ادعاء أن حد القذف في الإسلام يعد انتهاكا لحقوق الإنسان (*)
مضمون الشبهة:
يشكك بعض المغرضين في إنسانية الشريعة الإسلامية، ويستدلون على زعمهم الباطل بقسوة عقوبة القذف في الإسلام من حيث: مشروعية الحد، ومقداره، وطرق إثباته. ويتساءلون: ألا يعد تطبيق حد القذف بالصورة التي نادت بها الشريعة الإسلامية انتهاكا لحقوق الإنسان وحريته؟!
وجوه إبطال الشبهة:
1) شرع حد القذف لما في القذف من هتك للحرمات وغمز للأعراض والأنساب.
2) لحد القذف شروط يثبت بها، يتعلق بعضها بالقاذف وبعضها بالمقذوف، وله طرق ينفذ من خلالها.
3) تشترط القوانين الوضعية العلانية في ثبوت القذف، ولا تشترطها الشريعة الإسلامية، فالجريمة في الشرع محرمة لذاتها لا لظروفها.
4) عقوبة القذف في الشريعة الإسلامية رادعة، مقارنة بالقوانين الوضعية.
5) حد القذف ليس فيه قسوة بل هو الرحمة والعدل، وهو الحارس على أعراض الناس من أن تمس زورا، والزاجر للألسنة من أن تنطق فحشا، والحارس على المستوى الأخلاقي في المجتمع الإسلامي.
6) سلام القذف بالزنا، وجعله من الكبائر التي حذرنا الله تعالى من ارتكابها تحذيرا شديدا لما فيها من هتك للحرمات وغمز للأعراض والأنساب. وتوعد من يفعل ذلك بالعذاب الشديد وحذر من نهش الأعراض وأمر بالحفاظ عليها.
أولا. مشروعية حد القذف، وسبب وجوبه، ومقداره[1]:
· مشروعيته: القذف من أكبر الكبائر، وهو محرم لما فيه من هتك للحرمات وغمز للأعراض والأنساب، قال سبحانه وتعالى: )إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم (23)( (النور).
ومن السنة ما جاء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله، ما هن؟ قال: الشرك بالله عز وجل، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات»[2].
· حد القذف: الجلد ثمانين جلدة، قال سبحانه وتعالى: )والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون (4)( (النور).
· سبب وجوبه: يجب الحد بسبب القذف بالزنا؛ لأن نسبة الزنا تتضمن إلحاق العار بالمقذوف؛ فيجب الحد دفعا للعار، وصيانة لسمعته.
ويعتبر القذف من الجرائم الشنيعة التي حاربها الإسلام حربا لا هوادة فيها، فإن اتهام البريئين والوقوع في أعراض الناس والخوض في المحصنات الحرائر العفيفات يجعل المجال فسيحا لكل من شاء أن يقذف بريئة أو بريئا بتلك التهمة النكراء؛ فتصبح أعراض الأمة مجروحة وسمعتها ملوثة، وإذا كل فرد منها متهم أو مهدد بالاتهام، وإذا كل زوج فيها شاك في زوجته وأهله.
وجريمة القذف والاتهام للمحصنات تولد أخطارا جسيمة في المجتمع؛ فكم من فتاة عفيفة شريفة لاقت حتفها بكلمة قالها قائل فاجر فوصل خبرها إلى الناس ولاكتها الألسنة، فأقدم أقرباؤها وذريتها على قتلها لغسل العار، ثم ظهرت حصانتها وعفتها، ولكن بعد أن حصل لها ما حصل وفات الأوان؛ لذلك شرع حد القذف صيانة للأعراض من التهجم، وحماية للأنساب، وحماية للأزواج من إهدار الكرامة.
ولقد قطع الإسلام ألسنة السوء، وسد الباب على الذين يلتمسون من الأبرياء العيب، فمنع ضعاف النفوس من أن يجرحوا مشاعرهم، ويخوضوا في أعراضهم عن طريق ثلاث عقوبات:
1. بدنية: وهي أنه شدد في عقوبة القذف؛ فجعلها ثمانين جلدة، وهو مقدار قريب من عقوبة الزاني البكر.
2. أدبية - متعلقة بالناحية المعنوية -: وهي أنه أهدر كرامة القاذف وأسقط اعتباره، فكأنه ليس بإنسان لأنه لا يوثق بكلامه، ولا يقبل منه قول عند الناس.
3. دينية: حيث إنه فاسق خارج عن طاعة الله، وكفى بذلك عقوبة لذوي النفوس المريضة الميتة.
وقد اعتبر الإسلام قذف المحصنات من الكبائر الموجبة لسخط الله وعذابه، وتوعد المرتكبين لهذا المنكر بالعذاب الشديد في الدنيا والآخرة فقال سبحانه وتعالى: )إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم (23)( (النور).
وجعل الولوغ في أعراض الناس ضربا من إشاعة الفاحشة التي يستحق فاعلها العذاب الشديد، قال سبحانه وتعالى: )إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون (19)( (النور).
وقد عد الرسول - صلى الله عليه وسلم - قذف المحصنات المؤمنات الغافلات من الكبائر كما مر في الحديث.
· غرض الإسلام من هذه العقوبة: صيانة الأعراض، وحفظ كرامة الأمة، وتطهير المجتمع من مقالة السوء؛ لتظل الأسرة المسلمة محفوظة الكرامة بعيدة عن ألسنة السفهاء وبهتان المغرضين.
ثانيا. شروط وجوب حد القذف:
لوجوب حد القذف شروط تتعلق بالقاذف والمقذوف.
· شروط القاذف:
يشترط في القاذف الذي يستحق الجلد شروط، منها:
1. العقل والبلوغ: فلا يقام الحد على مجنون أو صبى؛ إذ لا تكليف عليهما؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق»[3]. ويجب أن يؤدب الصبي إذا قذف مسلما.
2. الاختيار: فلا حد على مكره.
3. أن يكون القاذف ملزما بأحكام الشريعة وعالما بالتحريم.
4. أن يكون قد قذف مسلما بالزنا، بأن يقول: رأيته يزني، أو رأيت ذكره في فرج امرأة، أو ينفي نسب ولد لأبيه فيقول: هذا الولد ليس من فلان وإنما هو من فلان، من غير بينة تشهد له؛ لقوله عز وجل: )والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة( (النور: ٤).
· شروط المقذوف:
1. العقل والبلوغ: فلا يقام الحد على من قذف مجنونا أوصبيا ولكن يعزر.
2. الإسلام: فلا حد على من قذف رجلا من أهل الكتاب أو امرأة منهم، أو من غيرهم؛ كالمشركين والمجوس والهندوس. هذا ما ذهب إليه أكثر الفقهاء، وإذا قذف رجل منهم مسلما جلد حد القذف ثمانين جلدة.
3. الحرية: فلا حد على من قذف عبدا؛ لأن مرتبته تختلف عن مرتبة الحر، وإن كان قذف العبد محرما لما جاء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قذف مملوكه بالزنا يقام عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال»[4].
4. العفة: العفة عما رماه به، فإن رماه بالزنا أو اللواط ولم يكن مشهورا بذلك؛ جلد حد القذف ما لم يأت بأربعة شهداء؛ فإن كان مشهورا بالزنا أو اللواط؛ لم يكن على قاذفه الحد، ولكن يجب أن يؤدب على خوضه في أعراض الناس بغير حق [5].
ما يثبت به حد القذف[6]:
يثبت القذف بالطرق الآتية:
· شهادة الشهود: ويشترط في شهود القذف البلوغ والعقل والحفظ والقدرة على الكلام والعدالة والإسلام وانعدام القرابة وانعدام العداوة وانعدام التهمة والذكورة والأصالة، ويكفي لإثبات واقعة القذف على القاذف شهادة شاهدين فقط.
· الإقرار: يثبت القذف بإقرار القاذف أنه قذف المجني عليه، ولا يشترط العدد في الإقرار فيكفي أن يقر مرة واحدة في مجلس القضاء.
· اليمين: يثبت عند الشافعي باليمين إذا لم يكن لدى المقذوف دليل آخر فله أن يستحلف القاذف فإذا نكل القاذف ثبت في حقه النكول.
وتسقط عقوبة القذف في الأحوال الآتية:
o أن ينكر القاذف واقعة القذف ثم يستشهد على عدم حصول القذف حين شاء دون التقيد بعدد الرجال والنساء.
o أن يدعي القاذف أن المقذوف اعترف بصحة القذف ويكفي للإثبات شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، وإذا كان زوجا فاعترف بالقذف فله أن يلاعن زوجته.
إجراءات التقاضي في إثبات القذف:
إذا رفعت دعوى القذف إلى القاضي فإما أن ينكر القاذف أو يقر، فإن أنكر وطلب المقذوف من القاضي التأجيل لإقامة البينة وادعى أن له بينة في المصر على قذفه له، فإنه يؤجله إلى أن يقوم من مجلسه ويحبس[7] المدعى عليه القذف في تلك الفترة، فإن أحضر البينة قبل قيام القاضي من مجلسه تم المقصود وإلا خلى سبيله، وإن قال المقذوف: لا بينة لي أو بينتي غائبة، فإن القاضي يخلي سبيل القاذف ولا يحبس بالاتفاق لعدم التهمة.
موقف القاضي من القاذف بعد ثبوت القذف:
إن أقام المقذوف البينة على صحة القول أو أقر القاذف كما ذكر، فإن القاضي يقول للقاذف: أقم البينة على صحة قولك، فإن أقام أربعة من الشهود على معاينة الزنا أو أقر المقذوف بالزنا بين يدي الإمام أربع مرات، سقط الحد عن القاذف، ويقام حد الزنا على المقذوف؛ لأنه ظهر أن القاذف صادق في مقالته. وإن عجز عن إقامة البينة، يقام عليه حد القذف؛ لقوله سبحانه وتعالى: )والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة( (النور: ٤).
ما يسقط حد القذف:
o يسقط حد القذف بأحد الأمور الآتية:
o إثبات الزنا على المقذوف بالبينة أو بإقراره.
o عفو المقذوف عن القاذف في رأي الشافعية؛ لأنه عندهم حق من حقوق العباد.
o اللعان بين الزوجين لقوله سبحانه وتعالى: )والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين (6)( (النور).
ثالثا. الشريعة الإسلامية لا تشترط العلانية في القذف وتشترطه القوانين الوضعية؟!
لا تشترط الشريعة الإسلامية العلانية في القذف، كما تشترطه القوانين الوضعية؛ ومن ثم تعاقب الشريعة الإسلامية القاذف سواء قذف المجني عليه في محل عام أو محل خاص على مشهد من الناس أو فيما بينهما فقط.
وأساس عدم اهتمام الشريعة بالعلانية: أنها تزن كرامة الإنسان بميزان واحد، وترى أن قيمة الإنسان لا تتغير بتغير الظروف، فقيمته أمام نفسه تساوي قيمته أمام الناس، وحرصه على كرامته في السر يجب ألا يقل عن حرصه على كرامته في العلانية.
والشريعة توجب على المرء أن يكون سره كعلانيته، وتعيب أناسا بأنهم يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم، وقاعدتها الأساسية تحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق، وتدعو الناس أن يذروا ظاهر الإثم وباطنه؛ لهذا فهي لا تميز بين جريمة ارتكبت في السر وأخرى في العلانية؛ لأن الجريمة في الشريعة محرمة لذاتها لا لظروفها فمن ارتكب جريمة في السر لم يشهدها أحد، عوقب عليها كما لو ارتكبها علانية على ملأ من الناس.
أما القوانين الوضعية: فلها شأن آخر؛ إذ تميز بين أفعال القذف التي ارتكبت علنا وأفعال القذف التي ارتكبت في غير علانية، وتعاقب على الأولى دون الثانية، فهي تعاقب - إذا عاقبت - على القذف العلني؛ لأنه في الغالب سمعه فريق من الناس، ولا تعاقب في غير علانية لأن القذف لم يصل إلى أسماع الكثير من الناس.
وهكذا تزن القوانين الوضعية كرامة الإنسان بميزانين وتجعل له قيمتين؛ فتحافظ على كرامته وقيمته إذا ضيعت كرامته وانتقصت قيمته أمام الناس وتهدر كرامته وقيمته إذا سب وانتقص دون أن يشتهر ذلك بين الناس، وهكذا تفرض القوانين الوضعية على حياة الناس طابع الرياء والنفاق، وتصرفهم عن الجوهر وتغريهم وتجعل منهم أشخاصا، لا كرامة لهم، ولا عزة فيهم، وأن يتظاهروا بالبراءة والطهارة، وألا يغضبوا لكرامتهم، ولا يثوروا إذا مست في الخفاء، وأن يتظاهروا بالغضب إذا مست في علانية.
والمبدأ الذي أخذت به القوانين الوضعية في العلانية: هو مبدأ متمم لمبدأ عدم جواز إثبات القذف، وكلاهما أساسه فرض حياة الرياء والنفاق على الناس؛ لأن معنى عدم جواز الإثبات هو أن يعاقب الصادق والكاذب على السواء، وألا يستطيع إنسان أن يقول الحق ويصف الناس والأشياء وصفا حقا، وإلا عرض نفسه للعقاب، فإذا لم يرد أن يكون عرضة للعقاب وجب عليه أن يعيش كاذبا، لا يقول الحق ولا يعرف الصراحة.
ومبدأ الشريعة الإسلامية في عدم اشتراط العلانية متمم لمبدأ جواز إثبات القذف، كلاهما أساسه فرض الحياة الفاضلة على الجمهور وأخذه بالاستقامة والاعتزاز بالكرامة، وشتان بين توجيه الشريعة وتوجيه القانون؛ فالشريعة تعاقب على الجريمة لذاتها لا لظروفها، بينما القانون يعاقب على ظروف الجريمة ولا يهتم بذات الجريمة، والشريعة لا تحمي الفاسدين المفسدين من ألسنة الصادقين المصلحين، بينما تحمي الغافلين من ألسنة الكاذبين المدعين.
أما القانون فيتكفل بحماية الفاسدين المفسدين لو تبين فسقهم وفسادهم، ويعاقب المصلحين ولو ثبت صدقهم وصلاحهم، ثم هو بعد ذلك لا يسمح للبرآء الغافلين أن يبرئوا أنفسهم مما ادعى عليهم الكاذبون؛ لأن عقاب القاذف دون أن يسمح له بإثبات قذفه يؤدي إلى منع المقذوف من إثبات براءته، فيعاقب القاذف لمجرد القذف، سواء كان صادقا أم كاذبا، ويبقى المقذوف البريء وقد لصقت به الفرية لا يستطيع منها فكاكا ولا خلاصا"[8].
رابعا. عقوبة القذف في الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية:
1. عقوبة القذف في الشريعة الإسلامية:
للقذف عقوبتان دنيويتان:
الأولى أصلية: وهي الجلد.
والثانية تبعية: وهي عدم قبول شهادته.
والأصل في العقوبتين قوله سبحانه وتعالى: )والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون (4) إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم (5)( (النور).
· عقوبة الجلد: مقدارها ثمانون جلدة، وهي لا تقبل استبدالا ولا عوضا، وليس لولي الأمر حق العفو عن العقوبة، أما المقذوف فله الحق في العفو عنها على رأي بعض الفقهاء، وليس له العفو على رأي بعضهم الآخر.
· عدم قبول الشهادة: من المتفق عليه أن القاذف يجب عليه مع الحد سقوط شهادته لقوله سبحانه وتعالى: )ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا( (النور: ٤).
· وهناك عقوبة دينية: وهي أن يلقب بـ "الفاسق" لقبا لازما له، وفي ذلك قال سبحانه وتعالى: )وأولئك هم الفاسقون (4)( (النور)[9].
2. عقوبة القذف في القوانين الوضعية:
تعاقب القوانين على القذف بالحبس أو الغرامة أو بهما معا، وهي عقوبات غير رادعة، ولذلك ازدادت جرائم القذف والسب واللعن زيادة عظيمة. ومع هذا يزعم المغالطون أن الجلد - شرعا - فيه انتقاص لكرامة الإنسان. والصحيح أن فيه حفظا لكرامة الناس وصيانة لها.
فالجلد مطبق في بعض قوانين الدول ولا يزال عقوبة متفقا عليها؛ ففي إنجلترا يعتبر الجلد أحد العقوبات الأساسية في القانون الجنائي، وفي الولايات المتحدة يعاقب المسجونون بالجلد، وقد اقترح فعلا في فرنسا تقرير عقوبة الجلد على أعمال التعدي الشديد التي تقع على الأشخاص، وأنه السبيل الوحيد لإزالة التعديات على الأشخاص.
وقد أدت عقوبة الحبس أو الغرامة - أو بهما معا - إلى إشاعة الفساد، وأكثر الناس الذين يمتنعون عن القذف لا تصرفهم عنه العقوبة، وإنما يمسكهم عنه الدين والأخلاق.
وتمتاز الشريعة الإسلامية بأنها حين جعلت الجلد عقوبة للقذف قد عالجت دواعي الجريمة في النفس قبل أن تحاربها في الحس، عالجتها بالعلاج الوحيد الذي لا ينفعها غيره، أما العقوبة التي قررها القانون فإنها لا تمس دواعي الجريمة في نفس المجرم ولا حسه؛ إذ الحبس علاج لا يصلح بحال لجريمة القذف.
والغريب في الأمر أن عقوبة القذف موجودة كما رأينا في القانون الوضعي - حسبما يقررها هذا القانون - ولم يشمئز هؤلاء المدعون من مجرد وجودها، وإن كانت موجودة مع فارق هائل - في المعاني والحكم والمقاصد - بين وجودها القانوني وبين وجودها الشرعي - لصالح الطرف الشرعي بالطبع - مما يبرر بوضوح وجود هذه العقوبة، بهذا الشكل في منظومة الحدود وعقوباتها في الإسلام[10].
والعقلاء دائما يعولون في تفكيرهم وتقييمهم على الجواهر والمضامين والمقاصد والنتائج لا على الأشكال والشكليات والمظاهر، وخالق النفوس أعلم بأدوائها ودوائها.
حلل هذا الفارق بين الوجودين القانوني والشرعي لجريمة القذف عبد القادر عودة بقوله: "ويختلف قانون العقوبات المصري عن الشريعة من هذه الوجهة كل الاختلاف؛ فالقاعدة فيه أن ليس لمن قذف إنسانا بشيء أن يثبت صحة ما قذفه به وعليه العقوبة، ولو كان الظاهر أن ما قاله صدق لا شك فيه، والأساس الذي يقوم عليه القانون المصري هو حماية حياة الأفراد الخاصة، وهو نفس الأساس الذي تقوم عليه القوانين الأوربية؛ لأن مصدرها جميعا واحد هو القانون الروماني.
فالقانون الوضعي يقوم في جرائم القول على قاعدة النفاق والرياء، ويعاقب الصادق والكاذب على السواء، والمبدأ الأساسي في هذا القانون ألا يجوز أن يقذف امرؤ آخر، أو يسبه أو يعيبه، فإن فعل عوقب، سواء كان صادقا فيما قال أم كان كاذبا.
وإذا كان هذا المبدأ يحمي البرءاء من ألسنة الكاذبين الملفقين، فإنه يحمي الملوثين والمجرمين، والفاسقين من ألسنة الصادقين، وإذا كان هذا المبدأ قد عني بحماية حياة الأفراد الخاصة، فإنه قد أدى إلى إفساد الأفراد والجماعة على السواء؛ لأن القانون حين يعاقب على الصدق لا يمنع الصادق من قوله الحق فقط، وإنما يدفعه إلى الكذب، ويشجعه على النفاق والرياء، كما أن القانون لا يصلح الفرد المعوج السيرة بحمايته، وإنما يشجعه بهذه الحماية على الإمعان في الفساد، بل إنه ليغري كثيرا من الأسوياء بسلوك طريق الفساد، ما دام أنهم قد أمنوا من التشنيع والانتقاد، وهكذا تفسد الجماعة، وتهدد الأخلاق الفاضلة؛ لأن القانون يحمي من لا يستحق الحماية على الإطلاق.
بهذا المبدأ الذي قام عليه القانون ينعدم الفرق بين الخبيث والطيب والمسيء والمحسن، وينعدم الحد بين الرذيلة والفضيلة، وبهذا المبدأ انحط المستوى الأخلاقي بين الشعوب؛ فالطيب لا يستطيع أن ينقد الخبيث، والخبيث سائر في غيه، ذاهب إلى نهاية طوره؛ لأنه لا يخشى رقيبا ولا حسيبا من الجماهير.
ولا يستطيع امرؤ طبقا لهذا المبدأ القانوني أن يسمي الأسماء بمسمياتها، وأن يصف الموصوفات بأوصافها، ولا يستطيع أن يقول لمن زنى يا زان، ولا يستطيع أن يقول لمن سرق يا سارق، ولا يستطيع أن يقول للمفتري يا كاذب، فإن قالها باء بالعقوبة، وباء الزاني والسارق والكاذب - فوق حماية القانون - بالتعويض المالي على ما نسب إليهم من قول هو عين الحق والصدق، ذلكم هو مبدأ القانون في جرائم القول، يحرم على الناس أن يقولوا الحق، وأن يتناهوا عن المنكر، وأن يحطوا من قدر المسيء ليرفعوا من قدر المحسن والإحسان، وقد شعر واضعو القانون المصري بخطورة هذا المبدأ على الشعب إذا طبق على إطلاقه، فاستثنوا منه حالات أربع هي:
· حالة الطعن في أعمال موظف عام، أو شخص ذي صفة نيابية، أو مكلف بخدمة عامة؛ إذ إن أعمالهم معرضة للانتقاد، فيدعوهم ذلك إلى الإحسان ما استطاعوا.
· حالة دعوة الأمة إلى الانتخاب: فإن نص المادة 68 من قانون الانتخابات يبيح الأقوال الصادقة عن سلوك المرشح أو أخلاقه أثناء المعركة الانتخابية، على الرغم من تحريم قانون العقوبات لهذه الأقوال في الأوقات العادية، وقد جعلت هذه الإباحة ليستطيع كل مرشح، وكل ناخب أن يقول ما يعرف عن سلوك المرشح وأخلاقه دون خوف من العقاب؛ ليسهل على الناخبين أن يميزوا بين المرشحين، ويختاروا من يصلح للنيابة عنهم، بعد أن يسمعوا عنه كل ما يتعلق بسلوكه وأخلاقه.
· حالة انعقاد البرلمان: فإن أعضاءه لا يؤاخذون على ما يبدون من الأفكار والآراء في المجلسين طبقا لنص المادة 109 من الدستور، وقد وضع هذا النص لتمكين نواب الأمة من أن يقولوا ما يشاءون دون تحرج أو خوف من المحاكمة والعقاب، ويلاحظ أن هذه الحالة تختلف عن الحالتين السابقتين في أن القاذف في الحالتين السابقتين لا ينجو من العقاب إلا إذا كان صادقا فيما قال، أما عضو البرلمان فلا يحاكم ولا يعاقب سواء كان صادقا فيما قال أو مختلقا لما قال.
· حالة المحاكمة والتقاضي: فالمادة 309 من قانون العقوبات تنص على الإعفاء من العقاب على القذف والسب الذي يحدث من الخصوم، أو وكلائهم في دفاعهم الشفوي أو الكتابي أمام المحاكم، ولا يترتب عليه إلا المقاضاة المدنية، أو المحاكمة التأديبية.
ويلاحظ أن القاذف والساب لا يعاقب جنائيا على قذفه أو سبه، سواء كان صادقا أو كاذبا فيما قال.
هذا هو مبدأ القانون المصري في جرائم القول، وهو نفس المبدأ الذي تأخذ به القوانين الوضعية بصفة عامة، وهي مستثنيات المبدأ في مصر، وهي لا تكاد تختلف كثيرا عما في معظم القوانين الوضعية.
والعيب الفني في نصوص القانون المصري هو التناقض الظاهر، وانعدام الانسجام، فبينما المبدأ الأساسي يقوم على حماية الحياة الخاصة للأفراد؛ إذ الاستثناءات تقوم على إباحة الحياة الخاصة والعامة، وبينما المبدأ الأساسي هو تحريم القول الصادق والكاذب على السواء؛ إذ بعض الاستثناءات تبيح القول الصادق فقط، وبعضها يبيح القول الصادق والقول الكاذب معا، وليس بعد هذا من تناقض أو اضطراب، والعيب الخلقي الاجتماعي أن القانون حين قرر حماية الحياة الخاصة للأفراد قد قضى بإفساد الحياة العامة للجماعة؛ لأن الأفراد هم الذين يكونون الجماعة، وإذا صلحوا صلحت الجماعة.
ولا يمكن أن يتصور وجود جماعة صالحة أفرادها فاسدون، ولا شك أن حماية حياة الأفراد الخاصة تؤدي إلى إفساد أخلاقهم وهدم الوازع الأدبي في نفوسهم؛ فمن يحاول أن يوجد جماعة صالحة من هؤلاء قبل اجتثاث الفساد من نفوسهم، فإنما يحاول إقامة بيت من لبنات تالفة غير متماسكة، فلا يكاد ينتهي من بنائه حتى يخر عليه من السقف أو ينقض من القواعد.
أما المبدأ الأساسي للجرائم القولية في الشريعة فأساسه تحريم الكذب والافتراء، وإباحة الصدق في كل الأحوال؛ ولذلك فلا عقاب في الشريعة على من يقول الحق، ولا مؤاخذة على من يسمي الأشياء بأسمائها والموصوفات بأوصافها، ولا عقاب على من يقول للزاني يا زان، إذا ثبت أنه زان، ولا عقاب على من يقول للسارق إنك سارق، إذا ثبت أنه سارق، ولا عقاب على من يقول للكاذب إنك كاذب إذا لم يعتد قول الحق.
وليس لهذا المبدأ استثناءات فكل إنسان يستطيع أن يطعن في أعمال الموظفين العموميين والنواب والمكلفين بخدمات عامة وينسب إليهم عيوبهم ما دام يستطيع إثبات مطاعنه، وله أن يتعدى أعمالهم العامة إلى أعمالهم وحياتهم الخاصة ما دام يستطيع إثبات مطاعنه.
وليس لهم أن يتضرروا من عيوبهم ولا من الصفات القائمة في أعمالهم أو أشخاصهم.
ولم تحم الشريعة الإسلامية الحياة الخاصة للموظفين العموميين، ومن في حكمهم، كما تفعل القوانين الوضعية؛ لأن الشريعة لا تحمي النفاق، والرياء، والكذب؛ ولأن الشخص الذي لا يستطيع أن يسير سيرة حسنة في حياته الخاصة ليس أهلا في نظر الشريعة لأن يتولى شيئا من أمور الناس في حياتهم العامة.
وكل إنسان في وقت الانتخابات وفي غير وقتها يستطيع - طبقا للشريعة - أن يقول عن المحسن: هذا محسن، وعن المسيء: هذا مسيء، ما دام يستطيع أن يثبت إساءة المسيء، وكل إنسان - سواء كان عضوا في البرلمان، أو في أية هيئة أخرى، أو كان عاطلا من عضوية الهيئات على الإطلاق - له الحق في أن ينسب ما يشاء إلى من شاء ما دام يستطيع أن يثبت ما ينسبه إلى هؤلاء، فليس في الشريعة - كما في القانون - ما يدعو إلى تحليل الصدق والكذب في وقت الانتخابات وتحريمه في غير ذلك من الأوقات؛ لأن الشريعة توجب الصدق على الدوام؛ ولا تحرمه في أي ظرف من الظروف أو زمن من الأزمان.
وليس في الشريعة - كما في القانون - ما يدعو إلى حل الصدق والكذب معا لأعضاء البرلمان والمتقاضين؛ لأن ذلك يجعل الصدق والكذب بمنزلة سواء، والشريعة توجب الصدق كل الوجوب، وتحرم الكذب كل التحريم، فلا تجمع في حكم واحد بين المتناقضين، ولأن أعضاء البرلمان هم أهل الرأي والشورى، فإذا أحل لهم الكذب وأمنوا العقوبة عليه كانوا أقرب إلى مظنة الوقوع فيه، وما قيمة الرأي والمشورة من قوم يظن فيهم أنهم لا يصدقون في كل الأحوال.
والشريعة الإسلامية تقوم على المساواة، وفي تميز أعضاء البرلمان والمتقاضين خروج على مبدأ المساواة.
هذه هي الشريعة الإسلامية تقوم على حماية الحياة العامة من الغش والرياء، وحماية الأفراد من مسايرة الأهواء، وترى الصدق فضيلة تستحق التشجيع لا العقاب، وترى أن الفرد الفاسد أحق بأن يتحمل وزر عمله، وألا يتضرر من نتائجه، ومن ثم أباحت إثبات القذف، فإن استطاع القاذف إثبات ما قال فلا عقاب عليه.
وليس للمقذوف أن يتضرر من القذف؛ لأنه نتيجة عمله هو لا عمل القاذف، فإذا عجز القاذف عن الإثبات فهو ظالم يستحق العقوبة، ويجب أن نلاحظ أن في إيقاع العقوبة على القاذف بعد إباحة إثبات القذف له وعجزه عن الإثبات دليل قاطع على عدم صحة القذف. أما إيقاع العقوبة على القاذف مع منعه من إثبات القذف - كما هو الحال في القانون - فإنه لا يبرئ مما يقذف به، ولا يقطع بكذب القاذف، ومن هنا يتبين أن نظرية الشريعة أكرم وأفضل للمجني عليه والجاني من نظرية القانون الوضعي"[11].
خامسا. هل حد القذف فيه قسوة ولا يتناسب مع المدنية وفيه انتهاك لحقوق الإنسان؟!
حرمت الشريعة الإسلامية القذف بالزنا، وأوجبت العقوبة على فاعله، وأوجبت على من قذف عفيفا طاهرا بريئا أو بريئة من الزنا حد القذف، وهو الجلد ثمانين جلدة، وعدم قبول شهادته إلا بعد توبته توبة نصوحا. قال سبحاته وتعالى: )والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون (4) إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم (5)( (النور)، وتوعد الخالق - عز وجل - القاذف بأشد وعيد، قال سبحانه وتعالى: )إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم (23)( (النور).
وقال صلى الله عليه وسلم:«اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله، ما هن؟ قال: الشرك بالله عز وجل, والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات»[12].
هدف الشريعة من ذلك:
وتهدف الشريعة من ذلك إلى المحافظة على الأخلاق والأعراض من أن تدنس بالشبهة المزيفة والأوصاف المكذوبة، وألا يتجرأ أحد على إلصاق التهمة بشخص آخر إلا حينما يكون هناك دليل قاطع عليها، وإلا اعتبر ذلك بلاغا كاذبا وقولا زورا يستحق عليه العقاب.
فالعرض أعز على الكريم من المال، وترك معاقبة القاذف بالفاحشة بغير بينة يحل حرب الأخلاق وينشر الرذائل ويسهل ارتكاب جريمة الزنا، ويسبب الفوضى؛ فإن المقذوف وعشيرته لا يتركون القاذف دون انتقام، "والبواعث التي تدعو القاذف للافتراء والاختلاق كثيرة منها: الحسد والحقد والمنافسة والانتقام ولكنها جميعا تنتهي إلى غرض واحد يرمي إليه كل قاذف هو إيلام المقذوف وتحقيره.
وقد وضعت عقوبة القذف في الشريعة الإسلامية على أساس محاربة هذا الغرض؛ فالقاذف يرمي إلى إيلام المقذوف إيلاما نفسيا، فكان جزاؤه الجلد ليؤلمه إيلاما بدنيا ونفسيا، يضاف إلى ذلك ما يدل عليه الجلد بأنه كاذب في قوله. وذلك أشد وقعا على النفس والحس معا؛ إذ إن الإيلام النفسي هو بعض ما ينطوي عليه الإيلام البدني، والقاذف يرمي من وراء قذفه تحقير المقذوف، وهذا التحقير فردي؛ لأن مصدره فرد واحد هو القاذف، فكان جزاؤه أن يحقر من الجماعة كلها وأن يكون هذا التحقير العام بعض العقوبة التي تصيبه؛ فتسقط عدالته ولا تقبل له شهادة أبدا ويوصم وصمة أبدية بأنه من الفاسقين.
وهكذا حاربت الشريعة الإسلامية الدوافع النفسية الداعية إلى الجريمة بالعوامل النفسية المضادة التي تستطيع وحدها التغلب على الدوافع الداعية للجريمة وصرف الإنسان عن الجريمة.
فإذا فكر شخص أن يقذف آخر ليؤلم نفسه ويحقر شخصه ذكر العقوبة التي تؤلم النفس والبدن، وذكر التحقير الذي تفرضه عليه الجماعة فصرفه ذلك عن الجريمة، وإن تغلبت العوامل الداعية إلى الجريمة مرة على العوامل الصارفة عنها فارتكب الجريمة كان فيما يصيب بدنه ونفسه من ألم العقوبة وفيما يلحق شخصه من تحقير الجماعة ما يصرفه نهائيا عن العودة لارتكاب الجريمة بل ما يصرفه نهائيا عن التفكير فيها[13].
هذه بعض أهداف إقامة حد القذف ومع وضوح هذه الأهداف نجد من يقول: إن عقوبة الجلد شريرة ولا تناسب المدنية الحديثة. وكان الأجدر بهؤلاء أن يدركوا أولا معنى الجريمة، وما يترتب عليها من الآثار التي تؤذي المجتمع، ثم يقارن بينهما وبين العقوبة ليعلموا أن الغرض من العقوبة هو زجر الناس عن كل فعل أو قول يضر بالمجتمع، ويؤذي أفراده وجماعته؛ فإذا فشت الجرائم بين الناس وأصبح كل واحد غير آمن على عرضه أو نفسه أو ماله فإنه لا يكون لهذا معنى، إلا أن الإنسان الذي ميزه الله بالعقل مساو لعالم الحيوانات المفترسة الذي يعتدي فيه القوي على الضعيف، وذلك هو الهلاك والفناء للأفراد والمجتمعات.
فلا بد من زاجر يزجر المجرمين فاسدي الأخلاق، ولا بد أن يكون ذلك الزاجر قاطعا لدابر الجريمة، كي لا يكون لها أثر بين الناس، فمن مصلحة المجتمع ومصلحة المجرمين أنفسهم أن تكون العقوبة زاجرة. وما نشاهده في القوانين الوضعية لعقوبة القذف بالحبس أو الغرامة أو بهما معا نقول: هي عقوبة غير رادعة غير زاجرة غير مؤلمة؛ ولذلك ازدادت جرائم القذف والسب زيادة عظيمة وأصبح الناس يتبادلون القذف والسب كما لو كانوا يتبادلون المدح بالحق والباطل وكل يريد أن يهدم أخاه ليخلو له الجو فينطلق فيه وسيظلون كذلك حتى يمزقوا أعراضهم ويقطعوا أرحامهم ويهدموا كيانهم بأيديهم.
"ولو أن الشريعة الإسلامية طبقت على هؤلاء بدلا من القانون لما جرؤ أحد على أن يكذب على أخيه كذبة؛ لأنها تؤدي إلى الجلد وتنتهي بإبعاده عن الحياة العامة فلا تقبل له شهادة، وهو من الفاسقين فكيف يقولون إن العقوبة في الشريعة الإسلامية لا تتفق مع المدنية المعاصرة وهذا قانونهم؟!"[14].
مما سبق نقول: إن حد القذف ليس فيه قسوة بل هو الرحمة والعدل، بل إن حد القذف هو الحارس على أعراض الناس من أن تمس زورا، وهو الزاجر للألسنة من أن تنطق فحشا، والحارس على المستوى الأخلاقي في المجتمع الإسلامي حتى ينهج الناس في حياتهم وصلاتهم وعلاقاتهم - في رضاهم وسخطهم، في هدوئهم وثورتهم - منهجا معتدلا منهجا سليما يرضى الله عنه ويرضى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم.
جاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص «أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المسلمين خير؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده»[15].
وورد عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر»[16].
والشريعة الإسلامية أقامت أحكامها على أساس مراعاة طبيعة البشر، فجاءت أحكامها صالحة لكل زمان ومكان؛ لأن ماهية البشر واحدة في كل مكان، ولأنها لا تتغير بتغير الأزمان وذلك هو السر في صلاحية الشريعة الإسلامية للقديم والحديث، وهو السر في صلاحيتها للمستقبل القريب والبعيد.
الخلاصة:
· الإسلام حرم القذف بالزنا، وجعله كبيرة لما فيه من تعد على الحرمات وهتك للأعراض، وتشكيك في الأنساب. ولو انفتح الباب لقذف البرءاء لصار كل فرد متهما أو مهددا بالاتهام، فبهذا الحد - القذف - قطع الإسلام ألسنة السوء وسد بابا من الشر عظيما.
· قرر الإسلام عقوبة هذا الحد ثمانين جلدة، بالإضافة إلى عقوبة معنوية، هي عدم قبول شهادة المحدود في القذف ورميه بالفسق.
· لا ينفذ حد القذف إلا بشروط هي بمثابة ضمانات تكفل العدالة في تطبيقه، مما يفوت الفرصة على زعم الزاعمين بأن الشرع الإسلامي لا هم له سوى الجلد والرجم والقطع... إلخ.
· للقذف عقوبة في القانون الوضعي لا تفي بالغرض، ولا تثمر فاعلية في صون الأعراض، وحفظ كرامة الناس، فهي تمنع القاذف من إثبات دعواه، وتعاقبه في حالتي الصدق والكذب على السواء، وهذا لا يبرئ المقذوف، ولا يقطع بكذب القاذف، فالعقوبة الشرعية أكرم وأفضل للمجني عليه والجاني كليهما من عقوبة القانون الوضعي.
(*) المقاصد الشرعية للعقوبات في الإسلام، د. حسني الجندي ، دار النهضة، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2005م.