ادعاء أن الإسلام بعيد عن المبادئ الإنسانية في تشريع حد السرقة (*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المغالطين أن الإسلام تجاوز كل المبادئ الإنسانية والقوانين الوضعية عندما شرع قطع يدالسارق، وهو في زعمهم بعيد كل البعد عن مجاراة الإنسانية في تقدمها وسباقها العلمي.
وجوه إبطال الشبهة:
1) اشترطت الشريعة الإسلامية لإقامة حد القطع على السارق شروطا صارمة وضوابط دقيقة للاستيثاق قبل الإقدام على التنفيذ.
2) عقوبة السرقة في الشريعة الإسلامية رادعة، على عكس القوانين الوضعية.
3) لا تطبق الشريعة الإسلامية حد القطع على السارق عند قيام الشبهة، لقاعدة "الحدود تدرأ بالشبهات".
4) القول بقسوة حد السرقة، وانتهاكه حقوق الإنسان غير صحيح، ولا سند له.
التفصيل:
يحرص الإسلام على صيانة الأموال من التلف والضياع، والانتقال من يد مالكها إلى يد أخرى من غير وجه حق. وحماية المال من المصالح الضرورية والمقاصد العامة للشريعة الإسلامية، وسرقته جريمة خطيرة تفسد على الجماعة الاستقرار وعلى الأفراد الأمان، ولذلك اعتبر من مات دون ماله فهو شهيد، وعقوبة السرقة قطع اليد؛ لأنها تمتد لأخذ أموال الناس خفية، واليد الخائنة عضو مريض يجب بتره ليسلم الجسد.
أولا. الضوابط التي وضعتها الشريعة الإسلامية لإقامة حد القطع على السارق:
لا تقطع يد من أخذ شيئا من مال غيره إلا بضوابط أو بشروط منها:
· أن يكون مكلفا، فإذا كان صبيا أو مجنونا وأخذ شيئا من مال غيره خفية لا تقطع يده لقوله صلى الله عليه وسلم:«رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى حتى يبرأ، وعن المجنون حتى يفيق. وفي لفظ: المعتوه حتى يعقل أو يفيق، وعن الصبي حتى يكب»ر. وفي رواية: «حتى يحتلم»[1].
· أن يكون قد سرق مختارا لا مكرها، فلا حد على المكره لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»[2].
· ألا يكون في المال الذي أخذه شبهة ملك، فإن كانت له فيه شبهة ملك، فإنه لا يعتبر سارقا في حكم الشرع، ومن ثم لا يحكم بقطع يده، ولهذا لا تقطع يد الأب والأم لسرقة مال ابنهما؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «أنت ومالك لأبيك»[3].
· أن يكون المسروق مالا يحل تملكه شرعا، فلا تقطع يد من سرق خمرا أو خنزيرا، وما أشبه ذلك من الأشياء التي يحرم تملكها وبيعها، وأن يكون المسروق مالا متقوما[4] أو ذا قيمة؛ لأن اليد لا تقطع في الشيء التافه، كما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
· أن يكون المال المسروق مقدرا، أي يبلغ المسروق نصابا، والنصاب هو ربع دينار أو ثلاثة دراهم من الفضة، أو ما تساوي قيمته ربع دينار أو ثلاثة دراهم من الأمتعة وغيرها. والدليل على ذلك ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا»[5]. وفي رواية أخرى قال صلى الله عليه وسلم: «تقطع يد السارق في ربع دينار»[6].
ويؤيد حديث ابن عمر ما ورد في الصحيحين من «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع في مجن [7] ثمنه ثلاثة دراهم»[8].
وقد اعترض من ليس له فقه بمقاصد الشريعة وأهدافها على قطع يد السارق في ربع دينار مع أن ديتها لو قطعت ظلما 500 دينار، فقال منشدا:
يد بخمس مئين عسجد وديت
ما بالها قطعت في ربع دينار[9]
تناقض مالنا إلا السكوت له
ونستجير بمولانا من العار
فأجابه أحد الفقهاء:
يد بخمس مئين عسجد وديت
لكنها قطعت في ربع دينار
عز الأمانة أغلاها، وأرخصها
ذل الخيانة؛ فافهم حكمة الباري
أي أنها كانت ثمينة حين كانت أمينة، فلما خانت هانت.
· أن يؤخذ المال المسروق من حرزه[10]، وهو المكان الذي أعد لحفظه وصيانته كالدار وغيرها، وكل شيء له حرز يناسبه، فإذا لم يؤخذ المال من حرز فلا قطع على من أخذه ولكن يؤدب.
والدليل ما ذكره عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال:«سمعت رجلا من مزينة يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال: يا رسول الله، جئت أسألك عن الضالة من الإبل، قال صلى الله عليه وسلم: معها حذاؤها وسقاؤها، تأكل الشجر وترد الماء، فدعها حتى يأتيها باغيها، قال: الضالة من الغنم، قال صلى الله عليه وسلم: لك أو لأخيك أو للذئب، تجمعها حتى يأتيها باغيها، قال: الحريسة [11] التي توجد في مراتعها، قال صلى الله عليه وسلم: فيها ثمنها مرتين وضرب نكال[12]، وما أخذ من عطنة [13] ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن"، قال: يا رسول الله، فالثمار ما أخذ منها في أكمامها[14]، قال صلى الله عليه وسلم: من أخذ بفمه ولم يتخذ خبنة[15] فليس عليه شيء، ومن احتمل فعليه ثمنه مرتين وضرب نكال، وما أخذ من أجرانه[16] ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن»[17].
· ألا يكون السارق مضطرا لسد جوعه، حيث لم يجد من الطعام الحلال شيئا يأكله، ولهذا منع عمر بن الخطاب قطع يد السارق في عام المجاعة[18]، وذكر أن كل سارق سرق عام المجاعة لم يقطع عمر بن الخطاب يده قائلا: أراه مضطرا، ولم ينكر أحد من الصحابة - أئمة الأمة - عليه هذا الأمر[19].
ثانيا. عقوبة السرقة في الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية:
تعاقب الشريعة الإسلامية على السرقة بالقطع لقوله سبحانه وتعالى: )والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم (38)( (المائدة).
والعلة في فرض القطع للسرقة هي أن السارق حينما يفكر في السرقة إنما يفكر في أن يزيد ماله وكسبه بكسب غيره، فهو يستصغر ما يكسبه عن طريق الحلال، ويريد أن ينميه من طريق الحرام، وهو لا يكتفي بثمرة عمله فيطمع في ثمرة عمل غيره وهو يعقل ذلك؛ ليزيد قدرته على الإنفاق أو الظهور أو ليرتاح من عناء الكد والعمل، فالدافع الذي يدفع إلى السرقة ويرجع إلى هذه الاعتبارات هو زيادة الكسب.
وقد حاربت الشريعة هذا الدافع في نفس الإنسان بتقرير عقوبة القطع؛ لأن قطع اليد أو الرجل يؤدي إلى نقص الكسب ونقص الثراء، وهذا يؤدي إلى نقص القدرة على الإنفاق، ويدعو إلى شدة الكدح وكثرة العمل والتخوف الشديد على المستقبل.
فالشريعة الإسلامية بتقريرها عقوبة القطع دفعت العوامل النفسية التي تدعو لارتكاب الجريمة بعوامل نفسية مضادة تصرف عن جريمة السرقة فإذا تغلبت العوامل النفسية الداعية، وارتكب الإنسان الجريمة مرة، كان في العقوبة التي تصيبه منها ما يغلب العوامل النفسية الصارفة، فلا يعود للجريمة مرة ثانية.
وهذا هو الأساس الذي قامت عليه العقوبة للسرقة في الشريعة الإسلامية، وإنه لعمري خير أساس قامت عليه عقوبة السرقة من يوم أن شرعت حتى الآن.وإنه السر في نجاح عقوبة السرقة في الشريعة الإسلامية قديما، وهو الذي جعلها تنجح كذلك نجاحا باهرا في الحجاز في عصرنا هذا، فحولته من بلد كله فساد واضطراب ونهب وسرقات إلى بلد كله نظام وسلام وأمن وأمان.
لقد كانت الحجاز قبل أن تطبق فيها الشريعة الإسلامية مؤخرا أسوأ بلاد العالم أمنا، فكان المسافر إليها أو المقيم فيها لا يأمن على نفسه وماله وعياله ساعة من ليل، بل ساعة من نهار، بالرغم مما له من قوة وما معه من عدة، وكان معظم السكان لصوصا وقطاعا للطرق.
فلما طبقت الشريعة الإسلامية، أصبح الحجاز خير بلاد العالم أمنا يأمن فيه المسافر والمقيم، وتترك فيه الأموال على الطرقات دون حراسة، فلا تجد من يسرقها، أو يزيلها من مكانها على الطريق حتى تأتي الشرطة فتحملها إلى حيث يقيم صاحبها[20].
عقوبة السرقة في القانون الوضعي:
وتجعل القوانين الحبس عقوبة للسرقة، وهي عقوبة أخفقت في محاربة الجريمة على العموم والسرقة على الخصوص، والعلة في هذا الإخفاق أن عقوبة الحبس لا تخلق في نفس السارق العوامل النفسية التي تصرفه عن جريمة السرقة؛ لأن عقوبة الحبس لا تحول بين السارق وبين العمل والكسب إلا مدة الحبس.
وما حاجته إلى الكسب في المحبس، وهو موفر الطلبات مكفي الحاجات؟! فإذا خرج من محبسه استطاع أن يعمل وأن يكسب، وكان لديه أوسع الفرص لأن يزيد من كسبه وينمي ثروته عن طريق الحلال والحرام على السواء، واستطاع أن يخدع الناس، وأن يظهر أمامهم بمظهر الشريف فيأمنوا جانبه ويتعاونوا معه، فإن وصل في الخاتمة إلى ما يبتغيه، فذلك هو الذي أراد، وإن لم يصل إلى بغيته فإنه لم يخسر شيئا، ولم يفته أمر ذو بال.
أما عقوبة القطع فتحول بين السارق وبين العمل، أو تنقص قدرته على العمل والكسب نقصا كبيرا؛ ففرصة زيادة الكسب مقطوع بضياعها على كل حال ونقص الكسب إلى حد ضئيل، أو انقطاعه هو المرجح في أغلب الأحوال، ولن يستطيع أن يخدع الناس أو يحملهم على الثقة به والتعاون معه رجل يحمل أثر الجريمة على جسمه وتعلن يده المقطوعة عن سوابقه، فالخاتمة التي لا يخطئها الحساب أن جانب الخسارة مقطوع به إذا كانت العقوبة القطع، وجانب الربح مرجح إذا كانت العقوبة الحبس، وفي طبيعة الناس كلهم، لا السارق وحده ألا يتأخروا عن عمل يرجح فيه جانب المنفعة، وألا يقدموا على عمل تتحقق فيه الخسارة[21].
والسرقة من جرائم الاعتداء على الأموال، وهي جريمة خطيرة تفسد على الجماعة الاستقرار؛ لأن ضياع المال، الذي هو مصلحة ضرورية لحياة الأفراد والأمم، فيه مفسدة عظيمة[22]، ذلك المال الذي فرض الإسلام له الحماية كغيره من المصالح الضرورية، واعتبر من مات دون ماله فهو شهيد، وجعل حرمته كحرمة العرض في وجوب المحافظة عليه.
وسائل إثبات حد السرقة وما يترتب عليه:
· وسائل إثبات السرقة[23]:
يثبت حد السرقة بالإقرار[24] أو البينة[25]، وهي شهادة رجلين مسلمين عدلين، فإن أقر السارق بما سرق عند الحاكم، ولم يرجع في إقراره، وكان ما سرقه يساوي النصاب أمر الحاكم بقطع يده جزاء بما كسب نكالا من الله، وكذلك لو شهد عليه رجلان مسلمان عدلان، ولم يرجع أحد منهما في شهادته أمر الحاكم بقطع يده.
· ما يترتب على ثبوت السرقة:
إذا ثبتت السرقة بالأدلة القاطعة؛ فإنه يترتب عليها أمران:
o ضمان المال المسروق لصاحبه.
o قطع اليد لقوله سبحانه وتعالى: )والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم (38)( (المائدة).
كيف تقطع يد السارق[26]؟
إذا ثبتت جريمة السرقة بالإقرار أو البينة وجب على الحاكم أن يقطع يد السارق، إذا كان مستوفيا الشروط التي منها البلوغ والعقل وعدم الإكراه أو الاضطرار؛ لقوله سبحانه وتعالى: )والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم (38)( (المائدة). وتقطع اليد اليمنى من مفصل الكف فور ثبوت الجريمة، ولا يجوز العفو إذا بلغت الجريمة إلى الحاكم، فقد ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب»[27].
فإذا سرق ثانية تقطع رجله اليسرى، فإذا سرق ثالثة تقطع يده اليسرى، فإذا سرق رابعة تقطع رجله اليمنى، ثم إذا عاد إلى السرقة يعزر ويحبس، ويجب أن تحسم[28] يد السارق بعد القطع بأية طريقة من الطرق التي تحبس الدم، حتى لا يتعرض المقطوع للتلف.
توبة السارق:
قال سبحانه وتعالى: )فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم (39)( (المائدة). فللسارق توبة قبل أن يصل أمره إلى الحاكم، وقبل أن يثبت عليه الحد بالإقرار، أو البينة بشرط رد المسروق إلى صاحبه[29].
ثالثا. متى لا تطبق الشريعة الإسلامية حد القطع؟
لا يطبق حد السرقة عند قيام الشبهة لقاعدة: "الحدود تدرأ [30] بالشبهات"[31]:
وقد عرض الفقهاء لعدد من هذه الشبهات التي يدرأ بها حد السرقة، وإن كان في بعضها خلاف، ومن هذه الشبهات:
· إذا سرق العبد شيئا ينظر هل يطعمه سيده أم لا؟ فإذا كان لا، غرم سيده ثمن المسروق كما فعل سيدنا عمر - رضي الله عنه - في غلمان ابن حاطب بن أبي بلتعة حين سرقوا ناقة رجل من مزينة فقد أمر بقطع أيديهم، ولكن حين تبين له أن سيدهم يجيعهم درأ عنهم الحد، وغرم سيدهم ضعف ثمن الناقة تأديبا له[32].
· تكذيب المسروق منه للسارق في إقراره بالسرقة بقوله: لم تسرق مني.
· تكذيب المسروق منه ببينته بأن يقول: شهد شهودي زورا.
· رجوع السارق عن الإقرار، فلا تقطع يده ويضمن المال؛ لأن الرجوع عن الإقرار يقبل في الحدود ولا يقبل في المال؛ لأنه يورث شبهة في الإقرار، والحد يسقط بالشبهة ولا يسقط المال.
· رد السارق المسروق للمسروق منه قبل الحكم عليه والمرافعة، فيسقط الحد حينئذ. أما بعد المرافعة فلا يسقط الحد؛ لأن الخصومة شرط السرقة الموجبة للقطع، فإذا رد السارق المسروق قبل المرافعة بطلت الخصومة بخلاف بعد المرافعة؛ لأن الشرط وجوب الخصومة.
· ملك السارق للمال المسروق قبل رفع الأمر للقضاء، فإذا ملكه قبل رفع الأمر للقضاء فلا يقام عليه الحد، أما إذا وهبه بعد رفع الأمر للقضاء لم يسقط عنه الحد؛ لما جاء «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر في سارق رداء صفوان: أن تقطع يده، فقال صفوان: إني لم أرد هذا، وهو عليه صدقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلا قبل أن تأتيني»[33].
· ادعاء ملكية المسروق، فإذا ادعى الجاني ملكية الشيء المسروق فعندئذ يرى البعض أن الادعاء يسقط القطع.
· عفو المسروق منه عن السارق يسقط الحد، بشرط أن يكون هذا العفو قبل رفع الأمر إلى ولي الأمر[34].
رابعا. هل عقوبة القطع لا تتفق مع مدنية العالم وإنسانيته في العصر الحاضر؟!
إن حد السرقة من الحدود الثابتة في الكتاب والسنة والإجماع، وقد أقيم هذا الحد - القطع - في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء والعهود التالية للإسلام في البلاد الإسلامية، وعليه فإن تطبيق حد السرقة واجب التنفيذ شرعا؛ لأن الله أمر بتطبيقه.
وإذا كان أعداء الإسلام يقولون: إن إقامة حد السرقة فيه قسوة وامتهان لكرامة الإنسان، وتقطيع لأطرافه، وتشويه لسمعته، وأن عقوبة القطع لا تتفق مع ما وصلت إليه الإنسانية والمدنية في عصرنا الحاضر، وقالوا: لو نفذنا حد السرقة لشوهنا بذلك نصف المجتمع، ولقضينا على عدد كبير من أبناء البشرية الذين تشل حركتهم حينئذ، ولرأينا بذلك جيشا جرارا من العاطلين، والمشوهين الذين شوهت أطرافهم بحد السرقة.
ونقول لهؤلاء: انظروا إلى المجتمع الذي كان في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين، والأمن الذي كان ينتشر فيه، والسعادة التي كانت ترفرف عليه حين كانوا ينفذون أحكام الشريعة الإسلامية بدقة من غير إهمال، وقارنوا في هذا بينه وبين المجتمعات المعاصرة التي لا تقام فيها الحدود الشرعية.
فعلى الرغم من وفرة المال في كثير من المجتمعات المعاصرة، وانتشار الحضارة والمدنية، فإن الأمن غير مستتب في هذه المجتمعات التي لا تطبق فيها الحدود الشرعية، والناس كذلك غير آمنين فيها على أموالهم وأنفسهم، والفساد قد عم كل مكان، والسرقات من الأفراد والمجتمعات والجماعات والحكومات سرا وعلانية، بل إن العصابات تسطو على الناس في الشوارع والطرقات في الليل وأثناء ركوبهم المركبات؛ وذلك كله لعدم تنفيذ حدود الإسلام.
لذا فإن تنفيذ حد السرقة هو العلاج السليم لمكافحة جريمة السرقة، وأكبر شاهد على ذلك ما نشاهده في السعودية التي وفقها الله لإقامة حدوده، فقد طبقت السعودية هذه العقوبة، فكانت النتيجة أن مجموع من قطعت أيديهم خلال نصف قرن لم يبلغ الخمسين، وتحقق من الأمن في صحاريها الواسعة الخالية، وليس في مدنها فحسب مالم يتحقق في كبريات عواصم أوربا وأمريكا المزودة بقوى الأمن المسلحة.
بل إن ما يحدث بسبب السرقة في عاصمة واحدة من هذه العواصم من إزهاق الأرواح من السارقين والمسروقين، ورجال الأمن في فترة سجن، سنة مثلا، يعادل مئات أضعاف ما حدث في السعودية في خمسين سنة من حوادث قطع اليد فأي النتيجتين أسلم، وأدعى للأمن وأرفق بالإنسان؟ مع العلم أن كثيرا من هؤلاء الذين يقتلون في تلك العواصم ليسوا بمجرمين ولا مذنبين، وأن الذين قطعت أيديهم ولم يقتلوا مجرمون تحققت فيهم صفة الإجرام، ناهيك عما يحدث من ترويع للنفوس الآمنة في البيوت والمعارض وغيرها!!
والعجيب بعد هذا أن يأتي الاعتراض على هذه العقوبة وأمثالها ذات الهدف الاجتماعي والأخلاقي من أبناء شعوب دول ارتكبت الحوادث ومازالت ترتكب حوادث القتل الجماعي من حروب استعمارية، وحروب نشر الإيديولوجيا، وبسط النفوذ.
وأعجب من هؤلاء: التابعون لخطاهم والناعقون وراء افتراءاتهم من أبناء أمتنا الإسلامية الذين صنعت أدمغتهم في معامل أولئك؛ فصموا عن جنايات سادتهم على الإنسانية، وجاءوا ينادون بالإشفاق على المجرمين والاحتجاج على عقوبتهم!!
وأعجب من ذلك من يقولون: إن عقوبة القطع لا تتفق مع ما وصل إليه العالم من الإنسانية والمدنية في عصرنا الحاضر. كأن الإنسانية والمدنية هي أن نقابل السارق بالمكافأة على جريمته، وأن نشجعه على السير في غوايته، وأن يعيش المجتمع في خوف واضطراب، وأن نكد ونشقى ليستولي على ثمار عملنا العاطلون واللصوص!!
وكأن الإنسانية والمدنية - في ظنهم - هي أن ننكر العلم الحديث والمنطق الدقيق، وأن ننسى طبائع البشر، ونتجاهل تجارب الأمم، وأن نلغي عقولنا، ونهمل النتائج التي وصل إليها تفكيرنا لنأخذ بقول يقوله قائل، ولا يجد عليه دليلا بعد ذلك إلا التهويل والتضليل.
فإذا كانت العقوبة الصالحة حقا - كما يزعمون - هي التي تتفق مع المدنية والإنسانية، فإن عقوبة الحبس قد حق عليها الإلغاء وعقوبة القطع قد كتب لها البقاء؟! ذلك لأن الأخيرة تقوم على أساس متين من علم النفس، وطبائع البشر، وتجارب الأمم، ومنطق العقول والأشياء، وهي نفس الأسس التي تقوم عليها المدنية والإنسانية.
أما عقوبة الحبس، فلا تقوم على أساس من العلم والتجربة، ولا تتفق مع منطق العقول، ولا طبائع البشر.
وإن أساس عقوبة القطع هي دراسة نفسية الإنسان وعقليته؛ فهي إذن عقوبة ملائمة للأفراد، وهي في الوقت ذاته صالحة للجماعة؛ لأنها تؤدي إلى تقليل الجرائم وتأمين المجتمع. وما دامت العقوبة ملائمة للفرد وصالحة للجماعة؛ فهي أفضل العقوبات وأعدلها.
ولكن ذلك كله لا يكفي عند بعض من عميت أبصارهم عن الحقيقة - لتبرير عقوبة القطع؛ لأنهم يرونها عقوبة موسومة بالقسوة، وتلك هي حجتهم الأولى والأخيرة، وهي حجة مدحوضة.
وبعد ذلك فإن القانون الوضعي أيها السادة الرحماء يوجب الحكم بالأشغال الشاقة المؤبدة في بعض جرائم السرقة، ويوجب الحكم بالأشغال الشاقة المؤقتة في بعض جرائم السرقة الأخرى.
فكيف ترضى قلوبكم الرحيمة أن يوضع المحكوم عليه بالسرقة في السجن، كما يوضع الحيوان في قفصه أو الميت في قبره طوال هذه المدة محروما من حريته بعيدا عن أهله وذريته؟ وأيهما أقسى: قطع يد المحكوم عليه وتركه بعد ذلك يتمتع بحريته ويعيش بين أهله وولده، أم حبسه على هذا الوجه الذي يسلبه حريته وكرامته وإنسانيته ورجولته؟!
والقانون أيها الرحماء يبيح عقوبة الإعدام؛ وهي تؤدي إلى إزهاق الروح وفناء الجسد، أما عقوبة القطع فهي تؤدي إلى فناء جزء من الجسد فقط، فمن رضي بعقوبة الإعدام - وأنتم بها راضون - وجب أن يرضى بعقوبة القطع؛ لأنها جزء من كل، ومن لم يستفظع عقوبة الإعدام فليس له أن يستفظع عقوبة القطع بأي حال[35]!!
وجريمة السرقة من أشد الجرائم خطورة، فإذا فشت بين الناس فقد هددوا في أموالهم وأعراضهم وأنفسهم، وأصبحت حياتهم غير آمنة، فالسارق كالحيوان المفترس الذي يفتك بكل ما يلاقيه، لذا فجريمته يجب أن تقابل بالقسوة؛ حتى يقطع دابرها من بين الناس بتاتا.
فإذا تخيل الشخص أن العقوبة شديدة وجب عليه أن يعلم أن فظاعة الجريمة وآثارها في المجتمع أشد وأنكى، ثم إن العقوبات وضعت فيما وضعت لزجر فاسدي الأخلاق، وهؤلاء لا ينزجرون بالرفق واللين بدون نزاع، فإذا لم تتصف العقوبة بالحسم، فإنهم لا ينزجرون أبدا - ما لم تتداركهم رحمة الله -.
والشريعة لم تقطع يد السارق وقت الحاجة وذلك لكونه مضطرا، فمن سرق في أوقات المجاعة لدفع الهلاك؛ فلا قطع ولا تعزير، وقد أسقط عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حد السرقة في عام الرمادة حين جاع الناس.
الخلاصة:
· لتنفيذ حد السرقة ضوابط وشروط مشددة للغاية تضمن تنفيذ العقوبة على من يستحقها بالفعل، وهي: أن يكون السارق مكلفا، وأن يكون قد سرق مختارا لا مكرها، وألا يكون في المال الذي أخذه شبهة ملك، وأن يكون المسروق مالا يحل تملكه شرعا، وأن يكون مقدرا، وأن يؤخذ من حرزه، وأخيرا ألا يكون السارق مضطرا لسد جوعه.
· يعفي الشرع الإسلامي المجرم من إقامة الحد عليه في ظروف كثيرة كظروف مجاعة عامة، كما حدث أن أوقف الفاروق عمر - رضي الله عنه - تنفيذ الحد في عام الرمادة، لوجود علة الاضطرار للسرقة؛ وهي المجاعة الشديدة.
· لا محل لوصف تشريع هذا الحد بالقسوة وعدم التحضر، فالرحمة أساس هذا التشريع، والحسم في تنفيذ هذا الحد بالذات فيه رحمة بالأطراف جميعا؛ فهو رادع للجناة عن الوقوع في الخطأ، ومشعر للمجني عليهم بالطمأنينة والأمان، ومن شأنه أن يشيع الأمن والاستقرار في المجتمع.
(*) الفقه الجنائي الإسلامي، د. فتحي بن الطيب الخماسي، دار قتيبة، دمشق، ط1، 1425هـ/ 2004م.