبيق المبادئ الإسلامية في السياسة والحكم والاجتماع.

"عقيدتي ويقيني أنه لا يمكننا محاربة النظريات الهدامة التي تهدد كلا من المسيحية والإسلام إلا بالإسلام، وإن هذا هو الذي يحد من نشاط الشيوعية ويقضي عليها القضاء المبرم؛ لأن حقائقه تهزم أباطيلها وتدمرها".

"فالإسلام هو الدرع الحصينة ضد الشيوعية، وهذا ما صرحت به مرارا وتكرارا، سواء في المحافل الدولية أو في مجالسي الخاصة، فلا حياة للعرب ولا قوة بغير الإسلام, هذا أمر أنا أومن به، ولقد كنت في هيئة الأمم المتحدة منسجما كل الانسجام مع الوفد الباكستاني وغيره من الوفود الإسلامية، وكان الباكستانيون يدافعون عن قضايانا بأشد من الروح التي يدافعون بها عن قضاياهم, إنهم يحبون العربي حبا عظيما بل يقدسونه تقديسا".

ويقول الأستاذ الفرحاني: "قال لي فارس الخوري: هذا هو إيماني, أنا مؤمن بالإسلام وبصلاحه لتنظيم أحوال المجتمع العربي وقوته في الوقوف بوجه كل المبادئ والنظريات الأجنبية مهما بلغ من اعتداد القائمين عليها، لقد قلت ولا زلت أقول: لا يمكن مكافحة الشيوعية والاشتراكية مكافحة جدية إلا بالإسلام، والإسلام وحده هو القادر على هدمها ودحرها.

ولقد نقلت هذا الكلام في حينه إلى الأستاذ محمد المبارك عميد كلية الشريعة بجامعة دمشق فقال لي: " من الغريب حقا أن يستهان بأمر الإسلام من قبل بعض أبنائه، ويعمل على إبعاده عن واقع الحياة، في حين يقف أعظم مسيحي في الشرق يجهر بضرورة الأخذ بأحكام الإسلام والعمل بشريعته".

والأعجب من ذلك أننا نراه يؤيد قيام حكومة إسلامية قوية حازمة، بل ديكتاتورية لتضرب بشدة على أيدي مروجي الإلحاد والفساد والانحلال فيقول: "نحن بحاجة إلى حكومة حازمة تؤمن بالإسلام كدين ونظام متكامل، وتعمل لتطبيقه، فكما أن الشيوعية تحتاج لديكتاتورية حازمة تشق لها طريق الانتشار والازدهار والثبات, فالإسلام أشد حاجة لمثل ذلك.

ومن ذا الذي يرضى ضميره ويطمئن قلبه إلى سلامة أمته، وكيان بلده، وهو يعلم أن التحلل والفساد منتشران لدرجة يصعب معها صدهما وإيقاف تيارهما، ومن ذا الذي ينكر على المسئولين فيه مكافحة ذلك التحلل وذلك الفساد, بشريعة هي من تلك الأمة وفيها".

وفي مناسبة أخرى يبين الأستاذ الخوري فضل التشريع الجنائي الإسلامي في تحقيق الأمن والاستقرار للمجتمع، والقضاء على الجريمة والمجرمين فيقول: "تذكرون ولا شك عندما تضعون الموازنة العامة للدولة, المبالغ الطائلة التي تخصص للأمن العام، والشرطة والدرك([30]) والمحاكم كرواتب ونفقات.

فلو طبق الشرع الإسلامي وقطعت يد في حلب مثلا, وجلد آخر في دير الزور, ورجم ثالث في دمشق، وكذلك في بقية المحافظات، لانقطع دابر هذه الجرائم ولتوفر على الدولة ثلاثة أرباع هذه الموازنة".

واستدرك الأستاذ فارس الخوري بقوله: "في العهد العثماني كان في دمشق ثلاث محاكم شرعية وصلحية تنظر في الدعاوى الجزائية والبدائية، وكان قضاة هذه المحاكم يقضون أغلب أوقاتهم في مراكز عملهم بدون عمل, فإذا قسنا ذلك الظرف وقارناه بظرفنا الحالي وجدنا أن السبب في كثرة المحاكم اليوم يعود إلى تدني الأخلاق، وانتشار الفساد، وعدم الاكتراث([31]) بما تفرضه الدولة من عقوبات غير رادعة ولا زاجرة؛ لعدم تطبيق التشريع الإسلامي في الحكم".

ولقد انتبه هذا السياسي الكبير إلى علاقة العرب بالعالم الإسلامي، وما لهم من رصيد كبير لدى الشعوب المسلمة ينبغي الحرص عليه والاستزادة منه، فكان يقول: "إننا نستطيع أن نثير بهذا الإسلام قوى خطيرة جبارة، ليس في العالم الإسلامي فحسب، وإنما في جميع أقطار الدنيا، فالمسلمون بروابطهم الدينية الوثيقة واتجاههم نحو قبلة واحدة وإيمانهم بكتاب واحد وعملهم بسنة نبي واحد؛ إنما هم يشكلون أمة واحدة متماسكة، مفروض بها أن تتعاون على البر والتقوى، والعدل والإحسان، وإن لم تكن كذلك تختفي عنها صفة الإسلام، هذه الأمة الإسلامية إذا ما أثيرت بأفرادها العاطفة الدينية بشكل جيد، وأحسن تسييرها فباستطاعتها أن تغير مجرى التاريخ".

ومما لفته إلى هذا الأمر ما لمسه من حماس المندوبين الإسلاميين في هيئة الأمم للقضايا العربية؛ فقد شهد مرة حفلا أقيم لتكريم رئيس أندونيسيا ورفقائه, فلما وصل ضيف الشرق الرئيس الأندونيسي، ومن معه من وزراء وسفراء أندونيسيين فوجئ فارس بك بأنهم يحدثونه باللغة العربية الفصحى فعجب وسألهم أين تعلموا اللغة العربية؟ فأجابوه بأنهم تعلموها في أندونيسيا، حيث تقوم ألوف من المدارس العربية المختصة بتعليم اللغة العربية؛ فقد جعلت اللغة العربية لغة التدريس الأساسية لجميع العلوم.

فأعجب فارس بك جدا بما سمع وخاطب الحاضرين من المدعوين العرب قائلا: "ما أعظم رصيد الأمة العربية الثقافي في البلاد الإسلامية، وما أجدرنا نحن العرب - المسيحيين منا والمسلمين - أن نعض بالنواجذ على صلاتنا بالأقطار الإسلامية، وأن نوثق علاقاتنا بمئات الملايين من سكانها الذين يكنون لنا أصدق مشاعر الحب والولاء، فإن لنا بذلك فوائد عظيمة ثقافية وسياسية واقتصادية، وإن من واجب الأمة العربية أن تسعى إلى هذه الحقيقة وتعرف كيف تفيد من هذه الكنوز الثمينة المدخرة لنا في أقطار العالم الإسلامي".

وبعد هذه النقول الناصعة من زعيم مسيحي منصف لم يبق هناك مجال لمتوجس أو متعنت فقد حصحص الحق ووضح الصبح لذي عينين.

ومع هذا - زيادة في البيان وقطعا لكل تعلة - نسجل هنا ما كتبته مجلة "الدعوة" القاهرية في عددها الصادر في ربيع الأول سنة 1397هـ تحت عنوان "المسيحيون في مصر والحكم بشرع الله", فقد وجهت بعض الأسئلة إلى بعض أهل الفكر من ممثلي الطوائف المسيحية في مصر، فكانت إجاباتهم امتدادا لما نقلناه عن الزعيم السوري فارس الخوري.

قالت الدعوة: "وربما انبعثت أصوات هنا أو هناك تتساءل: وماذا عن الأقليات في مجتمع يطبق شرع الله؟ وربما كان السؤال ليس له ما يستدعيه فشرعة الله لكل خلق الله: عدل وإنصاف وصون للمال والعرض والحياة، ومع ذلك توجهت "الدعوة" بأسئلة محددة إلى إخواننا أهل الرأي الممثلين للطوائف المسيحية في هذا البلد، تستطلع رأيهم في تحكيم شرع الله، وهجر كل القيم والقوانين والنظريات الوضعية.

وقد وجهت "الدعوة" سؤالين محددين:

1.  إذا كان الإسلام والمسيحية ملتقيين في تحريم الزنا - مثلا - ومحاربته، فهل عندكم مانع في تطبيق حد الزنا، وبقية الحدود الإسلامية الأخرى على من استوجب إقامتها عليه في المجتمع المصري، وهل ترى في تطبيقها ما يمس حقوق المسيحيين أو يضايقهم؟

2.    من خلال دراستكم للتاريخ ماذا ترون في حكم الإسلام بالنسبة للأقليات من ناحية العبادة والأموال والأعراض؟

عن السؤال الأول يجيب الكاردينال اسطفانوس بطريرك الأقباط الكاثوليك:

"الأديان السماوية تشير إلى تجريم القتل و الزنا، وإلى المحبة، والمعروف أن من يحب الله يجب أن يحب أخاه، ومن يدعي أنه يحب الله ولا يحب أخاه فهو كاذب، فالقتل والزنا والسرقة إلى آخر المنكرات ضد المحبة؛ لأن الله خلق الإنسان ليكون مستقيما غير منحرف، ويستفيد من التعاليم الإلهية، ولذلك فالذي يشذ عن نظام الله وتعاليمه - بعد أن تكفل له أسباب العيش ومستلزماته - يجب أن تطبق عليه حدود شريعة الله ليرتدع ويكون عبرة لغيره، وحتى لا تعم الفوضى عندما يقتل أحد أخاه ولا يقتل، أو يسرق ولا تقطع يده، أو يزني ولا يقام عليه حد الزنا، وهذا ما وجدناه في القوانين الوضعية التي تجامل الناس وتلتمس لهم مختلف الأعذار، مما جعل المجتمع غير آمن على نفسه أو ماله أو عرضه، وأعود فأكرر إن تطبيق حدود الشريعة الإسلامية ضروري على الشخص وعلى المجتمع حتى تستقيم الأمور وينصلح حال الناس، وليس في تطبيقها - أبدا - ما يمس حقوق المسيحيين أو يضايقهم".

كما يجيب غبطة الكاردينال عن السؤال الثاني فيقول:

"إن الذي يحترم الشريعة الإسلامية يحترم جميع الأديان، وكل دين يدعو إلى المحبة والإخاء، وأي إنسان يسير على تعاليم دينه لا يمكن أن يبغض أحدا أو يلقى بغضا من أحد، ولقد وجدت الديانات الأخرى - والمسيحية بالذات - في كل العصور التي كان الحكم الإسلامي فيها قائما بصورته الصادقة، ما لم تلقه في ظل أي نظام آخر، من حيث الأمان والاطمئنان في دينها ومالها، وعرضها وحريتها".

أما الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمي والدراسات العليا اللاهوتية بالكنيسة القبطية وممثل الأقباط الأرثوذكس، فيجيب عن السؤال الأول السابق قائلا:

"إن تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في مصر أمر لا شك فيه ولا اعتراض عليه، فالشرائع السماوية نور وهداية للبشر، ونحن نؤمن أن الدين لم يعط للناس إلا ليكون عونا لهم، لتصير حياتهم به أفضل ما تكون بغيره، والهدف من الوحي الإلهي تحديد الطريق الذي يساعد الإنسان على أن يعيش بمبادئ الدين سعيدا كريما".

وقال: "إن موضوع تطبيق الحدود السماوية في نظري يجب أن نتناوله من شقين:

1.  شق التوجيه والحض على الفضيلة والتمسك بالقيم الروحية الدينية، ولكي يجدي هذا لا بد من إصلاح الأسرة حتى تستقيم العلاقة بين أفرادها، والاهتمام بتعليم الدين بجميع مراحل التعليم عن طريق المدرسين الأكفاء المنتقين لهذه الرسالة علما وقدوة، فالدرس هو المدرس! كما يجب صرف مكافآت للمدرسين الذين يؤدون واجبهم في هذا المجال بأمانة، وكذلك للطلاب الذين ينبغون في مادة الدين، ولكي تثمر هذه المادة في تقويم النشء والشباب يجب ألا ننسى دور وسائل الإعلام من إذاعة وتليفزيون وسينما، حيث يجب أن تتضمن بث الدعوة الروحية بين الشباب وتقديم الأمثلة والنماذج الحية من الماضي والحاضر، وتبغيض الناس في الشر وتنفيرهم من الرذيلة عن طريق التلميح من غير عرض لصور الخطيئة الفاضحة التي تستثير الشباب وتغريهم على الخطيئة.

2.   جانب الردع والعقاب والمنع لما يتعارض مع مبادئ الدين والفضيلة والقيم الروحية, وهذا ما تتولاه الحدود السماوية التي شرعت لردع المستهترين ومعاقبتهم ليكونوا عظة لأنفسهم وعبرة لغيرهم".

وأضاف الأنبا غريغوريوس قائلا: "رغم أن الديانة المسيحية ليس في نصوصها قطع يد السارق أو قتل القاتل.. إلخ، إلا أننا كمسيحيين لا نعارض في تطبيق حدود الشريعة الإسلامية في مصر، إذا كانت هذه رغبة إخواننا المسلمين، وفي نظري أن هذا لن يتحقق كما يجب إلا إذا ضمنا للقضاء سيادته الكاملة التي تعطي له حرية التحقيق الشامل والتقصي للجريمة وأسبابها".

أما السؤال الثاني فيجيب عنه أسقف البحث قائلا:

"لقد لقيت الأقليات غير المسلمة - والمسيحيون بالذات - في ظل الحكم الإسلامي الذي كانت تتجلى فيه روح الإسلام السمحة كل حرية وسلام، وأمن في دينها، ومالها، وعرضها".

أما القس برسوم شحاتة وكيل الطائفة الإنجيلية في مصر فكان رده على السؤال الأول:

"إن الأديان كافة تحرم الجريمة، والنفس الإنسانية يجب أن تعالج من الوقوع في الجريمة وقبل الوقوع، بكل وسائل الإصلاح والتربية الجادة القائمة على إحياء القيم الروحية وسريانها في النفوس، والارتباط بالشرائع السماوية في إرشادها وهديها، أما النفوس المتحجرة والقلوب القاسية التي لا يجدي معها النصح والإرشاد والتوجيه, فهذه تعتبر شاذة وجرثومة في جسم المجتمع يجب إنقاذه منها, وهنا لا بد من تطبيق حدود الشريعة الإسلامية لتحقيق العدالة والسلام والحب في المجتمع، ويطالب - في نظري - بدقة التنفيذ الجاد لهذه الحدود وزير الداخلية، الذي يمثل سلطة الأمن شخصيا، مع ضرورة أن تعود للقضاء سيادته وحرمته التي تعطيه الحرية الكاملة في البحث والتقصي عن كل حادثة أو جريمة".

ويضيف وكيل الطائفة الإنجيلية مجيبا على السؤال الثاني بقوله: "في كل عهد، أو حكم إسلامي التزم المسلمون فيه بمبادئ الدين الإسلامي كانوا يشملون رعاياهم من غير المسلمين - والمسيحيين على وجه الخصوص - بكل أسباب الحرية والأمن والسلام، وكلما قامت الشرائع الدينية في النفوس بصدق بعيدة عن شوائب التعصب الممقوت والرياء الدخيلين على الدين، كلما سطعت شمس الحريات الدينية والتقي المسلم والمسيحي في العمل الإيجابي والوحدة الخلاقة".

نضيف إلى هذه الأجوبة الواضحة من رؤوس الأقباط في مصر، ما دلت عليه الأرقام في "استطلاع الرأي" الذي نظمه - كدراسة ميدانية - "المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية" بمصر حول "تطبيق الشريعة الإسلامية" في مصر، والذي شارك في الإجابة على أسئلته مسلمون ومسيحيون.

فكانت هذه الأرقام ذات الدلالة الحاكمة:

مع "التطبيق الفوري" للشريعة الإسلامية زادت نسبة المسيحيين عن المسلمين (32 إلى 31%)؟!

ومع تطبيق أحكام الشريعة على الجميع، بصرف النظر عن اختلاف الدين زادت نسبة المسيحيين عن المسلمين (71 إلى 96%)؟!

وكان تعليل الإجابات: "إننا مجتمع واحد, وهذه الجرائم حرمها الله على كل الناس, ولا فرق بين المسلم والمسيحي أمام القانون, ولأننا دولة إسلامية".

ثم.. ها هو رأس الكنيسة القبطية وبابا الأقباط الأرثوذكس الأنبا شنودة يقول:

"إن الأقباط في ظل حكم الشريعة يكونون أسعد حالا وأكثر أمنا، ولقد كانوا كذلك في الماضي، حينما كان حكم الشريعة هو السائد, نحن نتوق إلى أن نعيش في ظل: "لهم ما لنا وعليهم ما علينا", إن مصر تجلب القوانين من الخارج - حتى الآن - وتطبقها علينا، ونحن ليس عندنا ما في الإسلام من قوانين مفصلة، فكيف نرضي بالقوانين المجلوبة، ولا نرضي بقوانين الإسلام"؟!

من أسباب تحريك الفتنة الطائفية:

ويقول د. يوسف القرضاوي: إن من الأسباب العميقة للفتنة الطائفية التي تبرز بين حين وآخر: عدم تحكيم الشريعة الإسلامية التي تؤمن الأغلبية بأنها ملتزمة بها دينا، وأن ذلك جزء من إيمانها الذي لا خيار لها فيه.

وعدم هذا التحكيم أو التطبيق يخلق شعورا بالتوتر لدى الإنسان المسلم الغيور على دينه، الحريص على إرضاء ربه، وهذا التوتر يظل ينمو ويقوى كلما شعر المسلم باتساع المسافة وعمق الهوة([32]) بين عقيدته وواقعه، حتى ينفجر في صورة اضطرابات أو فتن طائفية.

وقد يذكي([33]) هذا التوتر ويؤججه: ([34]) اعتقاد بعض المسلمين أن الأقلية غير المسلمة وراء هذا الإعراض عن الشريعة,وربما أكد هذا كتابات بعض هؤلاء، وتصريحات آخرين منهم، من شأنها أن تصب الزيت على النار.

إن من غير المقبول ولا الممكن أن نطالب المسلمين أن يتنازلوا عن دينهم ويتخلوا عن عقيدتهم، حتى يطمئن مواطنوهم من غير المسلمين,كما أنه - في المقابل - لا يجوز أن يطلب من غير المسلمين أن يلغوا شخصيتهم الدينية، ويفنوا في الأكثرية.

ومن الخير لغير المسلمين أن يكون المسلمون مستمسكين بإسلامهم مؤتمرين بأمره منتهين عن نواهيه، وبهذا يعتبرون برهم والإقساط إليهم دينا يدينون لله به، ويلقون الله عليه، ولا يجيزون لأنفسهم - في ظل الدين - ظلمهم أو الإساءة إليهم بوجه من الوجوه، حتى الجدال يجب أن يكون بالتي هي أحسن.

ولأن يتعامل المسيحي - مثلا - مع مسلم يراقب الله في كل أعماله وعلاقاته، خير له بمراحل من التعامل مع ملحد أو فاسق، لا يرجو لله وقارا، ولا يحسب للآخرة حسابا, وأيضا من الخير للمسلمين أن يكون مواطنوهم من أهل الكتاب، مستمسكين بتعاليم دينهم التي تحث على السماحة والمحبة والزهد والإيثار، وتربط الإنسان المسيحي بملكوت السموات لا بشهوات الأرض.

ولهذا نحن نرحب ونفسح صدورنا للتدين الخالص، لا للطائفية البغيضة.

التدين تعلق بالحق، والطائفية تعصب للباطل.

التدين يجمع ويبني، والطائفية تفرق وتهدم.

التدين همه النجاة بالنفس من الغرق، والطائفية همها إغراق الآخرين([35]).

ثالثا. الحكم الإسلامي خير للنصارى من الحكم العلماني:

إن الإسلام أصلح من غيره لكل المجتمعات مهما كان فيه من غير المسلمين، وإنه لآمن على نفوسهم وأموالهم وأعراضهم، وحتى أديانهم أن يحكموا بالإسلام الذي لا يجور على غيره، حتى إن خالفه في العقيدة.

إن المسيحي الذي يقبل أن يحكم حكما علمانيا لا دينيا، لا يضيره أن يحكم حكما إسلاميا.

بل إن المسيحي الذي يفهم دينه ويحرص عليه حقيقة، ينبغي أن يرحب بحكم الإسلام؛ لأنه حكم يقوم على الإيمان بالله، ورسالات السماء، والجزاء في الآخرة، كما يقوم على تثبيت القيم الإيمانية والمثل الأخلاقية التي دعا إليها الأنبياء جميعا، ثم هو يحترم المسيح وأمه والإنجيل، فكيف يكون هذا الحكم - بطابعه الرباني الأخلاقي الإنساني - مصدر خوف أو إزعاج لصاحب دين يؤمن بالله ورسله واليوم الآخر؟!على حين لا يزعجه حكم لا ديني علماني يحتقر الأديان جميعا ولا يسمح بوجودها - إن سمح - إلا في ركن ضيق من أركان الحياة؟!

من الخير للمسيحي المخلص أن يقبل حكم الإسلام ونظامه للحياة، فيأخذه على أنه نظام وقوانين ككل القوانين والأنظمة، ويأخذه المسلم على أنه دين يرضي به ربه، ويتقرب به إليه, ومن هنا رحب العقلاء الواسعو الأفق من المسيحيين بالنظام الإسلامي بوصفه السد المنيع في وجه المادية الملحدة التي تهدد الديانات كلها.

ونود هنا أن نصحح خطأ يقع فيه الكثيرون، وهو الظن بأن القوانين الوضعية المستوردة من الغرب المسيحي قوانين لها رحم موصولة بالمسيحية، فهذا خطأ مؤكد، فالدارسون لأصول القوانين ومصادرها التاريخية يعرفون ذلك جيدا، بل الثابت بلا مراء أن الفقه الإسلامي أقرب إلى المسيحية والمسيحيين في أوطاننا من تلك القوانين؛ لأصوله الدينية من ناحية، ولتأثره بالبيئة المحيطة التي هم جزء منها من ناحية أخرى، ومن ناحية ثالثة فإن الحكم العلماني لا يرضي كل المواطنين.

وعليه فالحكم الإسلامي خير للمسيحيين من الحكم العلماني، لمتعصب الذي يحارب كل الأديان([36]).

إن الواقع يشهد لصلاح الشريعة الاسلامية أكثر من الحكم العلماني، ويستدل على ذلك بإخفاق العلمانيين في سياسة البلاد التي أعرضت عن الشريعة إعراضا تاما، وأعلنت علمانيتها الكاملة؛ فلم تجن من وراء ذلك إلا الخيبة و التفسخ والإخفاق في شتى مجالات الحياة.

وأبرز مثال لذلك دول تركيا العلمانية؛ تركيا أتاتورك الذي خلع البلد المسلم من شريعته بالحديد والنار، وأجبره على السير في طريق الغرب حذو النعل بالنعل، وعارض قطعيات الشرع الإسلامي معارضة ظاهرة، فلم تربح تركيا من وراء ذلك إلا بقاءها ذيلا للمعسكر الغربي في تشريعها وسياستها واقتصادها، بعد أن كانت قوة عالمية لها وزنها ولها خطرها.

وها هي الآن تمزقها الصراعات بين اليمين واليسار، والولاءات بين الغرب والشرق، ويحاول المخلصون من أبنائها مستميتين أن يعودوا بشعبهم إلى ما يؤمن به ويستكن في أعماقه، من احترام الإسلام، وحب الإسلام، وشريعة الاسلام([37]).

الخلاصة:

·   شريعة الإسلام تصلح للتطبيق في كل مكان؛ إذ إن لها مؤهلات تؤهلها لصلاحية التطبيق في كل زمان ومكان؛ منها شيوع العدل فيها، والمساواة بين الناس بلا اعتراف بفوارق أو طبقات، ومنها التكافل الاجتماعي الذي يشمل أفراد الدولة المسلمة، ومنها التسامح مع المخالفين، ومنها حرية الرأي حتى يوجه العالم الحاكم، ومنها أنها شريعة تقيم حضارة زاهرة من العلم والإيمان، ومنها أنها تسوي بين الرجل والمراة في أغلب الأحيان، و منها أنها تقيم للحرية أساسا متينا فيها من الشورى وتقييد سلطة الحكام، ومساءلتهم واستجوابهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر والنصيحة لهم ولعامة الناس.

·   إن ما جاء به الإسلام - وكان موضع ارتياب واتهام من خصوم الشريعة فيما مضى - صار الآن موضع امتداح ولجأ إليه الغرب أنفسهم كتشريع الطلاق، وتحريم الربا.

·   فترات حكم المسلمين بالشريعة يثبت التاريخ لنا أنها كانت أنصع صفحات في الحكم من حيث العدل، والرحمة، وشيوع الخير: ومنها فترات حكم عمر بن عبد العزيز، والسلطان نور الدين محمود الملقب بالشهيد، وصلاح الدين الأيوبي وغيرهما.

·   الإسلام دين السماحة، فهو لا يفرض عقيدته على غيره, إنما من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، كما أنه يحسن معاملة غير المسلمين وذلك بشهادة النصارى أنفسهم على ذلك.

·   قد أطلق الإسلام على اليهود والنصارى - إن كانوا يعيشون مع المسلمين في بلد إسلامي - اسمين يوحيان بمعان كريمة هما: "أهل الكتاب" و"أهل الذمة" وفيهما إشارة بأنهم في الأصل أصحاب كتاب سماوي، وبأن لهم ذمة الله وذمة رسوله, أي عهدهما، مما يوحي أنهم لن يؤذوا ولن تهدر حقوقهم أو تخدش حرماتهم.

هذا كله غير الأحاديث التي تحرم قتل المعاهدين، أو ظلمهم أو سلبهم حقا من حقوقهم, وقد شهد النصارى على سماحة الإسلام منذ فتح عمرو بن العاص لمصر، وحتى عصرنا هذا.

·   الحكم العلماني البديل عن الحكم الإسلامي هو حكم مشوب بالكثير من الفتن الطائفية، ومحاربة الأديان، كما أن تاريخه مملوء بالمذابح والتعصب الممقوت؛ ومن ثم فإن الحكم الإسلامي خير من الحكم العلماني للجميع؛ مسلمين ومسيحيين.

 

 



(*) سماحة الإسلام، د. عبد العظيم محمد المطعني، مكتبة وهبة، مصر، ط1، 1414هـ/ 1993م.

[1]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب بلال بن رباح رضي الله عنهما (3544).

[2]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب: ) أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم ( (الكهف: ٩) (3288)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب السارق الشريف وغيره (4505).

[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها (30)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس (4405).

[4]. الهرطقة: مصطلح نصراني يقابل الكفر في الإسلام، وهو كل رأي يخالف رأي الكنيسة ولو كان صحيحا.

[5]. أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب البيوع (2166)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2563).

[6]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الكفالة، باب الدين (2176)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الفرائض، باب من ترك مالا فلورثته (4242)، واللفظ للبخاري.

[7]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة (1335)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله (133).

[8]. الموالي: جمع مولى، ويطلق على السيد والعبد.

[9]. أفطس: انخفضت قصبة أنفه.

[10]. المكاتل: جمع المكتل، وهو الجراب.

[11]. هياب: خواف.

[12]. الوجل: الخوف.

[13]. الكد: الاشتداد في العمل، وطلب الرزق.

[14]. أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب قتال أهل البغي، باب القوم يظهرون رأي الخوراج (16540).

[15]. شريعة الإسلام صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط5، 1417هـ/ 1997م، ص26: 33 بتصرف يسير.

[16]. أخرجه البيهقي في دلائل النبوة، جماع أبواب إخبار النبي ـ رضي الله عنه ـ بالكوائن بعده (7/ 418).

[17]. إرقاع الخلقان: يرقع الثياب البالية.

[18]. شريعة الإسلام صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط5، 1417هـ/ 1997م، ص42: 46.

[19]. بينات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والمتغربين، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، مصر، ط3، 1424هـ/ 2003م، ص 217، 218 بتصرف يسير.

[20]. الحصب: صغار الحجارة، أو الحطب، وحصب جهنم: كل ما يلقى في النار من وقود.

[21]. اللظى: هو لهب النار الخالص لا دخان فيه، ولظى: اسم من أسماء جهنم، ولظى الجوع: ألم الجوع وشدته.

[22]. الغوث: الإعانة والنصرة.

[23]. الزلال: الماء العذب الصافي البارد.

[24]. سماحة الإسلام، د. عبد العظيم محمد المطعني، مكتبة وهبة، مصر، ط1، 1414هـ/ 1993م، ص90: 93.

[25]. أخرجه البخاري في صحيحه، أبواب الجزية والموادعة، باب إثم من قتل معاهدا بغير جرم (2995)، وفي موضع آخر.

[26]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الخراج، باب في تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا بالتجارات (3054)، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب الجزية، باب لا يأخذ المسلمون من ثمار أهل الذمة (18511)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2655).

[27]. الأرثوذكس: هي إحدى الكنائس الرئيسية الثلاث في النصراينة، وقد أنفصلت عن الكنيسة الكاثولوكية الغربية، وتمثلت في عدة كنائس مستقلة، لا تعترف بسيادة بابا روما عليها، ويجمعهم الإيمان بأن الروح القدس منبثقة عن الآب وحده، وعلى خلاف بينهم في طبيعة المسيح، وتدعى أرثوذكسية بمعنى مستقيمة المعتقد مقابل الكنائس الأخرى. ويتركز أتباعها في المشرق، ولذلك يطلق عليها "الكنيسة الشرقية".

[28]. السماحة الإسلامية: النظرية والتطبيق، د. محمد عمارة، ضمن بحوث المؤتمر السادس عشر للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، 2004م، ص130: 137.

[29]. الغوائل: جمع الغائلة: الفساد والشر، غوائل الحضارة: شرورها.

[30]. الدرك: رجال الدرك: الشرطيون؛ لإدراكهم الفار والمجرم.

[31]. الاكتراث: المبالاة.

[32]. الهوة: الفجوة.

[33]. يذكي: يشعل.

[34]. يؤجج: يوقد ويثير.

[35]. بينات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والمتغربين، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، مصر، ط3، 1424هـ/ 2003م، ص 236: 251 بتصرف يسير.

[36]. بينات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والمتغربين، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، مصر، ط3، 1424هـ/ 2003م، ص 219: 220 بتصرف يسير.

[37]. شريعة الإسلام صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط5، 1417هـ/ 1997م، ص57.

redirect redirect unfaithful wives
redirect redirect unfaithful wives
read go want my wife to cheat
why do men have affairs redirect why men cheat on beautiful women
click here unfaithful spouse women cheat husband
open my husband cheated black women white men
open my husband cheated black women white men
reasons wives cheat on their husbands what is infidelity why do men have affairs
go using viagra on females how long for viagra to work
go online how long for viagra to work
generic viagra softabs po box delivery buy generic viagra buy viagra generic
read here click here why women cheat on men
My girlfriend cheated on me my wife cheated on me with my father signs of unfaithful husband
مواضيع ذات ارتباط

أضف تعليقا
عنوان التعليق 
نص التعليق 
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء كاتبيها فقط ولا تعبر عن الموقع
 
 
 
  
المتواجدون الآن
  4525
إجمالي عدد الزوار
  38497019

الرئيسية

من نحن

ميثاق موقع البيان

خريطة موقع البيان

اقتراحات وشكاوي


أخى المسلم: يمكنك الأستفادة بمحتويات موقع بيان الإسلام لأغراض غير تجارية بشرط الإشارة لرابط الموقع