دعوى تعارض عقوبة الجلد والرجم في الشريعة الإسلامية مع الحرية الشخصية وحقوق الإنسان (*)
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المغرضين أن الشريعة الإسلامية حينما وضعت منهجا محكما للتعامل مع الغريزة الجنسية؛ لتكبح من جموحها، اعتدت بصورة صارخة على الحرية الشخصية، وضيقت منافذ هذه الحرية، بتحريمها أنماطا سلوكية - يراها هؤلاء من صميم الحرية الشخصية - مثل: اللواط والسحاق والزنا، وأنها شرعت لهذه الأنماط السلوكية عقوبات تتعارض مع حقوق الإنسان.
وجوه إبطال الشبهة:
1) منهج الإسلام في التعامل مع الغريزة الجنسية منهج حكيم يضع التدابير لتهذيبها، أو تصريفها في الحلال، والوقاية من الجنوح نحو الحرام.
2) الحكمة التشريعية من تحريم الزنا تكمن في الحرص على حماية الأعراض، وحفظ الصحة والأنساب والأموال.
3) تدرجت الشريعة في عقوبة الزنا، ووضعت شروطا لإثباتها.
4) عقوبات الزنا في الشريعة الإسلامية رادعة، أما في القوانين الوضعية؛ فهي هينة واهية مغرية بتكرار الجريمة.
5) هناك حالات عديدة يؤخر فيها تنفيذ العقوبة رحمة بالمذنب.
6) للزنا واللواط والسحاق مفاسد وأضرار بالغة.
7) ليس في حد الزنا قسوة واعتداء على الحرية الشخصية، وانتهاك لحقوق الإنسان، بل ردع ورحمة.
التفصيل:
إن جميع الرسالات والتشريعات السماوية حرمت كل ما هو ضار بالعقل والعرض والمال والنفس والعقيدة، كما حرمت الأديان جميعها الزنا، وحرمه الإسلام وحرم كل وسيلة تؤدي إليه؛ لأن فيه اعتداء على الحرمات واختلاطا للأنساب، وشرع العقوبة لمن ارتكب الزنا واللواط وغيرهما.
أولا. منهج الإسلام في التعامل مع الغريزة الجنسية:
الله - عز وجل - هو خالق الإنسان، وهو العليم بما فطر عليه من الدوافع والغرائز التي ركبت في طبيعته، ولا يملك أن ينفك عنها. والغاية من خلق الإنسان أن يكون خليفة في الأرض عابدا لله، وأن يعمل على تعمير الأرض بكل ما يستطيع من وسائل وسبل، حتى تتحقق الحكمة الإلهية التي جاءت ردا على استفسار الملائكة في قوله سبحانه وتعالى: )أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون (30)( (البقرة).
والشريعة الإسلامية من الله - عز وجل - خالق الإنسان والأعلم به، ومن أجل هذا كان طبيعيا أن يقف الإسلام من الإنسان موقف المدرك لحقيقته، المعترف بغرائزه وميوله، فما من مصلحة لا يستغني عنها الإنسان في حياته إلا وأمرت بها الشريعة الإسلامية، وقررت حمايتها والحفاظ عليها، وما من مفسدة تحد من حركة الإنسان في تعمير الأرض، أو تدخل الانحراف والخلل على حياته إلا وأوصدت الشريعة بابها بالنواهي التي لا تجوز مخالفتها.
ففي مجال الغريزة الجنسية، وقف الإسلام موقف المهذب لهذه الغريزة، فعمل على تنظيمها وتحديدها بما يكفل تصريفها بالوسائل المشروعة، وبما يحد من انطلاقها بصورة تدمر حياة الإنسان، وتهدم كيانه الأخلاقي، وفي إطار ذلك التنظيم شرع الإسلام ما يلي:
· شرع الزواج: وجعله طريقا شرعيا للتعامل مع هذه الغريزة، بل جعله آية من آيات الله في خلقه قال سبحانه وتعالى: )ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (21)( (الروم).
والرسول - صلى الله عليه وسلم - يرشد إلى الزواج في أحاديث منها ما ذكره عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة [1] فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء» [2] [3].
وقوله صلى الله عليه وسلم: «تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة»[4]. وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير»[5].
· حرم الرهبانية: وهي العزوف عن الزواج والزهد فيه، واستقذار الغريزة الجنسية بنية التفرغ للعبادة والتقرب إلى الله، وخاصة إذا كان الإنسان قادرا على الزواج؛ يملك المؤونة والطاقة.
عن أنس «أن نفرا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - سألوا أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عمله في السر، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء. وقال بعضهم: لا آكل اللحم. وقال بعضهم: لا أنام على فراش. فحمد - صلى الله عليه وسلم - الله وأثنى عليه ثم فقال: ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»[6].
· اعتبر تصريف الشهوة بالحلال من الأعمال الصالحة [7] التي تستحق الأجر والثواب من الله عز وجل، فقد جاء عن أبي ذر«أن أناسا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا يا رسول الله، ذهب أهل الدثور[8] بالأجور يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم قال صلى الله عليه وسلم: أو ليس الله قد جعل لكم ما تصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وبكل تكبيرة صدقة، وبكل تهليلة صدقة، وبكل تحميدة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة. قالوا يا رسول الله: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيه أجر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أرأيتم لو وضعها في حرام كان عليه وزر؟ وكذلك إذا وضعها في حلال كان له فيها أجر»[9].
· لم يتدخل الإسلام في كيفية العلاقة بين الزوجين؛ فأعطى لهما الحرية الكاملة في الممارسة طالما كانت بعيدة عما يجب التعفف عنه، كالإتيان في الحيض أو غير موضع الحرث، ودون ذلك كان صريح القرآن الكريم ناطقا بهذه الحرية في العلاقة بين الزوجين. قال سبحانه وتعالى: )نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم( (البقرة:٢٢٣).
أما في مجال الضوابط التي شرعها الإسلام؛ لتحد من جموح هذه الغريزة وانطلاقها - إذا لم يتيسر للإنسان الزواج - فقد جاء في القرآن الكريم أمر لهم بالعفة حيث قال سبحانه وتعالى: )وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله( (النور: 33).
وتأخذ عفة الإنسان وتساميه وارتقاؤه فوق الطبيعة البهيمية صورا متعددة هي في مجملها - إلى جانب التكليف الشرعي - من مكارم الأخلاق التي لا يستغنى عنها المؤمن الذي عرف حقيقة كرامته الإنسانية، وحقيقة الدنيا من حوله، من هذه الصور:
· غض البصر عن المحرمات؛ استجابة لقوله سبحانه وتعالى: )قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون (30) وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون (31)( (النور).
فذكر غض البصر في الآية الكريمة قبل حفظ الفرج له معناه ومدلوله؛ لأن النظر بريد الزنا، وهو من سهام إبليس، وقد حرم الإسلام النظر إلى الأجنبيات، بدليل الآيات السالفة. وبدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والجلوس في الطرقات، فقالوا: ما لنا بد، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها! فقال صلى الله عليه وسلم: "فإذا أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقها"، قالوا: وما حق الطريق؟ قال صلى الله عليه وسلم: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر»[10].
والشريعة ما حرمت أمرا إلا حرمت ما يؤدي إليه، وقد حرمت الزنا، وحرمت - بالتالي - مقدماته، كالنظر واللمس والتبرج، وغير ذلك مما يحرك غرائز الإنسان، ويفتح الباب واسعا أمام الشيطان ليعبث بالعقول، ثم يتقاذفها كما يتقاذف اللاعبون الكرة، وما أصدق قول الشاعر:
ومعظم النار من مستصغر الشرر
كل الحوادث مبدؤها من النظر
· الأمر بالصيام؛ لأنه يكسر حدة الشهوة عند الإنسان، ويعمل على صفاء نفسه، وتسكين جوارحه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء»[11].
· تحريم الزنا؛ فأمر في سبيل ذلك بالابتعاد عن المثيرات الجنسية، وما يحرك الغرائز الساكنة؛ لأن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ومما لا شك فيه أن النظر إلى النساء الكاسيات العاريات، وقراءة القصص التي يبثها تجار الغرائز الجنسية، ومشاهدة الأفلام الخليعة، كل ذلك مما يثير الغريزة، ويلوث الشرف، ويقتل الكرامة، ويصعق الذاكرة والشخصية؛ فتكون النتيجة أن ينهزم الشباب بعيدا عن ميدان الحرب.
ثانيا. الحكمة التشريعية من تحريم الزنا:
لم يحرم الله - عز وجل - الزنا عبثا، ولا تشديدا دون طائل، إنما يكمن وراء التحريم عبر وعظات ومصالح تعود على المجتمع الإسلامي كله بالطمأنينة والسلام، ويمكن إيجاز الأسباب التي أدت إلى تحريم الزنا فيما يأتي:
· المحافظة على الأنساب: ففي تحريم الزنا حماية للأنساب من الاختلاط؛ حيث ينشأ الولد في كنف أبيه يكد ويسعى في تربيته، ولا يبخل عليه، ومن المحتقر أن يربي الإنسان ولد غيره ظنا منه أنه ولده من صلبه.
· حماية الأعراض: فالزنا يؤدي إلى النيل من كرامة الإنسان، حينما تكون سيرته على ألسنة الناس، وفي هذا انحطاط أخلاقي، وإشاعة للفاحشة بين الناس، فلم يعد لمن خدش عرضه شيء يحرص عليه أمام الناس؛ فينزلق في الفجور والعصيان.
· المحافظة على نقاء النوع الإنساني من الانقراض: لأن ظهور الزنا وشيوعه يؤدي إلى ظهور جيل من اللقطاء الذين لا يعرفون آباءهم، وهم أكثر الناس تعرضا للهلاك، وقد يكونون عرضة للقتل؛ لأنهم يسببون لهم العار.
· المحافظة على الصحة: الزنا يؤدي إلى تفشي الأمراض الخبيثة، وبتحريمه تثبت الشريعة الإسلامية أصالتها وسموها على مر العصور والأزمان؛ إذ تثبت الأبحاث العلمية كل يوم مرضا جديدا في جسد الزناة المصرين على الزنا وارتكاب الفاحشة، ولعل الكارثة الكبرى ذلك المرض الفتاك اللعين المسمى بالإيدز، وقد أثبتت الدراسات أن الغالبية العظمى من المصابين بهذا المرض، هم المرتكبون لفاحشة الزنا والشواذ جنسيا، وهم لذلك يعيشون في ظل الموت البطيء الذي حكم عليهم به بسبب فساد طباعهم وانحرافهم عن صراط الله المستقيم[12].
· المحافظة على الأموال: حرم الله الزنا محافظة على الأموال؛ لأن انتشار الزنا في أمة يؤدي إلى كثرة المرضى بها، وهذا يؤدي إلى كثرة المتعطلين الذين يعيشون عالة على غيرهم، وبالتالي يقل الإنتاج، ويضعف الدخل.
· المحافظة على الأخلاق: ففي تحريم الزنا مراعاة لجانب الأخلاق الذي يقوم عليه المجتمع، فالزنا يفسد الأخلاق، ويؤدي إلى التفكك والانقسام بين أفراد المجتمع.
ثالثا. التدرج في تشريع العقوبة على جريمة الزنا:
جاء الإسلام والزنا منتشر، كشأن غيره من المفاسد التي كانت منتشرة بين العرب في الجاهلية، فكان سبيله في التدرج في تشريع العقوبة عليه، كما هو المنهج في التشريع الإسلامي.
اقتصرت العقوبة في أول الأمر على الحبس في البيوت، والإيذاء بالضرب والتوبيخ، بدليل قوله سبحانه وتعالى: )واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا (15) واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما (16)( (النساء).
فيرى بعض الفقهاء أن الحبس في البيوت هي العقوبة الخاصة بالنساء، وأن الإيذاء هو العقوبة الخاصة بالرجال، بينما يرى بعضهم أن العقوبة جعلت في أول الأمر على النساء؛ لأنها هي السبب المباشر للفعل، فشرع لها عقوبة الحبس في البيوت حتى الموت، ثم جعلت العقوبة للرجل والمرأة معا، لقوله سبحانه وتعالى: )واللذان يأتيانها منكم فآذوهما( (النساء: ١٦).
ثم تدرج التشريع بعد ذلك؛ فنسخت عقوبتا الحبس والإيذاء، وحل محلهما العقوبة الثانية الجلد والرجم، وذلك بما يلي: قال سبحانه وتعالى: )الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين (2)( (النور)؛ حيث نسخت هذه الآية )الزانية والزاني( آية الحبس وآية الإيذاء، وبينت عقوبة الزنا.
ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا؛ البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم»[13].
وقد رجم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ورجم بعده الخلفاء الراشدون، واستقر الحكم على مر العصور الإسلامية المختلفة.
وهنا ملاحظة لا بد أن نشير إليها، وهي أنه لا تخفى المناسبة بين قوله صلى الله عليه وسلم: «قد جعل الله لهن سبيلا»، وبين قوله - سبحانه وتعالى - في الآية الكريمة: )أو يجعل الله لهن سبيلا (15)( (النساء)؛ لأن السنة توضح القرآن وتبين مجمله.
وقد بقي المسلمون في انتظار السبيل الذي يجعله الله - عز وجل - بخصوص الزاني، فجاء السبيل في السنة الشريفة كما تقدم "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم"، واستقر الأمر في النهاية على جلد غير المحصن ورجم المحصن.
بم يثبت حد الزنا[14]؟
يثبت حد الزنا بواحد من أمرين؛ الإقرار أو البينة:
1. الإقرار: هو الاعتراف بالزنا، والاعتراف سيد الأدلة، والدليل ما جاء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها»[15].
2. البينة: بأن يشهد أربعة من الرجال البالغين العقلاء العدول على رجل وامرأة بالزنا.
ويشترط في الشهود:
· أن يكونوا أربعة: قال سبحانه وتعالى: )والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء( (النور:4).
· أن يكونوا مسلمين: قال سبحانه وتعالى: )فاستشهدوا عليهن أربعة منكم( (النساء:١٥).
· أن يكونوا عدولا.
· أن يكونوا ذكورا.
· الشهادة في مجلس واحد... وغير ذلك.
رابعا. العقوبات في الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية:
· عقوبة الجلد:
تعاقب الشريعة الإسلامية الزاني الذي لم يحصن بعقوبة الجلد؛ لأن الشريعة الإسلامية عينت العقوبة وقدرتها، فجعلتها مائة جلدة قال سبحانه وتعالى: )الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين (2)( (النور).
وقد وضعت العقوبة - أي الجلد - على أساس محاربة الدوافع النفسية التي تدعو إلى الجريمة بالدوافع التي تصرف عن الجريمة، وهذا هو الذي يهدينا إليه التأمل والتفكير في الجريمة وعقوباتها.
والدافع الذي يدعو الزاني للزنا هو اشتهاء اللذة والاستمتاع بالنشوة التي تصحبها، والدافع الوحيد الذي يصرف الإنسان عن اللذة هو الألم، ولا يمكن أن يستمتع الإنسان بنشوة اللذة إذا تذوق مس العذاب، وأي شيء يحقق الألم ويذيق العذاب أكثر من الجلد مائة جلدة؟
فالشريعة الإسلامية حينما وضعت عقوبة الجلد للزنا لم تضعها اعتباطا، وإنما وضعتها على أساس من طبيعة الإنسان، وفهم لنفسيته وعقليته، والشريعة حينما قررت عقوبة الجلد للزنا، دفعت العوامل النفسية التي تدعو للزنا بعوامل نفسية مضادة تصرف عن الزنا، فإذا تغلبت العوامل الداعية على العوامل الصارفة، وارتكب الزاني جريمته مرة، كان فيما يصيبه من ألم العقوبة وعذابها ما ينسيه اللذة ويحمله على عدم التفكير فيها وحرصا من المشرع على القضاء شبه التام على هذه الجريمة، أضاف إليها عقوبة أخرى رادعة وهي "التغريب"، وتعتبر تكميلية للجلد، والمصدر التشريعي لهذه العقوبة حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم»[16]. ويشترط في التغريب أن يكون مسافة تقصر فيها الصلاة، أي إلى مكان يبعد عن بلده ثمانين كيلو مترا؛ لأن المقصود البعد عن أهله ووطنه[17].
وللتغريب علتان:
1. التمهيد لنسيان الجريمة بأسرع ما يمكن، وهذا يقتضي إبعاد المجرم عن مسرح الجريمة، أما بقاؤه بين ظهراني الجماعة، فإنه يحيي ذكرى الجريمة ويحول دون نسيانها بسهولة.
2. أن إبعاد المجرم عن مسرح الجريمة يجنبه مضايقات كثيرة لا بد أن يلقاها إذا لم يبعد، وقد تصل هذه المضايقات إلى حد قطع الرزق، وقد لا تزيد على حد المهانة والتحقير؛ فالإبعاد يهيئ الجاني أن يحيا من جديد حياة كريمة.
وظاهر مما سبق أن التغريب وإن كان عقوبة إلا أنه شرع لمصلحة الجاني أولا ولصالح الجماعة ثانيا، والمشاهد - حتى في عصرنا الحالي الذي انعدم فيه الحياء - أن كثيرا ممن تعيبهم معرة الزنا يهجرون موطن الجريمة مختارين؛ لينأوا بأنفسهم عن الذلة والمهانة التي تصيبهم في هذا المكان[18].
عقوبة الجلد في القوانين الوضعية:
لقد كانت عقوبة الجلد من العقوبات التي يعترف بها قانون العقوبات المصري سنة 1937، ثم ألغاها المشرع المصري مقلدا في ذلك معظم القوانين الوضعية التي ألغت هذه العقوبة، وأقرت هذه القوانين الحبس عقوبة على الزنا، وهي عقوبة لا تؤلم الزاني إيلاما يحمله على هجر اللذة التي يتوقعها من وراء الجريمة، ولا تثير فيه من العوامل النفسية المضادة ما يصرف العوامل النفسية الداعية إلى الجريمة أو يكبتها.
وقد أدت عقوبة الحبس إلى إشاعة الفساد والفاحشة، وأكثر الناس الذين يمسكون عن الزنا اليوم لا يصرفهم عنه العقوبة، وإنما يمسكهم عنه الدين، والأخلاق الفاضلة التي لم يعرفها أهل الأرض قاطبة إلا عن طريق الدين.
وتمتاز الشريعة الإسلامية بأنها حين جعلت الجلد عقوبة للزنا، قد حاربت الجريمة في النفس قبل أن تحاربها في الحس، وعالجتها بالعلاج الوحيد الذي لا ينفعها غيره، أما العقوبة التي قررها القانون، فإنها لا تمس دواعي الجريمة في نفس المجرم ولا حسه؛ إذ الحبس علاج - إن صلح لأية جريمة أخرى - فهو لا يصلح بحال لجريمة الزنا[19].
· عقوبة الرجم:
الرجم عقوبة الزاني المحصن رجلا كان أو امرأة، ومعنى الرجم: القتل رميا بالحجارة، واتفق العلماء - ما عدا الخوارج - على أن حد الزاني المحصن هو الرجم، بدليل ثبوته في السنة والإجماع والمعقول.
أما السنة: فكثير من الأحاديث منها قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث؛ الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة»[20].
ومنها قصة العسيف الذي زنى بامرأة، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «اغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها»[21]. وقصة ماعز والغامدية حينما اعترفا على نفسيهما بالزنا، فأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - برجمهما.
وأجمعت الأمة على مشروعية الرجم، والمعقول يوجب مثل هذا العقاب.
وقد وضعت عقوبة الرجم على نفس الأساس الذي وضعت عليه عقوبة الجلد للزاني غير المحصن، ولكن شددت عقوبة المحصن للإحصان؛ لأن الإحصان يصرف الشخص عادة عن التفكير في الزنا فإن فكر فيه بعد ذلك؛ فإنما يدل التفكير فيه على قوة اشتهائه اللذة المحرمة، وشدة اندفاعه للاستمتاع بما يصاحبها من نشوة، فوجب أن توضع له عقوبة فيها من قوة الألم وشدة العذاب ما فيها بحيث إذا ذكر من هذه اللذة المحرمة وتذكر معها العقوبة المقررة، تغلب التفكير في الألم الذي يصيبه من العقوبة على التفكير في اللذة التي يصيبها من الجريمة.
ويستنكر أناس اليوم عقوبة الرجم على الزاني المحصن، وهو قول يقولونه بأفواههم، ولا تؤمن قلوبهم به، ولو أن أحد هؤلاء وجد امرأته أو ابنته تزني، واستطاع أن يقتلها ومن يزني بها لما تأخر عن ذلك.
والشريعة الإسلامية قد سارت في هذه المسألة كما سارت في كل أحكامها على أدق المقاييس وأعدلها؛ فالزاني المحصن هو قبل كل شيء مثل سيئ لغيره من الرجال والنساء المحصنين، وليس للمثل السيئ في الشريعة حق البقاء. والشريعة تقوم على الفضيلة المطلقة، وتحرص على الأخلاق والأعراض والأنساب من التلوث والاختلاط، والشريعة توجب على الإنسان أن يجاهد شهوته، ولا يستجيب لها إلا عن طريق الحلال وهو الزواج، وقد أمر إذا كان مستطيعا للباءة أن يتزوج؛ حتى لا يعرض نفسه للفتنة أو يحملها مالا تطيق، فإذا لم يتزوج وغلبته على عقله الشهوات، فعقابه أن يجلد مائة جلدة، وشفيعه في هذه العقوبة المخففة تأخره في الزواج الذي أدى به إلى الجريمة. أما إذا تزوج فأحصن فقد حرصت الشريعة ألا تجعل له بعد الإحصان سبيلا إلى الجريمة، والشريعة أباحت أن تطلب الزوجة الطلاق إذا تعثرت المعيشة، والرجل يطلق ويتزوج أو تتزوج هي غيره.
وبهذا فتحت الشريعة للمحصن كل أبواب الحلال، وأغلقت دونه باب الحرام، وأن يؤخذ المحصن بالعقوبة التي لا يصلح غيرها طالما استعصى على الإصلاح، ولو أن هؤلاء الذين يجزعون من القتل للزاني رجعوا إلى الواقع حين أوجبت الشريعة قتل الزاني المحصن؛ لوجدوا أنها لم تأت بشيء يخالف مألوف الناس، والقانون الآن يعاقب على الزنا بالحبس إذا كان أحد الزانيين محصنا، فإذا لم يكن أحدهما محصنا فلا عقاب ما لم يكن إكراه.
هذا هو حكم القانون، فهل رضى الناس حكم القانون؟ إنهم لم يرضوه ولن يرضوه، بل إنهم حين قبلوا حكم القانون القائم مرغمين أقبلوا على عقوبة الشرع المعطلة مختارين، فهم يقتصون من الزاني محصنا وغير محصن بالقتل، وهم ينفذون القتل بوسائل لا يبلغ الرجم بعض ما يصحبها من العذاب.
فهم يغرقون الزاني، ويحرقونه، ويقطعون أوصاله، ويهشمون عظامه، ولو أحصينا جرائم القتل التي تقع بسب الزنا، لبلغت نصف جرائم القتل جميعا، فإذا كان هذا هو الواقع، فما الذي نخشاه من عقوبة الرجم، إن الأخذ بها لن يكون إلا اعترافا بالواقع، ويدعي هؤلاء أن هذه العقوبة فيها شيء من القسوة التي لا تتناسب مع كرامة الإنسان!
ويرد عليهم بأن هذه العقوبة ما جعلت إلا لصيانة كرامة الإنسان بالمحافظة على أخلاقه من الفساد، ووقاية مجتمعه من الضلال، وصيانة مبادئ دينه من الانتهاك.
ثم إن قولهم: إن في هذه العقوبة قسوة مبني على نظرة عابرة إلى الفرد لا تغوص في أعماق الحقيقة، ونسوا القسوة التي أحدثها المجرم وجنايته على العرض، والفراش، والولد، والأسرة، والمجتمع كله؛ فليس عقابه إذا قسوة، لكنه جزاء رادع، وإنما القسوة في فعله بعد أن توفرت لديه الموانع من ارتكابه.
والرجم هو قتل النفس الشريرة، وكل أنظمة العالم تبيح القتل عقوبة لبعض الجرائم، ولا فرق بين من يقتل شنقا، أو ضربا بالفأس، أو تسميما بالغاز، أو صعقا بالكهرباء، أو رميا بالحجارة والرصاص، فكله قتل، وإن اختلفت وسائله، ولا فرق في النتيجة بين الرمي بالحجارة أو الرمي بالرصاص.
ولقد دلت التجارب على أن حبل المشنقة لا يزهق الروح بسرعة في كثير من الأحوال، كذلك التسمم بالغاز والصعق بالكهرباء يبطيء بالموت أحيانا أكثر مما يبطئ به الشنق أو الرصاص، ومن كان يظن أن الموت يسرع إلى المقتول بالرصاص في كل حال، ويبطئ عن المرجوم بالحجارة في كل الأحوال، فهو مخطئ في ظنه، وقد دلت التجارب على بطلان هذا الظن[22].
ومن هنا يتبين أن الرجم أسهل من القتل بالشنق والتسميم، وأنواع التعذيب الأخرى، والشريعة الإسلامية وهي دين الفطرة يعالج المشاكل الاجتماعية بما يناسبها ويزجر عن ارتكابها، فكان المناسب لجريمة الزاني المحصن هو الرجم.
وكون العقوبة سهلة هينة لا تؤلم يذهب الحكمة من تقريرها والهدف من إيجادها، والموت إذا تجرد من الألم والعذاب كان من أتفه العقوبات، وكثير من الناس يقلعون عن هذه الجريمة، لما يرونه من عذاب على من أوقعت عليه.
وليس من مصلحة المجتمع أن يفهم أفراده أن العقوبة هينة لا تؤلم ولا تدعو للخوف، قال سبحانه وتعالى: )ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله( (النور: ٢)، وإذا كانت العقوبة شديدة الإيلام والعذاب زجرت من يفكر في الجريمة، حتى لا يتعرض للألم، وتلك حكمة الله في شريعته.
خامسا. الأمور التي يؤخر فيها تنفيذ العقوبة رحمة بالمذنب[23]:
يقام الحد على الزاني والزانية وغيرهم بعد الإقرار مباشرة أو بعد البينة، إلا أن هناك أحوالا يؤخر فيها تنفيذ الحد رحمة بالمحدود، منها:
· الحر والبرد الشديدان: فلا يجلد الزاني ولا الزانية في الحر الشديد؛ لأنه قد يحدث ضررا شديدا يؤدي إلى هلاكه. ولا يجلد في البرد الشديد، لما في ذلك من القسوة والغلظة ما تأباه سماحة الإسلام.
· المرض: يؤخر الحد حتى يبرأ المريض من مرضه.
· النفاس: يؤخر الحد حتى تبرأ النفساء من نفاسها.
· الحامل: حتى تلد وترضع وليدها، فإذا فطمته أقيم الحد، وهذه من مظاهر رحمة الإسلام بالمحدود.
سادسا. للزنا واللواط والسحاق مفاسد وأضرار بالغة على الإنسان:
1. الزنا ومفاسده البالغة:
يوضح د. محمد بكر إسماعيل هذه المفاسد قائلا: من المعلوم شرعا أن الشرك بالله أكبر الكبائر عند الله، ويليه في الجرم قتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، ولكن ماذا بعد قتل النفس؟ قال الإمام أحمد رحمه الله: لا أعلم بعد قتل النفس شيئا أعظم من الزنا، وقد عظم الله تلك الجريمة حيث يقول سبحانه وتعالى: )والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما (68)( (الفرقان)، فقرن الزنا بالشرك وقتل النفس، وجعل جزاء ذلك الخلود في العذاب المضاعف المهين مالم يتبع العبد ذلك الذنب العظيم بالتوبة والإيمان والعمل الصالح.
وقد قال الله سبحانه وتعالى: )ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا (32)( (الإسراء)، فأخبر عن فحشه في نفسه، وهو القبيح الذي قد تناهى قبحه حتى استقر فحشه في العقول، ثم أخبر عن غايته بأنه ساء سبيلا، وعلق سبحانه فلاح العبد على حفظ فرجه، فلا سبيل له إلى الفلاح بدونه، فقال سبحانه وتعالى: )قد أفلح المؤمنون (1) الذين هم في صلاتهم خاشعون (2) والذين هم عن اللغو معرضون (3) والذين هم للزكاة فاعلون (4) والذين هم لفروجهم حافظون (5) إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين (6) فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون (7)( (المؤمنون).
وهذا يتضمن ثلاثة أمور، من لم يحفظ فرجه لم يكن من المفلحين، وأنه من الملومين، ومن العادين، ففاته الفلاح، واستحق اسم العدوان، ووقع في اللوم، وعلى ذلك فمقاساة ألم الشهوة ومعاناتها أيسر من كل ذلك.
وقد «سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال: "الفم والفرج»[24]. وذكر أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاث لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كاذب، وعائل مستكبر»[25]. أي: فقير يتعالى على الناس.
ولما كان الزنا من أقبح الجرائم وأخطرها على النفس والعقل والدين شددت العقوبة عليه في الدنيا، بحيث جعل حده من أغلظ الحدود، فالجلد مائة والتغريب عام لغير المحصنين، والرجم بالحجارة حتى الموت للمحصن، فهل هناك عقوبة أشد من ذلك؟
إن القاتل أخف عقوبة من المحصن الزاني؛ لأنه يقتل بالسيف ضربة واحدة، وهذا أهون بالطبع من الرجم بالحجارة، وحد الزنا للمحصن مشتق من عقوبة الله تعالى لقوم لوط بالقذف بالحجارة، وذلك لاشتراك الزنا واللواط في الفحش وفي كون كل منهما فساد يناقض حكمة الله في خلقه وأمره، فإن في اللواط مفاسد تفوق الحصر.
· المفاسد الاجتماعية والخلقية للزنا:
قال ابن القيم رحمه الله: ومفسدة الزنا مناقضة لصلاح العالم، فإن المرأة إذا زنت أدخلت العار على أهلها وزوجها وأقاربها، ونكست رؤوسهم بين الناس.
وإن حملت من الزنا فقتلت ولدها جمعت بين الزنا والقتل، وإن أبقته، نسبته إلى الزوج فأدخلت على أهلها وأهله أجنبيا ليس منهم، وانتسب إليهم وليس منهم، إلى غير ذلك من مفاسد زناها.
وأما زنا الرجل فإنه يوجد اختلاطا في الأنساب، وإفسادا للمصونة وتعريضها للتلف، ففي هذه الكبيرة خراب الدنيا والدين، فكم في الزنا من استحلال محرمات، وفوات حقوق، ووقوع مظالم.
ومن خصائص الزنا: أنه يوجب الفقر، ويقصر العمر، ويجلب الهم، ويشتت القلب ويميته، ويباعد صاحبه عن ربه، ويقربه من الشيطان.
فالزنا أعظم مفسدة من القتل، ولهذا شرع فيه القتل على أشنع الوجوه وأفحشها وأصعبها، ولو علم العبد أن امرأته قتلت كان أسهل عليه من أن يعلم أنها زنت، فقد جاء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله»[26].
وظهور الزنا من أمارات خراب العالم وهو من أشراط الساعة.
· الزنا وأضراره الصحية:
الزنا ينبوع لأخبث الأمراض وأشدها فتكا بجسم الإنسان، ومن أخطرها الزهري والسيلان والإيدز، وغيرها.
1. الزهري:
ثالث مرض في العالم منوط به إزهاق النفوس وتضييع الأرواح، ولا يدع المصاب للموت قبل أن يفتت كبده ويذيب فؤاده، ممثلا به شر تمثيل، وهذا الداء ينتشر في العالم بانتشار فاحشة الزنا، وهذا المرض يعدي بمجرد اللمس عن طريق الزنا، أو بمجرد تقبيل المصاب لغيره أو ملامسته، وتسببه جرثومة خاصة تسمى "الأسبيرو شيت باليدا".
وتستطيع أن تلمس حقيقة هذا المرض، إذا علمت أنه لا يترك جزءا من أجزاء الإنسان حتى يترك فيه آثاره، ولا يدع فيه جهازا حتى يبطل عمله ويفسد وظيفته.
إن ظهور القرحة التآكلية أو التقرحية في موضع الإصابة، ما هو إلا الإنذار الخطير بغزو الجراثيم لجميع أجزاء الجسم عن طريق الأوعية الدموية جميعا، ومن ثم يحمر الجلد، ويأخذ الاحمرار شكل دوائر وردية لا تلبث أن تأخذ شكلا خاصا يتحول إلى ما يسمى بـ "الزهريات الجيبية" بجميع أشكالها، وأنواعها وتصيب جلد المريض بالزهري مظاهر مشوهة لهذا الداء العضال تعم جميع سطح الجسم، مثل: الطفح الزهري الحبيبي، والثعباني، والنكسي والعقدي، والصلع والبهق الزهريين بالإضافة إلى الأظافر التي يسهل إصابتها، وجعلها مشوهة سهلة الكسر مثقوبة القاعدة، وكذلك الأنسجة المحيطة بها لا تنجو من الالتهاب الداحس الزهري، بل هناك القروح العميقة، والأورام الصعبة التي تتغلغل في الجلد حتى تكشف عن العظام، وأربطة العضلات، وتنتشر في السطح الوحشي للركبتين، وفي السطح الخارجي للكتف وفي فروة الرأس، فتتلف العضلات، وتفتت العظام ونسيجها الداخلي، وتغزو الجراثيم مفاصلها؛ فتصيبها بالورم ويلتهب غشاؤها الزلالي.
ولعل أقبح الهدايا التي يقدمها الزاني إلى ذريته التعسة ويبتليهم بها هي الزهري الوراثي، وإن خطره على النسل ليهدد العالم بأشر مما تهدده به الحروب الذرية.
وينذر بأشد مما تنذر به البراكين الملتهبة، والزلازل المهلكة، والنكبات العظمى التي لا تبقي ولا تذر.
وإنك لتجد 40% من وفيات الأطفال في السنة الأولى من حياتهم راجعة إلى الزهري الوراثي، وتجد 60 % من حالات الإجهاض المتكرر في العائلات المصابة بهذا الداء راجعة إليه، وتجد في كل 100 طفل مولود بزهري وراثي 90 يموتون وتجد 20% من الحوامل على وجه العموم مصابة به، وتجد 13 لقيطا مصابا بالزهري الوراثي من كل 100 لقيط، بل تستطيع أن تقول إن 99% من أولاد المصابين يموتون، فيتبين لنا إلى أي مدى بلغ هدم الزنا للأسر وفتكه بالذرية.
2. مرض الهريس الزهري:
وهو من سلسلة الأمراض الجنسية، وقد تصاعد عدد المصابين في العالم بهذا المرض منذ عام 1390 - 1970، ففي الولايات المتحدة الأمريكية تسجل سنويا مليون إصابة جديدة، ويعد عدد المصابين فيها بحوالي 25 مليون شخص، وتشكل هذه الإصابات 15% من مجمل الأمراض الجنسية، وفي اليابان يفوق عدد الإصابات الجديدة بالقوباء عدة مرات عدد الإصابات بالسيلان والسفلي.
وفي أوربا الغربية يشكل الهريس التناسلي 20% من مجموع الأمراض المتناقلة عبر الجنس، فقد تم رصد أكثر من 10000 حالة في بريطانيا وحدها عام 1980م، وقد ذكر الدكتور مورس[27] - اختصاصي أمراض الهريس - أن نتيجة الدراسة التي قام بها في بريطانيا تشير إلى أن انتشار هذا المرض يزداد يوما بعد يوم، وأكثر الإصابات بين الشباب والشابات الذين تتراوح أعمارهم من 15-30 سنة، وأن هذا المرض يتناسب طرديا مع الجنس وطرق ممارسته وازدياده في المجتمع بطريقة غير صحيحة، فيما يقل بالمقابل عند الذين يحبون العفاف ويسعون إليه، وقد انتقل هذا المرض إلى عواصم أخرى مثل: بروكسل وأمستردام وكوبنهاجن واستكهولم وبرلين وباريس وجنوب أفريقيا.
3. السيلان:
من الأمراض الفتاكة التي تسببها هذه الفاحشة، ويسبب هذا الداء جرثومة تسمى بـ "الجونوككس"، ولكي تعرف مقدار انتشار هذا المرض في الهيئة الاجتماعية، ومدى تغلغله في أفرادها يكفيك أن أذكر مثلا من ذلك من إحصائيات لندن:
أن 60% من عدد أفرادها البالغين مصابون بهذا الداء، ويتراوح عدد المصابين في باريس من 75% إلى 90% وفي برلين من 60% إلى 70%، وفي نيويورك يوجد في كل مائة شخص 80 شخصا مصابا بالسيلان، هذا في أرقى البلاد حضارة، وأرسخها في الطب، وأكثرها ادعاء للمدنية والرقي.
وليس مرض السيلان بالعلة الهينة السهلة، التي لا تسترعي الانتباه، بل هو من أكبر المعضلات الاجتماعية الخطيرة، التي حار في علاجها الأطباء والساسة والمشرعون؛ فهو مرض فتاك، يعطل حركة المريض، ويشل تفكيره، وذلك فوق ما تبتلى به النساء، فيجعلهن مستودعا خطرا للعدوى، وأداة لتشويه النسل والقضاء على الذرية.
ولقد ثبت أن كل امرأة اتصلت برجل مصاب بهذا الداء لا بد أن تصاب هي الأخرى به، لاستعدادها لقبول العدوى، ولقابلية جهازها التناسلي لاستقبال جراثيمه المرضية، فتفتك به، وتعطل وظيفته إذا لم تفقدها تماما.
إصابة المرأة وإصابة الرجل:
o إصابة المرأة:
ويصاب مجرى البول بهذه الجراثيم، فيلتهب ويحمر، وتتضخم حافتاه، ويظهر القيح السيلاني الكريه الرائحة من فتحته، ويحدث تليف في "غدد ليتر" فتضيق فتحة مجرى البول، وتصيب جراثيم المرض "قناتي سكين"، اللتين تظهر فتحتاهما على جانبي مجرى البول.
وكثيرا ما تكون إصابة هذه القناة سببا في الانتكاس بالمرض والعدوى، وتمتد من قناة المجرى البولي إلى المثانة، وتصيب أعضاء أخرى كثيرة من الجهازين البولي والتناسلي،وإصابة المرأة بالسيلان وبال عليها، وعلى أولادها، وعلى زوجها، وعلى الهيئة الاجتماعية بأسرها، وحسبك أن تعلم أن الطب لم يتوصل حتى الآن إلى علاج لهذا المرض.
o إصابة الرجل:
ويصيب هذا المرض الرجل إصابات بالغة؛ إذ تلتهب عنده فتحة البول ويشتد احمرارها، وتصاب حوافها بالورم، ويمتد الورم في عضو التناسل؛ فيعوق التبول، وتهلك الجراثيم الغشاء الداخلي لمجرى البول ثم ينتهي الأمر بضيق مجرى البول، وتصاب البروستاتا بالسيلان بل وقد تصاب كذلك الكليتان بالالتهابات السيلانية؛ فترتفع درجة حرارة الزاني، وتعتريه القشعريرة؛ وتمتد الإصابة إلى الحوض والكليتين فتصيبهما جميعا. وحسبك انسداد الحالبين، واحتباس البول، والتسمم اليوريمي، والموت بعد الألم المبرح.
إحصائيات مرض السيلان[28]:
يعتبر مرض السيلان من أكثر الأمراض المعدية انتشارا في الوقت الحاضر، وقد يصاب به 200 - 500 مليون شخص في كل عام معظمهم في سن الشباب ممن تتراوح أعمارهم بين 15إلى 28سنة، وغالبيتهم من طلاب المدارس والجامعات.
ففي الولايات المتحدة الأمريكية مثلا يتراوح عدد الإصابات المسجلة رسميا بالسيلان ما بين 4، 5 مليون إصابة.
أما البرازيل فتسجل يوميا حوالي عشرين ألف إصابة جديدة في العيادات، وفي فرنسا يقدر عدد المصابين بالسيلان سنويا 500 ألف رجل وامرأة وطفل، وقد بلغ عدد المصابين بالسيلان لعام 1418هـ / 1998م حسب تقرير منظمة الصحة العالمية حوالي خمسة ملايين شخص.
أما الوفيات فيبلغ عددهم حسب ذات التقرير ثمانية آلاف شخص.
4. القرحة الرخوة:
والزنا فوق ما يسبب من الزهري، والزهري الوراثي، والسيلان، يعرض الأشرار كذلك للإصابة بالقرحة التي تسببها جراثيم تسمى "باسلات دكري"، ويكثر ظهورها في جسم القضيب أو العانة، وفي الإناث يكثر وجودها في الشفرتين والشوكة والبطين والفخدين، وفي فتحة الشرج، والقرحة سريعة العدوى، ويوجد منها نوعان هما القرحة الرخوة المرتفعة و القرحة الرخوية الثعبانية، وحسبك أنها كثيرا ما تسبب الاختناق أو الانكماش كما يحصل في السيلان. وهذا بجانب تعرض المصاب للغنغرينا والخراجات والأنزفة الدموية، وتقيح الغدد الليمفاوية وقنواتها، وإتلافها التام للعضو المصاب بها، وغير ذلك من مختلف الإصابات.
5. القرحة الأكالة:
والقرحة الأكالة من الأمراض الخطرة التي يحدثها الزنا، وتمتاز هذه القرحة، - كما يدل اسمها - بشدة تأثيرها، وإتلافها المستمر للأنسجة التي حولها مع عدم رضوخها للعلاج، تعمل على تآكل أعضاء التناسل، وإحداثها للأنزفة الدموية، والغنغرينا، وتسمم الدم، وتهتك الأنسجة المختلفة كالعضل والعظم، إلى غير ذلك من سائر الأجزاء.
6. أمراض الزنا النفسية:
والزنا يحدث في مقترفيه أمراضا نفسية شاذة، وعللا جنسية مهلكة؛ وذلك لتأثير هذه الجريمة على المجموعة العصبية، ولانحراف المراكز العليا عن وظيفتها الطبيعية، حتى يغدو المرء بممارسة هذه العادة إنسانا غير طبيعي، ويغدو من الناحية الجنسية عليلا شاذا.
وأمثال هذه الأمراض الجنسية النفسية التي تحيط بالزناة وتفقدهم رجولتهم: أمراض العنف واحتمال الأذى، والعشق الخيالي، والنفور الجنسي، وتحقير المرأة، وغيرها من العلل الشاذة.
بل إن الأغرب من ذلك أن الزنا يوقع مرتكبه في مرض أشد منه خطورة وهو اللواط؛ إذ يبلغ الحال بالزاني أن تضطرب أعصابه، ويختل مركز الشعور الجنسي في مخه ويفسد مزاجه فيصبح لائطا، والزنا - بما ذكرنا - وباء وشر مستطير"[29]. وصدق الله العظيم حيث يقول: )ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا (32)( (الإسراء).
7. مرض الإيدز:
إن عدد الإصابات بوباء الإيدز منذ اكتشافه في أوائل الثمانينات حتى يومنا هذا في تصاعد مستمر ومخيف، فحسب إحصاءات منظمة الصحة العالمية التي كشف النقاب عنها في المؤتمر العالمي الخامس لمرض الإيدز المنعقد بكندا 1989م، فإن عدد الإصابات بهذا المرض حتى عام 1985م لم يتجاوز 70000 إصابة. ثم ارتفع هذا العدد ما بين عامي 1986م - 1988م ليصبح حوالي 300000 إصابة.
ويقدر عدد الإصابات ما بين عامي 1989م ـ1990م بأنه يتراوح مابين 700000 إصابة، ومليون ونصف المليون إصابة، وقد بينت منظمة الصحة العالمية بأنه إذا لم يستطع الأطباء إيجاد وسيلة فعالة للقضاء على هذا الوباء في السنوات المقبلة، فإن عدد الإصابات سيرتفع إلى حوالي خمسة ملايين إصابة. ولكن يبدو أن توقعات منظمة الصحة العالمية عن عدد المصابين لهذا المرض كانت متواضعة، فقد بلغ عدد المصابين بالإيدز عام 1998م حوالي 70930000 إصابة (35 مليون مصاب من الذكور، 34 مليون مصابة من الإناث)، وبلغ عدد الوفيات 2285000 شخص، وذلك حسب الإحصاءات الصادرة عن المنظمة عام1999م.
2. اللواط والسحاق وأضرارهما:
· اللواط: هو إتيان الرجل الرجل، وهو من أغلظ الفواحش تحريما، وقد ذمه الله - عز وجل - وعاب من فعله، قال سبحانه وتعالى: )ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين (80) إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون (81)( (الأعراف)، فجعله من أقبح الفواحش؛ ولذلك عذب قوم لوط بالخسف؛ حتى لا يأتي ذكر ذكرا. وأكد على ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط ثلاثا»[30].
حد اللواط:
أجمع أهل العلم على تحريمه، واختلفوا في حده إلى أقوال منها:
o يقتل الفاعل والمفعول به؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط؛ فاقتلوا الفاعل والمفعول به»[31].
o يحد حد الزنا، وقالوا إن اللواط يشبه الزنا من حيث الإيلاج في الفرج فأخذ حكمه.
o يؤدب بالحبس ويعزر.
· السحاق: هو أن تدلك المرأة فرجها بفرج الأخرى. وهو حرام، وتؤدب من فعلت ذلك؛ لأنه مباشرة دون الفرج؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد»[32].
الأضرار التي تنجم عن اللواط:
وإذا كان الزنا خطرا يهدد البشرية في النواحي الصحية والنفسية والخلقية، فإن اللواط أعظم منه خطرا وأشد ضررا، ففيه ما في الزنا من الأمراض المتقدمة وفيه من العلل والمفاسد الأخرى الكثير والكثير. وقد كتب د. محمد وصفي في كتابه النفيس "القرآن والطب" عن هذه الأضرار فذكر منها:
o الانعكاس النفسي: إن عادة اللواط لتغزو النفس وتؤثر في الأعصاب تأثيرا خاصا، أحد نتائجه الإصابة بالانعكاس النفسي في خلق الفرد، فيشعر في صميم فؤاده أنه ما خلق ليكون رجلا، وينقلب به الشعور إلى الشذوذ، فينعكس شعور اللائط انعكاسا غريبا يميل إلى بني جنسه، وتتجه أفكاره الخبيثة إلى أعضائهم التناسلية.
o التأثير على المخ: واللواط بجانب ذلك يسبب اختلالا كبيرا في توازن عقل المرء، وارتباكا في تفكيره، وبلاهة في عقله، وضعفا في إرادته، ويرجع ذلك لقلة الإفرازات الداخلية التي تفرزها الغدة الدرقية، والغدد التي فوق الكلى؛ لأنها تتأثر باللواط تأثيرا مباشرا؛ فيضطرب عملها.
وإنك لتجد علاقة وثيقة بين الينورستانيا واللواط، فيصاب اللائط بالبله، والعبط، وشرود الفكر، وضياع العقل والرشاد.
o علاقة اللواط بالأخلاق: واللواط لوثة أخلاقية، ومرض نفسي خطير لا يفعله إلا سييء الخلق، فاسد الطبع، ضعيف الإرادة، ولا يتحرج بالفعل والسطو على الأطفال؛ لإشباع عاطفته الفاسدة، والتجرؤ على ارتكاب الجرائم التي تسمع عنها وعن فظائع أخبارها في الجرائد والحوادث التي في المحاكم، وفي كتب الطب.
o اللواط وعلاقته بالصحة العامة: اللواط فوق ما ذكرت يصيب مقترفيه بضيق الصدر، وخفقان القلب، ويعرضه للأمراض.
o التأثير على أعضاء التناسل: يضعف اللواط مراكز الإنزال الرئيسية في الجسم، ويعمل على القضاء على الحيوانات المنوية فيه، ويؤثر على الجسم، ويؤدي إلى عدم القدرة على التناسل والإصابة بالعقم.
o التيفود والدوسنتاريا: إن اللواط يسبب العدوى بالحمى التيفودية والدوسنتاريا، وغيرها من الأمراض الخبيثة، التي تنتقل بطريق التلوث بالمواد البرازية المزودة بمختلف الجراثيم، المملوءة بشتى أسباب العلل والأمراض[33].
سابعا. هل حد الزنا فيه قسوة واعتداء على الحرية الشخصية، وانتهاك لحقوق الإنسان؟!
الحق أن هذا الإشكال لا يصدر إلا من السذج البلهاء، أو من أعداء الإسلام الذين يريدون تشويهه، وصد الناس عنه.
إن الزنا في نظر الإسلام وفي واقع الأمر جريمة من أشنع الجرائم وأقذرها، ومنكر من أخبث المنكرات، وأنكرها كل دين، بل أنكرها العقلاء والراشدون من الناس، كما أنكرها أصحاب المدنية الغربية جهرا وإن قبلوها سرا، وذلك لما فيها من عدوان على حقوق الأزواج، واختلاط الأنساب، وهدم الأسر.
ثم لعلك لا تعجب لما تقرأ من الأخبار الواردة من أمريكا وأوربا، عن آباء قتلوا أولادهم بأيديهم، وأتوا على الأسرة كلها في لحظة واحدة، دون أن يتعين فيهم شعور التردد قبل الجريمة، أو الندم بعدها؛ وذلك شفاء لما في نفوسهم من شكوك في صحة نسب الأولاد إليهم، وهيهات أن يخلو شعور من الشك في نسب أبنائه إليه مع هذه الإباحة المطلقة بين النساء والرجال في أي مكان وزمان، ولذلك كانت العقوبة شديدة وصارمة؛ لأن في هذه الجريمة هدرا للكرامة الإنسانية، وتصدعا لبنيان المجتمع، وفيها تعريض النسل للخطورة؛ حيث يكثر اللقطاء وأولاد البغاء، ولا يكون هناك من يهتم بهم، وينشئهم النشأة الصالحة.
ومن أهداف الشريعة الإسلامية الغراء، وأغراضها الأساسية حفظ الضرورات الخمس وهي: العقل، والنفس، والدين، والعرض، والمال. وسميت الضرورات أو الكليات الخمس؛ لأن جميع الأديان والشرائع قررت حفظها، وشرعت ما يكفل حمايتها؛ لأنها ضرورية لحياة الإنسان.
ولما كان النسل هو أحد هذه الضرورات؛ لذا شرع الإسلام من العقوبات الصارمة الزاجرة ما يقطع دابر هذه الجريمة، ويحقق الأمن والاستقرار للمجتمع.
ولعل بعض الذين تأثروا بالثقافة الغربية يرون في هذه الحدود والعقوبات شيئا من الشدة والقسوة، وأنها لا تتفق مع روح العصر، وتعارض الحرية الشخصية، وخاصة حرية المرأة، التي أطلقها لها الغرب باسم التحرر والمساواة تحت شعار الديمقراطية التي كفلها القانون.
والواقع أن هذه العقوبة التي شرعها الإسلام صارمة، ولكنها في نفس الوقت عادلة، وليس فيها شيء من القسوة، بل تكمن الرحمة في طياتها، والذي يعاقب بهذا العقاب، أليس هو الشخص المستخف الذي يسعى في طريق شهوته كالحيوان، لا يبالي بأي طريق نال الشهوة، ولا ما يترتب عليها من أخطار وأضرار؟!
إن الذي يرتكب هذه الجريمة لمجرد الاستمتاع والشهوة، ليس إنسانا بل هو حيوان؛ لأن الحيوان تسيطر عليه شهوته فهو يسير تبعا لها، أما الإنسان فيحكمه عقله، ولهذا يسير مع منطق العقل. وليست هذه الغريزة التي أودعها الله في الإنسان لمجرد نيل الشهوة أو قضاء الوطر، بل هي من أجل غاية نبيلة سامية هي: بقاء النسل.
والله - عز وجل - بحكمته العالية شرع هذا الارتباط بين الذكر والأنثى، ولكنه لم يسمح به بطريق الفوضى كما تفعل الحيوانات، حيث يعتدي بعضها على بعض وإنما سمح به في دائرة الطهر والعفة، وبطريق الزواج الشرعي الذي يحقق الهدف النبيل، والغاية الإنسانية في بقاء النوع الإنساني، كما قال سبحانه وتعالى: )والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة( (النحل: ٧٢).
والإسلام يعتبر الزنا لوثة أخلاقية، وجريمة اجتماعية خطيرة ينبغي أن تكافح بدون هوادة، والإسلام رصد العقوبة الرادعة، الرجم للمحصن، والجلد لغير المحصن، وأعداء الإسلام يقولون: إنها عقوبة شنيعة، ويقولون: كيف يحكم الإسلام بإهدار آدمية الإنسان حين يأمر بجلده على مرأى ومسمع من الناس؟! ثم كيف تكون هذه الوحشية في قوتها إلى أن يلقى الإنسان في حفرة، ثم تتناوله الأيدي بالحجارة رجما إلى أن يموت؟! هكذا يقولون.
قال سبحانه وتعالى: )كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا (5)( (الكهف)، ولا ننكر أن في شريعة الإسلام الجلد والرجم، يقول سبحانه وتعالى: )الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة( (النور: ٢)، وقال صلى الله عليه وسلم: «اغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها»[34]. ولكنه لا يفرض هذه العقوبة الصارمة - الجلد والرجم - لمجرد التهمة أو الظن، بل على العكس يوجب التحقيق والتثبت ويدرأ الحدود بالشبهات، ويشترط شروطا شديدة لا تكاد تتوفر، وهي مشاهدة أربعة رجال مؤمنين عدول يشهدون بوقوعها، ويشهدون على مثل ضوء الشمس، أو اعترافا صريحا لا شبهة فيه من الشخص الذي قارف الجريمة.
وقد رغبت الشريعة الإسلامية في التستر على عورات المسلمين، وإمساك الألسنة عن الجهر بالفواحش - وإن كانت وقعت - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل جاء يشهد: هلا سترتها بثوبك، يقول الله سبحانه وتعالى: )إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون (19)( (النور).
أبعد هذا كله يقولون: إن الإسلام يظلم الإنسان ويهدر آدميته بما يأخذ به من جلد بالسياط، وفضح أمام الملأ من الناس؟! أفلا يسأل هؤلاء أنفسهم: ماذا يبقى للإنسان من آدميته وكرامته إذا تركت هذه الفاحشة يسعى بها بعض الآدميين من غير استحياء، ثم لا يضرب على أيديهم؟
والغربيون لا يعتبرون الزنا جريمة يعاقب عليها القانون، إلا إذا كان بالإكراه اعتداء على حرية الغير، أما إذا كان بالتراضي فليس هناك ما يدعو إلى العقوبة؛ لأنه حينئذ يخلو من فكرة العدوان، فالزنا - في نظرهم - وإن كان عيبا، إلا أنه ليس بجريمة على كل حال، فإذا زنى الرجل البكر بامرأة بكر، فإن فعلهما ليس بفاحشة مستلزمة للعقوبة، إلا إذا كان بالإكراه، فإنه يعاقب عقوبة خفيفة، وأما إذا زنى بامرأة متزوجة، فللزوج أن يطالب بتعويض - غرامة مالية - من الرجل الذي أفسد زوجته.
فنظرتهم إذن هي نظرة مادية، وهم المتحضرون المدنيون، وأصحاب الحضارات هم الذين يعانون من عدم تطبيق الشريعة الإسلامية، والأمراض ظهرت في ساحاتهم بالملايين.
من أجل ذلك تهدم المجتمع، وتخربت الأسرة، وانتشرت الأوبئة والجرائم الخلقية فيهم، فأين هذا من تشريع العليم الخبير الذي صان الأعراض، وحفظ الأنساب، وطهر المجتمع من لوثة تلك الجريمة الشنيعة؟!
والمتحدثون عن حقوق الإنسان يقولون: لا بأس أن يحبس فترة من الزمن ثم يخرج لكي يمارس عمله، ويتجاهلون أنه في مثل هذا الحبس سوف يخالط من هو أشد إجراما منه ليتعلم منه، ويخرجان إلى المجتمع بعد أن أصبحا إمامين في الضلال؛ ليضلا الناس عن طريق رب الناس، وهذا هو المشاهد.
فضلا عما يترتب على الحد من تكفير لهذا الذنب، والمتتبع يجد أن تنفيذ العقوبة لا يتم إلا في أعداد محدودة، ولا ضرر في ذلك، مادام لصالح المجتمع والفرد، والأسرة، وتوفير الأمن.
الواقع يشهد للشريعة:
لعل ما حدث في أوربا والبلاد الغربية مما يؤيد نظرية الشريعة؛ فلقد تحللت الجماعات الأوربية، وتصدعت وحدتها، وذهب ريحها، وما ذلك إلا من شيوع الفاحشة، والفساد الخلقي، والإباحية التي لا تعرف حدا تنتهي إليه.
وما أشاع الفاحشة، وأفسد الأخلاق، ونشر الإباحية، إلا إباحة الزنا وترك الأفراد لشهواتهم، واعتبار الزنا من الأمور الشخصية التي لا تمس صالح الجماعة.
ولعل ما يواجه البلاد غير الإسلامية اليوم من أزمات اجتماعية وسياسية يرجع إلى إباحة الزنا، فقد قل النسل في بعض الدول قلة ظاهرة، فأنذر بفناء هذه الدول، أو توقف نموها.
وترجع قلة النسل أولا وأخيرا إلى امتناع الكثيرين عن الزواج، وإلى العقم الذي ينتشر بسبب الزنا واللواط بين الناس، وعليه فإن العقوبة إن بدت شديدة فإن الرحمة في طياتها.
يقول صاحب ظلال القرآن: إن الإسلام لا يتشدد في العقوبة هذا التشدد إلا بعد تحقيق الضمانات الوقائية المانعة من وقوع الفعل، ولا يوقع العقوبة إلا في الحالات الثابتة التي لا شبهة فيها. فالإسلام منهج حياة متكامل لا يقوم على العقوبة؛ إنما يقوم على توفير أسباب الحياة الطبيعية النظيفة، ثم يعاقب بعد ذلك من يدع الأخذ بهذه الأسباب الميسرة ويتمرغ في الوحل طائعا غير مضطر.
والله أعلم بمصالح العباد، وأعرف بطلباتهم وطبائعهم، فليس لمتشدق أن يتحدث عن قسوة العقوبة الظاهرة؛ فهي أرأف مما ينتظر الجماعة التي يشيع فيها الزنا، وتفسد فيها الفطرة.
والتشديد في عقوبة الزنا لا يغني وحده في صيانة حياة الجماعة، وتطهير الجو الذي تعيش فيه، والإسلام لا يعتمد على العقوبة في إنشاء الحياة النظيفة وإنما يعتمد على الضمانات الوقائية، وعلى تطهير جو الحياة كلها من رائحة الجريمة[35].
وعقوبات الزنا في الشريعة الإسلامية لم تأت ارتجالا، ولم توضع اعتباطا، وإنما جاءت بعد فهم صحيح لتكوين الإنسان وعقليته، وتقدير دقيق لغرائزه وميوله وعواطفه، ووضعت لتحفظ مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، فهي عقوبات علمية؛ لأنها وضعت على أسس العلم بالنفس البشرية، وهي عقوبات تشريعية؛ لأنها شرعت لمحاربة الجريمة، ولقد كان لعقوبات الزنا التي جاءت بها الشريعة الإسلامية أثرها في محاربة الجريمة في كل زمان ومكان"[36].
وقد يكون من الأوفق هنا أن ننهي الحديث في هذا الموضوع بخاتمة إجمالية مبلورة وافية، سجلها الباحث د. عبد الوهاب البطراوي في نهاية دراسة موسعة له بعنوان "جريمة الزنا بين الشرائع السماوية - والقوانين الوضعية" قال فيها: ننتهي بهذا البحث إلى إظهار مدى تفوق الفقه الإسلامي على كل ما سبقه من أفكار دينية، وما تلاه من أفكار وضعية بشأن علاج الظاهرة الجنسية بوجه عام، وجريمة الزنا بوجه خاص.
فالتشريعات الوضعية نظرت إلى الأفعال الجنسية بمنظور فردي مسايرة لمبدأ "الحرية الفردية"، وما تفرع عنه من مبادئ أخرى في شتى المجالات، منها "الحرية الجنسية"، الذي تحول فيما بعد إلى "فوضى جنسية"، حيث ساهم هذا الإسناد في انتشار الفاحشة انتشارا كبيرا، فأصبحت القاعدة هي الإباحة، والاستثناء هو التحريم.
بينما الفقه الإسلامي نظر إلى تلك الأفعال من خلال مبدأ التحريم المطلق، إلا إذا كانت بين رجل وامرأة في ظل علاقة زوجية صحيحة وقائمة، وذلك بقول الله سبحانه وتعالى: )والذين هم لفروجهم حافظون (5) إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين (6)( (المؤمنون)؛ فالإسلام إذن لم يشأ كبت الغرائز الجنسية، ولا إطلاقها، ولكنه أراد - فقط - تحجيمها، وفي إطار من هدف اجتماعي يقيد الفرد والمجتمع من خلفه، إذا خرجت الغريزة عنه فقدت شرعيتها، وفي ذلك حماية فعالة للمجتمع من الفاحشة.
أما التشريعات الوضعية فترتب على نظرتها لجريمة الزنا - متأثرة بعوامل عدة - أن قام البعض بإباحة الزنا، مكتفيا بمنح الزوج المجني عليه الحق في طلب الطلاق من زوجته الزانية، وهو الاتجاه الراجح بالدول اليهودية والمسيحية، بدعوى أن الويل - كل الويل - لقانون لا يساير الرأي العام، وهو ادعاء باطل، فالويل كل الويل لحياة لا يراقبها دين، وإن كان البعض الآخر يجرم الزنا، فقد قصر التحريم على المتربصين وحدهم، وأباحه لغيرهم، ووضع له عقوبة هشة لا تردع خاطئا، ولا تقوم معوجا.
فاستخف الإنسان بأمر الزنا؛ فارتكبه جهارا نهارا، وبلا خجل أو وجل، حتى أصبحت الفاحشة ظاهرة عامة مميزة للمجتمع المعاصر، وهذا ما يهدد المجتمع البشري في أعز ما يملك (البنية الاجتماعية).
بينما الفقه الإسلامي على النقيض، فقد نظر إلى الزنا بمنظور اجتماعي لا فردي، وفي أحضان العامل الأخلاقي، فاعتبره جريمة من أخطر الجرائم الاجتماعية.
ومن ثم توسع في مجال تجريمها؛ لتشمل المتزوجين وغير المتزوجين، وتشدد في عقوبتها تبعا لشدة خطرها الاجتماعي.
وفي ذلك صيانة أكيدة للمجتمع من الفاحشة، ومن ثم حماية البنية الاجتماعية كوسيلة للعمران والتقدم، فلا يخفى أن الزنا يدمر الإنسان الفرد بدنيا ومعنويا، ثم يسوق المجتمع كله سوقا حثيثا نحو حفرة القبر عن طريق الأمراض الجنسية السرية.
فكان لتلك الأفكار الرئيسية بصماتها على النصوص الوضعية المعاصرة لجريمة الزنا، التي اتسمت بالقصور والتخاذل في حماية المجتمع، وإخلالها بالمبادئ الأخلاقية، وتعارضها مع القيم الدينية الضابطة للسلوك الاجتماعي، ونذكر من ذلك:
1. من الناحية التجريمية:
· وفقا للتشريعات الوضعية لا يحرم الزنا، إلا إذا كان طرفاه - أو أحدهما - متزوجين، ولا جريمة إذا تم الزنا بين غير المتزوجين، ونظرا لأن طبقة غير المتزوجين تمثل الغالبية العظمي من أفراد أي مجتمع، وأن الحافز الجنسي يكون لدى أفرادها أقوى من المتزوجين - الذين يجدون لغرائزهم مصرفا شرعيا - عمت الفاحشة، وساد الفساد بين الناس أجمعين، وعم الوباء، وظهر القحط وكثرت الأمراض، ونذكر منها مرض الإيدز، الذي أرسله الله ليدمر به ما شاء أن يدمر من المجتمعات التي انتشرت فيها ذات الفاحشة؛ فالجزاء الإلهي مرتبط - ولا بد - بالتحلل الأخلاقي، ولرحمته تعالى كان الدمار بقدر الانتشار.
ومن معجزات الإسلام في هذا المجال أن يتنبأ بما عليه المجتمع البشري اليوم، وذلك منذ خمسة عشر قرنا من الزمان، فيقول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: «لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع، التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا»[37].
· تفرق التشريعات الوضعية بين الزوجة الزانية، والزوج الزاني في المعاملة التجريمية والعقابية، فتتشدد مع الزوجة، وتترفق مع الزوج، وهذا ما يأباه الإسلام، الذي نشر الحق وأقر العدل، فسوى بين الزناة المتزوجين، سواء كانوا رجالا أو نساء، وهذا ما يجب اتباعه، إعمالا لقاعدة المساواة بين الناس أمام القانون.
· سارت العديد من التشريعات الوضعية على ضلالها، وفقا لمبدأ الحرية الجنسية؛ فأباحت الزنا بين المحارم إلا إذا كان أحدهما - أو كلاهما - متزوجا، فالزنا بين المحارم مثل الزنا بين غيرهم ولا فرق!! مما يترتب عليه العديد من الآثام والأوزار التي ينفر منها كل عقل بشري متحضر؛ من ذلك إباحة زنا الأخ المراهق بأخته المراهقة، وزنا الابن بأمه المطلقة أو المترملة، بينما الإسلام يتشدد كثيرا في تلك الجريمة عن جريمة الزنا العادية، حيث يفرض عقوبة الإعدام على الزناة بالمحارم، سواء كانوا متزوجين أو غير متزوجين، وهو الاتجاه الواجب العمل به، فالأقارب بوجه عام، والمحارم بوجه خاص، تجمعهم الثقة في التعامل، تلك الثقة التي استخدمها الزناة سلاحا لتسهيل مهمتهم الدنيئة، وسهولة ارتكاب الجريمة يقابلها - ولا بد - قسوة في العقاب.
· جنح الفقه والقضاء، في العديد من الدول العربية، عن الأحكام الشرعية للأحوال الشخصية، وهي صاحبة الاختصاص الأصلي في هذا المجال، حيث اعتبروا الزوجة الزانية في حل من العقاب، متى وقع زناها فور الطلاق البائن[38]، بدعوى تحررها من الالتزام الزوجي، والواجب مساءلة كل زوجة تزني خلال عدتها الشرعية أيا كان نوعها، سواء من طلاق رجعي[39]، أو بائن، أو وفاة، فالهدف من تجريم الزنا، وفرض مدة العدة حماية الأنساب؛ من الاختلاط.
2. من الناحية الإجرائية:
تفوق الإسلام أيضا في هذا المجال؛ فقد وضع الجانب الإجرائي للزنا باعتباره جريمة غاية في الحساسية، وترتدي ثوبا غاية في الشفافية، وضررها على الأسرة بحجم شيوعها، وعلاجها بمدى كبت هذا الشيوع؛ لهذا حارب انتشار الفاحشة على كل محور، وذلك بتربية رأي عام فاضل يتنزه عن الحديث بأمر الفاحشة، وبالأولى إذاعتها أو إعلانها، فكل ما يسهل قوله يكثر فعله، فيقول سبحانه وتعالى: )إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة( (النور: ١٩).
فإذا ارتكبت الفاحشة حرم الإسلام انتشارها عن طريق حد القذف بالزنا، حيث يعاقب من أشاعها بغير بينة شرعية، فيقول سبحانه وتعالى: )والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة( (النور:4)، وعكس ذلك التشريعات الوضعية، فهي وإن وضعت - لهذه الاعتبارات - الزنا كجريمة، لكن دعواها تتوقف على شكوى من الزوج المجني عليه، حفظا لكيان الأسرة من التصدع، فقد فاتها الكثير، من ذلك إقرارها للعديد من الدفوع المسقطة للجريمة، التي تعد - بحق - رمزا لشيوع الفاحشة بعد ارتكاب الجريمة ورفع أمرها للقضاء. فإن سقطت الجريمة بحكم قضائي، فالفضيحة لن تسقط، والهمسات لن تكف، والألسنة لن تجف، لمجرد صدور حكم قضائي بانتفاء التهمة، وبالتالي يجب إلغاء كل تلك الدفوع؛ لانتفاء الحكمة من تقنينها.
وكان الإسلام حصيفا لتلك النتيجة منذ البداية، فهو لا يعتد بتلك الدفوع، فالزنا جريمة اجتماعية؛ لأنها تقع على حق من حقوق الله، والدفوع هنا بمثابة مسقطات للجريمة، ولا يوجد من ينوب عن الله في هذا الحق، وقد رورد في الأثر: «إذا بلغ الإمام فلعن الله الشافع والمشفع»[40].
3. من الناحية العقابية:
يتفرد الفقه الإسلامي بخطة عقابية سليمة، بناها على أسس أخلاقية رشيدة؛ فالعقوبات الحدية - وإن بناها على أساس نفعي مادي لا اعتبار فيها للظروف الشخصية للجاني، فهي لأمهات الجرائم، عكس ذلك العقوبات التقريرية، فجاءت متسمة بالشدة، إلا أن الله - رحمة منه بعباده - وضع نوعين من المعوقات:
o معوقات نفسية أمام الإنسان، حتى لا يرتكب الجريمة.
o ومعوقات قانونية أمام القاضي، تجنبا للحكم بالعقوبة.
ومثل ذلك في جريمة الزنا الحدية، قطع كل الطرق التي توصل الإنسان إلى الزنا، حيث حرم النظرة الشبقية، والاختلاء بامرأة أجنبية، وتقارب الأنفاس بين الرجال والنساء، وهو ما يمكن تسميته بالسياسة الوقائية في علم الطب، فالطبيب الماهر الذي يريد الوصول بمجتمعه إلى أقصى درجات السلامة، وبمريضه إلى أقصى درجات العافية، يمنعه ابتداء من تناول بعض الأطعمة، وهذا حق؛ فالوقاية خير من العلاج، فالأفضل أن نمنع الجرائم قبل وقوعها، من أن نعاقب عليها بعد أن تقع.
وكذا ألزم القاضي المسلم بنظم الأدلة القانونية - لا الإقناعية - في الإثبات حيث تشدد في قبول الأدلة بهدف التضييق من دائرة التجريم بالزنا، وبالتالي تتحول العقوبة من المجال الحدي إلى المجال التعزيري؛ فالعقوبة الحدية، وإن كان ظاهرها القسوة، فباطنها الرحمة.
فيما يختص بعذر قاتل الزناة: اتجهت التشريعات الوضعية اتجاها غير سليم من الناحية التشريعية والمنطقية، حيث فصلت أحكام العذر عن أحكام جريمة الزنا؛ فترتب على ذلك العديد من المثالب المنطقية، ومن ذلك قصر حق الاستفادة من العذر على الزوج بوصفه رجلا، أو الزوج والزوجة وبعض المحارم في بعض التشريعات، فأصبح العذر خاصا وذا طبيعة مخففة من العقوبة، وقد جلبت تلك الطبيعة العديد من المشاكل القانونية خاصة في مصر؛ فالعذر أصبح يشكل فخا قانونيا لوأد حياة الزوج المجني عليه في جريمة الزنا، الذي ما قنن العذر إلا لصالحه؛ فلزوجته وعشيقها المتلبسين بجريمة الزنا، وعلى سرير زوجها الطاهر، أن يقتلاه فور مشاهدته، وذلك من دون أدنى مسئولية عليها، لا عن جريمة الزنا، ولا عن جريمة القتل!!
تلك النتائج قد نأى عنها الإسلام منذ البداية، حيث ربط أحكام هذا العذر بجريمة الزنا، ربط العلة بمعلولها، فكما أن الزنا جريمة اجتماعية، يكون العذر كذلك؛ حيث منحه لكل إنسان في المجتمع بوصفه مجنيا عليه في جريمة الزنا، وبالتالي يكون العذر عاما، ثم قام الإسلام من ناحية أخرى بربط العذر بأحكام دفع الصائل - الدفاع الشرعي - وهذا حق، فالدفاع عن الشرف أهم من الدفاع عن المال، وبهذا أصبح العذر معفيا من العقاب.
ولهذا وغيره الكثير قلت: إذا كان العالم اليوم يبحث عن بديل عقابي جديد، فالشريعة الإسلامية هي البديل الذي لا بدل منه، وتطبيقها أصبح اليوم ضرورة حتمية لا غنى عنها لارتقاء أمة من الأمم، أيا كانت ديانتها، فالقانون الفرنسي هو النجم الشارد الذي ضل وأضل تلك التشريعات الوضعية من خلفه...
والقانون الإسلامي هو النجم الهادي إلى طريق الحق، فيقول سبحانه وتعالى: )سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق( (فصلت: 53)، ووسيلة ذلك أن يتاح لغير المسلمين العلم بها - كما لو تم نشرها بلغة أجنبية - وتلك مسألة أصبحت وشيكة، فيقول سبحانه وتعالى: )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)( (الحجر). فالإسلام هو دين المرونة لا الجمود، دين السماحة لا التعصب، دين مسايرة لا المكابرة، دين الحضارة لا التخلف"[41].
أفشريعة ربانية أبصر وأعلم، أم تشريع بشري وضعي ناقص معيب؟ أيهما أصلح؟! اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.
الخلاصة:
· الإسلام منهج حياة متكامل لا يعتمد على العقوبة فقط في معالجة الأخطاء، وإنما يحرص أولا على توفير أسباب الحياة الطبيعية، ثم يعاقب بعد ذلك من يعرض عن الأخذ بهذه الأسباب الميسرة.
· لقد وضع الإسلام في شأن الزنا منهجا في التعامل مع الغريزة الجنسية، فالله تعالى خالق الإنسان، عليم بما فطر عليه من الدوافع، والغرائز المركبة في طبيعته، وفي إطار هذا التنظيم شرع الإسلام ما يلي: شرع الزواج، وحرم الرهبانية، واعتبر تصريف الشهوة بالحلال من الأعمال الصالحة، ولم يتدخل الإسلام في كيفية العلاقة بين الزوجين وأعطاهما الحرية التامة في أن يعيشا سويا، كما شدد الإسلام على الغض من النظر إلى المحرمات، ووضع طريقا قويما للشباب الذين لا يستطيعون الزواج فنهج لهم الصيام حفاظا على أنفسهم وضمانا لسلامة المجتمع الذين يعيشون فيه..
· ومن حكم تحريم الزنا: حفظ الأنساب ونقاوتها، وحماية الأعراض والأخلاق من التلوث، والصحة من الأمراض، مثل: الزهري والسيلان والقرحة الرخوة والقرحة الأكالة ومرض الإيدز، فضلا عن المفاسد الإجتماعية والخلقية لهذه الجريمة، هذا وإن اللواط يشترك مع الزنا في أمراض كثيرة وينفرد عنه بأشياء أخرى مثل: الاضطراب النفسي والخلقي والعاطفي، والسير في طريق الشذوذ بلا نهاية إلا الموت والحتف.
· وعقوبة الزنا في القانون الوضعي هي الحبس عند الإكراه، وليست بعلاج رادع؛ فالمحبوس يخرج غالبا وقد خالط الأشرار والمجرمين المحترفين؛ فيخرج أكثر تصميما على الإجرام وأكثر إتقانا له، ونسبة الجرائم واستمرارها في المجتمعات الغربية شاهد على عدم جدوى هذه العقوبة، على عكس العقوبة الشرعية الإسلامية الرادعة الحاسمة.
(*) الجنايات وعقوباتها في الإسلام وحقوق الإنسان، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط1، 1423هـ/2003م.