مرحبًا بكم فى موقع بيان الإسلام الرد على الافتراءات والشبهات
 بحث متقدم ...   البحث عن

الصفحة الرئيسية

ميثاق الموقع

أخبار الموقع

قضايا الساعة

اسأل خبيراً

خريطة الموقع

من نحن

ادعاء أن التشريع الإسلامي قاصر عن الوفاء بحاجات المجتمع الاقتصادية والسياسية (*)

مضمون الشبهة:

 يدعي بعض المشككين أن التشريع الإسلامي يقف عاجزا عن الوفاء بحاجات المجتمع الاقتصادية والسياسية، ودليلهم على ذلك - كما يتوهمون - فشل الأنظمة الاقتصادية والسياسية في البلاد الإسلامية، ويهدفون من وراء ذلك إلى التشكيك في مرونة هذا التشريع وصلاحيته لهذا العصر.

وجوه إبطال الشبهة:

1) التشريع الإسلامي هو الموجه لشئون الحياة وقيمها، وقد وفي بحاجات المجتمعات الإسلامية في المجالين الاقتصادي والسياسي، وحضارتنا خير شاهد على ذلك.

2) الفشل الذي وصمت به الأنظمة السياسية والاقتصادية في المجتمعات المسلمة ليس منشؤه الإسلام ولا تعاليمه، وإنما البعد عن تطبيق الإسلام وشرائعه.

3) الواقع أثبت فشل الأنظمة الاشتراكية والرأسمالية، فهي لم تف بحاجات المجتمعات المسلمة وغير المسلمة، بل زادتها تراجعا للوراء.

التفصيل:

أولا. وفاء التشريع الإسلامي بحاجات المجتمع الاقتصادية والسياسية:

إن التشريع الإسلامي بوصفه تشريعا سماويا أنزله رب الأرض والسماء، يستحيل عليه أن تغيب عنه غائبة، أو يشوبه نقص أو عيب، وفيما يلي يوضح لنا د. يوسف القرضاوي كيفية شمول التشريع الإسلامي لكافة مناحي الحياة ومدى وفائه من كل ناحية:

1.  في الناحية الاقتصادية:

يتوهم الكثيرون أن الدين لا يعنى بالاقتصاد، وأنهما ضدان لا يلتقيان؛ فالاقتصاد يعنى بالجانب المادي في الحياة، والدين يعنى بجانبها الروحي، والاقتصاد استغراق في المادة، والدين استعلاء عليها، بيد أن هذا إن صح في الأديان الأخرى فلا يصح في الإسلام، فقد اعتبر القرآن المال قواما للحياة حين قال: )ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما( (النساء: 5)، كما اعتبر الغنى نعمة يمتن الله بها: )ووجدك عائلا فأغنى (8)( (الضحى)، ومثوبة يجزي بها المؤمنين من عباده: )ويمددكم بأموال وبنين( (نوح: 12)، ولم يغلق الرسول - صلى الله عليه وسلم - ملكوت السماء في وجه الغني - كما ادعوا على المسيح - عليه السلام - بل كان كثيرا مما يدعو لأصحابه بكثرة المال والبركة فيه,كما جاء في الحديث عن أنس بن مالك أن أمه سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو له بالخير في الدنيا والآخرة فدعا له وكان مما قاله في دعائه: «اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته..»[1].

وقد أشار القرآن والسنة إلى أهمية المؤثرات الاقتصادية في السلوك البشري، في مثل قوله عز وجل: )ولا تقتلوا أولادكم من إملاق( (الأنعام: 151)، )ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق( (الإسراء: 31)، وفي مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف»[2].

وقد جعل الله أحد الأركان الخمسة في الإسلام عبادة مالية هي "الزكاة"، وأحد الموبقات السبعة كبيرة مالية هي "الربا".

كما رغب الإسلام في الصناعة والاحتراف، وضرب لنا القرآن مثلا بعدد من الأنبياء والصالحين من أهل الحرف؛ فنوح - عليه السلام - نجار يصنع السفن، وإبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - بناءان يرفعان قواعد البيت، وداود - عليه السلام - حداد يصنع الدروع السابغات، [3] وذو القرنين بني السد العظيم من زبر الحديد[4] والنحاس المذاب.

ودعا الإسلام كذلك إلى الزراعة والغرس والتشجير، بشرط ألا يكتفوا بالزروع ويتبعوا أذناب البقر، ويتركوا الجهاد، وحث كذلك على التجارة، ونوه بالتاجر الصدوق الأمين، ونهى عن الغش والاحتكار، [5] والتلاعب بالأسعار.

وأقام الإسلام نظامه الاقتصادي على إقرار الملكية الفردية، لما فيها من إشباع الدافع الفطري في نفس الإنسان، ولما تثمره من الشعور بالسيادة والقدرة، فمن شأن السيد الحر أن يملك ويتصرف، أما العبد فلا يملك ولا يتصرف، ولكنه وضع للملكية أسبابا لاكتسابها وقيودا لتنميتها، وحقوقا دورية وغير دورية عليها، وقبل ذلك كله اعتبر المالك الحقيقي للمال هو الله عز وجل، والناس أمناء عليه، أو وكلاء فيه، وبتعبير القرآن: )مستخلفين فيه( (الحديد: 7).

ومن هنا كانت عناية الإسلام بالناحية الاقتصادية من خلال الأمور الآتية:

1.  إتاحة العمل الملائم لكل مواطن قادر: باعتبار أن العمل حق له وواجب عليه، وتهيئة التدريب الكافي لكل ذي مهنة لتحسين مستوى كفايته الفنية، وبذلك يستطيع كل قادر على العمل أن يكفي نفسه بنفسه، وتحريم الصدقات والمعونات الاجتماعية تحريما باتا على كل متعطل عن العمل الملائم له باختياره، اهتداء بما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: «لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة[6] سوى»[7].

2.  إعطاء الأجر العادل لكل عامل بما يكافئ عمله، ويغطي حاجته بالمعروف:فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى في الغنائم الراجل[8] سهما، والفارس سهمين أو ثلاثة أسهم؛ لأن كفاية الفارس في الحروب فوق كفاية الراجل.. ثم إنه في الفيء[9] أعطى العزب حظا والآهل (المتزوج) حظين؛ لأن حاجة الآهل أكثر من حاجة العزب - ويقاس على الآهل: صاحب العيال -، وبهذا وذاك يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد اعتبر العمل والكفاية، كما اعتبر الحاجة أيضا، ولهذا قال عمر - رضي الله عنه - في شأن مال الفيء: «ما أنا بأحق بهذا الفيء منكم، وما أحد منا بأحق به من أحد إلا أنا على منازلنا من كتاب الله - عز وجل - وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فالرجل وقدمه، والرجل وبلاؤه، والرجل وعياله، والرجل وحاجته»[10].

وبهذا يكون الإسلام قد خالف النظرية الشيوعية التي تعطي كلا حسب حاجته فقط، والنظرية الاشتراكية التي تعطي كلا حسب عمله فقط.

3.  جباية الزكاة من كل الأموال: ظاهرة - كالثروة الحيوانية والزراعية وزكاة الفطر - وباطنة - كأموال التجارة والنقود - بوساطة جهاز قوي أمين من "العاملين عليها" كما سماهم القرآن الكريم، مع وجوب توسيع قاعدتها بحيث يشمل كل مال نام، وكل دخل فاضل عن الحوائج الأصلية، وتوزيعها على المصارف الثمانية، أو السبعة - بعد إلغاء الرق في عصرنا - عملا بتوجيه القرآن: )خذ من أموالهم صدقة( (التوبة:103)، وبقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم».[11] وسنته العملية وسنة خلفائه الراشدين في بعث السعاة والعاملين إلى مختلف البلدان والقبائل لجمعها وتفريقها كما أمر الله - عز وجل - رسوله صلى الله عليه وسلم.

وبذلك تسهم هذه الفريضة في تمويل التكافل، وتحقيق العدل الاجتماعي، ومحاربة الكنز، ومقاومة الاستقراض بالربا، وانتشال المدينين من ذل الدين، كما تسهم في تنشيط الدعوة إلى الإسلام، بما يصرف عليها من سهمي "المؤلفة قلوبهم" و "في سبيل الله"[12].

ويوضح لنا الشيخ سيد قطب سياسة الزكاة في الإسلام فيقول: الزكاة هي الركن الاجتماعي البارز من أركان الإسلام، فحديث الزكاة أدخل شيء في سياسة المال في الإسلام.

فالزكاة حق المال، وهي عبادة من ناحية، وواجب اجتماعي من ناحية أخرى؛ فإذا جرينا على نظرية الإسلام في العبادات والاجتماعيات، قلنا: إنها واجب اجتماعي تعبدي، لذلك سماها "زكاة"، والزكاة طهارة ونماء؛ فهي طهارة للضمير والذمة بأداء الحق المفروض، وهي طهارة للنفس والقلب من فطرة الشح[13] وغريزة حب الذات، فالمال عزيز، والملك حبيب، فحين تجود النفس به للآخرين، إنما تطهر وترتفع وتشرق, وهي طهارة للمال بأداء حقه وصيرورته بعد ذلك حلالا؛ ولأن في الزكاة معنى العبادة، بلغ من لطف حس الإسلام ألا يطلب إلى أهل الذمة من أهل الكتاب أداءها، واستبدل بها الجزية؛ ليشتركوا في نفقات الدولة العامة، دون أن تفرض عليهم عبادة خاصة من عبادات الإسلام إلا أن يختاروها.

والزكاة حق الجماعة في عنق الفرد؛ لتكفل لطوائف منها كفايتهم أحيانا، وشيئا من المتاع بعد الكفاف أحيانا، وبذلك يحقق الإسلام جانبا من مبدئه العام: )كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم( (الحشر: 7)، ذلك أن الإسلام يكره للناس الفقر والحاجة، ويحتم أن ينال كل فرد كفايته من جهده الخاص وموارده الخاصة حين يستطيع، ومن مال الجماعة حين يعجز لسبب من الأسباب.

يكره الإسلام الفقر والحاجة للناس؛ لأنه يريد أن يعفيهم من ضرورات الحياة المادية ليفرغوا لما هو أعظم ولما هو أليق بالإنسانية، وبالكرامة التي خص الله بها بني آدم: )ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا (70)( (الإسراء).

ولقد كرمهم فعلا بالعقل والعاطفة، وبالأشواق الروحية إلى ما هو أعلى من ضرورات الجسد؛ فإذا لم يتوافر لهم من ضرورات الحياة ما يتيح لهم فسحة من الوقت والجهد لهذه الأشواق الروحية، ولهذه المجالات الفكرية، فقد سلبوا ذلك التكريم، وارتكسوا[14] إلى مرتبة الحيوان، لا بل إن الحيوان ليجد طعامه وشرابه غالبا وإن بعض الحيوان ليختال ويقفز ويمرح، وإن بعض الطير ليغرد فرحا بالحياة بعد أن ينال كفايته من الطعام والشراب.

فما هو بإنسان وما هو بكريم على الله، ذلك الذي تشغله ضرورات الطعام والشراب عن التطلع إلى مثل ما يناله الطير والحيوان، فضلا على ما يجب للإنسان الذي كرمه الله، فإذا قضى وقته وجهده، ثم لم ينل كفايته، فتلك هي الطامة التي تهبط به دركات عما أراد به الله؛ والتي تصم الجماعة التي يعيش فيها بأنها جماعة هابطة لا تستحق تكريم الله؛ لأنها تخالف عن إرادة الله.

إن الإنسان خليفة الله في أرضه، قد استخلفه عليها لينمي الحياة فيها ويرقيها، ثم ليجعلها ناضرة بهيجة ثم ليستمتع بجمالها ونضرتها، ثم ليشكر الله على أنعمه التي آتاه، والإنسان لن يبلغ من هذا كله شيئا، إذا كانت حياته تنقضي في سبيل اللقمة، وهذا إذا كانت كافية أصلا، فكيف إذا قضى الحياة لا يجد الكفاية؟

ويكره الإسلام أن تكون الفوارق بين أفراد الأمة ضخمة بحيث تعيش جماعة منها في مستوى الترف، وتعيش أخرى في مستوى الشظف،[15] بل ربما تتجاوز الشظف إلى الحرمان والجوع والعري، فهذه أمة غير مسلمة، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ليس بالمؤمن بالذي يبيت شبعانا وجاره جائع إلى جنبه». [16] ويقول صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه». [17] والإسلام يكره هذه الفوارق لما وراءها من أحقاد وأضغان تحطم أركان المجتمع، ولما فيها من أثرة وجشع وقسوة تفسد النفس والضمير، ولما فيها من اضطرار المحتاجين: إما إلى السرقة والغصب، وإما إلى الذل وبيع الشرف والكرامة, وكلها منحدرات يتجافى الإسلام بالجماعة عنها.

ويكره الإسلام أن يكون المال دولة بين الأغنياء في الأمة، وألا تجد الكثرة ما تنفق؛ لأن ذلك ينتهي في النهاية بتجميد الحياة والعمل والإنتاج في هذه الأمة، بينما وجود الأموال في أيدي أكبر عدد منها يجعل هذه الأموال تنفق في شراء ضروريات الحياة لهذا العدد الكبير؛ فيكثر الإقبال على السلع، فينشأ من هذا كثرة الإنتاج، فتترتب عليها العمالة الكاملة للأيدي العاملة, وبذلك تدور عجلة الحياة والعمل، والإنتاج والاستهلاك دورتها الطبيعية المثمرة.

لهذه المعاني جميعها شرع الله الزكاة؛ وجعلها فريضة في المال، وحقا لمستحقيها، لا تفضلا من مخرجيها، وحدد لها نصابا في المال يجعل الواجدين جميعا يشتركون في أدائها، ذلك أن أقصى حد للإعفاء منها 85 جراما ذهبا - أو ما يعادلها من المال - على أن تكون فائضة عن الحاجات الضرورية لمالكها، وعن الدين، وحال عليها الحول. وذلك بديهي؛ لأن الإنسان لا يطالب بالزكاة وهو مستحق للزكاة! أما في الزرع والثمار فهي موسمية موقوتة بمواسم الحصاد، وهي في عروض التجارة تقوم بالذهب أو الفضة، وفي الحيوان بنسب معينة تعادل نسبتها في المال، وهي ربع العشر على وجه التقريب، وفي الركاز[18] الخمس, على خلاف في أنواع الركاز، أتكون لصاحب الأرض، أم للجماعة.

أما المستحقون لها فهم كما نص عليهم في القرآن:

1.  الفقراء: وهم الذين يملكون أقل من النصاب، أو يملكون نصابا مستغرقا في الدين، وظاهر أن هؤلاء يملكون شيئا، ولكنه شيء قليل، والإسلام يريد أن ينال الناس كفايتهم، وشيئا فوق الكفاية يعينهم على المتاع بالدنيا على قدر الإمكان.

2.  المساكين: وهم الذين لا يملكون شيئا, وهم بطبيعة الحال أجدر بالعطاء من الفقراء, ويمكننا أن نلمح أن ذكر الفقراء قبلهم في الآية يرمي إلى أن وجود شيء قليل للفقراء لا يكفي، فكأنهم كالمساكين؛ لأن هدف الإسلام ليس مجرد الكفاف الضروري، ولكن شيء فوق الكفاف كما قدمت.

3.  العاملون عليها: وهم جباتها، وهؤلاء - وإن كانوا أغنياء - يعطون جزاء العمل، فهو راتب الوظيفة وذلك داخل في نظام الجهد والأجر، لا في باب الحاجة وسدها.

4.  المؤلفة قلوبهم: وهم الذين كانوا قد دخلوا في الإسلام حديثا، لتقوية قلوبهم، واجتذاب من عداهم، ولكن هذا المصرف قد أقفل بعد أن أعز الله الإسلام عقب حروب الردة في أيام أبي بكر، ولم يعد الإسلام في حاجة إلى تأليف القلوب بالمال، ومع أن هؤلاء قد نصت عليهم آية قرآنية، فإن عمر لم يجد حرجا[19] في منعها منهم.

5.  في الرقاب: وهم الأرقاء المكاتبون الذين يستردون حريتهم نظير قدر من المال متفق عليه مع مالكيهم تيسيرا عليهم لينالوا الحرية.

6.  الغارمون: وهم الذين استغرق الدين ثرواتهم، على ألا يكون هذا الدين في معصية، فلا يكون الترف وما يشبهه سببا فيه، وإعطاؤهم قسطا من الزكاة فيه سداد لديونهم، وتخليص لرقابهم منها، وفيه إعانة لهم على الحياة الكريمة.

7.  في سبيل الله: وهو مصرف عام تحدده الظروف، ومنه تجهيز المجاهدين، وعلاج المرضى، وتعليم العاجزين عن التعليم، وسائر ما تتحقق به مصلحة لجماعة المسلمين, والتصرف في هذا الباب يتسع لكل عمل اجتماعي في سائر البيئات والظروف.

8.  ابن السبيل: وهو المنقطع عن ماله الذي لا يجد ما ينفق، كالمهاجرين من الحروب والغارات والاضطهاد، الذين خلفوا أموالهم وراءهم، ولا سبيل لهم إلى هذه الأموال.

والإسلام لا يقرر لهذه الطوائف حقها في الزكاة إلا بعد أن تستنفد هي وسائلها الخاصة في الارتزاق؛ فالإسلام حريص على الكرامة الإنسانية، ومن ثم هو حريص على أن يكون لكل فرد مورد رزق يملكه، ولا يخضع فيه حتى للجماعة!

لذلك حث على الاستغناء عن طريق العمل، وجعل واجب الجماعة الأول أن تهيئ العمل لكل فرد فيها، فقد جاء سائل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستجديه، فأعطاه درهما وأمره أن يشتري به حبلا ليحتطب به فيعيش من عمل يده، وقال: «لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير من أن يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه»[20].

فهذه الإعانة من الزكاة هي وقاية اجتماعية أخيرة، وضمان للعاجز الذي يبذل طوقه[21] ثم لا يجد، أو يجد دون الكفاية، أو يجد مجرد الكفاف، ثم هي وسيلة لأن يكون المال دولة بين الجميع لتحقيق الدورة الكاملة السليمة للمال بين الإنتاج والاستهلاك والعمل من جديد, وفي هذا يجمع الإسلام بين الحرص على أن يعمل كل فرد بما في طاقته، وألا يرتكن إلى الإعانة الاجتماعية فيتبطل والحرص على أن يعين المحتاج بما يسد خلته[22] ويرفع عنه ثقل الضرورة ووطأة الحاجة وييسر له الحياة الكريمة، ثم الحرص على ضمان الدورة الصحيحة لرأس مال الأمة.

إن الزكاة هي قاعدة المجتمع المتكافل المتضامن الذي لا يحتاج إلى ضمانات النظام الربوي في أي جانب من جوانب حياته.

وإنما بهتت صورة "الزكاة" في حسنا وحس تلك الأجيال التعيسة التي لم تشهد نظام الإسلام مطبقا في عالم الواقع، ولم تشهد هذا النظام الذي يقوم على أساس التصور الإيماني، والتربية الإيمانية، والأخلاق الإيمانية، فيصوغ النفس البشرية صياغة خاصة، ثم يقيم لها النظام الذي تتنفس فيه تصوراتها الصحيحة وأخلاقها النظيفة وفضائلها العالية، ويجعل"الزكاة" قاعدة هذا النظام، في مقابل نظام الجاهلية الذي يقوم على القاعدة الربوية, ويجعل الحياة تنمو، والاقتصاد يرتقي عن طريق الجهد الفردي، أو التعاون البريء من الربا!

وليس المهم هو شكلية النظام، إنما المهم هو روحه، فالمجتمع الذي يربيه الإسلام بتوجيهاته وتشريعاته ونظامه، متناسق مع شكل النظام وإجراءاته، متكامل مع التشريعات والتوجيهات، ينبع التكافل من ضمائره ومن تنظيماته معا متناسقة متكاملة، وهذه حقيقة قد لا يتصورها الذين نشأوا وعاشوا في ظل الأنظمة المادية الأخرى، ولكنها حقيقة نعرفها نحن - أهل الإسلام - ونتذوقها بذوقنا الإيماني، فإذا كانوا هم محرومين من هذا الذوق لسوء طالعهم ونكد حظهم - وحظ البشرية التي صارت إليهم مقاليدها وقيادتها - فليكن هذا نصيبهم! وليحرموا من هذا الخير الذي يبشر الله - عز وجل - به: )إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (277)( (البقرة)، ليحرموا من الطمأنينة والرضى، فوق حرمانهم من الأجر والثواب، فإنما بجهالتهم وجاهليتهم وضلالهم وعنادهم يحرمون!

·       فرائض غير الزكاة:

فالزكاة ليست وحدها حق المال، وإنا لنلحظ شبه تواطؤ بين من يتحدثون عن الزكاة في هذه الأيام، على اعتبارها الحد الأقصى الذي يطلبه الإسلام دائما من رؤوس الأموال! لذلك ينبغي أن نكشف هذا التواطؤ، الذي يتعمده رجال الدين المحترفون, كما يتعمده من يريدون إظهار النظام الإسلامي بأنه غير صالح للعمل في عصر الحضارة!

إن الزكاة هي الحد الأدنى المفروض في الأموال، حين لا تحتاج الجماعة إلى غير حصيلة الزكاة، فأما حين لا تفي، فإن الإسلام لا يقف مكتوف اليدين، بل يمنح الإمام - الذي ينفذ شريعة الإسلام - سلطات واسعة للتوظيف في رؤوس الأموال، أي: جعل مقادير معلومة من المال يخرجها الأغنياء سوى الزكاة في الحدود اللازمة للإصلاح، وهذا من ملاحظة المصلحة في المسائل العامة، فإذا خلا بيت المال، أو ارتفعت حاجات الجند، وليس فيه ما يكفيهم، فللإمام أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافيا لهم في الحال، إلى أن يظهر مال في بيت المال، أو يكون فيه ما يكفي، ثم له أن يجعل هذه الوظيفة في أوقات حصاد الغلات، وجني الثمار، لكيلا يؤدي تخصيص الأغنياء إلى إيحاش قلوبهم.

ووجه المصلحة أن الإمام العادل لو لم يفعل ذلك لبطلت شوكته، وصارت الديار عرضة للفتنة وعرضة للاستيلاء عليها من الطامعين فيها، وقد يقول قائل: إنه بدل أن يقوم الإمام بفرض هذه الوظيفة يستقرض لبيت المال، وقد أجاب عن ذلك الشاطبي فقال: الاستقراض في الأزمات، إنما يكون حيث يرجى لبيت المال دخل ينتظر، وأما إذا لم ينتظر شيء، وضعفت وجوه الدخل بحيث لا يغني، فلا بد من جريان حكم التوظيف.

ومبدأ المصالح المرسلة، ومبدأ سد الذرائع، عند تطبيقهما في محيط أوسع، يمنحان الإمام الذي ينفذ شريعة الله سلطة واسعة لتدارك كل المضار الاجتماعية، بما في ذلك "التوظيف" في الأموال؛ رعاية للصالح العام للأمة وتحقيق العدالة الاجتماعية الكاملة.

فمبدأ حق الملكية الفردية في الإسلام، لا يمنع تبعا لهذا أن تأخذ الدولة نسبة من الربح، أو نسبة من رأس المال ذاته، على أن تظل قاعدة النظام الإسلامي مرعية، وهي أن تكون للناس ملكياتهم الخاصة، واستثماراتهم الخاصة، مقيدة بطرق التنمية المشروعة، وأن يكون التوظيف في الأموال الخاصة، بقدر الضرورة الطارئة حتى لا تستوحش قلوب الناس، ولا تفتر همتهم، ولا يقل اهتمامهم بتنمية الثروة وتحسين الإنتاج, وقبل ذلك كله، وأهم منه أن تبقى لهم طمأنينتهم على أرزاقهم، وألا يصبحوا عبيدا للدولة يخشون إن هم نصحوها أو عارضوها قطعت أرزاقهم، فالمسلم - كل مسلم - مكلف أن يراقب الحاكم، وأن يكفه عن الانحراف عن شريعة الله، فأنى له هذا إذا كان رزقه ليس في يده، ولا مال له إلا ما يسمح له به؟!

وبيان هذا ضروري، لكشف هذا التواطؤ الذي يبدو في تركيز القول كله حول الزكاة، كأنما هي كل حق المال في الإسلام، وكشف أولئك المحترفين الذين يشترون بآيات الله ثمنا قليلا، وما يأكلون في بطونهم إلا النار! وكشف أولئك الذين يصغرون من شأن الضمانات في النظام الإسلامي، ويقولون بعدم كفايتها، ليقولوا بعد ذلك بعدم كفاية النظام الإسلامي للحياة الحديثة! وكله رجم وافتراء، وجهل بحقيقة الإسلام، ونظامه، وبالواقع التاريخي الذي سجله هذا النظام[23].

ونعود لاستكمال الأمور التي يراعيها الإسلام في ناحيته الاقتصادية، كما يوضحها د. يوسف القرضاوي بقوله: إن على رأس هذه الأمور:

·   كفالة المعيشة الكريمة: التي تتوافر فيها "الحاجات الأصلية" - حسب تعبير فقهائنا - لكل مواطن عجز عن العمل، عجزا أصليا أو طارئا، عقليا أو جسميا، أو كان قادرا عليه ولكنه لم يجد عملا، ولم تستطع الدولة أن تهيئ له سبيل العمل المناسب لمثله, أو وجد عملا، ولكن كان دخله منه لا يكفيه، لكثرة أعبائه العائلية, أو لظروف عارضة زادت في معدل نفقاته، كمرض ألم به، أو بأحد من أسرته، أو لغلاء الأسعار أو نحو ذلك.

فمن واجب الدولة المسلمة أن توفر لكل إنسان يعيش في كنفها - مسلما أو غير مسلم - الغذاء الصحي اللازم، والملبس الواقي للجسم في حالتي الحر والبرد، والمسكن الذي يكن صاحبه ويستره ويشعره باستقلاله عن غيره، والعلاج الذي يزيل عنه آلام المرض وييسر له الشفاء، وفقا لسنن الله عز وجل, والتعليم المجاني الذي يخرجه من ظلمة الأمية والجهالة إلى نور المعرفة والثقافة، ويتيح لذوي المواهب أن يبلغوا أقصى درجات التعلم المستطاع للبشر، وأن يسدوا كل الثغرات التي تحتاج إليها الأمة في مختلف النواحي والتي عدها العلماء من فروض الكفاية.

ومن حق كل مواطن في دولة الإسلام أن يطالبها بهذه الحاجات الأساسية إذا قصرت في توفيرها لمستحقيها: فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهل بيته، وهو مسئول عن رعيته». [24] فجعل مسئولية الإمام - رئيس الدولة - عن الأمة كمسئولية رب البيت عن الأسرة.

وهذا ما بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بتطبيقه بوصفه إمام المسلمين في عهده وذلك حين قال: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي من المؤمنين فترك دينا فعلي قضاؤه، ومن ترك مالا فلورثته»[25].

ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - يقضي من بيت المال ديون من مات، ولم يترك وفاء.

وجاء عمر من بعد - وقد اتسعت ثروة الدولة الإسلامية - فبلغ بالتكافل مبلغا، لم تحلم به الإنسانية من قبل، ففرض عطاء لكل مولود في الإسلام، وأمر بإجراء معاش أو راتب لكل عاجز عن العمل من أهل الذمة من اليهود والنصارى.

·   مصادرة كل مال حصل عليه حائزه بطريق من طرق الحرام: وأكل أموال الناس بالباطل، كالغصب،[26] أو الاختلاس،[27] أو الرشوة،[28] أو استغلال النفوذ ونحوها، سواء أكان هذا المال عقارا أم منقولا، بشرط أن يثبت ذلك بتحقيق نزيه، وأن يفصل فيه قضاء عادل، وما ينتج عن هذه المصادرة المشروعة يصرف في المصالح العامة، أو في مصالح الفئات الضعيفة خاصة.

·   يجب أن يخضع موظفو الدولة - وبخاصة الكبار منهم - لقانون "من أين لك هذا"؟! بحيث يعاقبون على كل كسب غير مشروع، بمصادرته كله أو بعضه بحسب قوة الشبهة في الملك أو ضعفها، اقتداء بما بدأ به النبي - صلى الله عليه وسلم - من محاسبة ابن اللتبية، وما سار عليه عمر - رضي الله عنه - من بعده في محاسبة ولاته ومشاطرتهم أحيانا نصف ما كسبوا أثناء ولايتهم.

·   يجب على الدولة في الإسلام محاربة السرف[29] والترف في المجتمع بالتشريع والتوجيه؛ توفيرا للطاقات المادية والبشرية التي تذهب هدرا من جراء التسابق المجنون في اقتناء الكماليات، بل المحرمات، وحفاظا على المجتمع من التفسخ والانحلال الذي ينذر به الترف كل من غرق فيه، ووقاية للأمة من الحقد الطبقي والانقسام إلى أكثرية كادحة شبه محرومة من الحاجات الأساسية للحياة، وأقلية متنعمة مترهلة تسمن على هزال غيرها.

·   يجب تقريب الفوارق الاقتصادية بين الأفراد والفئات؛ بالعمل الدائب على الحد من طغيان الأغنياء، والرفع من مستوى الفقراء، وتصفية الامتيازات التي توارثها بعض الناس بغير حق، وإزالة المظالم التي يرزخ تحت نيرها آخرون بالباطل، وتضييق الفروق - ما أمكن ذلك - بين أعلى الرواتب وأدناها، بحيث يختفي منظر الثراء الفاحش، إلى جانب الفقر المدقع.

·   تقريب الفوارق بين القرية والمدينة؛ بحيث لا تستحوذ المدينة وسكانها على جل اهتمام الدولة وجل خدماتها، وتترك القرية في زوايا النسيان أو الإهمال، فلا بد من مزيد من الاهتمام بالقرية ورفع مستواها صحيا، واقتصاديا، وعمرانيا، واجتماعيا، وثقافيا, فلولا القرية ما أكلت المدينة.

·   تطهير كل المؤسسات الاقتصادية من رجس الربا؛ ومن كل معاملة تخالف شريعة الإسلام، وإنشاء مصارف - بنوك - إسلامية تتعامل على غير أساس الربا، وإلغاء كل البنوك التي لا تخضع لهذا الاتجاه، وبذلك تحرر الأمة من نجاسة السحت، [30] ومن شر آثار الرأسمالية، ومن أخطبوط اليهودية العالمية المتصرفة في ذهب العالم وبنوك الدنيا، ولا تأذن الأمة بحرب من الله ورسوله.

وفيما كتبه أساتذة الاقتصاد الإسلاميون في مصر وباكستان وغيرها مجال رحب لمن يريد تحويل النظريات إلى واقع عملي، وإذا صدق العزم وضح السبيل.

·   وضع خطة على أساس علمي وإحصائي؛ لزيادة ثروة الأمة، وتنمية إنتاجها كما ونوعا، والاستفادة من التكامل الاقتصادي بين البلدان الإسلامية للعمل على تحقيق الاكتفاء الذاتي فيما بينها، واتخاذ الوسائل الفعالة مادية ومعنوية، لدفع عجلة التنمية، وتنظيف المجتمع من كل الآفات النفسية، والأخلاقية، والثقافية، والاجتماعية التي تعطل طاقات الشعب، وتحطم منجزاته، وتعوق مسيرته نحو التقدم[31].

·   تقرير حق الملكية الفردية للأفراد، والسماح للأفراد بتنمية هذه الملكية، لكن في حدود مصلحة الفرد، والجماعة التي يتعامل معها.

فأما تقرير الإسلام لحق الملكية الفردية، فكما يقول الشيخ سيد قطب: الإسلام لا يدع حق الملكية الفردية مطلقا بلا قيود ولا حدود - كالنظام الرأسمالي - فهو يقرره، ويقرر بجواره مبادئ أخرى، تجعله أداة لتحقيق مصلحة الجماعة بنفس الدرجة التي تتحقق بها مصلحة الفرد المالك سواء! وهو يشرعه ويشرع له الحدود والقيود، التي ترسم لصاحبه طرقا معينة في تنميته وإنفاقه وتداوله, ومصلحة الجماعة كامنة من وراء هذا كله، ومصلحة الفرد ذاته كذلك، في حدود الأهداف الخلقية التي يقيم الإسلام عليها الحياة.

وأول مبدأ يقرره الإسلام - بجوار حق الملكية الفردية - أن الفرد أشبه شيء بالوكيل في هذا المال عن الجماعة، وأن حيازته له إنما هي وظيفة أكثر منها امتلاكا؛ وأن المال في عمومه إنما هو أصلا حق للجماعة، والجماعة مستخلفة فيه عن الله، الذي لا مالك لشيء سواه, والملكية الفردية تنشأ من بذل الفرد جهدا خاصا لحيازة شيء معين من هذه الملكية العامة التي استخلف الله فيها جنس الإنسان.

وجاء في القرآن الكريم قوله عز وجل: )آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه( (الحديد: 7)، ولا يحتاج نص الآية إلى تأويل ليؤدي المعنى الذي فهمناه منه، وهو أن المال الذي في أيدي البشر هو مال الله، وهم فيه خلفاء لا أصلاء، وفي آية أخرى في صدد المكاتبين من الأرقاء: )وآتوهم من مال الله الذي آتاكم( (النور: 33)، فما يعطونهم هذا المال من ملكهم، ولكنهم يعطونهم من مال الله وهم فيه وسطاء.

وهناك ما هو أصرح من هذا في حقيقة ملكية المال الفردية، بوصفها ملكية التصرف والانتفاع - وهذا هو الواقع؛ فالملكية العينية لا قيمة لها بدون حق التصرف والانتفاع - فشرط بقاء هذه الوظيفة هو الصلاحية للتصرف؛ فإذا سفه التصرف كان للولي أو للجماعة استرداد حق التصرف: )ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم( (النساء: 5)، فحق التصرف مرهون بالرشد وإحسان القيام بالوظيفة، فإذا لم يحققها المالك وقفت النتائج الطبيعية للملك وهي حقوق التصرف، ويؤيد هذا المبدأ أن الإمام وريث من لا وريث له، فهو مال الجماعة وظف فيه فرد، فلما انقطع خلفه عاد المال إلى مصدره.

ولسنا نقرر هذا الأصل لنقرر شيوعية المال، فحق الملكية الفردية حق أساسي واضح في النظام الإسلامي، ولكننا نقرره لما فيه من معنى دقيق مفيد في تكوين فكرة حقيقية عن طبيعة الملكية الفردية، وتقيدها بهذا الأصل العام في نظرة الإسلام إلى المال، واختلافها كلية عن النظرية الرأسمالية في الملكية الفردية، وبلغة أوضح: نقرر أن شعور الفرد بأنه مجرد موظف في هذا المال الذي في يده والذي هو في أصله ملك للجماعة، يجعله يتقبل الفروض التي يضعها النظام على عاتقه، والقيود التي يحد بها تصرفاته، كما أن شعور الجماعة بحقها الأصيل في هذا المال، يجعلها أجرأ في فرض الفروض، وسن الحدود - دون تجاوز لقواعد النظام الإسلامي التي أشرنا إليها, وينتهي بهذا إلى قواعد تحقق العدالة الاجتماعية كاملة في الانتفاع بهذا المال.

·   ومبدأ آخر يقرره الإسلام في ملكية المال، هو كراهية أن يحبس في أيدي فئة خاصة من الناس ويتداول بينهم ولا يجده الآخرون، قال عز وجل: )كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم( (الحشر: 7)، ومعنى هذا أن يؤخذ بعض المال من الأغنياء فيملك بالفعل للفقراء، ولهذا النص قصة تفيدنا هنا في فهم هذا المبدأ العام.

لقد هاجر المهاجرون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة، فأما الفقراء فما كان لهم مال ينقلونه معهم، وأما الأغنياء فقد تركوا أموالهم خلفهم، فهم فقراء كالفقراء، ولقد سخت نفوس الأنصار، وارتفعت على الشح الفطري الكامن في النفس البشرية، فآخوا المهاجرين في كل شيء يملكون، حتى في أخص خصوصياتهم، طيبة نفوسهم بذلك، سمحة قلوبهم: )يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة( (لحشر: 9)، وبذلك كانوا نموذجا رائعا لما تصنعه العقيدة بالنفوس، وضربوا مثلا جميلا للتخلص من ضغط الضرورات والانطلاق إلى أرفع الأشواق.

ولكن الفجوة ظلت واسعة بين أثرياء المدينة، وفقراء المهاجرين والنبي - صلى الله عليه وسلم - يرى سماحة الأنصار وسخاءهم، فلا يجد أن به حاجة لأن يطلب إليهم أكثر مما بذلوا، ولا أن يكلفهم رد بعض من أموالهم على المهاجرين، وهم يؤاخونهم في كل ما يملكون,إلى أن كانت موقعة "بني النضير" التي لم تقع فيها حرب، بل سلمت للنبي - صلى الله عليه وسلم - صلحا، فكان فيؤها كله لله وللرسول - صلى الله عليه وسلم - بخلاف ما يقع فيه الحرب، فتكون أربعة أخماسه للمقاتلين، والخمس وحده لله وللرسول - عندئذ رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعيد لجماعة المسلمين شيئا من التوازن في ملكية المال؛ فمنح فيء بني النضير للمهاجرين خاصة، عدا رجلين فقيرين من الأنصار، تنطبق عليهما الحكمة التي أوحت إليه بتخصيص هذا الفيء للمهاجرين.

وفي هذه الواقعة يقول القرآن: )ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب (7) للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون (8)( (الحشر).

ودلالة هذا التصرف من الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهذا التعليل لذلك التصرف في القرآن، غير خافية ولا في حاجة إلى بيان، فهي تقرر مبدأ إسلاميا صريحا، وهو كراهة انحباس الثروة في أيد قليلة في الجماعة، وضرورة تعديل الأوضاع التي تقع فيها هذه الظاهرة بتمليك الفقراء قسطا من المال؛ ليكون هناك نوع من التوازن، و: )كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم( (الحشر: 7)، ذلك أن تضخم المال في جانب وانحساره في الجانب الآخر، مثار مفسدة عظيمة، فوق ما يثيره من أحقاد وأضغان, فحيثما وجدت ثروة فائضة، كانت كالطاقة الحيوية الفائضة في الجسد، لا بد لها من تصريف، وليس من المضمون دائما أن يكون هذا التصريف نظيفا ومأمونا، فلا بد أن تأخذ طريقها أحيانا في صورة ترف مفسد للنفس مهلك للجسد، وفي صورة شهوات تقضي تجد متنفسها في الجانب الآخر المحتاج إلى المال، يصل إليه عن طريق بيع العرض[32] والاتجار فيه، ومن طريق الملق[33] والكذب وفناء الشخصية، لإرضاء شهوات الذين يملكون المال، وتمليق غرورهم وخيلائهم، والمضطر يركب الصعب، وصاحب المال المتضخم لا يعنيه إلا أن يجد متصرفا للفائض من حيويته، والفائض من ثروته,وليست الدعارة وسائر ما يتصل بها من خمر وميسر وتجارة رقيق وقوادة، وسقوط مروءة، وضياع شرف, سوى أعراض لتضخم الثروة في جانب وانحسارها عن الجانب الآخر، وعدم التوازن في المجتمع نتيجة هذا التفاوت.

ذلك عدا أحقاد النفوس، وتغير القلوب على ذوي الثراء الفاحش من المحرومين الذين لا يجدون ما ينفقون؛ فهم إما أن يحقدوا، وإما أن تتهاوى نفوسهم وتتهافت، وتتضاءل قيمهم الذاتية في نظر أنفسهم، فتهون عليهم كراماتهم أمام سطوة المال، ومظاهر الثراء، ويصبحوا قطعا آدمية حقيرة صغيرة، لا هم لها إلا إرضاء أصحاب الثراء والجاه, وهذا ما وقع في النظام الرأسمالي.

والإسلام على كثرة ما يشيد بالقيم المعنوية، لا يغفل أثر القيم الاقتصادية، ولا يكلف الناس فوق طاقتهم البشرية، مهما تسامى بهم عن الضرورات الأرضية؛ لذلك كره أن يكون المال دولة بين الأغنياء فحسب، وجعل هذا أصلا من أصول نظريته في سياسة المال,وأوجب رد بعض هذا المال للفقراء، ليكون لهم مورد رزق مملوك لهم، يضمن لهم الكرامة والذاتية، ويجعلهم قادرين على القيام بأمانة هذا الدين في التغيير على المنكر من الحكام والمحكومين سواء.

على أن هناك نوعا من الأموال التي لا يجوز احتجازها للأفراد، عدد الرسول - صلى الله عليه وسلم - منها ثلاثة: الماء، والكلأ، والنار، كما ذكر في قوله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون شركاء في ثلاث: في الماء، والكلأ، والنار».[34] بوصفها موارد ومرافق عامة ضرورية لحياة الجماعة في البيئة العربية، فالانتفاع بها للجماعة كلها على وجه الشيوع والمشاركة العامة, والضروريات لحياة الجماعة تختلف في بيئة عن بيئة، وفي عصر عن عصر، والقياس - وهو أحد أصول التشريع في الإسلام - ينفسح لسواها عند التطبيق مما هو في حكمها، على ألا يؤثر ذلك في القواعد الأساسية للنظام الإسلامي، ولا يجرد الأفراد جميعا من ملكياتهم الخاصة ليصبحوا أجراء عند الدولة، فإن الدولة عندئذ تملك استرقاقهم واستذلال رقابهم بأشد مما يملك الأفراد الأثرياء؛ لأنها تضم قوة المال إلى قوة السلطان.

وهناك جزء من المال هو حق لبعض المحتاجين في الجماعة، وهو المفروض في صورة زكاة: )والذين في أموالهم حق معلوم (24) للسائل والمحروم (25)( (المعارج)، وهو يخرج من ملكية دافعي الزكاة إلى ملكية مستحقي الزكاة: )إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم (60)( (التوبة)، وهو حق تأخذه الجماعة، ثم ترده مرة أخرى إلى الأفراد المحددين, فتكون وظيفة الجماعة حينئذ هي نقل الملكية الفردية من جهة إلى جهة، ومن يد إلى يد أخرى.

فخلاصة الحقيقة عن طبيعة الملكية الفردية في الإسلام: أن الأصل هو أن المال للجماعة في عمومها، وأن الملكية الفردية وظيفة ذات شروط وقيود، وأن بعض المال شائع لا حق لأحد في امتلاكه، ينتفع به الجميع على وجه المشاركة، وأن جزءا منه كذلك حق يرد إلى الجماعة لترده على فئات معينة فيها، هي في حاجة إليه، لصلاح حالها وحال الجماعة معها[35].

وبهذا العرض الرائع لزوايا النظام الاقتصادي في الإسلام يتضح لنا مدى شمول الشريعة الإسلامية ووفائها بحاجات المجتمع في كل زمان ومكان، ومدى تفوق النظام الإسلامي في الاقتصاد وتميزه على ما سواه من أنظمة البشر القاصرة التي لا تلبث قليلا حتى يظهر عوارها وتتضخم عيوبها ومفاسدها يوم بعد يوم؛ حتى يضطروا إلى إنشاء نظام جديد يكون - بحكم أنه بشري - قاصرا عن الاستمرار والبقاء، وهكذا يفشل نظام تلو نظام آخر، وصدق الله العظيم إذ يقول: )ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون (38)( (الأنعام).

2.  في الناحية السياسية:

أما عن النظام السياسي الإسلامي، فإن الإسلام دين ودولة منذ أول يوم بعث فيه النبي صلى الله عليه وسلم. يقول د. يوسف القرضاوي: قبل أن نوضح عناية الإسلام بالسياسة نحتاج إلى شرح مصطلح "الإسلام السياسي"، فقد كثرت في السنوات الأخيرة بعض العبارات التي شاعت على ألسنة وأقلام بعض العلمانيين والمتغربين[36] من اليساريين[37] واليمينيين،[38] أعني من الذين يتبعون الفكر الماركسي[39] الشرقي أو الفكر الليبرالي[40] الغربي.

ومن هذه التعبيرات تعبير "الإسلام السياسي" ويعنون به الإسلام الذي يعني بشئون الأمة الإسلامية وعلاقاتها في الداخل والخارج، والعمل على تحريرها من كل سلطان أجنبي يتحكم في رقابها، ويوجه أمورها المادية والأدبية كما يريد، ثم العمل كذلك على تحريرها من رواسب الاستعمار الغربي الثقافية والاجتماعية والتشريعية، لتعود من جديد إلى تحكيم شرع الله - عز وجل - في مختلف جوانب حياتها.

وهم يطلقون هذه الكلمة "الإسلام السياسي" للتنفير من مضمونها، ومن الدعاة الصادقين، الذين يدعون إلى الإسلام الشامل، باعتباره عقيدة وشريعة، ودينا ودولة، فهل هذه التسمية المحدثة" الإسلام السياسي" مقبولة من الناحية الشرعية؟ وهل إدخال السياسة في الإسلام أمر مبتدع من لدن الدعاة المحدثين والمعاصرين؟ أو يعتبر هذا من الدين الثابت بالقرآن والسنة؟

ولكي نوضح حقيقة هذا الأمر في ضوء الأدلة الشرعية المحكمة، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة نقول:

1.    هذه التسمية "الإسلام السياسي" مرفوضة:

إن هذه التسمية مرفوضة؛ وذلك لأنها تطبيق لخطة وضعها خصوم الإسلام، تقوم على تجزئة الإسلام وتفتيته بحسب تقسيمات مختلفة، فليس هو إسلاما واحدا كما أنزله الله، وكما ندين به نحن المسلمين، بل هو"إسلامات" متعددة مختلفة كما يحب هؤلاء.

فهو ينقسم أحيانا بحسب الأقاليم: فهناك الإسلام الآسيوي، والإسلام الإفريقي, وأحيانا بحسب العصور: فهناك الإسلام النبوي، والإسلام الراشدي، والإسلام الأموي، والإسلام العباسي، والإسلام العثماني، والإسلام الحديث. وأحيانا بحسب الأجناس: فهناك الإسلام العربي، والإسلام الهندي، والإسلام التركي، والإسلام الماليزي... إلخ, وأحيانا بحسب المذهب: هناك الإسلام السني، والإسلام الشيعي، وقد يقسمون السني إلي أقسام، والشيعي إلى أقسام أيضا.

وزادوا على ذلك تقسيمات جديدة: فهناك الإسلام الثوري، والإسلام الرجعي، أو الراديكالي، والكلاسيكي، [41] والإسلام اليميني، والإسلام اليساري، والإسلام المتزمت، والإسلام المنفتح.

وأخيرا الإسلام السياسي، والإسلام الروحي، والإسلام الزمني، والإسلام اللاهوتي[42]!

ولا ندري ماذا يخترعون لنا من تقسيمات يخبئها ضمير الغد؟!

والحق أن هذه التقسيمات كلها مرفوضة في نظر المسلم، فليس هناك إلا إسلام واحد لا شريك له، ولا اعتراف بغيره، هو" الإسلام الأول" إسلام القرآن والسنة, الإسلام كما فهمه أفضل أجيال الأمة، وخير قرونها، من الصحابة ومن تبعهم بإحسان، ممن أثنى الله عليهم ورسوله صلى الله عليه وسلم.

فهذا هو الإسلام الصحيح، قبل أن تشوبه الشوائب، وتلوث صفاءه ترهات الملل وتطرفات النحل، وشطحات الفلسفات، وابتداعات الفرق، وأهواء المجادلين، وانتحالات المبطلين، وتعقيدات المتنطعين، وتعسفات المتأولين الجاهلين.

2.    الإسلام لا يكون إلا سياسيا:

يجب أن نعلنها صريحة مدوية: إن الإسلام الحق - كما شرعه الله - لا يمكن أن يكون إلا سياسيا، وإذا جردت الإسلام من السياسة، فقد جعلته دينا آخر يمكن أن يكون بوذية أو نصرانية، أو غير ذلك، أما أن يكون هو الإسلام فلا.

إننا إذا نظرنا إلى الإسلام وجدناه يوجه الحياة كلها، وذلك لسببين رئيسين:

·   أن للإسلام موقفا واضحا، وحكما صريحا في كثير من الأمور التي تعتبر من صلب السياسة، فالإسلام ليس عقيدة لاهوتية، أو شعائر تعبدية فحسب، أعني أنه ليس مجرد علاقة بين الإنسان وربه، ولا صلة له بتنظيم الحياة، وتوجيه المجتمع والدولة، كلا, إنه عقيدة وعبادة، وخلق وشريعة متكاملة، وبعبارة أخرى: هو منهاج كامل للحياة، بما وضع من مبادئ، وما أصل من قواعد، وما سن من تشريعات، وما بين من توجيهات تتصل بحياة الفرد، وشئون الأسرة، وأوضاع المجتمع، وأسس الدولة وعلاقات العالم.

ومن قرأ القرآن الكريم والسنة المطهرة، وكتب الفقه الإسلامي بمختلف مذاهبه، وجد هذا واضحا كل الوضوح.

حتى قسم العبادات من الفقه ليس بعيدا عن السياسة، فالمسلمون مجمعون على أن ترك الصلاة، ومنع الزكاة، والمجاهرة بالفطر في رمضان، وإهمال فريضة الحج مما يوجب العقوبة والتعزير، وقد يقتضي القتال إذا تظاهرت عليه فئة ذات شوكة، كما فعل أبو بكر - رضي الله عنه - مع مانعي الزكاة.

بل قالوا: لو ترك أهل بلدة ما بعض السنن التي هي من شعائر الإسلام؛ مثل الأذان أو ختان الذكور، أو صلاة العيدين، وجب أن يدعوا إلى ذلك وتقام عليهم الحجة، فإن أصروا وأبوا وجب أن يقاتلوا، حتى يعودوا إلى الجماعة التي شذوا عنها.

إن الإسلام له قواعده وأحكامه وتوجيهاته: في سياسة التعليم، وسياسة الإعلام، وسياسة التشريع، وسياسة الحكم، وسياسة المال، وسياسة السلم، وسياسة الحرب، وكل ما يؤثر في الحياة، ولا يقبل أن يكون خادما لفلسفات أو أيديولوجيات أخرى، بل يأبى إلا أن يكون هو السيد والقائد والمتبوع والمخدوم.

بل هو لا يقبل أن تقسم الحياة بينه وبين سيد آخر، يقاسمه التوجيه أو التشريع، ولا يرضى المقولة التي تنسب إلى المسيح عليه السلام: "أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله", فإن فلسفته تقوم على أن قيصر وما لقيصر لله الواحد الأحد، الذي له من في السماوات ومن في الأرض، وما في السماوات وما في الأرض ملكا وملكا.

وفكرة التوحيد في الإسلام تقوم على أن المسلم لا يبغي غير الله ربا، ولا يتخذ غير الله وليا، ولا يبتغي غير الله حكما، كما بينت ذلك سورة التوحيد الكبرى المعروفة باسم "سورة الأنعام".

وعقيدة التوحيد في حقيقتها ما هي إلا ثورة لتحقيق الحرية والمساواة والأخوة للبشر، حتى لا يتخذ بعض الناس بعضا أربابا من دون الله، وتبطل عبودية الإنسان للإنسان؛ ولذا كان الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - يختم رسائله إلى ملوك أهل الكتاب بهذه الآية الكريمة من سورة آل عمران: )قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون (64)( (آل عمران).

وهذا سر وقوف المشركين وكبراء مكة في وجه الدعوة الإسلامية، من أول يوم، بمجرد رفع راية" لا إله إلا الله" فقد كانوا يدركون ماذا وراءها، وماذا تحمل من معاني التغيير للحياة الاجتماعية والسياسية، بجانب التغيير الديني المعلوم بلا ريب.

·   أن شخصية المسلم - كما كونها الإسلام وصنعتها عقيدته وشريعته وعبادته وتربيته - لا يمكن إلا أن تكون سياسية، إلا إذا ساء فهمها للإسلام، أو ساء تطبيقها له.

فالإسلام يضع في عنق كل مسلم فريضة اسمها: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر وقد يعبر عنها بعنوان: النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم، وهي التي صح في الحديث اعتبارها الدين كله، قال صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة». [43] وقد يعبر عنها بالتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، وهما من الشروط الأساسية للنجاة من خسر الدنيا والآخرة، كما وضحت ذلك"سورة العصر".

وعن عناية المسلم بالشأن العام لأمته - وهو ما يسمونه الآن: السياسة - فقد بين أن:

o      مقاومة الفساد والظلم أفضل الجهاد:

يحرض الرسول - صلى الله عليه وسلم - المسلم على مقاومة الفساد في الداخل ويعتبره أفضل من مقاومة الغزو من الخارج، فيقول حين سئل عن أفضل الجهاد: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر». [44] وذلك لأن فساد الداخل هو الذي يمهد السبيل لعدوان الخارج، ويعتبر الشهادة هنا من أعلى أنواع الشهادة في سبيل الله، قال صلى الله عليه وسلم: «سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله»[45].

ويغرس في نفس المسلم رفض الظلم، والتمرد على الظالمين؛ حتى إنه ليقول في دعاء القنوت: «نثني عليك الخير ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك»[46].

ويرغب في القتال لإنقاذ المضطهدين والمستضعفين في الأرض، بأبلغ عبارات الحث والتحريض، فيقول عز وجل: )وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا (75)( (النساء).

ويصب جام غضبه، وشديد إنكاره على الذين يقبلون الضيم، ويرضون بالإقامة في أرض يهانون فيها ويظلمون، ولديهم القدرة على الهجرة منها والفرار إلى أرض سواها، فيقول: )إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا (97) إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا (98)( (النساء).

حتى هؤلاء العجزة والضعفاء قال القرآن في شأنهم: )فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم( (النساء: ٩٩)، فجعل ذلك في مظنة الرجاء من الله عز وجل، زجرا عن الرضا بالذل والظلم ما وجد المسلم إلى رفضه سبيلا.

وحديث القرآن المتكرر عن المتجبرين في الأرض من أمثال فرعون وهامان وقارون وأعوانهم وجنودهم، حديث يملأ قلب المسلم بالنقمة عليهم، والإنكار لسيرتهم، والبغض لطغيانهم، والانتصار - فكريا وشعوريا - لضحاياهم من المظلومين والمستضعفين.

o      تغيير المنكر فريضة:

وحديث القرآن والسنة عن السكوت على المنكر، والوقوف موقف السلب من مقترفيه - حكاما أو محكومين - حديث يزلزل كل من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، يقول القرآن: )لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (78) كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون (79)( (المائدة)، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»[47].

فهل يسع المسلم الشحيح بدينه، الحريص على مرضاة ربه، أن يقف صامتا؟ أو ينسحب من الميدان هاربا أمام المنكرات وغيرها خوفا أو طمعا، أو إيثارا للسلامة؟

إن مثل هذه الروح إن شاعت في الأمة فقد انتهت رسالتها، وحكم عليها بالفناء، لأنها غدت أمة أخرى، غير الأمة التي وصفها الله بقوله: )كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون (110)( (آل عمران).

إن المسلم مطالب - بمقتضى إيمانه - ألا يقف موقف المتفرج من المنكر، أيا كان نوعه: سياسيا كان أو اقتصاديا أو اجتماعيا أو ثقافيا، بل عليه أن يقاومه ويعمل على تغييره باليد - إن استطاع - وإلا فباللسان والبيان، فإن عجز عن التغيير باللسان انتقل إلى آخر المراحل وأدناها، وهي التغيير بالقلب، وهي التي جعلها الحديث: "أضعف الإيمان".

وإنما سماه الرسول - صلى الله عليه وسلم - تغييرا بالقلب؛ لأنه تعبئة نفسية وشعورية ضد المنكر وأهله وحماته، وهذه التعبئة ليست أمرا سلبيا محضا - كما يتوهم - ولو كانت كذلك ما سماها الحديث "تغييرا".

ومما يجعل المسلم سياسيا: أنه مطالب بمقتضى إيمانه ألا يعيش لنفسه وحدها، دون اهتمام بمشكلات الآخرين وهمومهم، وخصوصا المؤمنين منهم، بحكم أخوة الإيمان: )إنما المؤمنون إخوة( (الحجرات: 10).

والقرآن كما يفرض على المسلم أن يطعم المسكين، يفرض عليه أن يحض الآخرين على إطعامه، ولا يكون كأهل الجاهلية الذين ذمهم القرآن بقوله: )كلا بل لا تكرمون اليتيم (17) ولا تحاضون على طعام المسكين (18)( (الفجر)، ويجعل القرآن التفريط في هذا الأمر من دلائل التكذيب بالدين: