دعوى أن القوانين الوضعية أفضل من أحكام الشريعة الإسلامية لتناسبها مع الحضارة الحديثة (*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المشككين أن القوانين الوضعية أكثر تلاؤما وروح العصر من أحكام الشريعة الإسلامية؛ لذا فهي أنسب دستور للدولة الحديثة. ويبرهنون على ذلك بكون أحكام الشريعة الإسلامية ثابتة لا تتغير, في حين أن القوانين الوضعية متغيرة بتغير الزمان، والمكان، والحال.
ويهدفون من وراء ذلك إلى الطعن في مرونة الشريعة الإسلامية من جهة, ووصم أحكامها بالجمود وعدم صلاحيتها للتطبيق في الواقع المعاصر من جهة أخرى.
وجها إبطال الشبهة:
1) الشريعة الإسلامية ربانية تتسم بالكمال والسمو والديمومة، كما أن بها من السمات المزدوجة كالثبات في مقابل المرونة، والخلود في مقابل التطور ما يجعلها صالحة لكل زمان ومكان، والمتأمل لهذه السمة المزدوجة في الشريعة يلحظها على هذا النحو:
· الثبات في الأهداف والغايات، والمرونة في الوسائل والأساليب.
· الثبات في الأصول والكليات، والمرونة في الفروع والجزئيات.
· الثبات في القيم الدينية والأخلاقية، والمرونة في الشئون الدنيوية والعلمية.
وهذا كله بخلاف القانون الوضعي الذي لا يصلح حتى لمن وضعوه.
2) شريعة الإسلام شهد لصلاحيتها الوحي والتاريخ والواقع، في حين أن القانون الوضعي يثبت دائما فشله، مما يقتضي تغييره بين الحين والآخر، ونجاح الشريعة في تحقيق الخير للمجتمع الإسلامي خير دليل على أفضليتها وصلاحيتها لكل زمان ومكان.
التفصيل:
أولا. بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية:
ليس ثمة وجه تقارب بين أحكام الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية يسوغ لأحد الموازنة بينهما فضلا عن الجزم بأفضلية الأخيرة والدعوة إلى استبدالها بتلك؛ فالشريعة أنزلها رب الأرض والسماء، الذي يعلم السر وأخفى، والذي بمقدوره - وحده - أن يهيئ للبشر أسباب الخير والسعادة في حياتهم: )ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير (14)( (الملك).
أما القوانين الوضعية فأنى لها أن تفي بحاجة كل البشر وقد اختلقها بعضهم، فهل نترك ما شرع خالق البشر للبشر ونتحاكم بما شرعه البشر للبشر؟! وتلك القوانين في مجملها عاجزة عن الوفاء بحاجة عصر واحد في بلدان مختلفة، أو بلد واحد في عصور مختلفة.
وهذا أمر بين يقره المنصفون، ويؤيده الواقع, أما ما ادعاه بعضهم من مناسبتها للعصر أكثر من أحكام الشريعة فوهم باطل؛ لأن أحكام الشريعة الإسلامية بها من عوامل القوة والمرونة والسعة والشمولية ما يجعلها صالحة لكل زمان ومكان، بخلاف القانون الوضعي الذي لا يصلح حتى لمن وضعوه؛ وما اتهمها بعضهم بالجمود إلا لأن عقولهم عاجزة عن الكمال الرباني المعهود في الشرائع الربانية، على أن الدراسة الموضوعية الجادة لأحكام الشريعة الإسلامية ومقارنتها بالقوانين الوضعية تؤكد تفوق الشريعة الإسلامية وتميزها دائما على ما سواها من الشرائع والقوانين، كما توضح - بما لا يدع مجالا للشك - أن من يفتري القول بأن الشريعة لا تصلح لهذا العصر، وأن القوانين الوضعية أفضل من الشريعة الإسلامية في الدولة الحديثة المعاصرة، لم تصدر أحكامه تلك عن دراسة علمية موضوعية دقيقة، ولا استندت إلى أدلة منطقية معقولة مقنعة، وهذا ما يوضحه الفقيه عبد القادر عودة - رحمه الله - إذ يقول: "قد تبين من دراسة الشريعة الإسلامية أن القائلين بكونها لا تصلح للعصر الحاضر لا يبنون رأيهم على دراسة علمية أو حجج منطقية؛ لأن الدراسة العلمية والمنطق يقتضيان القول بتفوق الشريعة الإسلامية على القوانين الوضعية، وبصلاحية الشريعة لهذا العصر ولما سيتلوه من عصور.
وفوق هذا فالقائلون بعدم صلاحية الشريعة للعصر الحاضر فريقان: فريق لم يدرس الشريعة ولا القانون، وفريق درس القانون دون الشريعة, وكلا الفريقين ليس أهلا للحكم على الشريعة؛ لأنهما يجهلان أحكامها جهلا مطبقا، ومن جهل شيئا لا يصلح للحكم عليه.
والواقع أن هؤلاء الجاهلين بالشريعة يبنون عقيدتهم الخاطئة - في عدم صلاحية الشريعة - على قياس خاطئ، وليس عن دراسة منظمة، ذلك أنهم تعلموا أن القوانين الوضعية القائمة الآن لا تمت بصلة إلى القوانين القديمة التي كانت تطبق حتى أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر الميلادي، وعلموا أن القوانين الوضعية الحديثة قائمة على نظريات فلسفية واعتبارات اجتماعية وإنسانية لم يكن لها وجود في القوانين القديمة، وتحملهم المقارنة بين هذين النوعين من القوانين على الاعتقاد بعدم صلاحية القوانين القديمة للعصر الحاضر، وهو اعتقاد كله حق، ولكنهم ينساقون بعد ذلك إلى الخطأ حين يقيسون الشريعة الإسلامية بالقوانين الوضعية؛ فيقولون: مادامت القوانين التي كانت سائدة حتى أواخر القرن الثامن عشر لا تصلح لعصرنا الحاضر, فكذلك الشريعة الإسلامية التي كانت سائدة في العصور الوسطى، والتي ظل الكثير من أحكامها معمولا به حتى أواخر القرن الثامن عشر, وفي هذا القياس الباطل خطؤهم الجسيم الذي لا يكاد يفوت الناقد البصير.
ووجه الخطأ في هذا القياس أنهم سووا بين القوانين الوضعية التي وضعها البشر وبين الشريعة الإسلامية التي تكفل بوضعها خالق البشر، فهم حين يقيسون إنما يقيسون الأرض بالسماء والناس برب الناس، فكيف يستوي في عقل عاقل أن يقيس نفسه بربه وأرضه بسمائه؟
نقول: إن وجه الخطأ في هذا القياس أنهم سووا بين الشريعة والقانون وهما مختلفان في طبيعتهما جد الاختلاف؛ فمعلوم أنه لا قياس بين مختلفين.
وإذا صح أن الشريعة تختلف عن القوانين اختلافات أساسية, وتتميز عنها بمميزات جوهرية فقد امتنع القياس؛ لأن القاعدة أن القياس يقتضي مساواة المقيس بالمقيس عليه، فإذا انعدمت المساواة فلا قياس، أو كان القياس باطلا.
ولما كان القائلون بعدم صلاحية الشريعة للعصر الحاضر يبنون رأيهم على قياس الشريعة بالقوانين الوضعية، ولا مساواة بين الشريعة وهذه القوانين فيكون قياسهم باطلا، وادعائهم بعدم صلاحية الشريعة للعصر الحاضر ادعاء باطلا؛ لأنه بني على قياس باطل، وما قام على الباطل فهو باطل.
وسنعرض فيما يلي نشأة القانون ونشأة الشريعة ووجوه الخلاف بينهما ومميزات كل منهما:
· نشأة القانون:
ينشأ القانون الوضعي في الجماعة التي ينظمها ويحكمها ضئيلا محدود القواعد، ثم تتطور الجماعة فتزداد قواعده، وتتسامى نظرياته كلما ازدادت حاجات الجماعة وتنوعت، وكلما تقدمت الجماعة في تفكيرها وعلومها وآدابها.
فالقانون الوضعي كالوليد؛ ينشأ صغيرا ضعيفا، ثم ينمو ويقوى شيئا فشيئا حتى يبلغ أشده، وهو يسرع في التطور والنمو والسمو كلما تطورت الجماعة التي يحكمها وأخذت بحظ من الرقي والسمو، ويبطئ في تطوره ونموه كلما كانت الجماعة بطيئة النمو والتطور؛ فالجماعة إذن هي التي تخلق القانون الوضعي وتصنعه على الوجه الذي يسد حاجاتها وينظم حياتها، فهو تابع لها، وتقدمه مرتبط بتقدمها.
وعلماء القانون الوضعي حين يتحدثون عن النشأة الأولى له يقولون: إنه بدأ يتكون مع تكون الأسرة والقبيلة، وإن كلمة رب الأسرة كانت قانون الأسرة، وكلمة شيخ القبيلة كانت قانون القبيلة، وإن القانون ظل يتطور مع الجماعة حتى تكونت الدولة، وإن عادات كل أسرة كانت لا تتفق مع عادات غيرها من الأسر، وتقاليد كل قبيلة لم تكن مماثلة لتقاليد غيرها من القبائل، وإن الدولة حين بدأت تتكون وحدت العادات والتقاليد وجعلت منها قانونا ملزما لجميع الأفراد والأسر والقبائل الداخلين في نطاق الدولة، ولكن قانون كل دولة لم يكن يتفق في الغالب مع قوانين الدولة الأخرى.
وظل هذا الخلاف حتى بدأت المرحلة الأخيرة من التطور القانوني في أعقاب القرن الثامن عشر على هدي النظريات الفلسفية والعلمية والاجتماعية، فتطور القانون الوضعي منذ ذلك الوقت حتى الآن تطورا عظيما، وأصبح قائما على نظريات لم يكن لها وجود في العهود السابقة، وأساس هذه النظريات الحديثة العدالة والمساواة والإنسانية، وقد أدى شيوع هذه النظريات في العالم إلى توحيد معظم القواعد القانونية في كثير من دول العالم، ولكن بقي لكل دولة قانونها الذي يختلف عن غيره من القوانين في كثير من الدقائق والتفاصيل.
هذه خلاصة لنشأة القانون وتطوره والمراحل التي مر بها, تبين بجلاء أن القانون حين نشأ كان شيئا يختلف كل الاختلاف عن القانون الآن، وأنه ظل يتغير ويتطور حتى وصل إلى شكله الحالي، وأنه لم يصل إلى ما هو عليه الآن إلا بعد تطور طويل بطيء استمر آلاف السنين.
· نشأة الشريعة:
وإذا كانت نشأة القانون الوضعي كما وصفها أهلها - وعلى نحو ما أسلفنا - من التدرج الذي يشبه مراحل نمو الأطفال، فإن الشريعة الإسلامية لم تنشأ ولم تسر في هذا الطريق، ولم تكن الشريعة قواعد قليلة ثم كثرت، ولا مبادئ متفرقة ثم تجمعت، ولا نظريات أولية ثم تهذبت, ولم تولد الشريعة طفلة مع الجماعة الإسلامية ثم سايرت تطورها ونمت بنموها، وإنما ولدت شابة مكتملة,ونزلت من عند الله شريعة كاملة شاملة، جامعة مانعة لا ترى فيها عوجا، ولا تشهد فيها نقصا، أنزلها الله - عز وجل - من سمائه على قلب رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - في فترة قصيرة - لا تجاوز المدة اللازمة لنزولها - بدأت ببعثة الرسول وانتهت بوفاته - صلى الله عليه وسلم - أو انتهت يوم قال الله عز وجل: )اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا( (المائدة: 3).
ولم تأت الشريعة لجماعة دون جماعة، أو لقوم دون قوم، أو لدولة دون دولة، وإنما جاءت للناس كافة من عرب وعجم، شرقيين وغربيين، على اختلاف مشاربهم وتباين عاداتهم وتقاليدهم وتاريخهم، فهي شريعة كل أسرة وشريعة كل قبيلة، وشريعة كل جماعة، وشريعة كل دولة، بل هي الشريعة العالمية التي استطاع علماء القانون الوضعي أن يتخيلوها، ولكنهم لم يستطيعوا أن يوجدوها.
وقد جاءت الشريعة كاملة لا نقص فيها، جامعة تحكم كل حالة، مانعة لا تخرج عن حكمها حالة، شاملة لأمور الأفراد والجماعات والدول، فهي تنظم الأحوال الشخصية والمعاملات وكل ما يتعلق بالأفراد، وتنظيم شئون الحكم والإدارة والسياسة، وغير ذلك مما يتعلق بالجماعة، كما تنظم علاقات الدول بعضها بالبعض الآخر في الحرب والسلم.
ولم تأت الشريعة لوقت دون وقت، أو لعصر دون عصر، أو لزمن دون زمن، وإنما هي شريعة كل وقت، وشريعة كل عصر، وشريعة الزمن كله حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
وقد صيغت الشريعة بحيث لا يؤثر عليها مرور الزمن، ولا يبلي جدتها، ولا يقتضي تغيير قواعدها العامة ونظرياتها الأساسية؛ فجاءت نصوصها من العموم والمرونة بحيث تحكم كل حالة جديدة ولو لم يكن في الإمكان توقعها، ومن ثم كانت نصوص الشريعة غير قابلة للتغيير والتبديل، كما تتغير نصوص القوانين الوضعية وتتبدل.
وأساس الفرق بين الشريعة والقانون هو أن الشريعة من عند الله - عز وجل - وهو القائل: )لا تبديل لكلمات الله( (يونس: 64)، وهو عالم الغيب القادر على أن يضع للناس نصوصا تبقى صالحة على مر الزمان. أما القوانين فمن وضع البشر، وتوضع بقدر ما يسد حاجتهم الوقتية، وبقدر قصور البشر عن معرفة الغيب تأتي النصوص القانونية التي يضعونها قاصرة عن حكم ما لم يتوقعوه.
ولقد جاءت الشريعة من يوم نزولها بأحدث النظريات التي وصل إليها أخيرا القانون مع أن القانون أقدم من الشريعة، بل جاءت الشريعة من يوم نزولها بأكثر مما وصل إليه القانون الوضعي، وحسبنا أن نعرف أن كل ما يتمناه رجال القانون اليوم - أن يتحقق من المبادئ - موجود في الشريعة من يوم نزولها.
مما سبق يتضح أن الشريعة الإسلامية تختلف عن القوانين الوضعية اختلافا أساسيا من ثلاثة وجوه هي:
1. أن القانون من صنع البشر، أما الشريعة فمن عند الله، وكل من الشريعة والقانون يتمثل فيهما بجلاء صفات صانعه؛ فالقانون من صنع البشر ويتمثل فيه نقص البشر وعجزهم وضعفهم وقلة حيلتهم،[1] ومن ثم كان القانون عرضة للتغيير والتبديل أو ما نسميه التطور كلما تطورت الجماعة إلى درجة لم تكن متوقعة أو وجدت حالات لم تكن منتظرة، فالقانون ناقص دائما ولا يمكن أن يبلغ حد الكمال ما دام صانعه لا يمكن أن يوصف بالكمال، ولا يستطيع أن يحيط بما سيكون، وإن استطاع الإلمام بما كان.
أما الشريعة: فصانعها هو الله، وتتمثل فيها قدرة الخالق وكماله وعظمته وإحاطته بما كان وما هو كائن؛ ومن ثم صاغها العليم الخبير بحيث تحيط بكل شيء في الحال والاستقبال حيث أحاط علمه بكل شيء، وأمر الله - عز وجل - لا يتغير ولا يتبدل، وهو القائل: )لا تبديل لكلمات الله( (يونس: 64)، وشريعة الله وأحكامه إنما جاءت على هذا النحو من الديمومة والثبات؛ لأنها ليست في حاجة للتغيير والتبديل مهما تغيرت الأوطان والأزمان وتطور الإنسان.
وقد يصعب على بعض الناس أن يؤمنوا بهذا القول؛ لأنهم لا يؤمنون قبل كل شيء بأن الشريعة من عند الله، ولست أهتم - والكلام لعبد القادر عودة - من أمر هؤلاء إلا بأن يؤمنوا بأن الشريعة تتوفر فيها الصفات التي ذكرتها، وعلى أن أقيم لهم الدليل على توافرها وعليهم هم بعد ذلك أن يبحثوا إن شاءوا عن سبب توفر هذه الصفات في الشريعة دون غيرها، وأن يبحثوا عن صانعها، ولعل في إحالة هؤلاء إلى نظريات الشريعة في المساواة والحرية والشورى وسلطة الحاكم والإثبات والتعاقد والدين ما يبطل الزعم ويقيم الدليل؛ ففي تلك النظريات الدستورية والاجتماعية والإدارية والمدنية ما تغني الإشارة إليه عن تفصيله[2]، شريطة أن يتجرد القارئ من هؤلاء من أية خلفية سابقة ويتحرى الدقة والإنصاف والموضوعية!
أما الذين يؤمنون بأن الشريعة من عند الله فليس يصعب عليهم أن يؤمنوا بتوفر الصفات التي ذكرناها في الشريعة ولو لم يقدم لهم الدليل المادي على ذلك؛ لأن منطقهم يقضي عليهم أن يؤمنوا بتوفر الصفات؛ فمن كان يؤمن بأن الله خلق السموات والأرض، وسير الشمس والقمر والنجوم، وسخر الجبال والرياح والماء، وأنبت النبات، وصور الأجنة في بطون أمهاتها، وجعل لكل مخلوق خلقه من حيوان ونبات وجماد نظاما دائما لا يخرج عليه، ولا يحتاج لتغيير ولا تبديل ولا تطور. من كان يؤمن بأن الله وضع قوانين ثابتة تحكم طبائع الأشياء وحركاتها واتصالاتها، وأن هذه القوانين الطبيعية بلغت من الروعة والكمال ما لا يستطيع أن يتصوره الإنسان.
من كان يؤمن بهذا كله وبأن الله أتقن كل شئ خلقه، فأولى به أن يؤمن بأن الله وضع الشريعة الإسلامية قانونا ثابتا كاملا لتنظيم الأفراد والجماعات والدول، لتحكم معاملاتهم، وأن الشريعة بلغت من الروعة والكمال حدا يعجز عن تصوره الإنسان.
2. أن القانون هو قواعد مؤقتة تضعها الجماعة لتنظيم شئونها وسد حاجاتها, فهي قواعد متأخرة عن الجماعة، أو هي في مستوى الجماعة اليوم، ومتخلفة عن الجماعة غدا؛ لأن القوانين لا تتغير بسرعة تطور الجماعة، وهي قواعد مؤقتة تتفق مع حال الجماعة المؤقتة، وتستوجب التغيير كلما تغيرت حال الجماعة.
أما الشريعة فقواعد وضعها الله - عز وجل ــ على سبيل الدوام لتنظيم شئون الجماعة، فالشريعة تتفق مع القانون في أن كليهما وضع لتنظيم الجماعة، ولكن الشريعة تختلف عن القانون في أن قواعدها دائمة ولا تقبل التغيير والتبديل, وهذه الميزة التي تتميز بها الشريعة تقتضي من الوجهة المنطقية:
· أن تكون قواعد الشريعة ونصوصها من المرونة والعموم؛ بحيث تتسع لحاجات الجماعة مهما طالت الأزمان، وتطورت الجماعة، وتعددت الحاجات وتنوعت.
· أن تكون قواعد الشريعة ونصوصها من السمو والارتفاع؛ بحيث لا يمكن أن تتأخر في وقت أو عصر ما عن مستوى الجماعة.
والواقع أن ما يقتضيه المنطق متوفر بوجهيه في الشريعة، بل هو أهم ما يميز الشريعة الإسلامية عن غيرها من الشرائع الأخرى، فقواعد الشريعة الإسلامية ونصوصها جاءت عامة ومرنة إلى آخر حدود العموم والمرونة، كما أنها وصلت من السمو درجة لا يتصور بعدها سمو.
ولقد مر على الشريعة الإسلامية أكثر من أربعة عشر قرنا تغيرت خلالها الأوضاع أكثر من مرة، وتطورت الأفكار والآراء تطورا كبيرا، واستحدث من العلوم والمخترعات ما لم يكن يخطر على خيال إنسان، وتغيرت قواعد القوانين الوضعية التي كانت تطبق يوم نزلت الشريعة، وعلى الرغم من هذا كله ظلت قواعد الشريعة ونصوصها - التي لا تقبل التغيير والتبديل - أسمى من مستوى الجماعات، وأكفل بتنظيم وسد حاجتهم، وأقرب إلى طلائعهم، وأحفظ لأمنهم وطمأنينتهم.
هذه هي شهادة التاريخ الرائعة يقف بها في جانب الشريعة الإسلامية، وليس ثمة ما هو أروع منها إلا شهادة النصوص ومنطقها، وخذ مثلا قول الله عز وجل: )وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون (38)( (الشورى)، أو اقرأ قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار».[3] فهذان نصان من القرآن والسنة بلغا من العموم والمرونة واليسر ما لا يمكن أن يتصور بعده عموم أو مرونة أو يسر، وهما يقرران الشورى قاعدة للحكم على الوجه الذي لا يضر بالنظام العام، ولا بمصلحة الأفراد أو الجماعة، وبتقرير مبدأ الشورى على هذا الوجه بلغت الشريعة من السمو حده الأقصى الذي لا يتصور أن يصل إليه البشر في يوم من الأيام، إذ عليهم أن يجعلوا أمرهم شورى بينهم بحيث لا يحدث ضرر ولا ضرار، وهيهات أن يتحقق ذلك بين الناس.
ولو تتبعنا نصوص الشريعة لوجدناها على غرار النصين السابقين من العموم والمرونة والسمو، ومن السهل علينا أن نتبين هذه المميزات لأول وهلة في أي نص نستعرضه، فنصوص الشريعة كلها تصلح أمثلة على ما نقول؛ ويكفي أن نسوق للقارئ مثالا آخر قوله عز وجل: )ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن( (النحل: 125)، فهذا النص تدل صياغته على أنه بلغ حد العموم والمرونة، أما المبدأ الذي جاء به النص فلم يعرف أن هناك ما هو خير منه، ولا يمكن أن يتصور العقل البشري أن هناك طريقا لأصحاب الدعوات يسلكونها في نشر دعواتهم خيرا من طريق الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن.
ويستطيع القارئ أن يقرأ قوله عز وجل: )ولا تزر وازرة وزر أخرى( (فاطر: 18)، وقوله عز وجل: )لا يكلف الله نفسا إلا وسعها( (البقرة: 286)، وقوله عز وجل: )إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل( (النساء: 58)، وقوله عز وجل: ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى( (المائدة: 8)، وقوله عز وجل: )يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين( (النساء: 135)، يستطيع القارئ أن يستعرض هذه النصوص وغيرها ليرى كيف بلغت من العموم والمرونة كل مبلغ، وليرى أن المبادئ التي جاءت بها هذه النصوص قد بلغت من السمو ما ليس بعده زيادة لمستزيد، أو خيال لمتخيل.
3. أن الجماعة هي التي تصنع القانون وتلونه بعاداتها وتقاليدها وتاريخها، والأصل في القانون أنه يوضع لتنظيم شئون الجماعة، ولا يوضع لتوجيه الجماعة، ومن ثم كان القانون متأخرا عن الجماعة وتابعا لتطورها، وكان القانون من صنع الجماعة، ولم تكن الجماعة من صنع القانون.
وإذا كان هذا هو الأصل في القانون من يوم وجوده، فإن هذا الأصل قد تعدل في القرن الحالي، وعلى وجه التحديد بعد الحرب العظمى الأولى؛ بحيث بدأت الدول التي تدعو لدعوات جديدة أو أنظمة جديدة تستخدم القانون لتوجيه الشعوب وجهات معينة، كما تستخدمه لتنفيذ أغراض معينة، وقد كان أسبق الدول إلى الأخذ بهذه الطريقة روسيا الشيوعية، وتركيا العلمانية،[4] ثم تلتهما إيطاليا الفاشيستية وألمانيا النازية، ثم اقتبست بقية الدول هذه الطريقة، فأصبح الغرض اليوم من القانون تنظيم الجماعة، وتوجيهها الوجهات التي يرى أولياء الأمور أنها في صالح الجماعة.
أما الشريعة الإسلامية فقد علمنا أنها ليست من صنع الجماعة، وأنها لم تكن نتيجة لتطور الجماعة وتفاعلها كما هو الحال في القانون الوضعي، وإنما هي من صنع الله الذي أتقن كل شيء خلقه.
وإذا لم تكن الشريعة من صنع الجماعة، فإن الجماعة نفسها من صنع الشريعة، إذا الأصل في الشريعة أنها لم توضع لتنظيم شئون الجماعة فقط كما كان الغرض من القانون الوضعي، وإنما المقصود من الشريعة قبل كل شيء هو خلق الأفراد الصالحين والجماعة الصالحة، وإيجاد الدولة المثالية، والعالم المثالي، ومن أجل هذا جاءت نصوصها أرفع من مستوى العالم كله وقت نزولها، ولا تزال كذلك حتى اليوم، وجاء فيها من المبادئ والنظريات ما لم يتهيأ للعالم غير الإسلامي معرفته والوصول إليه إلا بعد قرون طويلة، وما لم يتهيأ لهذا العالم الوصول إليه حتى الآن.
ومن أجل هذا تولى الله - عز وجل - وضع الشريعة، وأنزلها على رسوله - صلى الله عليه وسلم - نموذجا من الكمال ليوجه الناس إلى الطاعات والفضائل، ويحملهم على التسامي والتكامل حتى يصلوا أو يقتربوا من مستوى الشريعة الكامل، وقد حققت الشريعة ما أراده لها العليم الخبير، فأدت رسالتها أحسن الأداء، وجعلت من رعاة الإبل سادة للعالم، ومن جهال البادية معلمين وهداة للإنسانية.
ولقد أدت الشريعة وظيفتها طالما كان المسلمون الأوائل متمسكين بها، عاملين بأحكامها، تمسك بها المسلمون الأوائل وعملوا بها وهم قلة مستضعفة، يخافون أن يتخطفهم الناس، فإذا هم بعد عشرين سنة سادة العالم وقادة البشر، لا صوت إلا صوتهم، ولا كلمة تعلو كلمتهم، وما أوصلهم لهذا الذي يشبه المعجزات إلا الشريعة الإسلامية التي علمتهم وأدبتهم، ورققت نفوسهم، وهذبت مشاعرهم، وأشعرتهم بالعزة والكرامة، وأخذتهم بالمساواة التامة، والعدالة المطلقة، وأوجبت عليهم أن يتعاونوا على البر والتقوى، وحرمت عليهم الإثم والعدوان وحررت عقولهم ونفوسهم من نير الجهالات والشهوات، وجعلتهم خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله.
كان ذلك حال المسلمين وقت تمسكوا بشرعيتهم، فلما تركوها وأهملوا أحكامها تركهم الرقي وأخطأهم التقدم، ورجعوا القهقرى إلى الظلمات التي كانوا يعمهون فيها من قبل فعادوا مستضعفين مستعبدين، لا يستطيعون دفع معتد ولا الامتناع من ظالم.
وقد خيل للمسلمين - وهم في غمرتهم هذه - أن تقدم الأوربيين راجع لقوانينهم وأنظمتهم؛ فذهبوا يتلقونها وينسجون على منوالها، ناسين قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فلو ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله»[5]، وقد كان ما قال الفاروق، فلم تزدهم هذه القوانين وتلك الأنظمة الوضعية إلا ضلالا على ضلالهم، وخبالا على خبالهم، وضعفا على ضعفهم، بل جعلتهم أحزابا وشيعا، كل حزب بما لديهم فرحون، بأسهم بينهم شديد، تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى.
إن الشريعة الإسلامية، وقد جاءت كاملة لا يشوبها نقص، حاملة في طياتها وسائل التقدم والتطور المستمر للمجتمع، هي أصلح الشرائع لعصور التقدم وعصور التأخر على السواء؛ لأنها في كل الأحوال ترمي إلى تكوين الجماعة الصالحة، وتوجيهها دائما للتقدم المستمر والتطور الصالح، ولا تقنع من ذلك بما هو دون الكمال التام.
إن في تاريخ المسلمين آية، وإنه عبرة لمن كان له قلب، وإن فيه الدليل الحاسم على أن الشريعة الإسلامية هي التي خلقت المسلمين من العدم، وجعلتهم أمة فوق الأمم، ودفعتهم إلى الأمام، وسلطتهم على دول العالم، وإن فيه الدليل الحاسم على أن حياة المسلمين وتقدمهم ورقيهم متوقف على تطبيق الشريعة الإسلامية, فالمسلمون من صنع الشريعة؛ كيانهم تابع لكيانها، ووجودهم مرتبط بوجودها، وسلطانهم تابع لسلطانها.
إن القانون الوضعي حين تحول أخيرا عن أصله الأول فصار يوضع لتوجيه الجماعة, إنما أخذ في ذلك بنظرية الشريعة الإسلامية التي تجعل الأصل في التشريع أن يصنع الجماعة ويوجهها، ثم ينظمها، وهكذا انتهى القانون الوضعي على ما بدأت به الشريعة وسبقت إليه من أربعة عشر قرنا، فإذا ما قال علماء القانون الوضعي: إنهم وصلوا لنظرية جديدة قلنا لهم: كلا ولكنكم تسلكون طريق الشريعة وتسيرون في أثرها.
وعلى هذا يمكننا أن نستخلص مما ذكر من الاختلافات الأساسية بين الشريعة والقانون أن الشريعة الإسلامية تمتاز على القوانين الوضعية بثلاث ميزات جوهرية هي:
· الكمال: تمتاز الشريعة الإسلامية على القوانين الوضعية بالكمال؛ أي بأنها استكملت كل ما تحتاجه الشريعة الكاملة من قواعد ومبادئ ونظريات، وأنها غنية بالمبادئ والنظريات التي تكفل سد حاجات الجماعة في الحاضر القريب والمستقبل البعيد.
· السمو: تمتاز الشريعة الإسلامية على القوانين الوضعية بالسمو, أي بأن قواعدها ومبادئها أسمى دائما من مستوى الجماعة؛ وأن فيها من المبادئ والنظريات ما يحفظ لها هذا المستوى السامي مهما ارتفع مستوى الجماعة.
· الدوام: تمتاز الشريعة الإسلامية على القوانين الوضعية بالدوام؛ أي بالثبات والاستقرار، فنصوصها لا تقبل التعديل والتبديل، ومهما مرت الأعوام وطالت الأزمان تظل حافظة لصلاحيتها في كل زمان ومكان.
هذه هي المميزات الجوهرية للشريعة الإسلامية، و هي على تعددها وتباينها ترجع إلى أصل واحد نشأت عنه جميعا بحيث يعتبر كل منها أثرا من آثاره، وهذا هو أن الشريعة الإسلامية من عند الله ومن صنعه، ولولا أن الشريعة من عند الله لما توفرت فيها صفات الكمال والسمو والدوام, تلك الصفات التي تتوفر دائما فيما يصنعه الخالق ولا يتوفر شيء منها فيما يصنعه المخلوق[6].
ويواصل الفقيه عبد القادر عودة كلامه متجها بالتحذير إلى أولئك الذين يعتقدون عدم صلاحية الشريعة للتطبيق في العصر الحاضر، من أن يوقعهم اعتقادهم هذا في خلل عقدي من جانب، وفساد دنيوي من جانب آخر، فيقول:
"أحب أن أقول للمسلمين الذين يعتقدون - خطأ - أن الشريعة الإسلامية لا تصلح للتطبيق في عصرنا الحاضر، أحب أن أقول لهؤلاء إن هذه العقيدة لا تتفق مع عقيدة الإسلام الذي يدعونه ويحرصون على التمسك به، وأن عليهم أن يذكروا قوله عز وجل: )أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون (85)( (البقرة).
وليعلم هؤلاء أن سبب تأخرنا وانحطاطنا هو أننا لم نطبق الشريعة تطبيقا عادلا ولا كاملا في عهودنا المظلمة المتأخرة، وأن حكامنا من الأتراك والمماليك كانوا يحكمون هواهم في كل ما يهتمون به، ويحكمون الشريعة فيما لا يضرهم ولا ينفعهم.
وإذا كان سبب تأخرنا هو إهمال الشريعة وترك أحكامها فلن يجدينا الأخذ بالقوانين شيئا، بل سيزيدنا تأخرا على تأخر وانحطاطا على انحطاط، وإنما علاجنا المجدي هو القضاء على سبب التأخر والعودة لأحكام الشريعة.
لقد طبق آباؤنا بعض أحكام الشريعة دون بعضها الآخر، وآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعضه؛ فصدقهم الله وعده - إن وعد الله حق - وأخزاهم في الحياة الدنيا، وجئنا نحن على آثارهم نتبعهم ونؤمن إيمانهم، فأخزانا الله كما أخزاهم، وسلط علينا كما سلط عليهم، وجعلنا عبرة لأولي الألباب، ولن يغير الله ما بنا حتى نغير ما بأنفسنا وقلوبنا، ونؤمن بالكتاب كله، ذلك وعد الله، والله يقول الحق,وقد قال: )إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم( (الرعد: 11).
لقد آمن المسلمون الأوائل وحسن إيمانهم، فمكن الله لهم في الأرض، وإن الذي مكن لهم على قلتهم وضعفهم قادر أن يمكن لنا في الأرض إذا آمنا وحسن إيماننا، ذلك وعد الله لعباده في قوله: )وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم( (النور: 55)، وذلك وعده لمن اتبع كتابه وتمسك بشريعته عز وجل: )يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين (15) يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم (16)( (المائدة)[7].
هذا، وبعد العرض المبدع للفقيه عبد القادر عودة عن الاختلافات الجذرية، والسمات الجوهرية التي تتسم بها الشريعة دون غيرها بما يجعلها في مكانة لا تسوغ لأحد مقارنتها بالقانون الوضعي، نضيف على ذلك أن ما تتميز به أحكام الشريعة من سعة ومرونة ينفي عنها الجمود وعدم الصلاحية لهذا العصر، كما يقول د. يوسف القرضاوي: "أما ما ذكره المدعون على الشريعة الإسلامية وأن جوهرها الثبات، فقد أخطأوا فيه الحق؛ فإن الإسلام الذي ختم الله به الشرائع والرسالات السماوية أودع الله فيه عنصر الثبات والخلود، وعنصر المرونة والتطور معا، وهذا من روائع الإعجاز في هذا الدين، وآية من آيات عمومه وخلوده، وصلاحيته لكل زمان وكل مكان.
ونستطيع أن نحدد مجال الثبات، ومجال المرونة في شريعة الإسلام ورسالته الشاملة الخالدة، فنقول إنه:
· الثبات على الأهداف والغايات، والمرونة في الوسائل والأساليب.
· الثبات على الأصول والكليات، والمرونة في الفروع والجزئيات.
· الثبات على القيم الدينية والأخلاقية، والمرونة في الشئون الدنيوية والعلمية.
وربما سأل سائل: لماذا كان هذا هو شأن الإسلام؟! لماذا لم يودعه الله المرونة المطلقة، أو الثبات المطلق؟!
والجواب: أن الإسلام بهذا يتسق مع طبيعة الحياة الإنسانية خاصة، ومع طبيعة الكون الكبير عامة، فقد جاء هذا الدين مسايرا لفطرة الإنسان وفطرة الوجود.
أما طبيعة الحياة الإنسانية نفسها، ففيها عناصر ثابتة باقية ما بقي الإنسان، وعناصر مرنة قابلة للتغير والتطور.
وإذا نظرنا إلى الكون من حولنا، وجدناه يحوي أشياء ثابتة، تمضي ألوف السنين وألوف الألوف، وهي هي: أرض وسماء، وجبال وبحار، وليل ونهار، وشمس وقمر، ونجوم مسخرات بأمر الله، كل في فلك يسبحون.
وفيه - أيضا - عناصر جزئية متغيرة؛ جزر تنشأ، وبحيرات تجف، وأنهار تحفر، وماء يطغى على اليابسة، ويبس يزحف على الماء، وأرض ميتة تحيا، وصحار قفر تخضر، وبلاد تعمر، وأمصار تخرب، وزرع ينبت وينمو، وآخر يذوى، ويصبح هشيما تذروه الرياح.
هذا هو شأن الإنسان، وشأن الكون، ثبات وتغير في آن واحد، ولكنه ثبات في الكليات والجوهر، وتغير في الجزيئات والمظهر.
فإذا كان التطور قانونا في الكون والحياة، فالثبات قانون قائم فيهما - كذلك - بلا مراء، وإذا كان من الفلاسفة في القديم من قال بمبدأ الصيرورة والتغير، باعتباره القانون الأزلي، الذي يسود الكون كله، فإن فيهم من نادى بعكس ذلك، واعتبر الثبات هو الأساس، والأصل الكلي العام للكون كله.
والحق أن المبدأين كليهما من الثبات والتغير يعملان معا في الكون والحياة، كما هو مشاهد وملموس.
فلا عجب أن تأتي شريعة الإسلام ملائمة لفطرة الإنسان وفطرة الوجود، جامعة بين عنصر الثبات وعنصر المرونة.
وبهذه المزية يستطيع المجتمع المسلم، أن يعيش ويستمر ويرتقي، ثابتا على أصوله وقيمه وغاياته، متطورا في معارفه وأساليبه وأدواته.
فبالثبات يستعصي هذا المجتمع على عوامل الانهيار والفناء، أو الذوبان في المجتمعات الأخرى، أو التفكك إلى عدة مجتمعات تتناقض في الحقيقة، وإن ظلت داخل مجتمع واحد في الصورة,و بالثبات يستقر التشريع وتتبادل الثقة، وتبنى المعاملات والعلاقات على دعائم مكينة وأسس راسخة، لا تعصف بها الأهواء والتقلبات السياسية والاجتماعية ما بين يوم وآخر، وبالمرونة يستطيع هذا المجتمع أن يكيف نفسه وعلاقاته حسب تغير الزمن وتغير أوضاع الحياة، دون أن يفقد خصائصه ومقوماته الذاتية.
وإن للثبات والمرونة مظاهر ودلائل شتى، تجدها في مصادر الإسلام وشريعته وتاريخه.
يتجلى هذا الثبات في المصادر الأصلية النصية القطعية للتشريع من كتاب الله وسنة رسوله، فالقرآن هو الأصل والدستور، والسنة هي الشرح النظري، والبيان العملي للقرآن، وكلاهما مصدر إلهي معصوم، ولا يسع مسلما أن يعرض عنه، قال عز وجل: )قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول( (النور: 54)، وقال عز وجل: )إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون (51)( (النور).
وتتجلى المرونة في المصادر الاجتهادية التي اختلف فقهاء الأمة في مدى الاحتجاج بها، ما بين موسع ومضيق, ومقل ومكثر، مثل: الإجماع, والقياس، والاستحسان، والمصالح المرسلة، وأقوال الصحابة، وشرع من قبلنا... وغير ذلك من مآخذ الاجتهاد وطرائق الاستنباط.
وبالنظر إلى أحكام الشريعة[8]نجدها تنقسم إلى قسمين بارزين:
· قسم يمثل الثبات والخلود.
· قسم يمثل المرونة والتطور.
نجد الثبات يتمثل في العقائد الأساسية الخمس: من الإيمان بالله, وملائكته وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وهي التي ذكرها القرآن في غير موضع كقوله عز وجل: )ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين( (البقرة: 177)، وقوله عز وجل: )ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا (136)( (النساء).
وفي الأركان العملية الخمسة: من الشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام، و هي التي صح عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن الإسلام بني عليها.
وفي المحرمات اليقينية: من السحر، وقتل النفس، والزنا، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، والتولي يوم الزحف، والغصب، والسرقة، والغيبة، والنميمة، وغيرها مما ثبت بقطعي القرآن والسنة.
وفي أمهات الفضائل: من الصدق، والأمانة، والعفة، والصبر، والوفاء بالعهد، والحياء، وغيرها من مكارم الأخلاق التي اعتبرها القرآن والسنة من شعب الإيمان.
وفي شرائع الإسلام القطعية: في شئون الزواج، والطلاق، والميراث، والحدود، والقصاص، ونحوها من نظم الإسلام التي ثبتت بنصوص قطعية الثبوت، قطعية الدلالة؛ فهذه الأمور ثابتة، تزول الجبال ولا تزول، نزل بها القرآن، وتواترت بها الأحاديث، وأجمعت عليها الأمة، فليس من حق مجمع من المجامع، ولا من حق مؤتمر من المؤتمرات، ولا من حق خليفة من الخلفاء، أو رئيس من الرؤساء، أن يلغي أو يعطل شيئا منها؛ لأنها كليات الدين وقواعده وأسسه، أو كما قال الشاطبي: "كلية أبدية، وضعت عليها الدنيا، وبها قامت مصالحها في الخلق، حسبما بين ذلك الاستقراء, وعلى وفاق ذلك جاءت الشريعة أيضا، فذلك الحكم الكلي باق إلى أن يرث الله الأرض وما عليها".
ونجد - في مقابل ذلك - القسم الآخر، الذي يتمثل فيه المرونة، وهو ما يتعلق بجزئيات الأحكام وفروعها العملية، وخصوصا في مجال السياسة الشرعية.
ولقد ذكر الإمام ابن القيم في كتابه " إغاثة اللهفان " أن الأحكام نوعان:
الأول: لايتغير عن حالة واحدة مر عليها، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة، ولا اجتهاد الأئمة: كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم، ونحو ذلك, فهذا لا يتطرق إليه تغيير، ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه.
والثاني: يتميز بحسب اقتضاء المصلحة له زمانا ومكانا وحالا كمقادير التعزيرات[9] وأجناسها وصفاتها، فإن الشارع ينوع فيها حسب المصلحة"، وقد ضرب ابن القيم لذلك عدة أمثلة من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنة خلفائه الراشدين المهديين من بعده، ثم قال: "وهذا باب واسع، اشتبه فيه - على كثير من الناس - الأحكام الثابتة اللازمة التي لا تتغير، بالتعزيرات التابعة للمصالح وجودا وعدما"[10].
ثانيا. شهد لصلاحية شريعة الإسلام الوحي والتاريخ والواقع، بخلاف القانون الوضعي:
لقد نجحت الشريعة الإسلامية في تحقيق الخير للمجتمع الإسلامي، ولقد شهد على ذلك الوحي و التاريخ و الواقع، ويعرض لنا د. القرضاوي هذه الشهادات، وهي:
1. شهادة الوحي:
معلوم أن الله - عز وجل - أنزل هذه الشريعة بعلمه على محمد - صلى الله عليه وسلم - ليقيم بها عدله في الأرض، ويحقق بها مصالح العباد في المعاش والمعاد، كما دل على ذلك استقراء نصوص الأحكام وتعليلاتها في الكتاب والسنة، وأنه سبحانه خص هذه الشريعة بالعموم والاستمرار دون الشرائع السماوية السابقة.
فقد اقتضت حكمته - عز وجل - أن تكون شرائع الرسل الذين سبقوا محمد - صلى الله عليه وسلم - في الزمن، شرائع محدودة موقوتة، فهي لأقوام معينين، في مرحلة زمنية خاصة، وكان هذا هو الموافق للحكمة والمصلحة، فلم تكن البشرية في طور يسمح لها بتقبل شريعة عامة خالدة.
ولهذا لم يتكفل الله - عز وجل - بحفظ مصادرها المقدسة من الضياع والتحريف، ولم يضمن لها أن يبعث في كل جيل من يحفظ كتابها، ويصون ميراث نبيها، ويجدد لها أمر دينها.
ومن هنا حرفت الكتب السماوية المنزلة قبل القرآن، تحريفا لفظيا ومعنويا، ونسي أهلها حظا مما ذكروا به - وهذا أمر أثبته القرآن الكريم، ودل عليه الاستقراء بيقين - واختلطت كلمات الله بكلمات البشر.
فلما بلغت البشرية طورها الأخير، وعلم الله - عز وجل - أنها أصبحت صالحة لأن تتنزل عليها الرسالة العامة الأخيرة؛ بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم ــ ليكون رحمة للعالمين، ورسوله إلى الناس جميعا، كما قال - عز وجل - يخاطبه: )وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (107)( (الأنبياء)، كما اقتضت حكمة الله - عز وجل - أن تكون هذه الشريعة هي خاتمة الشرائع، فهي ناسخة لما قبلها؛ إذ ليس بعد كتابها كتاب أو بعد نبيها نبي، فقد كمل الدين وتم البناء, قال عز وجل: )اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا( (المائدة: 3)، وقال عز وجل: )ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما (40)( (الأحزاب).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بني بنيانا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين»[11].
· وعد الله - عز وجل - بحفظ القرآن مصدر الشريعة الأول:
وحيث أراد الله لهذه الشريعة الخلود، فقد جرى قدر الله ومشيئته بضمان أمرين يكفلان لهذه الشريعة دوامها إلى قيام الساعة:
تكفل الله - عز وجل - بحفظ دستورها ومصدرها الأول، وهو القرآن الكريم، فقال عز وجل: )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)( (الحجر)، فهذا وعد إلهي - مؤكد بأكثر من صيغة - بحفظ الذكر، أي القرآن، ووعد الله لا يخلف.
في حين لم يتكفل بحفظ الكتب السماوية السابقة، وإنما استحفظ عليها أهلها فقط؛ نظرا لأنها كانت أساسا لشرائع مرحلية مؤقتة، ستنسخها شرائع أخرى، آخرها الشريعة المحمدية.
وحفظ القرآن يتضمن حفظ السنة في الجملة، كما وضح ذلك الإمام الشاطبي في "موافقاته"، فالسنة بيان للقرآن، كما قال الله عز وجل: )وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم( (النحل: 44)، وحفظ المبين يقتضي حفظ البيان، لأنه لازم له؛ ولهذا هيأ الله - عز وجل - للسنة من يذود عنها، ويرد الأباطيل عن حماها.
o الأمة الإسلامية لا تجتمع على ضلالة؛ فلا تزال طائفة منها قائمة علي الحق، لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله، كما اقتضت حكمته - عز وجل - أن يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها, وأن يقوم في كل عصر من يحمل علم الشريعة: ينفي عنه تحريف المغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
روى أبو مالك الأشعري، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن الله قد أجار أمتي من أن تجتمع على ضلالة»[12].
هذا من جهة ما قدره الله لبقاء هذه الشريعة وخلودها.
· خصائص الشريعة واستحقاقها للخلود:
أما من جهة ما شرعه الله لذلك، فقد ضمنها من الخصائص والمزايا ما يجعلها صالحة لكل زمان ومكان.
ولا يستطيع المؤمن بكمال علم الله - عز وجل - وحكمته، ورحمته وبره بخلقه أن يتصور أنه - عز وجل - يغلق باب النبوة دونهم، ويقطع وحيه عنهم، ثم يتعبدهم بشريعة قاصرة، تصلح لقوم ولا تصلح لغيرهم، وتصلح لزمن ولا تصلح لآخر، وتصلح لبلد ولا تصلح لغيره، مع أنهم جميعا مكلفون بأحكامها، ملزمون بأن يحلوا حلالها، ويحرموا حرامها، ويأتمروا بأوامرها، وينتهوا عن نواهيها.
إن من خطر له ذلك، فقد جهل مقام ربه، وظن به ظن السوء، وما قدر الله - عز وجل - حق قدره.
2. شهادة التاريخ:
ومن لم تكفه شهادة الوحي على صلاحية الشريعة الإسلامية للتطبيق في كل زمان ومكان أو كفته شهادة الوحي، ولكن أراد أن يطمئن قلبه ويزداد يقينه بذلك، فليسأل التاريخ - تاريخ الأمة الإسلامية في مختلف أقطارها، ومختلف عصورها - وسيجد من حوادث التاريخ ما يطمئن قلبه، ويزداد إيمانا ويقينا بصدق هذه القضية.
إن شهادة التاريخ لنظام ما بالخلود، والصلاحية للتطبيق في كل زمان ومكان، مرهونة بأمرين يتمم أحدهما الآخر وهما:
· أن تكون أصوله النظرية قد استطاعت الوفاء بعلاج الوقائع والمشكلات المتجددة طوال مراحل تاريخية مختلفة، وفي بيئات اجتماعية وحضارية متعددة، وذلك لما احتوته هذه الأصول من السعة والمرونة والخصوبة والخصائص الذاتية.
· نجاح هذا النظام لدى تطبيقه عمليا، وقدرته على إسعاد الجماعات التي تحكم به، وتوفيره لها العدل والأمن والاستقرار والرخاء.
وكلا هذين الأمرين قد تحقق بجلاء ووضوح لشريعة الإسلام، وبيان ذلك كما يأتي:
· كيف وسعت الشريعة كل البيئات والحضارات؟
لقد حكمت الشريعة الإسلامية شعوب الأمة الإسلامية ثلاثة عشر قرنا دخلت فيها بلادا شتى، منها العريق في الحضارة، ومنها القريب إلى البداوة، والمتوسط بينهما، وواجهت أنظمة متفاوتة، مالية وإدارية وسياسية واجتماعية، كم واجهت أحداثا غريبة، ومشكلات جديدة، لم يكن لها نظير في العهد النبوي، ولا في أرض الحجاز، فلم يضق أفق هذه الشريعة عن إيجاد حلول ملائمة لكل تلك المشكلات والوقائع، مستمدة من نصوصها وأصولها، مقتبسة من روحها ومبادئها العامة، واستنبطها الأئمة المجتهدون من فقهاء الصحابة وتابعيهم بإحسان، ومن سار على هديهم من أئمة الاجتهاد، الذين امتلأت بهم أقطار دار الإسلام، والذين أجمعوا - على اختلاف مشاربهم ومدارسهم - على أن لكل حدث وكل فعل من أفعال المكلفين حكما في الشريعة أصابه من أصاب، وأخطأه من أخطأ، وأن هذه الشريعة العامة الخالدة يستحيل أن تضيق نصوصها وقواعدها عن تصرف من التصرفات فلا تصدر فيه حكما.
تقول المذكرة الإيضاحية للقرار الصادر في "الجمهورية العربية الليبية" بتشكيل لجان لمراجعة التشريعات، وتعديلها بما يتفق مع المبادئ الأساسية للشريعة الإسلامية: "والفقه الإسلامي بجميع أحكامه قد عاش قرونا متطاولة، الأمر الذي لم يظفر به ولا بما يقرب منه أي تشريع في العالم، فمن المعلوم أن فقه التشريعات الغربية في أوربا وأمريكا وليد قرن وبعض قرن من الزمان، منذ أن فصلوا أمور الدين عن أمور الدنيا، أما التشريعات الروسية فوليدة نصف القرن الأخير؛ إذ إن التجربة الروسية الشيوعية بدأت بعد سنة 1917م[13].
أما الفقه الإسلامي فله أربعة عشر قرنا، ولقد طوف في الآفاق شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا، ونزل السهول والوديان، والجبال والصحاري، ولاقى مختلف العادات والتقاليد، وتقلب في جميع البيئات، وعاصر الرخاء والشدة، والسيادة والاستعباد، والحضارة والتخلف، وواجه الأحداث في جميع هذه الأطوار، فكانت له ثروة فقهية ضخمة لا مثيل لها، وفيها يجد كل بلد أيسر الحلول لمشاكله.
وقد حكمت الشريعة الإسلامية في أز هي العصور، فما قصرت عن الحاجة ولا قعدت عن الوفاء بأي مطلب، ولا تخلفت بأهلها في أي حين..."[14].
وإذا كان هذا ما قالته المذكرة الليبية من واقع استقراء شامل لأحكام الشريعة، فلن يبعد كلام مستقرئ آخر عن هذا الحكم المنصف إذا تحرى ودقق ولن نصادر عليه، وحسبنا أن شريعتنا تستمد قوتها من ذاتها وليس من المنتسبين إليها.
3. شهادة الواقع
أما شهادة الواقع على صلاح الشريعة الإسلامية فيدل عليها عدة أمور، منها:
· إخفاق العلمانيين:
إن البلاد التي أعرضت عن الشريعة إعراضا تاما، وأعلنت علمانيتها الكاملة، لم تجن من وراء ذلك إلا الخيبة والتفسخ والإخفاق في شتى مجالات الحياة.
وأبرز مثل لذلك دولة تركيا العلمانية: تركيا أتاتورك الذي خلع البلد المسلم من شريعته بالحديد والنار، وأجبره على السير في طريق الغرب، حذو النعل بالنعل، وعارض قطعيات الشرع الإسلامي معارضة ظاهرة، فلم تربح تركيا من وراء ذلك إلا بقاءها ذيلا للمعسكر الغربي في تشريعها وسياستها واقتصادها، بعد أن كانت قوة عالمية لها وزنها ولها خطرها.
وها هي الآن تمزقها الصراعات بين اليمين واليسار، والولاءات بين الغرب والشرق، ويحاول المخلصون من أبنائها مستميتين أن يعودوا بشعبهم إلى ما يؤمن به ويستكن في أعماقه، من احترام الإسلام وحب الإسلام وشريعة الإسلام.
· آثار تطبيق الحدود الشرعية:
إن أكثر ما يتعرض لحملات الطاعنين على الشريعة هو الحدود التي جاء بها كتاب الله واضحة بينة، وبخاصة حد السرقة المذكور في قوله عز وجل: )والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم (38)( (المائدة).
ولكن الواقع يرينا رأي العين كيف أقام بلد مسلم - المملكة العربية السعودية - هذا الحد فحقق للمجتمع أمنا لا نظير له، حتى إن الرجل ليدع متجره مفتوح الأبواب، ويذهب إلى صلاته أو عمل له بلا حارس، ولا يسرق منه شيء، برغم ما كان يعاني هذا البلد نفسه - قبل إقامة الحدود - من الرعب واختلال الأمن، نظرا لكثرة اللصوص وقطاع الطريق، وبرغم الأمية التي لا تزال فاشية، وبرغم الزحام الهائل الذي يشهده هذا البلد في موسم الحج والعمرة، وبرغم التقصير في كثير من تعاليم الإسلام الأخرى، وما ثمن هذا الأمن الرائع، وهذه الطمأنينة المنقطعة النظير؟
إن هذا الثمن ليس أكثر من بضعة أيد قطعت تنفيذا لأمر الله جزاء بما كسبت، بعد أن تحققت كل أركان الجريمة، وتوافرت كل الشروط، وانتفت كل الشبهات.
بضعة أيد قطعت، فصينت بقطعها أموال وحرمات، ودماء وأرواح كانت تذهب على أيدي اللصوص الخطرين الذين لا يرعون لأحد حرمة، ولا يبالون بما ارتكبوا من جرح وقتل، وفي سبيل النجاة بأنفسهم من الوقوع تحت طائلة القانون.
بضعة أيد قطعت - يذهب أضعافها في حوادث المواصلات أو حوادث النزاع والصراع - فأزالت رعب الناس من هجمات اللصوص المحترفين، الرعب الذي يشكو منه الناس في كل مكان، حتى في أكثر بلاد الدنيا ثروة ومدنية: في الولايات المتحدة الأمريكية، كما يشهد بذلك كل من زارها في الآونة الأخيرة، وكما تعبر عن ذلك الأرقام والإحصاءات المنشورة.
بضعة أيد قطعت بحكم الشرع، أمنت الناس على بيوتهم ومتاجرهم وأنفسهم وأموالهم، كما يشهد بذلك العدو والصديق.
هذا مع أن بلادا إسلامية أخرى تعاني أشد المعاناة من مآسي اللصوص والنشالين المعروفين للحكومة، ولجهات الأمن، بأشخاصهم وأسمائهم وعناوينهم وسوابقهم، ولكنها تقف حيالهم مكتوفة اليدين، عاجزة كل العجز؛ لأنهم عوقبوا بالسجن أكثر من مرة، فخرجوا منه أشد ضراوة، وأعظم خبرة في فنون السطو والنشل والسرقات، حتى أصبح السجن وكأنه معهد خاص أعد لتدربيهم على أعلى مستويات الإجرام ودرجاته؛ نتيجة التلاقي الطويل الذي يحكي فيه كل مجرم خبرته لزميله.
· سبق الشريعة بأحدث النظريات القانونية:
ومن شهادة الواقع بخلود هذه الشريعة وصلاحيتها: أن النظريات والمبادئ القانونية التي يباهي بها العصر الحديث، وتزهى به فلسفات القانون وأنظمته، قد سبقت بها الشريعة وأرست قواعدها، وقام على ذلك فقهها وتشريعها وقضاؤها، وحفل بذلك تاريخها.
ونخص بالذكر في هذا السياق مبادئ العدالة الضريبية، وهي من المبادئ أو النظريات التي زعموا أنها من نتاج العصر الحديث وحده وهو ما يسمونه "مبادئ العدالة الضريبية"، ونعني بذلك: القواعد الأربع التي ينسبون اكتشافها إلى آدم سميث، والتي صارت فيما بعد "دستور العدل الضريبي"، وهذه القواعد هي: اليقين، والملاءمة، والاقتصاد، والعدالة؛ فالإسلام قد سبق خبراء المالية والاقتصاد المحدثين باثني عشر قرنا، وعرف هذه القواعد، وطبقها تطبيقا سليما عادلا.
وفي قاعدة "العدالة " نذكر ستة مبادئ أساسية سبق بها الإسلام و هي:
o التسوية بين المكلفين في وجوب الزكاة؛ فلا يعفى منها فرد ولا طبقة ولا جنس، مادام مالكا لنصابها بشروطه.
o إعفاء ما دون النصاب، وهو يمثل الحد الأدنى للغني المعتبر شرعا.
o منع ازدواج الزكاة، كما في حديث: "لا ثني في الصدقة". [15] فلا يجوز إيجاب زكاتين في حول واحد بسبب واحد، ولهذا المبدأ فروع وتطبيقات شتى في الفقه الإسلامي.
o اختلاف مقدار الزكاة باختلاف الجهد، وأوضح مثل له إيجاب العشر في الزروع والثمار إذا سقيت بغير آلة، ونصف العشر إذا سقيت بآلة... وهذا أمر لم يلتفت إليه - فيما نعلم - غير الشريعة الإسلامية.
o مراعاة الظروف الشخصية لمالك نصاب الزكاة، ولم تقصر النظر على عين المال، كما كان رجال المالية وجباة الضرائب قديما، ومن هنا أعفت الشريعة الحاجات الأصلية من الدخول في وعاء الزكاة، أو ما يسمى الآن الحد الأدنى للمعيشة أو حد الكفاف، ومثل ذلك إعفاء المدين إن كان دينه يستغرق النصاب أو ينقصه، وإلا خفف عنه بمقدار دينه... إلى غير ذلك من الأحكام.
o وأخيرا تأتي العدالة في التطبيق، باختيار العاملين على الزكاة من الصالحين الأقوياء الأمناء وتوجيههم وتحصينهم وحسن الرقابة عليهم.
ومن التفريع على ما ذكرناه هنا: أن كثيرا من الأحكام والنظريات التي جاءت بها هذه الشريعة منذ أكثر من أربعة عشر قرنا، وكانت في وقت ما موضع ارتياب أو اتهام من خصوم الشريعة، لم تجد البشرية بدا من اللجوء إليها؛ تحقيقا للعدل ورفعا للضرر والظلم عن الأفراد والمجتمعات، وهذا ما يؤكد صدقها وربانيتها من جانب، وصلاحيتها ومرونتها من جانب آخر, وأبرز مثل لذلك مبدآن مشهوران هما:
o الطلاق: الذي اضطرت دول الغرب كافة إلى الاعتراف به، وآخرها تلك الدولة الكاثوليكية[16] العريقة و هي: إيطاليا، وقد عقد في "لاهاي" سنة 1986 مؤتمر للقانون الدولي الخاص، الدورة الحادية عشرة، فكان مما تناوله البحث إعداد معاهدة الاعتراف بالطلاق والتفريق القانوني على المستوى الدولي، وهذا معناه الرجوع إلى حكم الإسلام.
o الربا: الذي زعموا في وقت من الأوقات أن عجلة الحياة الاقتصادية لا تدور إلا به، حتى قام من كبار الاقتصاديين في الغرب من ينقض فكرة الربا من أساسها باسم العلم والاقتصاد نفسه، لا باسم الدين والإيمان، ولعل أشهر اسم يذكر في هذا الصدد هو اسم الاقتصادي البريطاني الشهير "كينز"، الذي قرر أن المجتمع لا يصل إلى العمالة الكاملة إلا بالقضاء على سعر الفائدة[17].
ويضيف د. القرضاوي أمرا آخر، وهو نجاح الشريعة الإسلامية في إسعاد المجتمعات التي التزمتها، وعملت بموجبها، وتحقيق الخير لها، فقد ساد في ظل هذه الشريعة - يوم كانت لها الكلمة العليا - الحق والخير، وانتشر العدل والأمن، وشاع الإخاء والحب، وعم الرخاء والازدهار، وهذا من أبرز الأدلة على صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان.
وفي ظل شريعة الإسلام نشأ "الإنسان الصالح"، الذي يعرف حق ربه عليه، فيعبده بإقامة شعائره، وتنفيذ شرائعه، كما يعبده بالعلم النافع والعمل الصالح، ويعرف حق نفسه فيمتعها بالطيبات، ويزكيها بالصالحات، ويعرف حق مجتمعه عليه، فيعطيه كما يأخذ منه، ويوصيه - كما يقبل الوصية منه - بالحق والصبر، ويعاونه - كما يستعين به - على البر والتقوى.
وقد هدت الشريعة الإسلامية الإنسان إلى أن عليه واجبات كما أن له حقوقا، وأن عليه أن يؤدي واجبه، كما أن له أن يطالب بحقه، وركزت على فكرة " الواجبات " أكثر من تركيزها على فكرة " الحقوق "؛ لأن حقوق الإنسان إنما هي في الواقع واجبات على غيره، ولن ترعى هذه الحقوق إذا كان الآخرون لا يهتمون بأداء الواجبات؛ لهذا كان المجتمع الإسلامي مجتمع واجبات، وبعبارة أخرى مجتمع " مكلفين " كما يعبر الفقه الإسلامي، فكل العقلاء في هذا المجتمع مكلفون، أي: مسئولون مطالبون وليسوا مجرد سائلين مطالبين، كما هي آفة العصر الحديث، الذي يقول كل امرئ فيه: لي كذا ولي كذا، ولا يقول: علي كذا وكذا.
ولا غرو ــ في مجتمع هؤلاء أفراده وهذا سمتهم ــ أن ازدهرت الزراعة والصناعة والتجارة في بلاد الإسلام، وعمرت الأرض، وعم الرخاء، وكثرت الخيرات، وأكل الناس من فوقهم ومن تحت أرجلهم.
ولم يسع مؤرخ الحضارة "ول ديورانت"، رغم سوء فهمه لموقف الإسلام في بعض الأحيان، وتحامله في أحيان أخرى، إلا أن يسلم بأن الخلفاء الأولين - من أبي بكر - رضي الله عنه - إلى المأمون - قد وضعوا النظم الصالحة الموفقة للحياة الإسلامية في رقعة واسعة من العالم، وأنهم كانوا من أقدر الحكام في التاريخ كله، ولقد كان في مقدورهم أن يصادروا كل شيء، أو أن يخربوا كل شيء كما فعل المغول أو المجر أو أهل الشمال من الأوربيين، لكنهم لم يفعلوا هذا، بل اكتفوا بفرض الضرائب، ولما أن فتح عمرو مصر أبى أن يستمع إلى نصيحة الزبير حين أشار عليه بتقسيم أرضها بين العرب الفاتحين، وأيده الخليفة في هذا الرأي، وأمره أن يتركها في أيدي الشعب يتعهدها فتثمر، وفي زمن الخلفاء الراشدين مسحت الأراضي، واحتفظت الحكومة بسجلاتها، وأنشات عددا كبيرا من الطرق وعنيت بصيانتها، وأقيمت الجسور حول الأنهار لمنع فيضانها، وكانت العراق قبل الفتح الإسلامي صحراء جرداء، فاستحالت أرضها بعد جنانا فيحاء، وكان كثير من أرض فلسطين قبيل الفتح رملا وحجارة، فأصبحت خصبة غنية، عامرة بالسكان.
وما من شك في أن استغلال المهرة والأقوياء للسذج والضعفاء بقي في عهد الحكومات الإسلامية كما بقي في عهود كل الحكومات، ولكن الخلفاء قد أمنوا الناس إلى حد كبير على حياتهم وثمار جهودهم، وهيئوا الفرص لذوي المواهب، ونشروا الرخاء مدى ستة قرون، في أصقاع لم تر قط مثل الرخاء بعد عهدهم، وبفضل تشجيعهم ومعونتهم انتشر التعليم، وازدهرت العلوم والآداب والفلسفة والفنون ازدهارا جعل آسيا الغربية مدى خمسة قرون أرقى أقاليم العالم كله حضارة.
· العدل المؤدي لمساواة لا تعتد بالفوارق ولا تعترف بالطبقات:
وفي ظل شريعة الإسلام ساد العدل، ونعم بخيره الناس جميعا، فقانون الشرع ملزم لكل من جرت عليه أحكام الإسلام، لا يظلم أحدا أو يحابي لأجل دينه أو طبقته الاجتماعية، أو أسرته، أو غناه أو فقره، أو لونه أو لغته.
ذلك لأن عدل الإسلام هو عدل الله، والله لا يظلم أحدا من عباده، فردا أو جماعة، بل هو الحكم العدل، وقد نزلت آيات خالدة في كتاب الله، تدافع عن يهودي اتهم بجريمة ظلما وهو بريء منها.
ولم تعرف الدنيا قضاء كالقضاء الإسلامي يعامل أمامه الخليفة - أمير المؤمنين - كما يعامل كافة أفراد الشعب، ويجري عليه ما يجري عليهم، وقد يحكم عليه القاضي لخصم يهودي أو نصراني، بل هو ما سجله تاريخ القضاء الإسلامي في وقائع شتى تظل غرة في جبين الدهر.
وفي ظل شريعة الإسلام سعد الناس بمساواة قانونية واجتماعية قل أن عرف التاريخ لها مثيلا، فلقد أبطل الإسلام كل الفوارق التي تميز بين الناس: من الجنس واللون واللغة والنسب والأرض والطبقة والمال والجاه، وربط هذه المساواة بشعائره اليومية والأسبوعية والسنوية، ليتأكد للناس أنهم سواسية كأسنان المشط، لا فضل لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى، ولهذا لم يعرف المجتمع الإسلامي التمييز العنصري أو اللوني أو الطبقي الذي عرف في مجتمعات أخرى شرقية وغربية.
ولا عجب أن رأينا عمر - رضي اله عنه - يقول عن بلال الحبشي: «أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا»، يعني: بلالا رضي الله عنه [18].
ورأينا حكم الشريعة يطبق على الجميع، لا يعفى شريف لشرفه، ولا يرهق ضعيف لضعفه، بل قال النبي - صلى الله عليه وسلم - قولته المشهورة: «إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»[19].
يقول غستاف لوبون في كتابه "حضارة العرب"، و هي ليست إلا حضارة الإسلام: ونختم قولنا في نظم العرب الاجتماعية بأن نذكر أن العرب يتصفون بروح المساواة المطلقة، وفقا لنظمهم السياسية، وأن مبدأ المساواة الذي أعلن في أوربا - قولا، لا فعلا - راسخ في طبائع الشرق رسوخا تاما، وأنه لا عهد للمسلمين بتلك الطبقات الاجتماعية التي أدى وجودها إلى أعنف الثورات في الغرب، ولا يزال يؤدي، وليس من الصعب أن ترى في الشرق خادما زوجا لابنة سيده، وأن ترى أجراء منهم قد أصبحوا من الأعيان.
وفي ظل شريعة الإسلام وحكم الإسلام ساد التكافل الاجتماعي الشامل، الذي قام على حراسته إيمان الأفراد المسلمين، وسلطان الدولة المسلمة.
تكافل بين أبناء الأسرة والعشيرة، وتكافل بين أبناء الحي، وتكافل بين أبناء القطر أو الإقليم الواحد، وتكافل أوسع وأكبر، يشمل الأمة الإسلامية كلها، فهي أمة واحدة، يشد بعضها أزر بعض، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم.
لقد رأينا هذا التكافل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث بعث سعاته وعماله إلى كافة القبائل والأقطار التي دخلها الإسلام، وأمرهم أن يأخذوا الزكاة من أغنيائهم ليردوها على فقرائهم، وكان الساعي أو العامل منهم يذهب، فيجمع الزكاة ثم يتركها في موضعها، فلا يعود إلا بحلسه أو عصاه.
· التسامح مع المخالفين:
وفي ظل شريعة الإسلام ربحت البشرية مبدءا أخلاقيا من أعظم المبادئ في العلاقات الإنسانية والدولية، هذا المبدأ هو: التسامح مع المخالفين في الدين.
ينقل غوستاف لوبون عن عدد من المؤرخين الأوربيين ما يثبت هذه الحقيقة التاريخية بكل تأكيد، فيقول: قال روبرتسون في كتابه " تاريخ شارلكن ": "إن المسلمين وحدهم هم الذين جمعوا بين الغيرة لدينهم، وروح التسامح نحو أتباع الأديان الأخرى، وأنهم مع امتشاقهم[20] الحسام نشرا لدينهم، تركوا من لم يرغبوا فيه أحرارا في التمسك بتعاليمهم الدينية".
· حضارة العلم والإيمان:
وفي ظل شريعة الإسلام قامت حضارة زاهرة، جمعت بين العلم والإيمان، وبين الدين والدنيا.
كان للعلم في الحضارة مكان بارز، وسلطان مبين، ولم تعرف ما عرفته حضارات أخرى من النزاع بين العلم والدين، بل كان كثير من فقهاء الدين علماء مبرزين في علوم الكون والحياة، كما كان كثير من أساطين الطب والفيزياء والرياضيات وغيرها من أكابر علماء الدين، وهل كان ابن رشد وابن خلدون إلا فقيهين وقاضيين من قضاة الشريعة الإسلامية؟ [21].
ومن كل ما سبق يتضح أن الشريعة الإسلامية في جانبها العملي ناجحة وصالحة، كما كانت في جانبها النظري، شهد بذلك الوحي والتاريخ والواقع والمنصفون من علماء الغرب، ودعمته المشاهدة.
الخلاصة:
· الدراسة العلمية والمنطق يقتضيان القول بتفوق الشريعة الإسلامية على القوانين الوضعية وبصلاحيتها لهذا العصر وغيره من العصور.
· وجه الخطأ الذي وقع فيه هؤلاء المدعون هو قياس القوانين الوضعية التي هي من صنع البشر بالشريعة الإسلامية التي وضعها خالق البشر، فهم حين يقيسون، إنما يقيسون الأرض بالسماء، والناس برب الناس، فكيف يستوي في عقل عاقل أن يقيس نفسه بربه وأرضه بسمائه؟!
فإذا انعدمت المساواة فلا قياس، وكان القياس باطلا للاختلافات الآتية:
· القانون من صنع البشر، ويتمثل فيه نقص البشر وعجزهم وضعفهم؛ لذا فهو عرضة للتغير والتبديل، أما الشريعة فصانعها هو الله، لذا تتمثل فيها قدرة الخالق وكماله وعظمته وإحاطته بما كان وما هو كائن؛ لذا فهي صالحة لكل زمان ومكان؛ لأن علمه أحاط بكل شيء.
· القانون هو قواعد مؤقتة تضعها الجماعة لتنظيم شئونها وتسد حاجاتها المؤقتة، فهي تتغير وتتطور مع تغير حال الجماعة، أما الشريعة فقواعد وضعها الله - عز وجل - على سبيل الدوام لتنظيم شئون الجماعة؟ فقواعدها دائمة لا تقبل التغيير والتبديل، وهذه ميزة تتميز بها الشريعة من الوجهة المنطقية؛ لأن قواعدها من المرونة والعموم بحيث تتسع لحاجات الجماعة مهما طالت الأزمان وتطورت الجماعة؛ ولأن قواعدها ونصوصها من السمو والارتفاع بحيث لا يمكن أن تتأخر في وقت أو عصر عن مستوى الجماعة ومتطلباتها واحتياجاتها.
· الجماعة هي التي تصنع القانون وتلونه بعاداتها وتقاليدها، والأصل في القانون أن يوضع لتنظيم شئون الجماعة ولا يوضع لتوجيه الجماعة، لذا كان القانون متأخرا عن الجماعة وتابعا لتطورها.
أما الشريعة فليست من صنع الجماعة إنما هي من صنع الله الذي أتقن كل شيء صنعه؛ وبهذا تكون الجماعة نفسها من صنع الشريعة؛ لأن المقصود من الشريعة قبل كل شيء هو خلق الأفراد الصالحين والجماعة الصالحة والدولة المثالية والعالم المثالي؛ لذا جاءت نصوصها أرفع من مستوى العالم كله وقت نزولها ولا تزال كذلك حتى اليوم، وبذلك حققت الشريعة ما أراده لها العليم الخبير، فأدت رسالتها أحسن الأداء، وجعلت من رعاة الإبل سادة العالم، ومن جهال البادية معلمين وهداة للإنسانية.
· الثبات والمرونة جوهر الشريعة الإسلامية، فالإسلام الذي ختم الله به الشرائع والرسالات السماوية أودع فيه عنصر الثبات والخلود، وعنصر المرونة والتطور معا، وهذا من روائع الإعجاز في هذا الدين، وصلاحيته لكل زمان ومكان؛ فالثبات يكون على الأهداف والغايات والأصول والكليات والقيم الدينية والأخلاقية، والمرونة في الوسائل والأساليب وفي الفروع والجزيئات وفي الشئون الدنيوية والعملية.
· الشريعة صالحة لكل زمان ومكان، وقد دلت على ذلك البراهين القاطعة من منطق الوحي ومنطق التاريخ ومنطق الواقع.
· على المشككين في صلاحية نصوص شريعة الله لكل زمان ومكان أن يعترفوا بأن العقل الذي خلقه الله للبشر، والعلم الذي حضهم عليه، ودعاهم إلى التزود به، هو نفسه الذي كشف عن حقيقة الثبات في جوهر الإنسان إلى جوار ظاهرة التغير التي تتصل بالجانب العرضي من حياته، وهذا لا يناسبه إلا الشريعة الإسلامية الموافقة لفطرة الإنسان وطبيعته التي خلقه الله - عز وجل - عليها.
(*) التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1406هـ/ 1986م.
[1]. الحيل: جمع حيلة، وهي اسم من الاحتيال، وهي التي تحول المرء عما يكرهه إلى ما يحبه، وهي في الأصل: تصرف يتحول به فاعله من حال إلى حال، ثم غلب استعمالها في الطرق الخفية التي يتوصل بها المرء إلى غرضه، بحيث لا يدرك الناس مقصده إلا بشيء من الذكاء والفطنة.
والمراد بالحيل الممنوعة: هي التصرفات المشروعة في ذاتها إذا أتى بها المرء ليبطل حكما شرعيا؛ كمن يهب ماله قبيل حولان الحول لمن يثق برده إليه؛ فرارا من وجوب الزكاة عليه.
[2]. لمزيد من التفصيل في هذا الشأن ينظر: التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1406هـ/ 1986م، ج1, ص 25: 62.
[3]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند بني هاشم، مسند عبد الله بن العباس رضي الله عنهما، (2867)، وابن ماجه في سننه، كتاب الأحكام، باب من بني في حقه ما يضر بجاره (2341)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (896).
[4]. العلمانية: قيل: إن ترجمتها الصحيحة "اللادينية" أو "الدنيوية"، وهي دعوة إلى إقامة الحياة على العلم الوضعي والعقل ومراعاة المصلحة بعيدا عن الدين، ومدلول العلمانية المتفق عليه يعني عزل الدين عن الدولة.
[5]. صحيح: أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب الإيمان، (1/130). وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (51).
[6]. التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1406هـ/ 1986م، ج1، ص13: 25 بتصرف.
[7]. التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1406هـ/ 1986م، ص62, 63.
[8]. نريد بالشريعة ـ هنا ـ ما هو أعم من " الجانب القانوني " في رسالة الإسلام، بل المراد، ما بعث الله به محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ من عقائد، وعبادات, ومعاملات، وأخلاق، وغيرها، كما عرفها بذلك التهانوي في كتابه "كشاف اصطلاحات العلوم والفنون" (د. القرضاوي).
[9]. التعزير: هو تأديب دون الحد، وهو عقوبة غير مقدرة شرعا جعلت بيد الحاكم يجعله عقوبة مناسبة لكل جناية لم تكن لها عقوبة مقدرة شرعا بضوابط التعزير.
[10]. مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط5، 1426هـ/ 2005م، ص243: 248 بتصرف.
[11]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم (3341)، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب ذكر كونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ خاتم النبيين (6101)، واللفظ له.
[12]. حسن: أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (79)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1331).
[13]. وقد انتهت التجربة الشيوعية بالإخفاق والفشل، وتحرر من نيرها، بعد ثلاث وسبعين سنة فقط من معايشتها، أي في سنة 1990م؛ لأنها كانت ضد فطرة الإنسان، وحبه للعيش في ظل الكرامة والحرية ورعاية الدوافع الفطرية، والحقوق البشرية.
[14]. شريعة الإسلام صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، مصر، ط5، 1417هـ/ 1997م، ص11: 17 بتصرف.
[15]. أخرجه القاسم بن سلام في كتاب الأموال (781).
[16]. الكاثوليك: أكبر الكنائس النصرانية في العالم، وتدعي أنها أم الكنائس ومعلمتهم، ويقال أن مؤسسها بطرس الرسول، وتتمثل في عدة كنائس تتبع الكنيسة الغربية أو اللاتينية؛ لامتداد نفوذها إلى الغرب اللاتيني خاصة.
[17]. شريعة الإسلام صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، مصر، ط5، 1417هـ/ 1997م، ص57: 63 بتصرف.
[18]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب بلال بن رباح مولى أبي بكر رضي الله عنهما (3544).
[19]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب: ) أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم ( (الكهف: ٩) (3288)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف وغيره، والنهي عن الشفاعة في الحدود (4505).
[20]. امتشق: اختلس واختطف.
[21]. شريعة الإسلام صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، مصر، ط5، 1417هـ/ 1997م، ص18: 36 بتصرف.
click here
online women cheat husband
husband cheat
online online affair