الادعاء أن الخوف من حد القذف يلجئ إلى كتمان الشهادة (*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المشككين أن تشريع حد القذف في الشريعة الإسلامية يلجم الأفواه، ويجعل الناس يتسترون على المجرم فيكتمون الشهادة؛ خوفا من أن يطبق عليهم حد القذف. ويتساءلون: كيف يتمكن أربعة أفراد من رؤية الجريمة عينها؟! ألا يعد ذلك مستحيلا؟! وهل إذا كان الشهود أقل من أربعة يتركون الفاسق يكمل فعلته حتى يكتمل العدد؟!
وجوه إبطال الشبهة:
1) تشريع الحدود في الإسلام له حكم ومقاصد عظيمة، ترجع في أصولها إلى الردع عن ارتكاب المحظور أو ترك المأمور به؛ لمحو دواعي الجريمة من النفس قبل الحس، ولضمان سلامة المجتمع، والحفاظ على أمنه واستقراره.
2) الأمر بأداء الشهادة حكمه الوجوب، إلا إذا كان في الحدود، فإن الشاهد مخير بين الإدلاء بشهادته، أو الستر على العاصي، والستر أولى؛ لئلا تشيع الفاحشة في المجتمع المسلم.
3) الستر على أصحاب المعاصي له أهداف، فإن فضحهم وإقامة الحد عليهم يعني قتلهم معنويا، وذبحهم نفسيا، ولا يعني التستر على الجناة الرضا عما يفعلون؛ بل يعني إتاحة الفرصة لتوبتهم وإصلاحهم، قبل انكشاف حالهم وافتضاح أمرهم.
4) إذا لم يكتمل العدد في الشهادة فلا تقوم البينة، وتبطل الدعوى، وذلك إمعانا في الستر والتثبت؛ حتى لا يخوض الناس بعضهم في أعراض بعض؛ ولأن ثبوت الجريمة يترتب عليه أمر خطير وهو إقامة الحد، وإهدار كرامة الجاني، وتحطيم حصانته.
5) لا يعني عدم اكتمال الشهود أن يترك الفاسق في فعله، بل لا بد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإنه من خصائص أمة الإسلام، والإثم محقق لمن يرى منكرا ولا يغيره.
التفصيل:
أولا. تشريع الحدود في الإسلام له حكم ومقاصد عظيمة:
إن تشريع الحدود في الإسلام له حكم ومقاصد عظيمة، ترجع في أصولها إلى الردع عن ارتكاب المحظور أو ترك المأمور به؛ لمحو دواعي الجريمة من النفس قبل الحس،ولضمان سلامة المجتمع، والحفاظ على أمنه واستقراره.
محاربة الإسلام للجريمة:
"لقد حارب الإسلام الجريمة بمختلف أنواعها، فرتب على ارتكابها عقوبات زاجرة تحفظ أمن الناس والأمة، وتحفظ النظام العام للدولة؛ حتى لاتكون هناك تجاوزات تخل بالمصالح العامة والخاصة، وتؤدي بالأمة نحو الانهيار والاضطراب والضعف، فالجريمة هي نتاج التربية الفاسدة، وانحلال السلوك الاجتماعي، وتدهور الأوضاع الاقتصادية، وضعف المفاهيم السياسية التي تسير النظام العام وتقود الأمة إلى الهاوية.
وتعد الأوضاع الفاسدة التي يعيشها المجتمع العامل الأساسي في نشأة الجريمة والمجرمين، وتمثل في الوقت نفسه الدافع لكل من له ميل لارتكاب الجرائم، فهي تشجع على الفاحشة، وانطلاق الشر داخل المجتمع لينهار ويختل توازنه.
ولقد حاربت الشريعة كل أسباب الجريمة ودوافعها بكل الطرق والسبل؛ حيث حرمت قتل النفس الإنسانية والاعتداء عليها في نصوص كثيرة، منها قوله عز وجل: )ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق( (الإسراء: ٣٣)، كما أنه تعالى جعل عقوبة القتل القتل، وترك أمر المطالبة بالقصاص أو العفو لأولياء المجني عليه لتتحقق العدالة الإلهية بين الناس قال سبحانه وتعالى: )يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم (178)( (البقرة).
كما جعل الشارع الحكيم تواصل الحياة البشرية والحفاظ عليها من كليات الشريعة وأصولها قال سبحانه وتعالى: )ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون (179)( (البقرة)، وقد حذر من الفساد ونبه على خطورته في قوله سبحانه وتعالى: )وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد (205)( (البقرة).
كما بين حقيقة القصد في الجناية ففرق بذلك بين القتل العمد العدوان، والقتل الخطأ، فجعل عقوبة الخطأ غير عقوبة العمد في قوله سبحانه وتعالى: )وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما (92) ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما (93)( (النساء).
هذه هي الشريعة الحقة التي راعت في نظام البشر وأمنه واستقراره كل ما هو مصلحة للأمة، وكل ما هو خير لها، فشددت في عقوباتها رحمة بالعباد، ودفعا للفساد وأضراره التي تلحق بهم، فحددت الأفعال الحسنة التي يؤجر عليها الفاعل، وحذرت من إتيان المفاسد والمعاصي والخطايا، وبينت عقوباتها في الدنيا والآخرة: )ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم (42)( (الأنفال) [1].
ثانيا. الأمر بأداء الشهادة حكمه الوجوب، إلا إذا كان في الحدود، فإن الشاهد مخير بين الإدلاء بشهادته أو الستر على العاصي، والستر أولى؛ لئلا تشيع الفاحشة في المجتمع:
الأصل في الشهادة - قبل الإجماع - الكتاب والسنة:
"أما الكتاب فقوله سبحانه وتعالى: )واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء( (البقرة: ٢٨٢)، وقوله سبحانه وتعالى: )وأشهدوا ذوي عدل منكم( (الطلاق: ٢)، وقوله سبحانه وتعالى: )وأشهدوا إذا تبايعتم( (البقرة: ٢٨٢)، أمر إرشاد لا وجوب.
وأما السنة فمثل قوله - صلى الله عليه وسلم - لمدع: «شاهداك أو يمينه»[2].
وحكم الشهادة: وجوب القضاء على القاضي بموجبها بعد توافر شروطها، وأما حكم تحمل الشهادة وأدائها، فهو فرض كفائي إذا دعي الشهود إليه؛ إذ لو تركه الجميع لضاع الحق، ويصبح أداء الشهادة بعد التحمل فرض عين، فيلزم الشهود بأداء الشهادة، ولا يجوز لهم كتمانها إذا طالبهم المدعي بها، لقوله سبحانه وتعالى: )ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا( (البقرة: ٢٨٢)، وقوله سبحانه وتعالى:)ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه( (البقرة: ٢٨٣)، وقوله سبحانه وتعالى: )وأقيموا الشهادة لله( (الطلاق: ٢).
ويجب أداء الشهادة بلا طلب في حقوق الله تعالى، كطلاق امرأة بائنا، ورضاع ووقف وهلال رمضان وخلع وإيلاء وظهار. قال الحنفية: الذي تقبل فيه الشهادة حسبة بدون الدعوى أربعة عشر وهي: الوقف، وطلاق الزوجة، وتعليق طلاقها، وحرية الأمة، وتدبيرها، والخلع، وهلال رمضان، والنسب، وحد الزنا، وحد الشرب، والإيلاء، والظهار، وحرمة المصاهرة، ودعوى المولى نسب العبد، وزاد ابن عابدين: الشهادة بالرضاع.
لكن الشهادة في الحدود: يخير فيها الشاهد بين الستر والإعلام؛ لأنه يكون مترددا بين الشهادة حسبة للأجر في إقامة الحد، والتوقي عن هتك حرمة مسلم، والستر أولى وأفضل؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - للذي شهد عنده: «لو سترته بثوبك كان خيرا لك»[3]. وقوله صلى الله عليه وسلم: «من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة»[4]. وقد عرفنا في الحدود أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لقن ماعزا الرجوع عن الإقرار بقوله:«لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت»[5]. ففي هذا دلالة ظاهرة على أفضلية الستر.
ولخطورة أمر الشهادة التي يتوقف عليها ثبوت التهمة على الشخص، أو البراءة منه لم يدع الإسلام أمرها بلا ضابط، بل قيدها بالمعاينة أو السماع، ومنها أن يكون الشاهد عاقلا بصيرا وقت التحمل، وأن يعاين المشهود به بنفسه - إلا فيما تصح فيه الشهادة بالتسامح مع الناس.
ويشترط في الشاهد أهلية العقل، والبلوغ، والحرية، والإسلام، والبصر، والنطق والعدالة، وعدم التهمة"[6].
وبهذا يتبين لنا مدى دقة التشريع الإسلامي في كل جزئياته، فلا يترك شيئا بدون ضابط؛ حتى لا تحدث فوضى، بل كل شيء مقنن ومحصن ضد أي ثغرات يمكن أن تتخلله وتفقده بعض مقاصده ومراميه، وهذه هي ميزة الشريعة الخالدة، فهي تنزيل من حكيم بأسرار صنعته، خبير بشئون خلقه وما يصلحهم.
وكل هذا التشدد في أمر الشهادة؛ لأجل التأكد والتثبت قبل إصدار الأحكام، وكذلك الندب إلى الستر على المسلم العاصي هدفه عدم إشاعة الفاحشة في المجتمع الإسلامي؛ لأنه إذا كثرت الشائعات والأخبار عن الفواحش؛ انتشرت وتجرأ الناس عليها، وأصبحت عادة لا يستحي أحد من اقترافها.
يقول سيد قطب: "عند تفسير قوله سبحانه وتعالى: )إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون (19)( (النور): والذين يرمون المحصنات، وبخاصة أولئك الذين تجرأوا على رمي بيت النبوة الكريم، إنما يعملون على زعزعة ثقة الجماعة المؤمنة بالخير والعفة والنظافة، وعلى إزالة التحرج من ارتكاب الفاحشة، وذلك عن طريق الإيحاء بأن الفاحشة شائعة فيها... بذلك تشيع الفاحشة في النفوس؛ لتشيع بعد ذلك في الواقع، من أجل ذلك وصف الذين يرمون المحصنات بأنهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وتوعدهم بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، وذلك جانب من منهج التربية، وإجراء من إجراءات الوقاية، يقوم على خبرة بالنفس البشرية، ومعرفة بطريق تكيف مشاعرها واتجاهاتها..
ومن ثم يعقب بقوله: )والله يعلم وأنتم لا تعلمون (216)( (البقرة)، ومن ذا الذي يعلم أمر هذه النفس إلا الذي خلقها؟ ومن ذا الذي يدبر أمر هذه الإنسانية إلا الذي برأها؟ ومن ذا الذي يرى أمر الظاهر والباطن ولا يخفى على علمه شيء إلا العليم الخبير" [7].
ثالثا. الستر على أصحاب المعاصي له أهداف عظيمة:
إن الستر على أصحاب المعاصي له أهداف عظيمة، وإن فضحهم وإقامة الحد عليهم، يعني قتلهم معنويا ونفسيا، والستر لا يعني الموافقة، أو الرضا عن فعل المعصية، بل يعني إتاحة الفرصة لتوبتهم، وإصلاحهم قبل انكشاف حالهم وافتضاح أمرهم.
ويفصل القول في هذه القضية د. حسني الجندي بقوله: "فقد شرع الله تعالى الستر على صاحب الذنب، وهو ما يتحقق بعدم إعلان الجرائم، وعدم الكشف عنها، أو فضح الجاني أمام الناس، سواء كان ذلك بأن يستتر إلى الله تعالى ويستر على نفسه، فلا يذكر ذلك لأحد، وسواء أكان من مرتكبيها، أم من الغير الذي اطلع على ذلك، بأن يستر عليه ولا يفضحه، ولا يرفعه إلى الإمام.
والستر على الجاني في الحدود من شأنه أن يحفظ للمجتمع نقاءه وصفاءه، ويجعل مقترف الجريمة ينزوي بعيدا عن أعين الناس، فيشعر بأن هناك ازدراء له من المجتمع، وقد يكون ذلك سبيلا إلى تهذيبه وإصلاحه وإيقاظ ضميره، فيتوب توبة صادقة خالصة لوجه الله تعالى. ودليل مشروعية الستر ثابت في السنة النبوية الشريفة، ورأي الصحابة الكرام رضي الله عنهم:
1. السنة النبوية المطهرة:
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة،ومن سترمسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه»[8]. وقال أيضا: «من ستر على مؤمن عورة فكأنما أحيا موءودة»[9]. وجاء عن يزيد بن نعيم «أن ماعزا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأقر عنده بالزنا، فأمر برجمه، وقال لهزال: "لو سترته بثوبك لكان خيرا لك»[10].
2. سيرة الصحابة رضي الله عنهم:
ورد عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: "لو وجدت مؤمنا على فاحشة لسترته بثوبي هذا، إن التوبة فيما بين المؤمن وبين الله". وقد جاء عن ابن مسعود أنه قال: «ثلاث أحلف عليهن، والرابعة لو حلفت لبررت: لا يجعل الله من له سهم في الإسلام كمن لا سهم له, ولا يتولى الله عبد في الدنيا فولاه غيره يوم القيامة, ولا يحب رجل قوما إلا جاء معهم يوم القيامة, والرابعة التي لو حلفت عليها لبررت: لا يستر الله على عبد في الدنيا إلا ستر عليه في الآخرة»[11].
حدود مشروعية الستر:
القول بالستر على مرتكب المعصية ليس مطلقا، وإنما هو مقيد بحدود المصلحة والغاية من تقريره، وقد قيد فقهاء المسلمين قاعدة الستر بقيدين:
القيد الأول: المبادرة للشهادة من غير طلب، وكانت متعلقة بحق الله تعالى، ومما يتأبد فيه التحريم، فيقبل فيه الشهادة على المبادرة "إذ تجب المبادرة بها، وتأخير القيام بها من غير عذر جرحه".
أما المبادرة إلى الشهادة من غير طلب وكانت متعلقة بحقوق الآدميين، أو بحق من حقوق الله لم يستدم تحريمه، ويلحق بذلك الحدود، فإن الشهادة فيها لا تجب، ويندب للشاهد أن يسكت لما فيه من الستر على الجاني ولكون الحدود تدرأ بالشبهات.
القيد الثاني: الجهر بالمعصية، فيستحب لكل من ارتكب معصية - الحق فيها لله تعالى - ألا يظهرها ليحد أو يعزر، لقول رسول صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس، قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله، من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله»[12].
وفي ذات الوقت استهجن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المجاهرة بالمعصية ممن اقترفها، وإشاعتها والتهتك بها، وخاصة بعد أن ستر الله عليه، وفي هذا المعنى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله عليه فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه»[13].
ومعنى ذلك أن العبد إذا استتر بستر الله تعالى ستر الله عليه في الدنيا، ولم يؤاخذ بما فعل طالما كان في جانب الستر، أما إن أعلن عن جريمته أو ما ارتكبه من فواحش، فإن ذلك مما يستهجنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ إن في الجهر بالمعصية استخفافا بحق الله تعالى ورسوله وبصالح المؤمنين، وفيه ضرب من العناد لهم، وفي الستر بها السلامة من الاستخفاف - لأن المعاصي تذل أهلها - ومن إقامة الحد عليه إن كان فيه حد، ومن التعزير - إن لم يوجب حد - وإذا تمحض حق الله فهو أكرم الأكرمين، ورحمته سبقت غضبه، فلذلك إذا ستره في الدنيا لم يفضحه في الآخرة، والذي يجاهر يفوته جميع ذلك، ولذلك يلزم محاكمته عما فعل وتوقيع العقوبة المقررة متى ثبت جرمه يقينا، كما يلزم إعلان الحكم بالعقوبة الشرعية ليكون رادعا للجاني، وزاجرا مانعا لغيره، ممن تسول لهم أنفسهم التفكير في الجريمة.
وعلاوة على منع الإسلام من إعلان الجريمة، فإنه اعتبر الجريمة المعلنة جريمتين؛ الأولى: الجريمة المرتكبة، والثانية: جريمة الإعلان، والله تعالى قد أنذر المجاهرين بالفواحش والجرائم، بقوله سبحانه وتعالى: )إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة( (النور: 19).
كما أن ستر الجرائم من شأنه أن يجعل الإثم ينزوي فلا يظهر؛ لأن خشية الإعلان بالمعصية أو بالفاحشة تضعف نزعة الشر لدى المجرم، وتدفعه إلى التوبة. ولا يخفى أن في التكليف بالشهود الأربعة لإثبات حد الزنا والرمي به - يصفون الفعل وصف مشاهدة ينتفي معها الاحتمال - فيه ندب للستر وعدم إشاعة الفاحشة؛ لأن الشيء كلما كثرت شروطه قل وجوده، ووجوده إذا توقف على أربعة، ليس كوجوده إذا توقف على اثنين فاشتراط الأربعة يتحقق به معنى الستر.
ومن ناحية أخرى، يندب للشاهد أن يسكت لما فيه من الستر على الجاني؛ فالشاهد في الحدود مخير بين أن يشهد على الجاني وبين أن يستر عليه، والستر أفضل.
ونخلص مما تقدم أن الشارع الحكيم يغلب جانب العفو والستر على جانب الزجر والردع بالعقوبة، وفي ذلك مراعاة لكرامة الفرد، وقيمته، وحماية لشخصه" [14].
رابعا. إذا لم يكتمل العدد في الشهادة فلا تقوم البينة وتبطل الدعوى، وذلك إمعانا في الستر والتثبت:
"في الوقت الذي شددت فيه الشريعة على المعتدين، أقامت مبدأ الستر والتثبت؛ ليكون له دور أساسي في بيان مدى قوة الأدلة التي تثبت إدانة المجرم بفعله الإجرامي، بحيث لا تحتمل هذه الأدلة أي معنى من معاني الشبهة المسقطة للعقوبة؛ ولذلك كانت الشريعة حريصة كل الحرص في موضوع الاتهام، وعدت الشبهة من الأمور التي تكون في صالح المتهم لا ضده، وبذلك قررت درء العقاب عن المتهم بأي شبهة تظهر أثناء التحقيق.
ويجدر بنا هنا أن نترك صاحب الظلال يبين لنا أهمية التشدد وأهمية مبدأ "درأ الحدود بالشبهات"، ودور ذلك المنهج الرباني في حماية المجتمع وصيانة الأعراض؛ فيقول:
"قد يظن أن العقوبة في الإسلام وهمية لا تردع أحدا؛ لأنها غير قابلة للتطبيق، ولكن الإسلام - كما ذكرنا - لا يقيم بناءه على العقوبة، بل على الوقاية من الأسباب الدافعة إلى الجريمة، وعلى تهذيب النفوس، وتطهير الضمائر، وعلى الحساسية التي يثيرها في القلوب، فتتحرج من الإقدام على جريمة تقطع ما بين فاعلها وبين الجماعة المسلمة من وشيجة، ولا يعاقب إلا المتبجحون بالجريمة، الذين يرتكبونها بطريقة فاضحة مستهترة فيراها الشهود، أو الذين يرغبون في التطهر بإقامة الحد عليهم، كما وقع لماعز ولصاحبته الغامدية، وقد جاء كل منهما يطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يطهره بالحد، ويلح في ذلك، على الرغم من إعراض النبي - صلى الله عليه وسلم - مرارا؛ حتى بلغ الإقرار أربع مرات، ولم يعد بد من إقامة الحد؛ لأنه بلغ الرسول بصفة مستيقنة لا شبهة فيها، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول:«تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب»[15].
فإذا وقع اليقين، وبلغ الأمر إلى الحاكم، فقد وجب الحد ولا هوادة، ولا رأفة في دين الله. فالرأفة بالزناة الجناة حينئذ هي قسوة على الجماعة وعلى الآداب الإنسانية وعلى الضمير البشري، وهي رأفة مصطنعة؛ فالله أرأف بعباده، وقد اختار لهم ما يصلحهم، وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم. والله أعلم بمصالح العباد، وأعرف بطبائعهم، فليس لمتشدق أن يتحدث عن قسوة العقوبة الظاهرية؛ فهي أرأف مما ينتظر الجماعة التي يشيع فيها الزنا، وتفسد فيها الفطرة، وترتكس في الحمأة، وتنتكس إلى درك البهيمية الأولى.
والتشديد في عقوبة الزنا لا يغني وحده في صيانة حياة الجماعة، وتطهير الجو الذي تعيش فيه، والإسلام لا يعتمد على العقوبة في إنشاء الحياة النظيفة - كما قلناـ إنما يعتمد على الضمانات الوقائية، وعلى تطهير جو الحياة كلها من رائحة الجريمة.
لذلك يعقب على حد الزنا بعزل الزناة عن جسم الأمة المسلمة، ثم يمضي في الطريق خطوة أخرى في استبعاد ظل الجريمة من جو الجماعة؛ فيعاقب على قذف المحصنات واتهامهن دون دليل أكيد: )والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون (4)( (النور).
إن ترك الألسنة تلقي التهم على المحصنات - وهن العفيفات الحرائر ثيبات أو أبكارا - بدون دليل قاطع، يترك المجال فسيحا لكل من شاء أن يقذف بريئة بتلك التهمة النكراء، ثم يمضي آمنا! فتصبح الجماعة وتمسي، وإذا أعراضها مجرحة، وسمعتها ملوثة، وإذا كل فرد فيها متهم أو مهدد بالاتهام، وإذا كل زوج فيها شاك في زوجه، وكل رجل فيها شاك في أصله، وكل بيت في المجتمع مهدد بالانهيار.. وهي حالة من الشك والقلق والريبة لا تطاق.
ذلك على أن اطراد سماع التهم يوحي إلى النفوس المتحرجة من ارتكاب الفعلة أن جو الجماعة كله ملوث، وأن الفعلة فيها شائعة؛ فيقدم عليها من كان يتحرج منها، وتهون في حسه بشاعتها بكثرة تردادها، وشعوره بأن كثيرين غيره يأتونها!
ومن ثم لا تجدي عقوبة الزنا في منع وقوعه؛ والجماعة تمسي وتصبح، وهي تتنفس في ذلك الجو الملوث الموحي بارتكاب الفحشاء.
لهذا وصيانة للأعراض من التهجم، وحماية لأصحابها من الآلام الفظيعة التي تصب عليهم.. شدد القرآن الكريم في عقوبة القذف، فجعلها قريبة من عقوبة الزنا.. ثمانين جلدة.. مع إسقاط الشهادة، والوصم بالفسق.. والعقوبة الأولى جسدية. والثانية أدبية في وسط الجماعة؛ ويكفي أن يهدر قول القاذف فلا يؤخذ له بشهادة، وأن يسقط اعتباره بين الناس ويمشي بينهم متهما لا يوثق له بكلام! والثالثة دينية، فهو منحرف عن الإيمان، خارج عن طريقه المستقيم.. ذلك إلا أن يأتي القاذف بأربعة يشهدون برؤية الفعل، أو بثلاثة معه إن كان قد رآه؛ فيكون قوله إذن صحيحا، ويوقع حد الزنا على صاحب الفعلة.
والجماعة المسلمة لا تخسر بالسكوت عن تهمة غير محققة، كما تخسر بشيوع الاتهام والترخص فيه، وعدم التحرج من الإذاعة به، وتحريض الكثيرين من المتحرجين على ارتكاب الفعلة التي كانوا يستقذرونها، ويظنونها ممنوعة في الجماعة أو نادرة، وذلك فوق الآلام الفظيعة التي تصيب الحرائر الشريفات والأحرار الشرفاء، وفوق الآثار التي تترتب عليها في حياة الناس وطمأنينة البيوت.
وتظل العقوبات التي توقع على القاذف - بعد الحد - مسلطة فوق رأسه، إلا أن يتوب: )إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم (5)( (النور)، وقد اختلف الفقهاء في هذا الاستثناء؛ هل يعود إلى العقوبة الأخيرة وحدها، فيرفع عنه وصف الفسق، ويظل مردود الشهادة؟ أم أن شهادته تقبل كذلك بالتوبة.. فذهب الأئمة مالك، وأحمد، والشافعي إلى أنه إذا تاب قبلت شهادته، وارتفع عنه حكم الفسق، وقال الإمام الشعبي والضحاك: لا تقبل شهادته وإن تاب، إلا أن يعترف على نفسه أنه قال البهتان فيما قذف؛ فحينئذ تقبل شهادته؛ لأنه يزيد على التوبة إعلان براءة المقذوف باعتراف مباشر من القاذف، وبذلك يمحى آخر أثر للقذف، ولا يقال: إنه إنما وقع الحد على القاذف لعدم كفاية الأدلة! ولا يحيك في نفس أي أحد - ممن سمعوا الاتهام - أنه ربما كان صحيحا؛ ولكن القاذف لم يجد بقية الشهود.
بذلك يبرأ العرض المقذوف تماما، ويرد له اعتباره من الوجهة الشعورية بعد رده من الوجهة التشريعية؛ فلا يبقى هنالك داع لإهدار اعتبار القاذف المحدود التائب المعترف بما كان من بهتان"[16].
خامسا. إن عدم اكتمال الشهود لايعني أن يترك الفاسق في فعله، بل لا بد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
فإنه من خصائص أمة الإسلام أن الإثم محقق لمن يرى منكرا ولا يغيره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»[17].
والقرآن الكريم يجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو الخصيصة الأولى التي تميزت بها هذه الأمة المسلمة، وفاقت بها أمم الأرض، وقوله سبحانه وتعالى: )كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله( (آل عمران:١١٠).
قدم الله - عز وجل - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الذكر على الإيمان، مع أن الإيمان هو الأساس؛ لأن الإيمان بالله قدر مشترك بين الأمم الكتابية جميعا، ولكن الأمر والنهي فضيلة هذه الأمة[18].
وفي بيان السمات العامة لمجتمع المؤمنين، والتي يتميز بها عن مجتمع المنافقين، يقول القرآن في سورة التوبة: )والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم (71)( (التوبة).
ومن الجميل في هذه الآية، أنها قرنت المؤمنات بالمؤمنين، وجعلت الجميع بعضهم أولياء بعض، وحملتهم - رجالا ونساء - مسئولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقدمت شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الصلاة والزكاة؛ لأنها السمة الأولى للمجتمع المسلم، وأفراد المجتمع المسلم[19].
وهذا ما جعل بعض العلماء يجعلها الفريضة الخامسة من فرائض الإسلام، بعد الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، يقول د. القرضاوي: "وهذه هي الفريضة أو الشعيره الخامسة من فرائض الإسلام وشعائره، وهي سياج الشعائر السابقة وحارستها، وربما استغرب بعض الناس أن تكون هذه ضمن الفرائض الأساسية في الإسلام، فالمألوف والشائع هو الأربع التي سلف ذكرها، ولكن المتتبع للقرآن والسنة يجد ذلك أوضح من فلق الصبح[20].
وفي سورة الحج ذكر القرآن أهم واجبات الأمة المسلمة حين يمكن الله لها في الأرض، ويكون لها دولة وسلطان؛ فقال: )الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز (40) الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور (41)( (الحج).
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - إلى جانب أركان الإسلام الخمسة - أهم ما تقوم به دولة الإسلام، بعد أن يمكن الله لها وينصرها على عدوها، بل هي لا تستحق نصر الله إلا بهذا، كما بينت الآيتان الكريمتان.
هذه فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القرآن، إنها علم على وجوب التكافل الأدبي بين المسلمين، كما أن الزكاة علم على وجوب التكافل المادي بينهم.
وجاء الحديث النبوي فصور هذا التكافل الأدبي أبلغ تصوير، وذلك فيما جاء عن النعمان بن بشير عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا [21] على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا! فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا»[22].
وإن أسوأ ما يصيب المجتمعات أن يخرس الطغيان أو الخوف فيها الألسنة، فلا تعلن بكلمة حق، ولا تجهر بدعوة ولا نصيحة، ولا أمر ولا نهي، وبذلك تتهدم منابر الإصلاح وتختفي معاني القوة، وتذوى شجرة الخير، ويجترئ الشر ودعاته على الظهور والانتشار، فتنفق سوق الفساد، وتروج بضاعة إبليس وجنوده، من غير أن تجد مقاومة ولا مقاطعة.
وحينئذ يستوجب المجتمع نقمة الله وعذابه، فيصب البلاء والنكبات على المقترفين للمنكر والساكتين عليه، قال سبحانه وتعالى: )واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب (25)( (الأنفال). وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده»[23].
إن الله لعن بني إسرائيل على لسان أنبيائه، وضرب قلوب بعضهم ببعض، وسلط عليهم من لا يرحمهم، لانتشار المنكرات بينهم دون أن تجد من يغيرها، أو ينهى عنها، قال سبحانه وتعالى: )لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (78) كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون (79)( (المائدة).
وأسوأ مما ذكرنا أن يموت الضمير الاجتماعي للأمة أو يمرض على الأقل، بعد طول الإلف للمنكر والسكوت عليه؛ فيفقد المجتمع حسه الديني والأخلاقي، الذي يعرف به المعروف من المنكر، ويفقد العقل البصير الذي يميز الخبيث من الطيب، والحلال من الحرام، والرشد من الغي، وعند ذلك تختل موازين المجتمع وتضطرب مقاييسه، فيرى السنة بدعة، والبدعة سنة، أو يرى ما نحسه ونلمسه في عصرنا عند كثيرين من أبناء المسلمين، من اعتبار التدين رجعية، والاستقامة تزمتا، والاحتشام جمودا، والفجور فنا، والإلحاد تحررا[24].
ويعلق سيد قطب على قوله عز وجل: )كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله( (آل عمران: ١١٠)، فيقول: "أما هنا فقد وصفها الله - عز وجل - بأن هذه صفتها، ليدلها على أنها لا توجد وجودا حقيقيا إلا أن تتوافر فيها هذه السمة الأساسية، التي تعرف بها في المجتمع الإنساني، فإما أن تقوم بالدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - مع الإيمان بالله -، فهي موجودة وهي مسلمة، وإما ألا تقوم بشيء من هذا فهي غير موجودة، وغير متحققة فيها صفة الإسلام.
وفي القرآن الكريم مواضع كثيرة تقرر هذه الحقيقة، وفي السنة كذلك طائفة صالحة من أوامر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتوجيهاته نقتطف بعضها:
· عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:«من رأى منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»[25].
· وعن عرس بن عميرة الكندي - رضي الله عنه - قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فأنكرها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كمن شهدها»[26].
· وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال صلى الله عليه وسلم: «إن من أعظم الجهاد: كلمة عدل عند سلطان جائر» [27].
· وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى سلطان جائر، فأمره ونهاه، فقتله» [28].
وغيرها كثير.. وكلها تقرر أصالة هذه السمة في المجتمع المسلم، وضرورتها لهذا المجتمع أيضا. وهي تحتوي مادة توجيه وتربية منهجية ضخمة. وهي إلى جانب النصوص القرآنية زاد نحن غافلون عن قيمته وعن حقيقته[29].
وبهذا العرض الموجز لقضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يتأكد لدى كل عاقل أن الإسلام يوجب تغيير المنكر فورا، وأن العاصي لا يترك في معصيته، بل لا بد من نهيه عن المنكر الواقع فيه، وليس الأمر كما تصور هؤلاء الواهمون أن يترك الفاسق في فسقه والماجن في فحشه، حتى يكتمل الشهود الذين تقوم بهم البينة، فإذا كان الإسلام حريصا على التثبت قبل إقامة الحد، فإنه أيضا أشد حرصا على إزالة المنكر؛ لذلك أوجب تغييره وعدم تركه، وجعل الإثم والعقاب لمن يرى المنكر ولا يغيره حسب استطاعته، وحاله، ومقامه.
وقبل أن نختم البحث في هذا المجال، نود أن نشير إلى نقطة مهمة جدا، وهي إذا كان الإسلام قد شرع حد القذف لمن يرمي غيره بالفحش أو الزنا - ما دام الشهود لم يكتملوا أربعة - فإنما كان ذلك حرصا منه على سلامة الأعراض من التشويه والتجريح، وبالتالي سلامة المجتمع وصيانة أفراده، وإذا كان الأمر كذلك إلا أن الإسلام استثنى من ذلك أن يقذف الرجل امرأته؛ فإن مطالبته بأن يأتي بأربعة شهداء فيه إرهاق له وإعنات.
والمفروض ألا يقذف الرجل امرأته إلا صادقا؛ لما في ذلك من التشهير بعرضه وشرفه وكرامة أبنائه؛ لذلك جعل لهذا النوع من القذف حكم خاص؛ حيث قال سبحانه وتعالى: )والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين (6) والخامسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين (7) ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين (8) والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين (9) ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم (10)( (النور).
وفي هذه النصوص تيسير على الأزواج، يناسب دقة الحالة وحرج الموقف، ذلك حين يطلع الزوج على فعلة زوجته، وليس له من شاهد إلا نفسه، فعندئذ يحلف أربع مرات بالله إنه لصادق في دعواه عليها بالزنا، ويحلف يمينا خامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وتسمى هذه "شهادات"؛ لأنه الشاهد الوحيد، فإذا فعل أعطاها قدر مهرها، وطلقت منه طلقة بائنة، وحق عليها حد الزنا وهو الرجم.. ذلك إلا أن ترغب في درء الحد عنها، فإنها عندئذ تحلف بالله أربع مرات أنه كاذب فيما رماها به، وتحلف يمينا خامسة بأن غضب الله عليها إن كان صادقا وهي كاذبة.. بذلك يدرأ عنها الحد، وتبين من زوجها بالملاعنة، ولا ينسب ولدها - إن كانت حاملا - إليه، بل إليها، ولا يقذف الولد، ومن يقذفه يحد.
وقد عقب على هذا بالتخفيف والتيسير، ومراعاة الأحوال والظروف بقوله: )ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم (10)( (النور)، ولم يبين ما الذي كان يكون لولا فضل الله ورحمته بمثل هذه التيسيرات، وبالتوبة بعد مقارفة الذنوب.. لم يبينه ليتركه مجملا مرهوبا، يتقيه المتقون، والنص يوحي بأنه شر عظيم.
وقد وردت روايات صحيحة في سبب نزول هذا الحكم منها:
عن ابن عباس قال: «لما نزلت: )والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون (4)( (النور)، قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار رضي الله عنه: أهكذا أنزلت يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الأنصار، ألا تسمعون ما يقول سيدكم"؟ فقالوا: يا رسول الله، لا تلمه، فإنه رجل غيور، والله ما تزوج امرأة قط إلا بكرا، وما طلق امرأة له قط فاجترأ رجل منا على أن يتزوجها من شدة غيرته.. فقال سعد: والله يا رسول الله إني لأعلم أنها حق، وأنها من الله تعالى؛ ولكني قد تعجبت أني لو وجدت لكاعا تفخدها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء، فوالله لا آتي بهم حتى يقضي حاجته.. قال: فما لبثوا إلا يسيرا، حتى جاء هلال بن أمية - وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم - فجاء من أرضه عشاء، فوجد عند أهله رجلا، فرأى بعينيه، وسمع بأذنيه، فلم يهجه حتى أصبح، فغدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول، إني جئت أهلي عشاء، فوجدت عندها رجلا، فرأيت بعيني وسمعت بأذني.
فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما جاء به، واشتد عليه، واجتمعت عليه الأنصار فقالوا: قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة، الآن يضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هلال بن أمية، ويبطل شهادته في المسلمين، فقال هلال: والله إني لأرجو أن يجعل الله لي منها مخرجا، فقال هلال: يا رسول الله، إني قد أرى ما اشتد عليك مما جئت به، والله يعلم إني لصادق. ووالله إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يأمر بضربه إذ أنزل الله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوحي، وكان إذا نزل عليه الوحي عرفوا ذلك في تربد وجهه وجلده - يعني فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي - فنزلت: )والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين (6) والخامسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين (7) ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين (8) والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين (9) ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم (10)( (النور).
فسري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا" فقال هلال: قد كنت أرجو ذاك من ربي - عز وجل - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرسلوا إليها" فأرسلوا إليها فجاءت، فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهما، وذكرهما، وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا، فقال هلال: والله يا رسول الله لقد صدقت عليها، فقالت: كذب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاعنوا بينهما" فقيل لهلال: اشهد. فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، فلما كان في الخامسة قيل: يا هلال اتق الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فقال: والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها، فشهد في الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين.
ثم قيل لها: اشهدي أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، فلما كانت الخامسة قيل لها: اتقي الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فتلكأت ساعة - وفي رواية: حتى ظننا أنها ترجع - ثم قالت: والله لا أفضح قومي، فشهدت في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين.. ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما، وقضى أنه لا يدعى ولدها لأب، ولا ترمى هي به، ولا يرمى ولدها، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد، وقضى أن لا بيت لها عليه ولا قوت، من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفى عنها.
وقال: إن جاءت به أصيهب[30] أريسح[31] حمش الساقين[32] فهو لهلال، وإن جاءت به أورق[33] جعدا [34] جماليا [35] خدلج الساقين[36] سابغ الأليتين[37] فهو الذي رميت به.. فجاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الأليتين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا الأيمان لكان لي ولها شأن»[38].
وهكذا جاء هذا التشريع لمواجهة حالة واقعة بالفعل، وعلاج موقف صعب على صاحبه وعلى المسلمين، قد اشتد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يجد منه مخرجا، حتى طفق يقول لهلال بن أمية: «البينة أو حد في ظهرك، وهلال يقول: يا رسول الله، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة»[39]؟
ولقد يقول قائل: أليس الله - سبحانه وتعالى - يعلم أن هذه الحالة قد تعترض التشريع العام للقذف؟ فلماذا لم ينزل الله الاستثناء إلا بعد ذلك الموقف المحرج؟
والجواب: بلى إنه سبحانه ليعلم، ولكن حكمته تقتضي أن ينزل التشريع عند الشعور بالحاجة إليه، فتستقبله نفوس الناس باللهفة إليه، وإدراك ما فيه من حكمة ورحمة، ومن ثم عقب عليه بقوله: )ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم (10)( (النور)" [40].
الخلاصة:
يتضح من خلال العرض السابق أنه لا أساس من الصحة لما توهمه المشككون حول حد القذف، وأن الخشية منه تلجئ إلى كتمان الشهادة، أو أن الشريعة الإسلامية تأمر بالتستر على المجرمين في جرائمهم وعدم الإنكار عليهم، وذلك للوجوه الآتية:
· لقد حارب الإسلام الجريمة بمختلف أنواعها، فرتب على ارتكابها عقوبات زاجرة تحفظ أمن الناس والأمة، وتحفظ النظام العام للدولة؛ حتى لا تكون هناك تجاوزات تخل بالمصالح العامة والخاصة، وتؤدي بالأمة نحو الانهيار والضعف.
· الأمر بأداء الشهادة حكمه الوجوب، إلا إذا كان في الحدود، فإن الشاهد مخير بين الإدلاء بشهادته أو الستر على العاصي، والستر أولى؛ لئلا تشيع الفاحشة في المجتمع المسلم.
· الستر على أصحاب المعاصي له أهداف، فإن إقامة الحد عليهم يعني فضحهم وقتلهم معنويا ونفسيا، والستر لا يعني الموافقة أو الرضا عن فعل المعصية أو التستر على المعاصي، بل يعني إتاحة الفرصة للتوبة قبل انكشاف حالهم.
· تبطل دعوى القذف إذا لم يكتمل العدد في البينة، وهم شهود أربعة رأوا بأعينهم عين الجريمة؛ وذلك إمعانا في الستر والتثبت حتى لا يخوض الناس بعضهم في أعراض بعض؛ لأن ثبوت الجريمة يترتب عليه العقاب الأليم من إقامة الحد، وإهدار الكرامة، وتحطيم الحصانة الإنسانية المانعة من ذلك.
· لا يعني عدم اكتمال الشهود أن يترك الفاسق في فعله، بل لا بد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه من خصائص أمة الإسلام. والإثم محقق لمن يرى منكرا ولا يغيره بالقوة، أو اللسان، أو القلب، كل حسب استطاعته وحاله ومنزلته.
وبهذا يتضح جليا حكمة الشريعة الإسلامية في معالجة القضية من جميع جوانبها، دون ترك أي ثغرة يمكن أن تنال منها، فكما أن الإسلام حرص على ضرورة التثبت وشرع الستر، وجعل مبدأ "درء الحدود بالشبهات"، كل ذلك صيانة للأعراض من أن تنتهك، كذلك أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعمل على إزالته في الحال، حسبما يقتضيه الواقع والقدرة البشرية.
(*) الفقه الإسلامي وأدلته، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط3، 1409هـ/ 1989م.