ادعاء أن عقوبة التعزير إطلاق ليد الحاكم في معاقبة الناس بلا ضابط (*)
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المشككين أن الفقه الجنائي الإسلامي أطلق يد الحاكم في أمر العقاب بالتعزير في كثير من الجنايات والمخالفات في كافة مجالات الحياة، ويتساءلون: ألا يعد هذا عيبا في التشريع الإسلامي، حينما يترك الحاكم يعاقب الناس كيفما شاء، حسب رأيه وهواه، بلا ضابط، أو مرجعية تحدد تلك العقوبات التعزيرية؟!
وجوه إبطال الشبهة:
1) التعزير عقوبة غير مقدرة في الكتاب والسنة، تجب في كل معصية ليس فيها حد ولا كفارة. ولا خطر في إطلاق يد الحاكم فيها؛ لأنها جرائم ليست خطيرة، ولأن التساهل فيها قد يصلح الجاني أكثر مما يفسده، أما الجرائم الكبيرة فقد حددت لها الشريعة عقوبات معينة.
2) للقاضي سلطات واسعة في تحديد العقوبة التعزيرية، إلا أنها ليست مطلقة، فمعظم العقوبات متعارف عليها، وما وظيفته إلا الاختيار غالبا.
3) هناك ضوابط لا بد للقاضي من مراعاتها عند تحديده للعقوبة التعزيرية، هي:
· الاجتهاد بما تقتضيه النصوص.
· ملاءمة العقوبة للجريمة أو المعصية.
· مراعاة الأحوال والظروف والمآلات في تقدير العقوبة.
التفصيل:
أولا. بيان المقصود من التعزير في الشريعة الإسلامية:
فالتعزير: هو تأديب على ذنوب لم تشرع فيها الحدود أي: هو عقوبة على جرائم لم تضع الشريعة لها عقوبة مقدرة.
والتعازير: هي مجموعة من العقوبات غير المقدرة، تبدأ بأخف العقوبات، كالنصح والإنذار، وتنتهي بأشد العقوبات، كالحبس والجلد، بل قد تصل للقتل في الجرائم الخطيرة، ويترك للقاضي أن يختار من بينها العقوبة الملائمة للجريمة ولحال المجرم ونفسيته وسوابقه.
ويعاقب بالتعزير على كل الجرائم فيما عدا جرائم الحدود، وجرائم القصاص والدية، فلها عقوباتها الخاصة، ولا يعاقب عليها بالتعزير باعتباره عقوبة أصلية، وإنما باعتباره عقوبة بدلية تجب عند امتناع العقوبة الأصلية كعدم توافر شروط الحد، أو باعتباره عقوبة مضافة تضاف إلى العقوبة الأصلية، كالتغريب في الزنا عند أبي حنيفة، وكإضافة التعزير للقصاص في الجراح عند مالك، وكإضافة أربعين جلدة على حد الخمر عند الشافعي.
وقد جرى التشريع الجنائي الإسلامي على ألا يفرض لكل جريمة من جرائم التعزيز عقوبة معينة كما تفعل القوانين الوضعية؛ لأن تقييد القاضي بعقوبة معينة يمنع العقوبة أن تؤدي وظيفتها، ويجعل العقوبة غير عادلة في كثير من الأحوال؛ لأن ظروف الجرائم والمجرمين تختلف اختلافا بينا، وما قد يصلح مجرما بعينه قد يفسد آخر، وما يردع شخصا عن جريمة قد لا يردع غيره، ومن أجل هذا وضعت الشريعة لجرائم التعازير عقوبات متعددة مختلفة، وهي مجموعة كاملة من العقوبات تتسلسل من أخف العقوبات إلى أشدها، وتركت للقاضي كي يختار من بينها العقوبة التي يراها كفيلة بتأديب الجاني وإصلاحه، وبحماية الجماعة من الإجرام، وللقاضي أن يعاقب بعقوبة واحدة أو بأكثر منها، وله أن يخفف العقوبة أو يشددها إن كانت العقوبة ذات حدين، وله أن يوقف تنفيذ العقوبة إن رأى في ذلك ما يكفي لتأديب الجاني وردعه وإصلاحه.
وليس ثمة خطر من إعطاء القاضي هذا السلطان الواسع في جرائم التعزير؛ لأنها ليست في الغالب جرائم خطيرة؛ ولأن التساهل فيها قد يصلح الجاني أكثر مما يفسده، أما الجرائم الخطيرة وهي جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية فقد وضعت لها الشريعة عقوبات مقدرة، ولم تترك للقاضي أي سلطان عليها إلا تطبيق العقوبة المقررة كلما ثبتت الجريمة على الجاني.
وإذا كانت الشريعة قد عرفت عقوبات تعزيرية معينة فليس معنى ذلك أنها لا تقبل غيرها، بل إن الشريعة تتسع لكل عقوبة تصلح الجاني وتؤدبه وتحمي الجماعة من الإجرام، والقاعدة العامة في الشريعة: أن كل عقوبة تؤدي إلى تأديب المجرم وإصلاحه وزجر غيره وحماية الجماعة من شر المجرم والجريمة، هي عقوبة مشروعة[1].
ثانيا. للقاضي سلطات واسعة في تحديد العقوبة التعزيرية، إلا أنها ليست مطلقة:
وحتى نعلم مدى حرص الإسلام على أن يكون الأمر بضوابط ينبغي لنا أن نعرج على بيان شروط إعمال العقوبة التعزيرية، وصور التعزير، وكيفيته كما وضحته كتب الفقه الإسلامي، ولكن قبل الشروع في ذلك لا بد أن نعلم أن التعزير هو السلطة التشريعية التي أذنت بها السنة الشريفة لولي الأمر في مجال الجنايات للتجريم وما يلزم عنه، أو هو السياسة الشرعية في المجال الجنائي، وتلك السياسة مشروطة بضرورة أن تكون موافقة للأصول والمبادئ العامة الثابتة في الشرع الإسلامي.
وقد ظل صاحب هذه السلطة في العهود الإسلامية الأولى هو الحاكم الذي يجمع في يده سلطتي القضاء والتشريع، يؤازره ويسانده الفقه بالاجتهاد لتظل السياسة الجنائية في مجال التعزير شرعية وفقا لهذا المعنى.
ومن هنا فإن التعزير هو تشريع لا يقيده إلا قيد الأصول الكلية للشرع الإسلامي، فضلا عن قيد المصلحة العامة والعرف الاجتماعي فيما يتصل بالتجريم وما يقابله من رد الفعل الجنائي، وفي هذين القيدين يتمثل مضمون مبدأ الشرعية الجنائية" في مجال التعزير بالنسبة لطرفي التجريم، ويعرض د. حسني الجندي لذلك فيما يلي:
شروط إعمال العقوبة التعزيرية:
سبب وجوب التعزير: هو ارتكاب جناية ليس لها حد مقدر ولا كفارة في الشرع، سواء كانت الجناية على حق الله تعالى، أم اعتداء على حق من حقوق الآدميين.
ومن أمثلة الجنايات التي تعد اعتداء على حق من حقوق الله تعالى، ارتكاب أفعال الفسق والفجور التي لا تصل إلى درجة الذنوب المعاقب عليها بعقوبة الحد، ولذلك يقدر لها عقوبة تعزيرية، وفيه دفع للضرر عن الأمة، وتحقيق للنفع العام.
أما ما يتعلق بحق الآدميين؛ فمنها إيذاء مسلم بغير حق بفعل أو بقول يحتمل الصدق أو الكذب، بأن قال له: يا خبيث، يا فاسق، يا سارق، يا فاجر، يا كافر، يا آكل الربا، يا شارب الخمر، ونحو ذلك، وهذه الأفعال توجب التعزير؛ لأن الجاني ألحق العار بالمقذوف؛ إذ الناس بين مصدق ومكذب، فعزر دفعا للعار عنه.
والتعزير واجب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة. وتطبيقاته كثيرة، منها:
· في جريمة الزنا، الاستمتاع الذي لا يوجب الحد، وكذلك إتيان المرأة المرأة، أي المساحقة.
· وبالنسبة للسرقة، سرقة ما لا قطع فيه لعدم الحرز، أو لكونه دون ربع دينار ونحوه، وارتكاب أعمال نهب أو غصب أو اختلاس.
· وجناية لا قصاص فيها، كالصفع والوكز - وهو الدفع - والضرب بجمع الكف.
· ويجب التعزير على ترك الواجبات، وغير ذلك من المحرمات التي لا حد فيها ولا كفارة.
ويجب التعزير على مثل هذه الأفعال، من المكلف وجوبا؛ لأن المعصية تفتقر هنا إلى مايمنع من فعلها، فإذا لم يجب فيها حد ولا كفارة وجب أن يشرع فيها التعزير؛ ليتحقق المانع من فعلها.
والقول بأن التعزير يجب فيما لا حد فيه، يخرج منه ما أوجب الحد من الزنا والقذف والسرقة ونحوها. والقول بأنه يكون فيما لا كفارة فيه، يخرج به الظهار، والإيلاء، وشبه العمد، ومما يستوجب العقاب تعزيرا لوجود سببه، جرائم الغش والتدليس وغش المكاييل والموازين[2].
وجرائم الشهادة الزور التي تعد من المعاصي التي حرمتها الشريعة الإسلامية واعتبرتها من الكبائر، غير أن الشريعة لم تقدر عقوبة لشاهد الزور، ومن ثم يطبق القاضي عقوبة تعزيرية، ويعزر شاهد الزور.
وإن تاب قبلت شهادته كسائر التائبين، وللحاكم أن يجمع لشاهد الزور عددا من العقوبات إن لم يرتدع إلا بها، ولا يعزر حتى يتحقق أنه شاهد زور، وأنه تعمد ذلك: إما بإقراره بذلك، أو يشهد بما يقطع بكذبه فيه، أو شهد على رجل أنه قتل في وقت كذا وقد مات قبل ذلك، وأشباه هذا بما يعلم به كذبه ويعلم تعمده لذلك[3]، وإلا لم يعزر؛ لأن التعزير يدرأ بالشبهة بذلك، أي بما يقطع بكذبه فيه أو أن الحكم كان باطلا لعدم مطابقته للواقع، ولزم نقضه لعدم نفوذه.
ولا تقبل الشهادة من ناطق إلا بلفظ الشهادة؛ لأن الشهادة حضور، لا بد من الإتيان بفعلها المشتق منها، ولأن فيها معنى لا يحصل في غيرها؛ بدليل أنها تستعمل في اللعان، ولا يحصل بغيرها.
فإن قال: أعلم أو أحق أو أتيقن ونحوه لم تقبل؛ لأن الحاكم يعتمد لفظ الشهادة ولم يوجد، أو قال آخر بعد شهادة الأول: أشهد بمثل ما شهد به، أو قال من كتب شهادته: أشهد بما وضعت به خطي، لم يقبل فلا يحكم بها. وإن قال بعد الأول: وبذلك أشهد قبلت.
ويعد من قبيل الجرائم التعزيرية في الشريعة الإسلامية انتهاك حرمة ملك الغير تطبيقا لقول الله سبحانه وتعالى: )يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها( (النور: ٢٧).
شرط وجوب التعزير:
أن يكون الجاني عاقلا. فيعزر كل عاقل ارتكب جناية ليس لها حد مقدر، سواء كان حرا أوعبدا، ذكرا أو أنثى، مسلما أو كافرا، بالغا أو صبيا بعد أن يكون عاقلا، لأن هؤلاء من أهل العقوبة.
أما الصبي العاقل فيتفق الفقهاء على أنه يعزر تأديبا لا عقوبة؛ لأنه من أهل التأديب، استنادا إلى ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:«مروا صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبعا، واضربوهم عليها إذا بلغوا عشرا»[4]. وتطبيقا لذلك يؤدب الصبي على الطهارة والصلاة إذا بلغ عشرا، وذلك ليتعود، وكذا الصوم إذا أطاقه.
والعقوبة تستدعي الجناية، وفعل الصبي لا يوصف بكونه جناية، بخلاف المجنون والصبي الذي لا يعقل؛ لأنهما ليسا من أهل العقوبة ولا من أهل التأديب.
ولا يحتاج التعزير إلى مطالبة في هذه الصورة، لأنه مشروع للتأديب، فيقيمه الإمام إذا رآه.
ويجوز نقص التعزير عن عشر جلدات؛ إذ ليس لأقله مقدارا، فيرجع إلى اجتهاد الإمام أو الحاكم فيما يراه وما يقتضيه حال الشخص. ولا يجرد للضرب، بل يكون عليه القميص والقميصان كالحد.
وسبق القول بأن التعزير يكون بالضرب والحبس والصفع والتوبيخ والعزل عن الولاية، وإذا كان المقصود دفع الفساد ولم يندفع إلا بالقتل قتل، كما لو تكرر منه جنس الفساد ولم يرتدع بالحدود المقدرة بل استمر على الفساد فهو كالصائل لا يندفع إلا بالقتل فيقتل.
وقد يكون التعزير بالنيل من عرض الجاني، مثل أن يقال له: يا ظالم يا معتدي. وقد يكون التعزير بإقامته من المجلس. وقيل: التعزير بالمال سائغ إتلافا وأخذا.
التعزير يكون على فعل المحرمات، وعلى ترك الواجبات. ومن جنس ترك الواجبات من كتم ما يجب بيانه، كالبائع المدلس في المبيع بإخفاء عيب ونحوه، والمؤجر المدلس، والناكح المدلس وغيرهم من المعاملين إذا دلس، وكذا الشاهد والمخبر الواجب عليه الإخبار بما علم.
ويضاف إلى العقوبة التعزيرية الضمان؛ لأن كتمان الحق سببه الضمان، مثال ذلك، من كتم شهادة كتمانا أبطل به حق مسلم ضمنه، كأن يكون عليه حق وقد أداه، وكان على ذلك بينة بالأداء، فتكتم الشهادة حتى يغرم ذلك الحق.
ما يحرم في التعزير:
· يحرم التعزير بحلق لحيته لما فيه من المثلة[5]، وتسويد وجهه.
· ولا يجوز في التعزير قطع شيء من الجاني، أي ممن وجب عليه التعزير، ولا جرحه؛ لأن الشرع لم يرد بشيء من ذلك عن أحد يقتدى به، ولأن الواجب تأديب، والتأديب لا يكون بالإتلاف. ويجوز أن ينادى عليه بذنبه إذا تكرر الذنب منه ولم يقلع.
· ويعزر من وجب عليه التعزير بما يردعه؛ لأن القصد هو الردع؛ وقد يقال بقتله، أي من لزمه التعزير للحاجة، ومن ثم يكون من التعزيرات قتل مبتدع داعية. ويجوز قتل مسلم جاسوس للكفار.
· وهناك من قال بقتل من تكرر شربه للخمر ما لم ينته بدونه، وفي المبتدع الداعية يحبس حتى يكف عنها، ومن عرف بأذى الناس وأذى مالهم حتى بعينه ولم يكف عن ذلك حبس حتى يموت أو يتوب.
· ومن مات من التعزير المشروع لم يضمن؛ لأنه مأذون فيه شرعا كالحد.
قدر التعزير:
إن وجب التعزير بجناية ليس من جنسها ما يوجب الحد، كما إذا قال لغيره: يا فاسق، يا خبيث، يا سارق، ونحو ذلك، فالإمام فيه بالخيار إن شاء عزره بالضرب، وإن شاء بالحبس، وإن شاء بالقهر والاستخفاف بالكلام. وعلى هذا يحمل قول سيدنا عمر - رضي الله عنه - لعبادة بن الصامت: يا أحمق. إن ذلك كان على سبيل التعزير منه إياه، لا على سبيل الشتم؛ إذ لا يظن ذلك من مثل سيدنا عمر رضي الله عنه. وإن وجب بجناية في جنسها الحد لكنه لم يجب لفقد شرطه، كما إذا قال لصبى أو مجنون: يا زان. أو لذمية أو أم ولد: يا زانية.
ولا خلاف في أنه لا يبلغ التعزير الحد. واختلف في قدره؛ فورد عن أحمد أنه لا يزاد على عشر جلدات. لما جاء أبو بردة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله تعالى». [6]
وفي الرواية الثانية عن أحمد: "لا يبلغ به الحد"، أي لا يبلغ به أدنى حد مشروع. وهذا قول أبي حنيفة والشافعي فلا يزاد العبد على تسعة عشر سوطا، ولا الحر على تسعة وثلاثين سوطا. وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف أدنى الحدود ثمانون، فلا يزاد في التعزير على تسعة وسبعين.
ويحتمل كلام أحمد أنه لا يبلغ بكل جناية حدا مشروعا في جنسها، ويجوز أن يزيد على حد غير جنسها. وإذا ثبت تقدير أكثره فليس أقله مقدرا؛ لأنه لو تقدر لكان حدا؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدر أكثره ولم يقدر أقله، فيرجع فيه إلى اجتهاد القاضي فيما يراه ويقتضيه حال الشخص.
صور التعزير وكيفيته:
يكون التعزير - بحسب الأصل - بما يردع به الجاني ويزدجر، أو بما يؤدي إلى هدايته وإصلاحه وتوبته، وتهدئة وتسكين المجني عليه، وتطهير نفس الجاني.
ومن أجل ذلك تدرجت وسائل التعزير وصوره، حسب الهدف الذي يسعى الشرع إلى تحقيقه؛ فبدأت بالنصح أو التوبيخ بالكلام، ثم الضرب أو الجلد. وقد يكون التعزير بالمال أو الحبس، وقد يكون بالقتل، بحسب ما يراه ولي الأمر رادعا للشخص، وبحسب اختلاف حالات الناس.
ويكون التعزير بالتوبيخ، أو بالضرب، أوبالمال، أوبالحبس، وقد يكون بالقتل، وكل صورة من هذه الصور تتناسب مع جسامة الذنب، وتتلاءم في ذات الوقت مع ظروف المذنب وحالته، بل وتهدف إلى تحقيق غايات ومقاصد العقوبة.
· ويكون توبيخ الجاني بما يحقق إشعار المذنب بالندم على ما بدر منه، فيكون في ذلك الكفاية لتحقيق الغرض الذي يهدف القاضي إليه، وهو عدم معاودة الذنب، ويتحقق ذلك بإعراض القاضي عنه، أو بالنظر إليه بوجه عبوس، وقد يتحقق الغرض بالإعراض عن المذنب وهجر مخالطته.
· ولا يصل الأمر إلى التعزير بالضرب أو الجلد، إلا إذا كان الجاني من ذوي السفاهات، الذين اعتادوا الإجرام ويستحقون الإيلام. وتعد من أكثر العقوبات التعزيرية ردعا للمجرمين، حتى لايعودوا إلى التفكير في الجريمة مرة أخرى، ويكون إنزالها بكل مجرم بالقدر الذي يلائم جريمته، وشخصيته في آن واحد، وله أثر إيجابي في منع الجرائم وانتشارها.
· أما التعزير بالحبس فيتقرر أحيانا للتأديب والردع، وهو يشبه الحبس الاحتياطي في زماننا الحالي. وقد فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن حبس رجلا في تهمة، ثم خلى عنه.
· وقد ينصرف الحبس إلى النفي، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: )أو ينفوا من الأرض( (المائدة: ٣٣)، ومن هذا القبيل أيضا حبس الجاني لغيبة المجني عليه حفظا لمحل القصاص، وحبس الجاني تعزيرا وردعا عن معاصي الله تعالى.
· التعزير بالمال يقصد به إمساك شيء من مال الجاني عنه مدة من الزمن؛ لينزجر عما اقترفه، ثم يعيده الحاكم إليه؛ إذ لا يجوز لأحد من المسلمين أخذ مال أحد بغير سبب شرعي.
والعقوبات المالية ثلاثة أقسام: الإتلاف، التغيير، التمليك. ويجوز التعزير بتغريم المال، أو العقوبات المالية.
· والأصل أن التعزير للتأديب، ويجوز بما أمنت عاقبته غالبا، فلا ينبغي أن يصل به الحاكم إلى مهلكة، ومن ثم لا يجوز فيه القتل أو القطع بحسب الأصل، بل يجب أن يقتصر على القدر الذي يظن انزجار الجاني به ولا يزيد عليه. ومع ذلك، يجوز - استثناء - التعزير بالقتل سياسة، أو إذا اقتضت المصلحة المبالغة في الردع درءا للخطر والفساد.
الحكمة من تشريع التعزير:
وللتعزير أهمية كبيرة في التشريع الجنائي الإسلامي، لأنه يتناول نطاقا واسعا من الجرائم التي لم يقرر الشارع لها عقوبة حد أو قصاص أو كفارة، مما يجعله نظاما يتسم بالمرونة والصلاحية.
ولا ينحصر تفعيل عقوبات التعزير في النطاق السابق، وإنما ليس هناك ما يمنع من الجمع بينها وبين العقوبات المقدرة كالحد والقصاص والكفارة.
والغرض من ذلك: عدم ترك الأفعال غير المشروعة بدون عقاب، وعلى الخصوص إذا تخلف أحد أركان الحد أو القصاص، وحتى لا يظل الجاني بدون عقاب يردعه. مثال ذلك: السرقة التي لا توجب حدا يكون فيها التعزير.
وقد تكون الحكمة من الجمع هي تحقيق قدر أكبر من زجر الجناة، وزيادة الردع الذي يؤدي إلى الكف عن الإجرام.
و يقرر الشارع مجموعة من العقوبات الإضافية إلى جانب عقوبة الحد المقررة للجريمة، منها:
· عقوبة التغريب للزاني غير المحصن التي تضاف إلى جانب عقوبة جلد مائة.
· تبكيت شارب الخمر بعد جلده عقوبة الحد، وهو نوع من التعزير بالقول.
· وتعليق يد السارق في رقبته بعد قطعها، زيادة على الحد المقدر، وحتى يعرف الناس عاقبة السرقة، فيكون عبرة لغيره، كما أنها للزجر والتنكيل بالجاني.
· كما يجوز الجمع بين الكفارة والتعزير: مثال ذلك أن يجامع الرجل زوجته في نهار رمضان، والتعزير مشروع في هذا الفرض لتعلقه بحق الله تعالى، وليندفع ضرر عام عن الناس من غير أن يكون مختصا بأحد. ويمكن تأسيس التعزير في بعض الحالات على قاعدة: "وجزاء سيئة سيئة مثلها"[7].
ثالثا. هناك ضوابط لا بد للقاضي من مراعاتها عند تحديده للعقوبة التعزيرية يمكن إيجازها في الآتي:
· عدم مخالفة العقوبة لنصوص الشريعة وقواعدها المتعلقة بالعقاب.
· الاجتهاد في ضوء النصوص.
· ملاءمة العقوبة للجريمة أو المعصية.
· مراعاة الأحوال والظروف والمآلات في تقدير العقوبة.
· عدم مجاوزة النوع الذي فيه الكفاية لزجر الجاني.
وقبل أن نشرع في تفصيل هذه النقاط نؤكد على أنه لاخلاف بين الفقهاء في أنه لايبلغ التعزير الحد كما سبقت الإشارة.
يؤكد د. حسني الجندي على:"أنه إذا كان التعزير عقوبة غير مقدرة، لم يحدد لها الشرع حدا معينا فكان لابد لولي الأمر أو الحاكم من وضع عقوبة لكل جريمة لا حد فيها؛ لأن ترك الجريمة بدون عقاب هو نوع من العبث.
ولا يترك الشارع لأي شخص مهمة وضع هذه العقوبة وتحديدها، وإلا كان في ذلك نوع من الفوضى؛ لأن العقوبة تنطوي على قسر وإجبار يخضع له الجاني، وقد تصل إلى استئصاله، فكان لا بد من أن يوكل بهذه المهمة إلى الشارع، وهو هنا ولي الأمر أو الحاكم أو السلطة التي تفوض في ذلك، ومن ثم كان التعزير ذا طبيعة تفويضية.
ويختار ولي الأمر أو القاضي في كل حالة تعرض عليه العقوبة أو العقوبات التي يراها كافية لزجر الجاني، ولا يزيد عليها، ويراعي في ذلك ظروف الجاني والجريمة والمجني عليه والزمان والمكان.
ويتم تحديد العقوبة التعزيرية وتقديرها، بشرط عدم مخالفتها لنصوص الشريعة وقواعدها المتعلقة بالعقاب.
ويستدل من النصوص التي تقضي بحرمة الربا، وشهادة الزور، والغش في الكيل والميزان، أنها وإن أوردت التحريم، لم تأت بعقوبة محددة بشأنها، فكانت تقتضي عقوبة تعزيرية، يترك تقديرها لولي الأمر، ويتولى القاضي تطبيقها على كل جريمة على حسب ظروفها.
وإذا كان ذلك هو شأن نصوص التحريم، فإن للقاضي مهمة أخرى بشأن تطبيق النصوص سالفة الذكر، وهي تلخص في أن يجتهد في الحكم بما تقتضيه هذه النصوص، وأن يكون حكمه بما أنزل الله وألايخرج عن مقتضاه، وإلا كان متبعا للهوى؛ ويعني ذلك أن يكون اجتهاده بعيدا عن ميوله الشخصية أو ميول غيره، تطبيقا لقول الله سبحانه وتعالى: )يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله( (ص: ٢٦)، وقوله سبحانه وتعالى: )وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم( (المائدة: ٤٩)، وإذا ثبت أن حكم القاضي أو الحاكم أو ولي الأمر كان مخالفا لنصوص الشريعة وقواعدها العامة المتعلقة بالعقاب، كان حكمه غير معتبر، ولا يطاع في ذلك؛ لأنه كما قال النبي: «لا طاعة في معصية، إنما الطاعة في المعروف»[8].
ويجب على القاضي أن يراعي الملاءمة بين العقوبة وشخص الجاني؛ فإذا كان تقدير العقوبة التعزيرية يترك لاجتهاد القاضي، وكان هذا التقدير يختلف باختلاف الأشخاص، كان من اللازم أن يراعي القاضي حالة الجاني، وأن يناسب بينها وبين العقوبة التي يقضي بها.
وبناء على ذلك، فليس للقاضي التعزير بغير المناسب لمستحقه، ولا بقدر من العقاب لايزجر الجاني أو يصلحه. ويتعين على القاضي أن يضع في الاعتبار:
o حال الجاني: فمن الجناة من يقتضي حاله التوبيخ، وآخر يستحق التعزير بالضرب، وثالث يكفي معه الحبس.
o مدى ما تحققه العقوبة في نوعها أو قدرها من زجر للجاني أو إصلاح؛ لأن المقصود من التعزير هو الزجر، والناس تختلف أحوالهم في الانزجار، فيراعى في التعزير التدرج والترتيب، بما يراعى في دفع الصائل مثلا. وإذا رأى القاضي - وقد اختار التعزير بالضرب - أن الحد الأقصى منه غير كاف لزجر الجاني، فليس له - عند الحنفية - أن يزيد في الضرب عن هذا الحد، ولكن له أن يبدل نوعا آخر من أنواع العقوبات في التعزير بما كان يكفي من الضرب فوق الحد الأقصى، فله أن يحكم بالحبس مع الضرب، أو الإبعاد مع الضرب، أو أية عقوبة يراها مناسبة.
وأورد الماوردي في "الأحكام السلطانية" في ذلك أن: تأديب ذي الهيبة من أهل الصيانة أخف من تأديب أهل البذاءة والسفاهة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود»[9]. فتدرج في الناس على منازلهم، فإن تساووا في الحدود المقدرة فيكون تعزير من جل قدره بالإعراض عنه، وتعزير من دونه بالتعنيف، وتعزير من دونه بزواجر الكلام وغاية الاستخفاف الذي لاقذف فيه ولا سب، ثم يعدل بمن دونه ذلك إلى الحبس، الذي يحبسون فيه على حسب ذنبهم وبحسب هفواتهم؛ فمنهم من يحبس يوما، ومنهم من يحبس أكثر منه إلى غاية غير مقدرة... ثم يعدل بمن دون ذلك إلى النفي والإبعاد، إذا تعددت ذنوبه إلى اجتذاب غيره إليها.
وقال ابن تيمية في السياسة الشرعية: "يعاقبون تعزيرا وتنكيلا وتأديبا بقدر ما يراه الوالي، على حسب كثرة ذلك الذنب وقلته، فإذا كان كثيرا زاد في العقوبة، بخلاف ما إذا كان قليلا، وعلى حسب حال الذنب، فإذا كان من المدمنين على الفجور زيد في عقوبته، بخلاف المقل من ذلك، وعلى حسب كبر الذنب وصغره، فيعاقب من يتعرض لنساء الناس وأولادهم بما لايعاقبه من لم يتعرض إلا لامرأة واحدة أو صبي واحد.
o عدم مجاوزة النوع الذي فيه الكفاية لزجر الجاني إلى نوع أعلى منه، ويجب أن يقتصر التعزير على نوع العقوبة الذي يكفي للزجر دون زيادة، وعند مالك: للقاضي أن يختار العقوبة المناسبة للجرم الذي يحكم به نوعا وقدرا، فلا يتجاوز هذا القدر، ولايزيد عليه، ولا يبدله إلى غيره، مما لا يقتضيه زجر الجاني.
والضابط السابق يتعلق بقدر العقوبة الذي يكفي للزجر، أما هذا الضابط فيتعلق بنوع العقوبة. فالقاضي مفوض في اختيار نوع العقوبة الذي يراه مناسبا - من حيث الكفاية للزجر. فإذا كان نوع التعزير كافيا لزجر الجاني، فلا يجوز للقاضي أن يتجاوزه إلى نوع آخر. فالتفويض مقيد بقيدين: النوع والقدر معا.
ويكمل ما تقدم الحديث عن صفات التعزير، منها: فإذا كان ضرب التعزير أشد الضرب، فإن الفقهاء اختلفوا في المراد بالشدة المذكورة:
قال بعض الناس: أريد بها الشدة من حيث الجمع، وهي أن يجمع الضربات فيه على عضو واحد، ولا يفرق، بخلاف الحدود.
وقال آخرون: المراد منها الشدة في نفس الضرب، وهو الإيلام.
وقيل: إنما كان أشد الضرب لوجهين:
1. أنه شرع للزجر المحض، ليس فيه معنى تكفير الذنب بخلاف الحدود، فإن معنى الزجر فيها يشوبه معنى التكفير للذنب، وقد ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «وما أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا»[10]؟ فإذا تمحض التعزير للزجر، فلا شك أن الأشد أزجر، فكان في تحصيل ما شرع له أبلغ.
2. أنه قد نقص عن عدد الضربات فيه، فلو لم يشدد في الضرب لا يحصل المقصود منه وهو الزجر.
ومنها أنه يحتمل العفو والصلح والإبراء، لأنه حق العبد خالصا فتجري فيه هذه الأحكام كما تجري في سائر الحقوق للعباد من القصاص وغيره، بخلاف الحدود. ومنها أنه يورث كالقصاص وغيره. ومنها أنه لا يتداخل؛ لأن حقوق العبد لا تحتمل التداخل بخلاف الحدود.
ويؤخذ فيه الكفيل، إلا أنه لا يحبس لتعديل الشهود، أما التكفيل فلأن التكفيل للتوثيق، والتعزير حق العبد فكان التوثيق ملائما له، بخلاف الحدود.
وأما عدم الحبس، فلأن الحبس يصلح تعزيرا في نفسه، فلا يكون مشروعا قبل تعديل الشهود، بخلاف الحدود فإنه يحبس فيها لتعديل الشهود؛ لأن الحبس لا يصلح حدا"[11].
الخلاصة:
من خلال العرض السابق لحقيقة التعزير وأبعاده في الفقه الإسلامي الجنائي يتضح زيف الادعاء القائل بأن التعزير إطلاق ليد الحاكم في معاقبة الناس بلا ضابط وذلك للآتي:
· هناك ضوابط لا بد للقاضي أو الحاكم من مراعاتها عند تحديد العقوبة التعزيرية وهي:
o الاجتهاد بما تقتضيه النصوص.
o ملاءمة العقوبة للجريمة أو المعصية.
o مراعاة الأحوال والظروف في تقدير العقوبة.
o عدم مجاوزة النوع الذي فيه الكفاية لزجر الجاني.
· إذا كان للقاضي سلطات في تحديد العقوبة التعزيرية إلا أنها ليست مطلقة، فمعظم العقوبات متعارف عليها، ويقوم القاضي باختيار الأنسب للعقوبات حسب الحالة التي بين يديه، وهذا ما يعمل به في القانون الوضعي أيضا.
· لا خطر في إطلاق يد الحاكم في عقوبة التعزير؛ لأنها تقدر على جرائم غير خطيرة، ولأن التساهل فيها قد يصلح الجاني أكثر مما يفسده، وأما الجرائم الكبيرة فقد حددت لها الشريعة عقوبات معينة.
· لا مانع في الشريعة من اجتماع أهل الحل والعقد وتحديد العقوبات التعزيرية وتقنينها؛ فهي أمور تقديرية، تختلف من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان حسبما تقتضيه الظروف والأحوال، وذلك من مرونه الشريعة ودليل على عظمتها وصلاحيتها لكل زمان ومكان، وتلك ميزات لا عيوب.
(*) المقاصد الشرعية للعقوبات في الإسلام، د. حسني الجندي ، دار النهضة، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2005م.
[1]. التشريع الجنائي في الإسلام مقارنا بالقانون الوضعي، د. عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1406هـ/ 1986م، ج1، ص485، 486.
[2]. يعاقب على هذه الجريمة في مصر بمقتضى القانون رقم48 لسنة 1941م وتعديلاته الخاص بقمع التدليس والغش.
[3]. يعاقب على جريمة الشهادة الزور في المادة 294 من قانون العقوبات المصري.
[4]. صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، كتاب الصلوات، باب متى يؤمر الصبي بالصلاة (3482)، وأحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما (6689)، وصححه الألباني في الجامع الصغير وزيادته (7473).
[5]. المثلة: قطع الأنف والأذن ونحوهما، يقال: مثل بالقتيل: إذا جدع أنفه أو أذنه أو مذاكيره أو شيء من أجزائه.
[6]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة، باب كم التعزير والأدب (6456)، وفي مواضع أخرى بنحوه، ومسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب قدر أسواط التعزير (4557) بنحوه.
[7]. المقاصد الشرعية للعقوبات في الإسلام، د. حسني الجندي ، دار النهضة، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2005م، ص264 وما بعدها.
[8]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التمني، باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصوم (6830)، وفي مواضع أخرى بنحوه، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية (4871)، وفي موضع آخر بنحوه.
[9]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث السيدة عائشة رضي الله عنها (25513)، وأبو داود في سننه، كتاب الحدود، باب في الحد يشفع فيه (4377)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (638).
[10]. صحيح: أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب البيوع (2174)، والبيهقي في سننه الكبرى، كتاب الأشربة والحد فيها، باب الحدود كفارات (17373)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2217).
[11]. المقاصد الشرعية للعقوبات في الإسلام، د. حسني الجندي ، دار النهضة، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2005م، ص480 وما بعدها.
click
website dating site for married people
husbands who cheat
open my boyfriend cheated on me with a guy
read here
website why women cheat on men